انطلقت منذ عام، ما تسميها روسيا “العملية العسكرية الخاصة” في أوكرانيا[1]، وسط تحليلات غربية ادّعت أن الجيش الروسي سيصل إلى العاصمة كييف، وسيسيطر عليها خلال أيام أو أسابيع قليلة[2]. تبين أن هذه التوقعات لم تكن في محلها؛ حيث تراجع الجيش الروسي عن العاصمة[3]، ومع مرور الوقت، وبعد عدة معارك، انحسر مسرح العمليات العسكرية في المنطقة الشرقية بإقليم الدونباس، إلى جانب سيطرة جزئية على مدينة خِرسَون، أول مركز إقليمي سيطر عليه الجيش الروسي.
أصبحت الحرب- كما هو واضح للجميع- صراعًا روسيًّا- أطلسيًّا في أوكرانيا وعليها. لن أتطرق إلى الجانب العسكري ومآلاته، في ظل حالة الاستقطاب الحادة بين روسيا والغرب، وحلفاء كل طرف وشركائه، وادعائه “النصر” أو “الهزيمة” للطرف الآخر. بدلًا من ذلك، قد يكون من المفيد ترك الخوض في هذه الفرضيات، وطرح السؤال الذي أعتقد أنه الأهم، وهو: ما «معيار النصر والهزيمة» لكل طرف في هذه الحرب الطاحنة؟ وللإجابة عن هذا السؤال، نحتاج أولًا إلى طرح سؤال آخر، عن: «الدوافع والأهداف» من وراء هذه الحرب، وهو ما أسعى إلى شرحه وتحليله في هذا المقال.
بعد بدء الحرب، تعددت الروايات الروسية بشأن دوافعها وراء بدء هذه “العملية العسكرية الخاصة”. (يمكن العودة إلى القسم الأول تحت عنوان “الاضطراب الروسي”، في دراسة «المواجهة الروسية- الأطلسية وإمكانية توسعها»). تبلغ مساحة الاتحاد الروسي (17,075,400) كم²، وهو ما يجعل روسيا أكبر دولة في العالم من حيث المساحة الجغرافية. طُرحت عدة فرضيات عن الدوافع الروسية، لعل أشهرها رغبة بوتين في توسيع أراضيها، واستعادة “مجد الإمبراطورية” الروسية الغابر.
لا يُخفي بوتين حنينه إلى هذه الإمبراطورية، وقد عبر عن ذلك عدة مرات. على سبيل المثال، تصريحه عام 2005، بأن: “سقوط الاتحاد السوفيتي أكبر مأساة جيوسياسية”[4]، ومقارنة نفسه وأعماله بـ”بطرس الأكبر”[5]، وقد سبق أن شرحت في مقال سابق، الروابط العاطفية والتاريخية بين بوتين وبطرس الأكبر، في مقال تحت عنوان: «ديسمبر المشؤوم.. كيف أراد بوتين أن يغير قدر روسيا عبر أوكرانيا».
تبدو هذه الفرضية ضعيفة لأسباب عدة. يدرك بوتين- بغض النظر عن طموحاته وأحلامه- أن عالم اليوم ليس هو عالم عام 1721، عندما أعلن بطرس الأكبر قيام الإمبراطورية الروسية، ولا عام 1922، بعد انتصار البلاشفة في الحرب الأهلية، وسيطرتهم على غالبية أراضي الإمبراطورية السابقة، وإعلان قيام الاتحاد السوفيتي رسميًّا. إلى جانب ذلك، هناك موانع لوجستية وسياسية تحول دون تحقيق هذا “الحلم”، أهمها أن إضافة أراضٍ جديدة إلى روسيا، ذات المساحة المفرطة بالفعل، سيضيف أعباء جديدة على الحكومة الفيدرالية في موسكو، ليست اقتصادية وحسب؛ بل سياسية أيضًا، من حيث الوضع القانوني لتنظيم هذه الأراضي الجديدة، ووفق أي صيغة ستكون جزءًا من الاتحاد الروسي، وما سيفرضه هذا الضم من تحديات سياسية ستدفع البلاد نحو إعادة توزيع للسلطة والثروة، يصعب معها حفاظ الكرملين على طابع الحكم الفردي المركزي الذي يتمتع به، وهو ما لا يبدو أن لديه استعدادًا للتخلي عنه مهما كانت الإغراءات.
ما يرجح هذه الفرضية، عدم سيطرة روسيا على شرق أوكرانيا وجنوبها، بعد أحداث الميدان في كييف عام 2014، حيث ثارت هذه المناطق، ولم يكن هناك وجود للجيش أو الشرطة الأوكرانيين، وأغلبية السكان كانوا مؤيدين لروسيا والرئيس المعزول فيكتور يانوكوفيتش، لكن الكرملين اكتفى- في ذلك الوقت- بالسيطرة على شبه جزيرة القرم.
كانت لدى موسكو فرصة للسيطرة على المناطق الشرقية والجنوبية في أوكرانيا، دون إطلاق رصاصة واحدة تقريبًا كما حدث في القرم، وكان لديها مستند قوي؛ حيث طلب الرئيس الشرعي- آنذاك- يانوكوفيتش، بموجب “معاهدة الصداقة الروسية- الأوكرانية”، تدخل الجيش الروسي لـ”حماية أوكرانيا”، وقد صرحت موسكو بذلك رسميًّا[6]، لكنها رفضت هذا المطلب الذي لبته لاحقًا في كازاخستان، عندما طالبها الرئيس قاسم توكايف بالتدخل لحماية أمن البلاد، في يناير (كانون الثاني) 2022، وكذلك في سوريا عام 2011، وكانت حجتها- آنذاك- أن هذا التدخل جاء بناءً على طلب من “السلطة الشرعية” في دمشق.
رغم عدم قبولها التدخل العسكري، طرح كثير من حلفاء روسيا في أوكرانيا، وأيدهم في ذلك كثير من السياسيين والمفكرين الروس، عدم الاعتراف بالسلطة الجديدة في كييف، وإعلان يانوكوفيتش حكومة منفى شرعية في موسكو، أو في المناطق الشرقية التي سيطر عليها حلفاؤها في الدونباس، ولكن الكرملين رفض هذا المقترح أيضًا، واعترف بأن بترو بوروشنكو هو الرئيس الشرعي الجديد للبلاد، ووقع بوتين معه «اتفاقيات مينسك» عام 2014، وما أنتجته من اتفاقيات وبروتوكولات تعاون أخرى، وظلت تؤكد- حتى قبل أسبوع من بدء الحرب- “وحدة أراضي أوكرانيا”. أما قرار “ضم” مناطق أوكرانية أربع إلى روسيا، فقد صدر فقط في شهر سبتمبر (أيلول) 2022، وكان مرتبطًا- إلى حد كبير- بآثار التراجع العسكري في خاركوف، وغيرها من المناطق في الشرق.
أمر آخر قد يكون من المفيد ذكره؛ في الثاني من أبريل (نيسان) 1996، وبعد طلب وإلحاح من رئيس بيلاروس، ألكسندر لوكاشينكو، وقعت موسكو ومينسك اتفاقية إقامة «دولة اتحادية» بين البلدين، وسُجِّلَت اتفاقيةً دوليةً تحت رقم (5300)[7]، وفقط بعد مرور 25 عامًا على توقيعها، بدأت موسكو عام 2021، بالتحدث عن بدء الشروع في التحضير لإقامة هذه الدولة الاتحادية عام 2030. كان الدافع الروسي للتأجيل هو عدم رغبتها- كما سبق ذكره- في تحمل أعباء سياسية واقتصادية، بضم دول أو كيانات جديدة إلى أراضيها، وهو ما كررته بعدم ضم أبخازيا، وأوسيتيا الجنوبية، وترانسنيستريا، وغيرها من المناطق التي طالب سكانها بالانضمام إلى موسكو بعد استقلالهم فعليًّا عن الكيانات الجديدة التي تشكلت بعد تفكك الاتحاد السوفيتي.
طُرحت هذه الفرضية كأحد أسباب بدء روسيا الأعمال العسكرية في فبراير (شباط) 2022، لكن هذه الفرضية تبدو غير مقنعة في ظل وجود حلف الناتو بالفعل في بلدان البلطيق الثلاث (إستونيا، ولاتفيا، وليتوانيا)، وكذلك بولندا، وباقي بلدان الكتلة الشرقية لحلف وارسو سابقًا. كما أن بدء الحرب دفع- فعليًّا- السويد وفنلندا المحايدتين إلى طلب الانضمام إلى الحلف.
من الناحية القانونية، لم تكن أوكرانيا مؤهلة للانضمام إلى الناتو، في ظل وجود نزاع مسلح داخلي، وكان الوعد بضمها أقرب إلى الوعد بضم تركيا إلى الاتحاد الأوروبي. قدم “الشركاء” الغربيون- كما تصفهم موسكو في خطابها الرسمي- عدة مقترحات وتطمينات بهذا الاتجاه، وكان يمكن التوصل إلى كثير من الحلول الوسط. وعلى أي حال، لم يكن هناك خطر وشيك يدفع إلى ضرورة بدء أعمال عسكرية بهذا الحجم؛ ففعليًّا، كانت أوكرانيا، قبل 24 فبراير (شباط) الماضي، أقرب ما تكون إلى الدولة الفاشلة، وكان اقتصادها منهكًا، وحلف الناتو في حالة تفكك، ولا يوجد أي استعداد لدى أي دولة غربية لتقديم دعم لها.
بعدما استنزفت موسكو فرضياتها بشأن “العملية العسكرية الخاصة”، وما بدا من عدم واقعية الحديث عن “نزع النازية”، أو “تغيير السلطة في كييف”، راجت نظرية مفادها أن “روسيا تسعى إلى تغيير شكل النظام العالمي”، وبناء نظام عالمي جديد قائم على التعددية القطبية، وأن هذه الحرب هي المفتاح لتحقيق هذا الهدف. فعليًّا، لم تتبنَ موسكو حتى الآن أي أيديولوجية مناهضة للرأسمالية الغربية، وما زالت تحتفظ- على الأقل في الشكل- بالنظام السياسي الديمقراطي التمثيلي التعددي المستنسخ من الغرب، بل كثيرًا ما انتقدت الولايات المتحدة؛ لعدم التزامها بمعايير التجارة الحرة، وغيرها من معايير هذا النظام الدولي. كذلك لا تمتلك موسكو (ولا تدعي) أن لديها نموذجًا اجتماعيًّا أو اقتصاديًّا أو سياسيًّا بديلًا عن النموذج الغربي، أو تصورًا لشكل النظام العالمي الجديد؛ بدلًا من ذلك، يركز كل نضالها وخطابها السياسي على بقاء هذا النظام، مع إجراء تعديلات عليه تسمح لروسيا بأن تكون طرفًا فاعلًا فيه، لا طرفًا هامشيًّا كما هو وضعها منذ العام 1991.
بناءً على ما سبق، وبعد تحليل للخطاب السياسي الروسي على مدار عام كامل من بدء هذه الحرب، ومقارنته بالتصرفات الفعلية على الأرض، يمكن استخلاص النتائج التالية:
تدرك الولايات المتحدة جيدًا- هذا الطموح الروسي، وما سينتج عنه من تعاظم لقوة روسيا على المسرح العالمي، وهو ما يفسر- إلى حد بعيد- اندفاعها بجانب بريطانيا، وبولندا، وبلدان البلطيق، نحو دعم أوكرانيا، واتخاذ مواقف متشددة منذ اللحظة الأولى لدخول الجيش الروسي الأراضي الأوكرانية، حيث ساعدها الصراع الحالي على إعادة تنشيط حلف الناتو، وإمكانية ضم أعضاء جدد (السويد وفنلندا)، وتدمير الاستثمار الروسي طيلة العقدين الماضيين في خلق تكامل اقتصادي مع أوروبا، وسحب الأخيرة في اتجاه معركتها مع الصين، حيث بدت أوروبا غير متحمسة لدخول هذا الصراع، وتحاول تجنبه.
الاتحاد الأوروبي وُضِعَ بين المطرقة والسندان، ورغم كل الاستثمار الروسي في دعم التيارات اليمينية المحافظة، وما قدمته موسكو من وعود اقتصادية مغرية تبدو- نظريًّا- في صالح أوروبا، واستعادة دورها الاقتصادي والسياسي من جديد، فإن أي طالب أوروبي مبتدئ في مجال العلاقات الدولية، يدرك أن هذه “الصفقة” التي عرضتها موسكو، ستؤدي- فعليًّا- إلى شراكة روسية- أوروبية، وفي ظل هذه الشراكة ستصبح روسيا الجيش الأكبر، والدولة الأكبر مساحةً، وعدد سكان، ونفوذًا في كل أوروبا؛ ومن ثم ستصبح صاحبة اليد العليا في جميع ترتيبات الأمن والتعاون والاقتصاد في كل القارة الأوروبية؛ وعليه تحقق طموح بطرس الأكبر، وكل من جاءوا من بعده من أباطرة وقادة روس، بتكلفة لا تذكر، لتصبح روسيا سيدة أوروبا، وبوتين إمبراطورها؛ وبناءً عليه، إذا كانت المعادلة “تبعية” لموسكو مقابل واشنطن، فـ”التبعية” للأخيرة تحت شعار “التحالف الأطلسي”، ستكون لها الأفضلية؛ حيث هناك مشتركات في القيم، والأنظمة السياسية والاقتصادية، وكذلك الثقافة بين الطرفين، أكبر بكثير مما هي عليه مع موسكو؛ لذلك لم يكن أمام أوروبا من خيار آخر سوى الانخراط في هذه المعركة خلف الولايات المتحدة، وإن كان بوتيرة أقل اندفاعًا، لكنها تشهد تطورًا مع الوقت، وهو ما ظهر واضحًا من خلال قرار ألمانيا وفرنسا منح أوكرانيا أسلحة متطورة.
الصين، علاقتها مع موسكو أقل من تحالف، وأكبر من كونها مجرد صداقة وحسن جوار؛ يمكن وصفها بأنها “شراكة”- إلى حد كبير- لكن هذه الشراكة ستختل لصالح موسكو إذا حققت الأخيرة أهدافها، وأيضًا ستصبح الصين وحيدة في مرمى نيران أمريكا وحلفائها إذا انكسرت روسيا وخرجت من هذا الصراع مهزومة؛ لذلك يبدو الموقف الصيني الحذر، وما يشاع عن طرحها أفكارًا عامة لا ترقى إلى ما يمكن وصفه بمبادرات سلام، هدفه الحفاظ على هذا التوازن (ألا تنتصر روسيا بتحقيق أهدافها، وألا تتعرض لانكسار يمكن وصفه بأنه انتصار غربي).
أخيرًا، مَن المنتصر والمهزوم في هذا الصراع، بغض النظر عن نتائج العمليات العسكرية على الأرض التي اتخذت طابعًا إقليميًّا محدودًا في منطقة الدونباس بشرق أوكرانيا، والمناطق التي تم الاستحواذ عليها، وسواء بقيت أو تم التخلي عنها، قد يبدو واضحًا في ضوء ما تم شرحه من دوافع وأهداف لكل طرف. بقاء أوكرانيا تحت أي اسم، حتى لو اقتطعت كل أراضيها الشرقية، سيجعلها مسيطرة من ناحية الغرب على الحدود مع مولدوفا، ورومانيا، والمجر، وسلوفاكيا، وبولندا، وسيضع بيلاروس- حليفة موسكو- تحت الحصار، وسيعزل كلا البلدين عن أوروبا، حيث ستكون موسكو بحاجة (إلى ما تبقى من أوكرانيا) لمد أنابيب الغاز والنفط إلى أوروبا، أو تخضع لابتزازها بجانب تركيا، والأخطار بتعطيل هذه الخطوط أو تفجيرها في أي لحظة كما حدث في خطي (نورد ستريم). أما فيما يخص سيناريوهات الحل وإنهاء هذا الصراع، فهي مجرد تكهنات؛ إذ يبدو من الصعوبة بمكان وضع سيناريو أو أكثر متماسك يمكن الاستناد إليه في ظل هذا الوضع المعقد.
ما ورد في المقالة يعبر عن رأي الكاتب ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير