كان عام 2020 عامًا صعبًا بالنسبة لروسيا وبيلاروس. نتيجة لما جرى بالانتخابات البيلاروسية، أصبح جزء من المجتمع مشوشًا. وتم استغلال هذا الوضع من قبل بعض القوى الخارجية، التي مارست ضغوطًا غير مسبوقة على القيادة البيلاروسية، مماثلة لتلك التي مورست على حكومة فيكتور يانوكوفيتش في أوكرانيا في عام 2014 خلال احتجاجات الميدان الأوروبي. وهذا يعكس سياسة الكيل بمكيالين التي تنتهجها الدول الأوروبية، حيث ترفض بشكلٍ قاطع أي شكل من أشكال المشاركة الأجنبية في تسوية الاحتجاجات في بلدانها.
جرى تطبيق عدة عقوبات على بيلاروس، وقد أظهرت بلدان أوروبا الشرقية، ولا سيما بولندا وليتوانيا، حماسًا لافتًا تجاه هذه العقوبات ودعم حركات المعارضة. هذه البلدان مازالت حديثة التشكيل والتكون، وغالبًا ما تنقصها الخبرة الإستراتيجية، ولا تفهم تمامًا عواقب أفعالها. حيث يكمن هدفها في تقويض بيلاروسيا داخليًّا، وحرمانها من المكانة التي تتمتع بها في الساحة الدولية، والاستفادة من مواردها عبر خروج رؤوس الأموال البيلاروسية إلى الخارج الذي نتيجة للأزمة. كما يعتزمون الإضرار بالتعاون بين روسيا وبيلاروس. هذا هو المبدأ الإستراتيجي الكلاسيكي – أولًا كسر معنويات خصمك، ثم تحالفاته.
لم تنجح هذه الخطط. ولا تزال القيادة البيلاروسية تمسك بزمام الأمور. وأُعلنت عن إصلاح دستوري من شأنه أن يخفف من حدة المواجهة الاجتماعية في البلاد. وهو ما يفرض على البيلاروسيين أنفسهم، من خلال الحوار، تحديد مصير بلادهم وحل مشكلاتهم دون ضغوط خارجية.
لماذا تمارس دول أوروبا الشرقية ضغوطًا على جارتها البيلاروسية؟
الحقيقة هي أن دول أوروبا الشرقية، تقع على الحدود بين منطقتين أمنيتين مختلفتين: “الناتو ومنظمة معاهدة الأمن الجماعي الروسية”. في ظل وجود تناقضات جيوسياسية عميقة وغير قابلة للحل حول التفاهمات المختلفة للأمن في أوروبا.
«نهج الأحلاف»، القائم على رفض الولايات المتحدة حل حلف الناتو أو تغيير مهامه بعد نهاية الحرب الباردة، فضلًا عن توسعيه باتجاه روسيا، أعاد المواجهة من جديد داخل الحدود الأوروبية – على عكس المنطقة الحدودية بين روسيا والصين، حيث لا يتنافس البلدان على النفوذ الجيوسياسي. على سبيل المثال، لا تدعم روسيا والصين أبدًا المرشحين الرئاسيين المختلفين في أي من جمهوريات آسيا الوسطى أو منغوليا. على عكس هذا الموقف كل دورة انتخابية في دول أوروبا الشرقية تفسح المجال تلقائيًّا للتنافس الجيوسياسي بين روسيا والغرب. وتنشط دول أوروبا الشرقية، ولا سيما بولندا وليتوانيا، في هذا الصدد. لكن السؤال هنا: ما هو تفسير هذا النشاط لبعض دول أوروبا الشرقية؟
إنهم قلقون باستمرار بشأن ما يسمى «التهديد من روسيا». إنهم يدركون أنهم على حدود صدع جيوسياسي، بالقرب من روسيا القوية، في حين أن مقدمي خدمات الأمن الرئيسيين لحلف الناتو بعيدون عن حدود روسيا وأقل قلقًا بشأن خطر تصعيد الصراع مع موسكو. تدرك بولندا وليتوانيا بشكلٍ خاص عدم وجود ضمانات أمنية من دول الناتو الرائدة. كما أنهما تدركان تمامًا عدم وجود وكالة لهم من جانب الاتحاد الأوروبي. وتهدف إجراءاتهما للضغط على بيلاروس إلى تحريك الحاجز الأمني بعيدًا عن حدودهما وتقريبه من حدود روسيا. وبسبب افتقارهما إلى أدوات القوة الصلبة، تستخدمان أدوات ناعمة مثل الضغط، والدعم العلني لمرشحي الرئاسة المعارضين، والتدخل في الشؤون الداخلية لبيلاروس، عبر تدفق المعلومات والعقوبات. لقد أتقنتا بالفعل استخدام هذه المجموعة من الأدوات بشكلٍ جيد.
مع ذلك، حينما تبدأ بولندا وليتوانيا صراعًا من غير المرجح أن تتمكنا من إيقافه إذا اتبعتا أخطر السيناريوهات، ستكونان أول من يعاني إذا تفاقمت الأزمة الأمنية في أوروبا. سيتم حل هذه الأزمة بمشاركة مزودي الأمن الرئيسيين في أوروبا: “روسيا والولايات المتحدة”. عندها سوف تصبح مصالح بولندا وليتوانيا ثانوية مثل مصالح صربيا، التي كانت أفعالها عن غير قصد ذريعة لإطلاق العنان للحرب العالمية الأولى.
ما هي الدوافع الحقيقية التي يجب أن يسترشد بها المرء في حالة حدوث أزمة في أي من البلدان الحدودية الجيوسياسية في أوروبا الشرقية؟
الغرض الأساسي من أي حل بناء هو إنقاذ الأرواح. أي يجب أن تهدف أي تدابير إلى تخفيف حدة الأزمة وتقليل احتمالية تفاقمها وتحولها إلى أزمة قارية.
على مدار الخمسة وعشرين عامًا الماضية، شهدنا مرارًا وتكرارًا مواقف أدت فيها النوايا الحسنة مباشرةً إلى الجحيم: فبدلًا من نشر الديمقراطية، أدى فرض النظام الليبرالي إلى نتائج كارثية، وجعل من بعض الدول على شفا حرب أهلية تؤدي إلى موت جماعي ونزوح.
دعونا لا نكُن ساذجين، فهناك مواجهة جيوسياسية بين الشرق والغرب في أوروبا الشرقية، أدواتها عديدة. وتشمل الضغط السياسي، والعقوبات والاستفزازات المتزايدة، فضلًا عن الحملات الإعلامية. لا يوجد حديث عن التعاون. والآن، المجتمع البيلاروسي منقسم، والقوى الخارجية تحاول الاستفادة من ذلك. مع ذلك، يبدو أن مقترحات الوساطة من دول أوروبا الشرقية هي محاولات خفية بشكل سيئ للتلاعب.
دعونا نتخيل أن آلية منظمة الأمن والتعاون في أوروبا مطبقة في بولندا على أزمة سياسية داخلية تتكشف أو على اضطرابات شعبية في ألمانيا أو فرنسا. حتى طرح مثل هذا السؤال يبدو سخيفًا. مع ذلك، هذه أكثر مشكلة لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا والمؤسسات الأمنية الأوروبية بالشكل الذي تبلورت به بعد نهاية الحرب الباردة وإظهار التشوهات العميقة في تصميمها المؤسسي.
على مدى السنوات القليلة الماضية، منذ الأزمة الأوكرانية، كان من المفترض أن تؤدي التجارب السلبية المتراكمة للدول الأوروبية إلى فهم كيف يمكن للأزمات السياسية الداخلية في دول أوروبا الشرقية الهشة أن تتفاقم نتيجة التدخلات الخارجية ويكون لها آثار على السياسة الخارجية. يجب أن تساهم هذه التجربة في تطوير قرارات متوازنة ومسؤولة. الآن، ما يجب على دول أوروبا الشرقية فعله فيما يتعلق ببيلاروس هو الابتعاد عن التدخل، وبالتالي إظهار النضج والمسؤولية. [1]
ترجمة: وحدة الرصد والترجمة في مركز الدراسات العربية الأوراسية
ما ورد في المقالة يعبر عن رأي الكاتب ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير