خلال فترة الازدهار، كان الاقتصاد الليتواني ينمو بسرعة كبيرة. يعود هذا الاتجاه للنمو الاقتصادي إلى عام 2002، عندما اختتمت مفاوضات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وانخفضت تكاليف الاقتراض انخفاضًا كبيرًا؛ مما يشير إلى تصور بين المستثمرين بأن ليتوانيا أصبحت دولة سيادية أقل خطورة. وساهم الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي في مايو (أيار) 2004 في زيادة الثقة بالسوق. وظل متوسط معدل النمو الاقتصادي السنوي مرتفعًا، عند مستويات (7-8٪) من الناتج المحلي الإجمالي، وهو ما تجاوز- تجاوزًا كبيرًا- متوسط معدلات النمو في منطقة اليورو. وانخفض معدل البطالة إلى أدنى مستوياته منذ أوائل التسعينيات ووصل إلى (4.3٪) عام 2007 (عندما تجاوز متوسط دول الاتحاد الأوروبي 7٪).
مع نمو الاقتصاد، كانت إيرادات الميزانية في ارتفاع؛ مما سمح للسلطات الليتوانية بتخفيض عجز الميزانية ومستويات ديون الدولة. ومع ذلك، لم تكن الصورة واضحة، حيث كان مستوى الدين الحكومي منخفضًا نسبيًّا (أقل من 20٪)، وكان العجز المالي يتناقص. حتى خلال فترة النمو المرتفعة، لم تتمكن ليتوانيا من تحقيق فائض في الميزانيات، ونمت نفقات الميزانية بنسبة (20- 25٪) على أساس سنوي خلال الفترة من 2004إلى 2008. وتؤكد العلاقة الإيجابية العالية بين نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي السنوي ونمو الاستهلاك الحكومي الحقيقي في ليتوانيا (0.83)، تؤكد وجود سياسة موازنة مسايرة للتقلبات الدورية في الفترة من 1995 إلى 2010؛ لذلك فشلت ليتوانيا في تجميع الاحتياطيات المالية، على عكس إستونيا.
العجز المالي الفعلي في ليتوانيا كان صغيرًا لكن العجز الهيكلي كان أكبر من ذلك بكثير. وكان هناك نقص في الإجماع السياسي فيما يتعلق بسياسة مالية معاكسة للدورة الاقتصادية، حيث يحاول كل شريك في الائتلاف الحاكم الحصول على مزيد من التمويل لوزاراته “الخاصة”. على الأرجح، كان هناك أيضًا قليل من الفهم لأهمية السياسة المالية الحكيمة في الدولة، فمعدلات النمو الاقتصادي المثيرة للإعجاب، لم تكن من خلال إيرادات الميزانية والنفقات المتوازنة؛ بل عبر تشجيع الدولة الأسر على أخذ قروض الرهن العقاري من خلال تقديم ضمانات وحوافز أخرى؛ مما ساهم في ازدهار العقارات.
ساهمت نفقات الميزانية المتزايدة بسرعة، جنبًا إلى جنب مع تمويل الاتحاد الأوروبي، وتحويلات العمال المهاجرين، وزيادة الرواتب في المتوسط بنحو (20٪) سنويًّا، والتوقعات الإيجابية الشاملة بين المستهلكين الراغبين في الحصول على الائتمان وسط الاقتصاد المتنامي في تسريع نمو الأسعار في ليتوانيا. واستقرت حصة تجارة ليتوانيا مع دول الاتحاد الأوروبي عام 2004، لتصل إلى نحو ثلثي صادرات ليتوانيا. ومن حيث القيمة المطلقة، كانت صادرات ليتوانيا إلى روسيا ودول أخرى من خارج الاتحاد الأوروبي تنمو نموًا سريعًا، مما يعكس الطلب المتزايد في هذه الأسواق. وكان هذا الاعتماد على السوق الروسية عاملاً في سياق التدهور الاقتصادي الأخير في اقتصادات منطقة اليورو، من جراء ترك الاقتصاد الليتواني- أو على الأقل بعض القطاعات والشركات- عرضة لصدمات الطلب في روسيا. ومن السمات المهمة الأخرى لصادرات ليتوانيا الدرجة العالية لتنويع المنتجات.
وفقًا لبعض التقديرات، تمتلك ليتوانيا واحدة من أكثر قواعد التصدير تنوعًا بين جميع الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي (تأتي في المرتبة الثانية بعد هولندا)، والتي ربما ساهمت- إسهامًا كبيرًا- في النمو الذي يقوده التصدير والانتعاش السريع للاقتصاد بعد الأزمة المالية العالمية (2008- 2010).
ميزة أخرى تُميز ليتوانيا- إلى حد ما- عن الدول الأخرى الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، وهي الحصة المنخفضة نسبيًّا للاستثمار الأجنبي، مع أن الدولة كانت تعلن جذب الاستثمار الأجنبي المباشر كأولوية ودافع لحُسن إدارة عملية الخصخصة (لا سيما في مجالات البنية التحتية والخدمات المالية)، والاستثمار في المجال الأخضر، ودمج بعض صناعاتها، ولا سيما البنوك والاتصالات السلكية واللاسلكية، بشكل جيد في أسواق شمال أوروبا.
أدى التوسع المالي الكبير، الذي أًطلِقَ في (2007- 2008) (بما في ذلك الزيادات في أجور القطاع العام والنفقات الاجتماعية) إلى تدهور الوضع الاقتصادي خلال الأزمة المالية العالمية، وإغلاق الاقتصاد خلال جائحة كوفيد- 19، فقد كان صانعو السياسات (تزامنت الجائحة مع الانتخابات) أقل استعدادًا لتحمل الصدمات الخارجية، وفي حالة تردد بشأن التخفيضات المطلوبة في الإنفاق، والزيادات الضريبية، والآثار الكارثية المحتملة لسيناريو بديل إذا لم تُعتمَد هذه التدابير. وقد ساهم هذا في التدهور السريع لمعنويات السوق، وربما زاد من عمق الركود.
باختصار، مع أن النمو الاقتصادي كان مدفوعًا في البداية بالمكاسب الإنتاجية والتوقعات الإيجابية من الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، فقد أصبح يعتمد- اعتمادًا متزايدًا- على توسع الطلب المحلي الذي تغذيه التوقعات المفرطة في التفاؤل، والازدهار الائتماني، والإنفاق العام المتزايد بسرعة. كما أدت الطفرة الائتمانية إلى تضخم أسعار الأصول، وخاصة في سوق الإسكان. وقد تطورت الاختلالات الرئيسية في الاقتصاد الكلي (التضخم، ونمو الأجور، وخاصة عجز الحساب الجاري)، وتفاقمت بسبب النمو المستمر لنفقات الميزانية، وعدم القدرة على تجميع فائض في الميزانية خلال سنوات النمو الاقتصادي السريع. كل هذا يعني أن ليتوانيا كانت ضعيفة جدًّا عندما بدأ الإغلاق العالمي، وجف تمويل رأس المال الخارجي.
ليتوانيا لديها سعر صرف ثابت. وبعبارة أكثر تحديدًا، لديها نظام نقدي مرتبط باليورو منذ عام 2002. وتم إصدار معظم قروض الرهن العقاري باليورو، ويعتمد هيكل الاستيراد في ليتوانيا- اعتمادًا كبيرًا- على البلدان غير الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، خاصة بالنسبة إلى منتجات مثل موارد الطاقة؛ لذلك لا يمكن العودة إلى تخفيض قيمة العملة من أجل تحفيز الصادرات دون عواقب سلبية خطيرة على الاقتصاد، وتقويض ثقة السكان باستقرار السياسة النقدية للبلاد؛ لذلك فإن السلطات الليتوانية على موعد مع الضبط المالي، والتكيف التنازلي للأجور لحماية سعر الصرف، واستعادة القدرة التنافسية للبلاد.
وبقراءة نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة 2020، وبالنظر إلى عدم فوز أي حزب أو تحالف انتخابي بأغلبية المقاعد، واللجوء إلى تشكيل ائتلاف حاكم مِن أحزاب (الديموقراطيون المسيحيون الليتوانيون، والحركة الليبرالية، وحزب الحرية) برئاسة إنغريدا سيمونيته، وهي سياسية واقتصادية ليتوانية شغلت منصب وزيرة المالية بين عامي 2009 و2012؛ ما يعني أنها قد تلجأ إلى خطط تحفيزية مشابهة لنظيرتها عام 2009، وهي عكس حزم التحفيز في الغرب التي تهدف إلى زيادة الاستهلاك، فقد كانت خطة التحفيز الليتوانية تهدف إلى تعزيز القدرة التنافسية للشركات، والقدرة على التصدير. وتتكون الخطة من العناصر التالية: “تسهيل شروط تمويل الأعمال، وزيادة كفاءة الطاقة في المساكن، والاستخدام الأسرع للدعم الهيكلي للاتحاد الأوروبي، وتحسين بيئة الأعمال، ودعم الصادرات والاستثمارات”.
يمكن القول أيضًا إن حكومات الائتلاف تبقى مترددة في البدء بإصلاحات هيكلية مرتبطة بشكل أكبر بالأجندات المالية حتى لا تخسر أصوات داعميها، وتفضل الاعتماد على النمو الاقتصادي الرقمي، وعضوية الاتحاد الأوروبي، مع توفير الموارد التي يحاول كل شريك في الائتلاف الحصول على مزيد منها لوزاراته “الخاصة”.
أخيرًا، السبب الرئيسي لتباطؤ اقتصاد ليتوانيا هو الضعف الذي نشأ في المقام الأول عن طريق السياسة المالية المسايرة للدورات الاقتصادية خلال فترة الازدهار الاقتصادي بين عامي 2004 و2008، وقد ترك هذا للحكومات المتعاقبة مجالًا ضئيلًا جدًّا للمناورة عندما كان لا بد من ضبط أوضاع المالية العامة، وقد فات الأوان عندما بدأت العملية؛ لأن الانتخابات البرلمانية في أكتوبر (تشرين الأول) 2020، حالت دون رد الفعل في الوقت المناسب. وبعبارة أكثر دقة، بسبب الانتخابات ازدادت نفقات الميزانية بشكل أكبر، دون ترك أي احتياطيات لـ “الأوقات العصيبة”.
الحكومة المشكلة حديثًا أمام تحدٍّ لكي تتصرف بأسرع ما يمكن في سياق الوضع الاقتصادي، وتدهور السوق، وصياغة حزمة قوانين تركز معظمها على خفض نفقات الميزانية، وبعضها على زيادة الضرائب. والاضطلاع بعدد من إجراءات ضبط أوضاع المالية العامة، وإتمام الإصلاحات الهيكلية في مجالات التعليم العالي، والطاقة، والإدارة العامة، وخفض تكاليف الاقتراض، والحصول على موافقة وكالات التصنيف والمنظمات الدولية، ويبدو هذا أمرًا صعبًا بسبب السياسات الائتلافية، والجمود البيروقراطي، ومقاومة أصحاب المصالح الخاصة.
مع أن رئيسة الحكومة الحالية نالت كثيرًا من الثناء من صندوق النقد الدولي ومؤسسات الاتحاد الأوروبي بسبب نتائج الضبط المالي (2009- 2012)، فإن سياساتها لم تكن موضع تقدير جيد من الجمهور المحلي والناخبين في الانتخابات البرلمانية لعام 2012، الذين أكدوا حجة معروفة جيدًا؛ وهي أنه لا يمكنك الفوز بالانتخابات من خلال إجراء إصلاحات غير شعبية؛ لذا من المتوقع أن تبقى بعض الإصلاحات مقتصرة في الواقع على الخطاب فقط.
القضية الرئيسية التي لا يزال يتعين معالجتها في المستقبل هي ما إذا كانت التغييرات التي أُجريت، والتي ستُجرَى، والنتائج التي حققتها الحكومات السابقة، ستظل مستدامة أم لا. لقد طعنت الحكومة الجديدة على كثير من قرارات الحكومة السابقة، لكنها كانت حذرة جدًّا مع أي إصلاحات جديدة بعد توليها المهمة. ويبدو أنها ستمضي في الاتجاه العام المتمثل في خفض عجز الميزانية والحفاظ عليه دون (3٪) من الناتج المحلي الإجمالي، وليس من الواضح ما إذا كانت ستتمكن من تجميع فائض إذا استمر الاقتصاد في النمو؛ لذلك قد يكون هناك تكرار مؤلم لقصة الإصلاحات الهيكلية للدورة الاقتصادية عندما ينكشف الانهيار الاقتصادي التالي.