مختارات أوراسية

نقد صيني لدبلوماسية القيم المُحافظة الروسية


  • 4 يوليو 2023

شارك الموضوع

إعادة نشر وسائل الإعلام الصينية للدعاية الروسية، وصف الزعيم الصيني شي جين بينغ للرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأنه “أفضل صديق له”، وأن الشراكة بين الصين وروسيا “بلا حدود”، جعلا من الصعب أحيانًا تذكر أن العلاقات الصينية الروسية تتميز دائمًا بقدر معين من عدم الثقة المتبادل.. لكنَّ مقالًا بعنوان “تعليقات على دبلوماسية القيم المحافظة الروسية“، كتبه فنغ يوجون (Feng Yujun)، مدير مركز الدراسات الروسية وآسيا الوسطى، في جامعة فودان، والمحلل السابق في المكتب الحادي عشر لوزارة أمن الدولة، والمعروف باسم المعاهد الصينية للعلاقات الدولية المعاصرة (CICIR)، وشاركه ون لونجي (Wen Longjie)، باحث ما بعد الدكتوراة في مركز فودان، والمسؤول عن أخبار كازاخستان في شبكة الاعلام الصينية، يُقدم نقدًا حادًّا للسياسة الخارجية لموسكو، وفي الوقت نفسه يقدم نقدًا ضمنيًّا لبعض سياسات بكين الخاصة بالملف الروسي.

لفت مقال يوجون ولونجي المراقبين الغربيين، مثل توماس دي جاريتس جيديس (Thomas des Garets Geddes)، وهو زميل سابق في معهد مركاتور لدراسات الصين (MERICS)، الذي عبر عن دهشته من السماح لأشخاص لهم صفة رسمية صينية بنقد السياسات الروسية بهذه الحِدة، كما عمل دانيال كرين، وهو مُدرس دراسات اجتماعية مقيم في شنغهاي، وحاصل على ماجستير القانون والعلاقات الدولية من جامعة بكين، على تقديم نسخة إنجليزية من المقال.

ملخص:

  1. تؤمن روسيا بتفوق ثقافتها، وتراها مهمة مسيانية لنشر قيمها المحافظة إلى بقية العالم.
  2. تحول روسيا نحو المحافظة ما هو إلا رد فعل ضد النيوليبرالية، ونتيجة لفشلها في التغريب.
  3. المحافظة في عهد بوتين ليس لها أسس متينة، وهي أقرب إلى “الفقاعة الخطابية”.
  4. النزعة المحافظة الروسية هي مجرد أداة لموسكو لتعزيز مصالحها السياسية، وكسب الدعم لسياساتها على الصعيدين المحلي والخارجي.
  5. تشجع موسكو أيضًا الاستقطاب السياسي الحالي للمجتمعات الغربية، وتستخدم مكانتها كحامل لواء المحافظة لكسب أتباع المتعاطفين والمدافعين في جميع أنحاء العالم.
  6. إن “المنطق الإمبراطوري” الكامن وراء الحرب في أوكرانيا، وطموحها لاستعادة الأراضي الروسية المفقودة، حطم مبدأها الذي لطالما دافعت عنه بشأن أولوية سيادة الدولة.
  7. إذا كان بوتين وروسيا يسعيان بالفعل إلى قلب النظام الدولي الحالي الذي تقوده الولايات المتحدة؛ فيجب على الأقل أن يكون لديهما بديل موثوق به يقدمانه بدلاً من ذلك، لكن اقتصاد روسيا وسياستها ومجتمعها يعاني مشكلات لم يتم حلها بعد، وليس لدى روسيا نموذج تنموي قابل للتطبيق لتقدمه.
  8. لقد أضرت الحرب في أوكرانيا بصورة روسيا العالمية، وقوضت جاذبية نزعتها المحافظة المسيانية، وأضعفت نفوذها الاقتصادي والسياسي في العالم.

في 31 مارس (آذار) 2023، وافق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على وثيقة سياسة إستراتيجية جديدة للسياسة الخارجية، تعتمد على مفاهيم نظرية، مثل التعددية القطبية والأوراسية، وتؤكد أن روسيا دولة قارية ذات حضارة مستقلة، لها توجهاتها الخاصة. يأتي هذا الرفض الروسي مع الإستراتيجية العالمية، والقطبية الأحادية، والنظرية الليبرالية للعلاقات الدولية نتيجة للحرب مع أوكرانيا، والعقوبات الغربية القصوى المفروضة على موسكو.

على مدار العشرين عامًا الماضية من حكم بوتين، أصبحت الأفكار المحافظة تدريجيًّا “الجوهر الروحي” للدبلوماسية الروسية، واستخدمت روسيا الأدوات السياسية والثقافية والدينية والعرقية والمتعلقة بالهوية، وغيرها من الأدوات المتعلقة بالقيم، لتحقيق الدعم الدولي لسياساتها الداخلية والخارجية؛ ما أدى إلى تفاقم العداء والانقسام بين الليبرالية الجديدة والمحافظة على نطاق عالمي، ولكن مع مرور الوقت أصبحت السياسة الخارجية لروسيا راديكالية بشكل متزايد، وبدأت قيمها المحافظة بإثارة الشكوك بشأن العلاقات الدولية الروسية.

سياسيًّا، لم تحتوِ إستراتيجية روسيا الخارجية الجديدة إلا على كثير من الأشكال المختلفة في الصياغة، وتأكيد القومية في السعي وراء مكانة القوة العظمى، والمحافظة القائمة على الأرثوذكسية (الروسية)، و”معاداة الغرب” من خلال معارضة الولايات المتحدة وأوروبا.

نهاية عام 2013، في خطابه الرئاسي عن حالة الأمة، نقل بوتين عن الفيلسوف الروسي نيكولاي بيردييف قوله إن “المحافظة ليست حركة لوقف التقدم والتحرك التصاعدي؛ ولكنها قوة لمنع التراجع والانحدار”. وأكد أن المحافظة الروسية تقوم على التقاليد التاريخية، وموجهة نحو التنمية المستقبلية، وأنها مزيج عقلاني من التقاليد والابتكار”. ومع ذلك، يأتي تحول روسيا المحافظ جزئيًّا، والارتداد نحو الثقافة المحافظة بعد فشل محاولات التغريب. الآن، نبذ النيوليبرالية الغربية من خلال بناء سردية معارضة لإضفاء الشرعية على العودة إلى التقاليد، لا يدل إلا على أن التيار المحافظ الروسي يفتقر إلى جوهر سياسي داخلي محدد. وأن الإستراتيجية السياسية ما هي إلا بيان “رد فعل”، أو فقاعة استطرادية تحاول أن تمتلئ بالقيم المحافظة.

وبوصفها مركزًا للقوى المحافظة الدولية، استخدمت روسيا- بنشاط- هذه القيم لحشد كل من القوى الدولية المعادية للغرب، والقوى المحافظة داخل الغرب؛ لتحقيق أهدافها الدبلوماسية. في ممارستها الدبلوماسية الأخيرة، استفادت روسيا بالكامل من الأفكار المحافظة، وتبنت السياسة، والثقافة، والدين، والعرق، وسياسات الهوية، كأدوات لكسب دعم دولي أوسع لسياساتها الداخلية والخارجية.

وقد أنشأت روسيا نظام قيم محافظًا يلقي باللوم على الليبرالية الجديدة في إغراق الغرب في “الانحطاط” من خلال تدمير النظام الطبيعي للمعتقدات الدينية، وأخلاقيات الأسرة، والأخلاق التقليدية، والاختلافات بين الجنسين. وتعارض روسيا زواج المثليين، والعائلات “غير التقليدية”، وتدافع عن العائلات “التقليدية” المكونة من رجل وامرأة، وتحظر الدعاية الجنسية المثلية، وتصنف المواطنين الروس المشاركين في حماية حقوق الأقليات الجنسية (LGBTQ) على أنهم “عملاء أجانب”. في عام 2013، أصدرت الحكومة الروسية أيضًا قانونًا فيدراليًّا “يهدف إلى حماية الأطفال من تأثير القيم العائلية غير التقليدية”، ويحظر على الأزواج الأجانب من الجنس نفسه تبني أطفال روس.

إن تقديم روسيا لنفسها على أنها المنقذ والواعظ للغرب بشأن نظام القيم التقليدي الخاص بها، يتجلى- بشكل أفضل- في دفاعها عن المفهوم التقليدي للدولة القومية ذات السيادة. وتزعم المحافظة الروسية أنه بعد نهاية الحرب الباردة، أنشأت الولايات المتحدة نوعًا جديدًا من الهيمنة على أساس إجماع واشنطن والليبرالية الجديدة، في حين قدمت نفسها على أنها حققت “نهاية التاريخ”. في إطار هذه السردية النيوليبرالية، قُضِيَ على الحدود التقليدية والسيادة الوطنية من أجل تحقيق حرية تنقل الأشخاص، والسلع، والعمل، ورأس المال، ومن ثم إقامة صلة مباشرة بين العالم والفرد. وهذا التقليل من قدر الذات الوطنية وتفكيكها هو الذي يؤدي إلى ظهور حجج تؤيد أولوية حقوق الإنسان على السيادة، وهذا يشكل تحديًا خطيرًا للفكرة التقليدية للدولة، وللنظام الدولي للدول ذات السيادة. إن الخطاب الذي بنته روسيا يخلص في النهاية إلى أن” النموذج الرأسمالي الذي يدعم حاليًا الهيكل الاجتماعي لمعظم البلدان قد أخذ مجراه، وغير قادر على خدمة تناقضات متزايدة التعقيد”.

عند تحليل القيم المحافظة لروسيا، من المهم أن نلاحظ أنه بالإضافة إلى البراغماتية الأداتية، هناك أيضًا وعي مسياني متجذر في فلسفتها وثقافتها. وينبع الوعي المسياني، مع دلالاته على أن الروس “شعب الله المختار”، ويتولون “مهمة الخلاص”، وهذا الموقف الروحي “المزعوم” لروسيا بوصفها الوريث الحقيقي للمسيحية، يجعلها تبني سياستها الخارجية على أنها تمثل الأخلاق والنبل، وتفوق فكرها الثقافي؛ ومن هذا تستمد شرعيتها، وإمكانية إنقاذ البشرية جمعاء. وهكذا، غالبًا ما تشير روسيا، في مشاركتها في الشؤون الأوروبية، إلى مهمتها الخاصة لحماية الحضارة الأوروبية وإحيائها. كما سبق أن أكد الاستعمار أنه يجلب الحداثة للبلدان تحت نفوذه.

التفكير الروسي الحالي بشأن مصير البشرية جمعاء هو نوع جديد من وعيها الخلاصي. بالطبع، لا يزال محور هذا الخطاب هو أوروبا، ولا يزال جوهر التفكير الروسي حول العالم هو “مهمتها الحضارية” لإنقاذ المسيحية، جنبًا إلى جنب مع رؤية روسيا بوصفها “آخر عالم أبيض”.

منذ التسعينيات، تسير المحافظة والليبرالية دائمًا جنبًا إلى جنب مع العولمة، حيث ينتشر تأثير القوى السياسية اليمينية المتطرفة الآن في عدد كبير من البلدان الأوروبية، وتدرك روسيا تمامًا الانقسام في القيم داخل هذه الدول، وتستنتج موسكو أنه ستكون هناك مواجهة عالمية حادة بين الليبرالية والمحافظة؛ لذا تستفيد من هذه الظروف، وقد حققت روسيا شيئين من خلال اتباع دبلوماسيتها المحافظة القائمة على القيم:

أولًا: أوجدت قدرًا معينًا من المساحة لروسيا لمتابعة سياستها الخارجية من خلال تعزيز المواجهة، أو استغلال الخلافات القائمة على تفاقم الانقسامات في المجتمع الغربي. في السنوات الأخيرة، كان هناك استقطاب سياسي خطير في الولايات المتحدة، مع اشتداد النضالات الحزبية، والانقسامات الاجتماعية. وكانت هناك مواجهة حادة بين التعددية الثقافية والمحافظة، وبين العقلانية العلمانية والأديان التقليدية، وبين “التصحيح السياسي” و”التصحيح المناهض للسياسة”. لقد سعى الحزب الديمقراطي إلى تطوير العقلانية العلمانية والتعددية الثقافية في إطار ليبرالي، ويؤكد “الصواب السياسي” القائم على احترام الحقوق الفردية. في غضون ذلك، يدعو الحزب الجمهوري إلى العودة إلى القيم البروتستانتية التقليدية، ويكرس النزعة المحافظة، ويحث على إعادة التفكير في “الصواب السياسي”. وأدت الدعاية المحافظة الروسية، من خلال شبكات التواصل الاجتماعي التي أنشأتها، إلى تفاقم الانقسام والعداء بين الحزبين؛ مما أدى إلى زيادة الاستقطاب في البيئة السياسية المحلية للولايات المتحدة، وتعزيز تأثير التيار المحافظ.

لقد تأثر المشهد السياسي في فرنسا أيضًا بروسيا، التي لم تخف دعمها لمارين لوبان، زعيمة التجمع الوطني اليميني (التجمع الوطني) في الفترة التي سبقت الانتخابات الفرنسية عام 2017، وعلى الرغم من هزائمها في انتخابات عامي (2017) و(2022)، ارتفعت شعبية لوبان. وبالنظر إلى الدعم الواسع النطاق لوبان، فإن العلاقات الجيدة معها قد زودت موسكو برافعة قوية للتأثير في المشهد السياسي الفرنسي. وقدم هذا لبوتين ورقة مساومة مهمة في مناقشاته مع ماكرون. كما أن المشاعر المؤيدة لروسيا بين الجمهور الفرنسي أصبحت ملحوظة بشكل متزايد. وأشارت الدراسات إلى “انحياز واضح إلى الكرملين” بين بعض الفرنسيين، ونعتقد أن هذا الود تجاه موسكو له مصدران؛ المصدر الأول تعود فيه المشاعر المؤيدة لروسيا إلى التحالف الفرنسي الروسي، عندما كان المعجبون في فرنسا يستوعبون بالفعل الخطاب السلافي الروسي. بالإضافة إلى تشابه الهياكل السياسية لفرنسا وروسيا. ولقد وجدت كل من النزعات المركزية والمناهضة لليبرالية اليعقوبية سوقًا في فرنسا بين الأحزاب اليسارية واليمينية على حد سواء. والمصدر الثاني هو “معاداة أمريكا” الفرنسية، التي تأثرت بالدعاية الشيوعية في فترة ما بعد الحرب، والذكريات التاريخية السلبية عن التعاملات مع الأنجلو ساكسون .

ثانيًا: اكتسبت روسيا مكانة حامل راية العقيدة المحافظة؛ باستخدام بعض وجهات النظر السياسية لليمين الأوروبي (التشكيك في السياسات الديمقراطية، وإعادة التفكير في أولوية حقوق الإنسان، ومعارضة استقبال المهاجرين)، والمعتقدات (مثل القومية، والمسيحية التقليدية، والقيم، ومعارضة الإجهاض)، وأسهم هذا في سهولة التواصل مع “المؤيدين” و”المتعاطفين”، وتهيئتهم ليصبحوا المتحدثين باسم روسيا داخل أوروبا، ولقد ساعدت السردية المحافظة الروسية عن السيادة الوطنية على اكتساب قدر كبير من الفهم والدعم في مواجهتها مع الاتحاد الأوروبي، وحلف شمال الأطلسي. ودعمت بعض القوى القومية اليمينية في أوروبا- علنًا- سياسة روسيا خلال أزمة أوكرانيا عام 2014، بل قامت بزيارات رفيعة المستوى إلى شبه جزيرة القرم. ولقد قامت القوى السياسية اليمينية في فرنسا “بنسخ” الرواية الروسية عن أوكرانيا، بحجة أنها بيدق تستخدمه الولايات المتحدة، وأنه بدونها لن تكون روسيا قادرة على التعامل مع الهيمنة الأمريكية، وأنه يتعين على بوتين الرد على هذا الاستفزاز.

لأكثر من مئتي عام، بدءًا من المسيحية الأرثوذكسية، والسلافية والأرثوذكسية، إلى الأممية البروليتارية، والأسرة الاشتراكية، والثورة العالمية، كانت الشعارات المحملة بالقيم أداة مهمة في السياسة الخارجية لروسيا القيصرية والاتحاد السوفيتي. ولقد ورثت روسيا المعاصرة هذا التقليد من الدبلوماسية القائمة على القيم؛ مما أدى إلى بعض الموافقة على مسار تنميتها المحلية، وسياساتها الخارجية بين مجموعات معينة من الناس. وقد منحها ذلك درجة معينة من الشرعية النظرية، والدعم العملي لأعمالها الدبلوماسية، مثل تلك الموجهة ضد الغرب، ونشر القوات في سوريا، ودمج مساحة ما بعد الاتحاد السوفيتي، واستخدام القوة العسكرية ضد أوكرانيا، ولكن في الوقت نفسه، فإن الدبلوماسية القائمة على القيم الروسية لها حدودها.

في قلب الدبلوماسية الروسية القائمة على القيم المعاصرة، هناك نزعة محافظة تهدف إلى معارضة واستبدال النيوليبرالية، لكن المحافظة الروسية ليست بالضبط النزعة المحافظة نفسها بالمعنى التقليدي؛ لذلك من الضروري توضيح الأصول النظرية والديناميكيات الفريدة للمحافظة الروسية. وإذا كان يُنظر إلى المحافظة الروسية على أنها نقيض تمامًا، أو نقيض فلسفي للنيوليبرالية، فإنها ستخاطر بأن تصبح أداة دبلوماسية يمكن بسهولة اختزال بنائها النظري للعالم، والدولة، والأخلاق الفردية، والمؤسسات، إلى فلسفة مصممة خصيصًا لصالح البلد المعني، أي لصالح روسيا. بعبارة أخرى، يتعين على المرء أن يتساءل عما إذا كان من الممكن إخفاء النغمات الانتهازية والذرائعية تحت الفقاعة الخطابية للنظريات المحافظة لروسيا.

في 9 سبتمبر (أيلول) 2022، خلال لقاء مع رواد الأعمال الشباب، قارن بوتين الوضع في روسيا اليوم بما كان عليه في عهد بطرس الأكبر، وتحدث عن حرب بيتر الأول في الشمال في بداية القرن الثامن عشر عندما أسس الإمبراطورية الروسية الجديدة قائلًا: “قد تعتقد أنه كان يستولي على الأراضي السويدية، لكنه لم يستولِ على أي شيء. لقد استعاد ببساطة الأماكن التي عاش فيها السلاف قرونًا، وتقع مهمة استعادة السيادة الوطنية والأراضي التقليدية وتعزيزها الآن على عاتقنا أيضًا”.

هذا المنطق الإمبراطوري الكامن وراء رفض أوكرانيا ككيان وطني، والمطالبة العلنية باستعادة الأراضي التقليدية لروسيا ينذر بالخطر. من الواضح أن مفهوم “الحدود الثقافية بدلًا من الحدود السيادية الفعلية” يتعارض مع تصريحات موسكو البارزة باحترام سيادة الدولة، ولا يختلف في جوهره عن إيمان الغرب بأولوية حقوق الإنسان على السيادة. ونتيجة لذلك، لم تفقد موسكو المكانة الأخلاقية العالية لانتقاد النيوليبرالية الغربية بشأن هذه القضايا فحسب؛ بل دمرت أيضًا- بشكل فعال- مبدأ “أولوية السيادة” الذي تدعو إليه. وقد كشف هذا عن فجوة ضخمة بين الدعاية القائمة على القيم وسياساتها الفعلية.

ولطالما ارتبطت الدبلوماسية الروسية ارتباطًا وثيقًا بشؤونها الداخلية. الدبلوماسية القائمة على القيم ليست استثناء. ومع تأييد روسيا الرسمي وتشجيعها للمحافظة، نما تأثير هذه العقيدة نموًّا كبيرًا، وبدأت بعض الآثار الجانبية تظهر، مثل أن الأغلبية العرقية والدينية تُصبح أقل تسامحًا بكثير مع الأديان والأعراق الأخرى.

إذا كان استخدام بوتين للمحافظة سلاحًا لانتقاد الليبرالية الجديدة قد أصاب الأخيرة حيث تؤلمها، فإن السؤال عن كيفية بناء نظام جديد أفضل من النظام القديم بعد هدمه يصبح أمرًا يجب أن تجيب عنه موسكو، لكن هذا يضع مطالب على التنمية الروسية نفسها، فإذا لم تتمكن حالة التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي في روسيا الحالية من توفير دعم واقعي للنظام الذي تدعو إليه، فهذا يعني أن جاذبيتها ستتضاءل- بلا شك- إلى حد كبير.

إن عودة النزعة المحافظة الروسية هي رد فعل على العواقب المأساوية لأنواع مختلفة من الثورات في التاريخ، وفوضى ما بعد الحرب الباردة الناجمة عن انتشار الليبرالية الغربية. ومع أن تردد صدى المحافظة الروسية على نطاق عريض على المستوى الدولي، عزز ووسع نفوذ موسكو السياسي العالمي، فإن هذه “الوصفة” للمحافظة الروسية لم تؤدِ إلى النتائج “الإيجابية” التي كانت موسكو تروج لها. على المستوى الاقتصادي، لم يُوقَف “تراجع التصنيع” الذي أعقب انهيار الاتحاد السوفيتي بشكل فعال. تتخلف روسيا عن الركب في “الثورة الصناعية الرابعة”، وتواجه التحدي المزدوج المتمثل في مكافحة تغير المناخ، وتعزيز الانتقال إلى الطاقة المتجددة. وعلى المستويين السياسي والاجتماعي، ازداد الاتجاه نحو مركزية سلطة الدولة منذ عام 2003، لكن كفاءة الحكم لم تتحسن، واستمر الفساد بين النخب، واستمرت المشاركة السياسية للسكان وحيوية المجتمع الروسي في التدهور، واستمر الوضع فيما يتعلق برأس المال البشري في التراجع، وكانت هناك هجرة جماعية للمعرفة والثروة إلى خارج البلاد.

بالإضافة إلى ذلك، تفتقر الدبلوماسية الروسية المحافظة القائمة على القيم إلى الاتساق المنطقي بين الأقوال والأفعال؛ نظرًا إلى أن التطرف في السلوك الدولي لروسيا أصبح أكثر بروزًا، لا سيما منذ عام 2008، عندما تمت سلسلة من الأعمال العسكرية الروسية في الفضاء الأوراسي، وأثارت دبلوماسيتها المحافظة القائمة على القيم شكوكًا متزايدة، وردود فعل عنيفة على المستوى الدولي. ولقد أدى الصراع بين روسيا وأوكرانيا إلى تشويه سمعة الدعاية الروسية المحافظة بشأن “أولوية السيادة”، وألحق أضرارًا كبيرة بصورة روسيا الدولية.

ترجمة الباحث: مصطفى شلش

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير


شارك الموضوع