بعد مرور الأسبوع الأول مما تسمى روسيًّا “العملية العسكرية الخاصة” في أوكرانيا، وعدم حسم المعركة بالسيطرة على كييف- كما رجحت جميع التقارير الغربية؛ بأن سقوطها لن يستغرق سوى يومين أو ثلاثة على الأكثر- توجهت الأنظار إلى بكين وموقفها من الأحداث، بعد السيل الجارف من العقوبات الغربية بقيادة الولايات المتحدة، التي وصلت إلى حد الحصار، ونبذ لكل ما هو روسي.
تبنى الموقف الرسمي الصيني الرواية الروسية منذ بدء الأعمال العسكرية في أوكرانيا، في الرابع والعشرين من فبراير (شباط)، وصرحت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الصينية، هوا تشون ينغ، بأن الصين ترفض مصطلح “غزو” في وصف “العملية العسكرية الروسية”، منتقدة السياسة الأمريكية ودعمها العسكري لأوكرانيا، واصفة هذه التصرفات بغير المسؤولة؛ لأنها “تصب الزيت على النار”.
ظل الموقف الصيني ثابتًا في رفضه تسليح أوكرانيا، أو إدانة “الغزو” الروسي، كما امتنعت بكين عن التصويت في الجمعة العامة للأمم المتحدة على قرار يدين موسكو، ويطالبها بالانسحاب الفوري من أوكرانيا، ودعت إلى الحوار وحل الصراع بالوسائل الدبلوماسية، وهو موقف بدا حياديًّا، ولكنه يوصف بالحياد الإيجابي لصالح موسكو، خاصةً أن التغطية الإعلامية الصينية تبدي تفهمًا كبيرًا للدوافع الروسية وراء هذه العملية.
مع تطور العمليات العسكرية الروسية، وتزايد العقوبات الغربية، ودعوات تسليح أوكرانيا، وفتح المجال لذهاب متطوعين لقتال الجيش الروسي، ازداد الضغط على الصين، وصدرت عدة تصريحات من مسؤولين أمريكيين يطالبونها فيها بموقف واضح، والانحياز إلى الجانب “الصحيح” من التاريخ؛ من خلال إدانة “الغزو” الروسي لأوكرانيا، والالتزام بالعقوبات الغربية، وكان هذا الأمر- بالتحديد- محور مباحثات مستشار الأمن القومي الأمريكي جايك سوليفان مع عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي الصيني، ومدير مكتب لجنة الشؤون الخارجية يانغ جيتشي، في روما، في الخامس عشر من مارس (آذار)، ثم تبع تلك المباحثات اتصال بين الرئيسين الصيني والأمريكي، في الثامن عشر من مارس (آذار)، استمر ساعتين. وقد سبقت تلك الاتصالات حملة ضغط أمريكية على الصين، تدعي بأنها كانت على علم مسبق بالعملية العسكرية، وأنها تعتزم تقديم دعم عسكري لموسكو، وهو ما نفته الحكومة الصينية نفيًا قاطعًا.
خرج البيان الرسمي الصيني مغايرًا عن نظيره الأمريكي، حيث تحدث الأول عن مناقشة كلا الرئيسين عدة قضايا، على رأسها الوضع في تايوان، إلى جانب أوكرانيا، في حين ذكر البيان الأمريكي أن الحديث ركز على: “الغزو الروسي غير المبرر لأوكرانيا، ووجهات نظر الولايات المتحدة وحلفائنا وشركائنا بشأن هذه الأزمة، وشرح الرئيس بايدن للجهود التي قام بها لمنع هذا الغزو والرد عليه، بما في ذلك من خلال فرض تكاليف على روسيا. كما حذر الصين من تداعيات وعواقب تقديم دعم مادي لروسيا وهي تشن هجمات وحشية ضد مدن ومدنيين أوكرانيين”.
أما بيان الرئيس الصيني فقد جاء فيه أنه يتعين على جميع الأطراف “دعم الحوار والمفاوضات بين روسيا وأوكرانيا بشكل مشترك، في حين يتعين على الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي إجراء محادثات مع روسيا لحل جوهر الأزمة الأوكرانية، وحل المخاوف الأمنية لكل من روسيا وأوكرانيا”.
فور صدور البيان الأمريكي، توالت تصريحات المسؤولين الصينيين، حيث وصف نائب وزير الخارجية الصيني لي يوتشنغ، العقوبات التي تفرضها الدول الغربية على روسيا بشأن أوكرانيا بأنها أصبحت “شائنة” أكثر فأكثر، وأضاف في منتدى اقتصادي في العاصمة بكين، أن “التاريخ أثبت أن العقوبات لا يمكن أن تحل المشكلات؛ بل تضر فقط بالمواطنين، وتؤثر في النظام الاقتصادي والمالي العالمي”. وأكد المسؤول الصيني أن بلاده “لم تُدِن ما سماه الإجراء الروسي، ولم تُسمه غزوًا، لكنها عبرت عن قلقها بشأن الحرب”. كما أكد نائب وزير الخارجية الصيني أن حلف الناتو يجب ألا يتوسع شرقًا، وهو ما من شأنه أن يحشر قوة نووية، مثل روسيا، “في الزاوية”- على حد تعبيره- وأن توسع الناتو “سيسمح بقصف الكرملين خلال دقائق”.
كما كتبت المذيعة الأكثر شهرة في الصين، ليو شين، في تغريدة على حسابها في موقع تويتر: “هل يمكنك مساعدتي على محاربة صديقك حتى أتمكن من التركيز على قتالك لاحقًا؟”، وذلك في معرض تعليقها على الطلبات الأمريكية، في حين علق وزير الخارجية الصيني وانغ يي، على ردود الفعل الأمريكية الناقدة للصين، بالقول: “موقف الصين موضوعي وعادل ومتوافق مع تطلعات معظم الدول، وسيثبت الوقت أن الموقف الصيني هو مَن وقف في الجانب الصحيح من التاريخ”.
كثيرًا ما وُصِفَ الموقف الصيني- وما زال يُوصَف- بأنه “مسكٌ للعصا من المنتصف”. قد لا يبدو هذا التوصيف دقيقًا إلى حد كبير؛ وذلك لأن مسكَ العصا من “المنتصف” تكتيك يلجأ إليه العاجز، أو الخائف، أو المتردد، أو الضعيف، ولا ينطبق أي مما سبق- بشكل حاد- على الصين، وبخاصةٍ في هذا الوقت؛ وبدلاً من ذلك، قد يكون “الحكمة الصينية” هو التوصيف الأقرب إلى موقفها من الأحداث الحالية، التي قد تؤدي إلى عكس ما أرادت الولايات المتحدة في جزء كبير من ردود فعلها القيام به، وهو ردع الصين.
تنطلق بكين في موقفها الحالي من الحكمة الصينية الشهيرة (广交友,无深交) التي تعني “وجود صداقات كثيرة لا يعني بالضرورة أنها عميقة”، والتي تطبقها على أرض الواقع من خلال دعمها النسبي لموسكو في هذا الموقف الصعب، وعدم التخلي عنها، وهي رسالة صينية للعالم أجمع بأن كثرة الأصدقاء والتحالفات ليست هي المهمة؛ بل المهم هو مَن “الصديق” الحقيقي الذي يقف إلى جوارك وقت الضيق، والذي يترجم سياسيًّا بأن الولايات المتحدة، والعالم الأنجلوسكسوني، والاتحاد الأوروبي، والدول الحليفة للمنظومة الغربية، لا يمكنها حسم معركة العقوبات والحصار ما دام لديك صديق واحد فقط؛ هو الصين.
تخلي بكين عن موسكو في هذا الوقت تحديدًا، سيكون رسالة مزدوجة من واشنطن بأنها كانت- وما زالت- صاحبة الكلمة العليا، وكذلك من بكين بأنها شريك اقتصادي كبير وقزم سياسي، لا حول لها ولا قوة، ولا يمكنها فعل شيء إذا تعارضت مصالح الولايات المتحدة مع شركائها.
عقد أي صفقة مع أمريكيا سيعيد التذكير بموقف بكين الذي تريد أن ينساه الجميع عندما تحالفت مع واشنطن ضد موسكو بعد زيارة الرئيس الأمريكي نيسكون إلى بكين، في فبراير (شباط) 1972، وقد بررت موقفها هذا آنذاك بأنها كانت دولة ضعيفة، واليوم باتت قوية ومستقلة.
خضوع بكين للضغوط الأمريكية يعني انتصار التحالف الغربي، الذي بداخله اليابان، وكوريا الجنوبية، وبعض البلدان الآسيوية الأخرى المناوئة لها، والتحاق الهند بهذه المنظومة، واستغلال واشنطن لهذا التكتل، وشعوره بنشوة النصر على موسكو التي تمتلك قوة عسكرية أكبر من نظيرتها الصينية، بفرض شروط على الأخيرة عليها قبولها أو انتظار قنبلة نووية اقتصادية، وربما تحركات عسكرية غربية.
خسارة موسكو للحرب الحالية يعني- منطقيًّا- أن تكون بكين هي التالية، وفقدانها شريكًا مشاغبًا على الساحة الدولية يشغل الغرب، ويستنزف قدراته، وربما فوضى تضرب منطقة أوراسيا تنهي طموحات الصين في مشروعها «الحزام والطريق»، وتحملها أعباء حفظ الأمن والطرق المؤدية إلى وسط وغرب آسيا وأوروبا، وربما ارتداد الفوضى إلى داخل أراضيها.
خروج أوكرانيا منتصرة- ولو نسبيًّا- بفضل الدعم الغربي، وعضوًا في الناتو، أو ذات مكانة مميزة دون العضوية، قد يعني ترسيخ استقلال تايوان، وربما مطالبتها بالميزة نفسها، وشعورها بإمكانية المواجهة والانتصار فيها مع الصين، مستلهمة تجربة أوكرانيا.
لدى الصين شواغل أمنية في محيطها القريب، كما هي الحال بالنسبة إلى موسكو، ومناوئون في بحر الصين الجنوبي، إلى جانب المنافسين التقليديين، مثل الهند، واليابان، وكوريا الشمالية، وأستراليا؛ ومن ثم فإن خروج روسيا مهزومة في هذه المعركة، وعجز الصين عن تقديم الدعم لها، قد يؤدي إلى اندفاع البلدان الآسيوية المترددة إلى الالتحاق بالتحالف الرباعي «أوكوس»، وتوسيعه ليصبح بمنزلة “ناتو آسيوي” في مواجهة الصين.
ظهرت عدة أصوات في الصين تتحدث- صراحةً- عن أولوية علاقة بكين مع الغرب، وضرورة ابتعادها عن موسكو، وكان من أشهرها الأكاديمي الصيني هوو وي، وشاطره في الموقف بعض القيادات الشابة داخل الحزب الشيوعي الصيني، وقد يبدو هذا الأمر طبيعيًّا في ظل خشية الكثيرين من أي تأثيرات اقتصادية سلبية في مسيرة الصين، وتعطيل مشروعاتها الطموحة التي قاربت على الانتهاء لربط سلاسل التوزيع والإنتاج بها. ورغم ما يبدو من عدم مشاطرة القيادة الصينية هذه القيادات التوجه نفسه، فإنها تأخذ آراءها ومخاوفها في الحسبان.
لا ترتاح الصين عمومًا لسياسات موسكو التي تثير الفوضى في بلدان الاتحاد السوفيتي السابق، ودعم المتمردين بالسلاح والعتاد، والاعتراف من جانب واحد باستقلالهم، وتخشى من هذا النهج أن يرتد على وحدتها الداخلية، وتطبيقه غربيًّا عليها في عدة مناطق، مثل التبت، وشينجيانغ، وتايوان.
خروج روسيا منتصرة- بشكل كامل- في هذه المعركة، ومع أنه سيضعف الغرب وحلف الناتو، فإنه قد يمثل خطورة في المستقبل القريب؛ نظرًا إلى عدم الثقة الصينية بتوجهات الكرملين المستقبلية ما بعد بوتين، فلا يوجد في روسيا منظومة سياسية عَقَديّة، مثل الحزب الشيوعي الصيني، والجيش الروسي وقياداته تم برمجتهم على إطاعة أوامر السياسيين بلا نقاش، ولا وزن لهم في السياسة الخاصة بالدولة وتوجهاتها، وقد يصعد إلى السلطة رئيس يسعى إلى عقد صفقة مع الغرب على حساب بكين، خاصةً بعدما تكون روسيا قد أمنت محيطها الإقليمي، وهو أمر غير مستبعد.
رغم قوة روسيا العسكرية، وامتلاكها موارد طبيعية ضخمة، فإنها قوة اقتصادية متواضعة جدًّا، وإذا تعرضت الصين لضغوط غربية، لا يمكن لروسيا أن تشكل أي ثقل موازن، أو تقدم دعمًا حقيقيًّا ستكون الصين بحاجة إليه.
قد يكون الوضع الأفضل للصين هو ما قامت الولايات المتحدة به فعلًا من إضعاف أوروبا، وإنهاك روسيا، وعدم قدرة أي طرف- فيما يبدو- على حسم الصراع لصالحه، وهو ما يعني تراجعًا لجميع أطرافه، وازديادًا في قوتها، شريطة ألا يطول الصراع، وهنا يمكنها التدخل لصنع تسوية ما تحفظ ماء وجه الجميع، ولا يمكن لأي طرف أن يدعي أنه خرج منها رابحًا في المطلق.
يرجح- إلى حد بعيد، وللأسباب السابق ذكرها- ألا تلتزم الصين بالعقوبات الغربية، وفي الوقت نفسه لا تستجيب لجميع مطالب موسكو؛ وذلك من خلال فتح نافذة اقتصادية لروسيا لا تؤدي إلى خنقها بالكامل؛ حرصًا على السلم والأمن الدوليين، وعدم وصول الكرملين إلى خيار “شمشون”، وتسويق هذا الموقف على أنه “الجانب الصحيح من التاريخ”، كما ذكر وزير الخارجية الصيني، من خلال عدم الذهاب بعيدًا في الضغوط بشكل متهور يؤدي إلى رد فعل غير متوقع من الطرف الروسي، مثل استخدام الأسلحة المحرمة دوليًّا، أو توجيه ضربة عسكرية إلى أحد الدول الأعضاء في حلف الناتو، ووضع الولايات المتحدة في خيارات صعبة؛ إما الرد ونشوب حرب نووية، وربما عالمية ثالثة، وإما بلع مخاطها وكسر هيبتها أمام العالم.
يتوقع- حتى حال انتهاء هذا الصراع- ألا تعود العلاقات الغربية- الروسية، وأن تظل كثير من العقوبات المفروضة على موسكو، ومعاناتها الاقتصادية التي ربما ستطول نتيجة المشكلات البنيوية في الاقتصاد الروسي المتهالك حتى قبل الأحداث الحالية، والمتوقع أن يظل في حالة تراجع، وسيكون بحاجة إلى خمسة عقود من العمل الجاد والاستقرار- هذا إذا حدث، وهو أمر مستبعد- لكي يصبح اقتصادًا حقيقيًّا، كما أن روسيا تعاني تدهورًا ديمغرافيًّا لا يبدو أن هناك حلولًا واضحة في الآجال القريبة أو المتوسطة لها، والعملية العسكرية حتى إذا انتهت بانتصار روسي، فإنه سيكون انتصارًا ذا تكلفة باهظة، وبمنزلة درس وعامل ردع ربما يستمر إلى عدة أجيال روسية يمنعها من تكرار محاولة الخروج بقواتها خارج حدودها، وهذه العوامل، إلى جانب المتغيرات السياسية الداخلية التي قد تطرأ على الساحة الروسية، تضمن للصين بأن روسيا ستظل جارًا صديقًا لعدم وجود داعم حقيقي لها سوى الصين، وفي الوقت نفسه سيكون هذا الجار ضعيفًا، ولا يشكل تهديدًا لها، ولا لمصالحها. ووفق حسابات المكسب والخسارة، فإن الوقوف مع موسكو، التي ستخرج منهكة ولا تشكل خطرًا، أفضل من الانحياز إلى الولايات المتحدة، التي تشكل الخطر الحقيقي عليها.
تقديم الصين نافذة اقتصادية لموسكو، وربما تقديم دعم لوجستي لعملياتها العسكرية من خلال توفير أطعمة وطرق للتموين لقواتها المنتشرة داخل الأراضي الأوكرانية، وعدم قدرة العقوبات الغربية على إجبار موسكو على التراجع، وزيادة الأسعار، وتوقف سلاسل التوريد لبعض الخامات المهمة والحبوب من روسيا وأوكرانيا، وصعوبة تحمل الغرب لهذه التكلفة، قد يمكن بكين من تقديم نفسها وسيطًا قادرًا على الحديث مع واشنطن وموسكو، ويصنع تسوية تؤدي إلى حياد أوكرانيا، وعدم انضمامها إلى الناتو، والتبرؤ مع الحركات “النازية”، ولكن دون الاعتراف بتبعية شبه جزيرة القرم، واستقلال الدونباس، وإرجاء هذه الملفات إلى المفاوضات بين الأطراف المتعددة فيما بعد.
بناءً على السيناريو السابق، ستكون هذه الأزمة إعلانًا عن مولد الصين كلاعب على الساحة الدولية، وضامن للأمن والسلم الدوليين، وأنها بحكمة سياستها جنبت العالم حربًا عالمية ثالثة، أو نووية، من خلال عدم استجابتها لمطالب واشنطن بفرض عقوبات على موسكو، وتبدو بذلك أكثر جاذبية لكثير من مناطق العالم التي تشهد نزاعات بين أطرافها المختلفة، وقبولها من هذه الأطراف وسيطًا (على سبيل المثال بين بلدان الخليج العربية وإيران)؛ وهنا تتجلى “الحكمة الصينية” في تعاملها مع الأحداث الحالية.
لا يبدو أن خيارات الصين صعبة، ولا أنها في محل الاختيار الحاد؛ إما روسيا وإما الغرب، وهي لديها هامش واسع من المناورة، وقدرة على تجاوز الضغوط المفروضة عليها من واشنطن.
ليس من مصلحة الصين- بناءً على ما سبق من عرض- أن تخرج روسيا مهزومة في هذه المعركة، ولا يبدو أن هناك طرفًا سيتمكن من كسر الطرف الآخر نتيجة موقفها الذي يمكن وصفه بأنه “حكيم”، وهو ما سيرتد إيجابًا عليها، ويؤدي إلى إضعاف الجميع بدرجات متفاوتة، وتحولها إلى الرابح الأكبر.
خشية الصين من الغرب أكبر من روسيا، حيث يتوقع خروج الأخيرة من هذه المعركة منهكة اقتصاديًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا، ولا متنفس لها سوى الصين، والأخيرة ستضمن- إلى حد كبير، أو إلى سنوات ليست بالقليلة- صداقتها المبنية على ضعف موسكو وحاجتها إليها، وتدهور علاقاتها مع الغرب تدهورًا كبيرًا يصعب تجاوزه بسهولة.
رغم ما يبدو من مكاسب للصين من جراء الصراع الحالي، فإنه ليس من صالحها أيضًا أن يطول بشكل كبير، وهو ما يعطل خطوط إمدادها للسلع والبضائع إلى أوروبا عن طريق القطارات عبر روسيا وبيلاروس؛ ولذلك يبدو أن الاعتماد الصيني قائم على أن مساعدة روسيا بقدر يضمن عدم انهيارها الاقتصادي، وصعوبة استمرار الغرب في المعركة مع طول أمدها، سيؤدي إلى رغبة كلا الطرفين في حل؛ وهنا سيبرز دور الصين لتعلن عن نفسها ودورها السياسي العالمي الجديد الذي يعزّز قوتها وموقعها.
السيناريو الأكثر تشاؤمًا للصين هو أن تضغط عليها الولايات المتحدة، من خلال حزمة من العقوبات القوية، وهو ما سيضعها في خيارين شديدي الصعوبة: فقدان مصداقيتها وإظهارها في موقف الضعيف العاجز أمام واشنطن، فتخضع للعقوبات، أو أن تلجأ إلى التصعيد من خلال تقديم دعم كبير لموسكو، وترتبط معها فيما يشبه الحلف، ولو مؤقتًا، ولكن هذه الفرضية تظل ضعيفة، وإن كانت غير مستبعدة، ولكن ما يضعف منها أن الصين لن تخضع- في الغالب- لأن خسارتها الجيوسياسية ستكون أكبر من أي خسارة اقتصادية يمكن تفاديها، وفي هذه الحالة سيكون الغرب في مأزق عبر مواجهة متزامنة مع بكين وموسكو.
ما ورد في المقالة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.