تتعدد النظريات بشأن ماهية العلاقات المدنية العسكرية والعوامل المؤثرة فيها، من حيث أيديولوجية النظام السياسي، وما ترتّبه من علاقة جدلية بين مؤسسات الدولة، قائمة على معايير القوة، والفاعلية، والتوافق أو الانقسام الذي قد يصل إلى حد الازدواجية في السلطة. قدّمت الصين في هذا الإطار نموذجًا فريدًا للعلاقات المدنية- العسكرية، هدف- في ظاهر الأمر- إلى تحقيق التكامل العسكري- المدني للحد من الازدواجية، على الرغم من خضوع جيش التحرير الشعبي الصيني- خضوعًا صريحًا- لسلطة الحكومة الشعبية، وعلى رأسها الحزب الشيوعي الصيني الحاكم. إنّما كانت الغاية الأسمى تحويل جيش التحرير الشعبي الصيني إلى قوة عسكرية قتالية متفوقة عالميًا، بالتكامل والتوازي مع نمو الصين الاقتصادي، وصعودها كقوة دولية عظمى.
ومع الإصلاحات والتحديثات الضخمة التي خضع لها جيش التحرير الشعبي الصيني، برزت الحاجة إلى اتخاذ خطوات جريئة نحو إشراك القطاع الخاص في قاعدتها الصناعية الدفاعية على النحو الذي يسهم في خفض النفقات العسكرية، وتعزيز المنافسة من خلال دعم الابتكار والصناعة الدفاعية المحلية. وفي سياق تعزيز التوجه الإستراتيجي نحو تطوير علاقة التكامل العسكري- المدني تواءمت رؤية الصين مع نظرية التحول الوظيفي والتوسع في وظائف المؤسسة العسكرية بهدف تحقيق “الاندماج” بين البنيتين العسكرية والمجتمعية على مستوى التوجيه، والتنسيق، والإصلاح، والابتكار. وقد عملت الصين على اكتساب التأييد الشعبي والشرعية لخيارها الإستراتيجي، بترويج ما توفره إستراتيجية الاندماج العسكري- المدني «MCF» من دافع قوي ودعم إستراتيجي لتحقيق «حلم الصين، حلم عسكري قوي».
من هنا، شدد الرئيس الصيني «شي جين بينغ»، في خطابه ضمن فعاليات الدورة الأولى للمجلس الوطني لنواب الشعب الصيني الثالث عشر، على أنّ تنفيذ إستراتيجية تطوير التكامل العسكري- المدني ”خيار لا مفرّ منه“ لبناء نظام وقدرات إستراتيجية وطنية متكاملة، ولتحقيق هدف الحزب الشيوعي الصيني المتمثل في تعزيز قوة الجيش ودوره في العصر الجديد[1]. يحرص الحزب الشيوعي الصيني، من جهته، في هذا الشأن، على امتداد هذه القوة بشكل رئيسي نحو حماية المصالح الإستراتيجية الخارجية للدولة، بحيث يمارس جيش التحرير الشعبي الصيني دورًا جوهريًا في مشروع الحزام والطريق، كما في مواجهة التحديات والتهديدات الأمريكية.
أمّا أبرز ما تتجلى فيه أهمية الإستراتيجية الصينية للاندماج العسكري- المدني، فهو مطالعة ردود فعل الإدارة الأمريكية المتلاحقة إزاء الإستراتيجية الصينية للاندماج العسكري- المدني، بحيث تجد في هذا النهج الإستراتيجي تهديدًا مباشرًا لأمن الولايات المتحدة الأمريكية القومي، والسياسي، والاقتصادي. وقد دفع هذا التوجه الصيني الولايات المتحدة الأمريكية إلى حد إصدار الرئيس السابق «دونالد ترمب» أوامر تنفيذية عاجلة لحظر التعامل مع الشركات الصينية الخاصة التي يثبت أو يشتبه في مشاركتها في أنشطة المجمع الصناعي العسكري الصيني، وتحذير المواطنين الأمريكيين من الاستثمار أو التعامل بالأوراق المالية مع هذه الشركات.
استند المفهوم الغربي للعلاقات المدنية العسكرية في ركيزته الأساسية إلى النظرية التقليدية الأمريكية، بالنظر إلى إسهامات «صامويل هنتنجتون» في إطار ”تعزيز تخصص العسكريين في الشؤون العسكرية مقابل خضوعهم لسيطرة السياسيين المدنيين الذين يصلون إلى السلطة بصورة شرعية“[2]؛ وما قدّمته نظرية «موريس جانوويتز» من اعتبار للفاعلية العسكرية وفق المتغيرات التفسيرية، وأنماط النظم السياسية[3]. يضاف إلى ذلك، نظريات عدة تناولت التحول الوظيفي عن الدور الدفاعي التقليدي للمؤسسة العسكرية عقب الحرب العالمية الثانية، وما قابلها من نظريات التوسع في وظائف المؤسسة العسكرية لجهة دور العسكريين المجتمعي والتنموي.
أمّا النظريات الغربية الحديثة في العلاقات المدنية العسكرية، فقد أرست مبادئها نظرية التوافق التي تقدمت بها «ريبيكا شيف» لتأكيد أهمية الحوار واقتسام القيم والأهداف بين العسكريين والنخب السياسية والمجتمع. ومن جهة أخرى، ركّزت نظرية اقتسام السلطة لـ «لدوجلاس لـ. بلاند» على الدور الأساسي للعسكريين في مجالات الدفاع، وفي حفظ الأمن الداخلي وقت الضرورة، حيث يرجع «بلاند» اقتسام السلطة بين العسكريين والمدنيين إلى المشاركة في اتخاذ القرارات بشأن القضايا المهمة الإستراتيجية والدفاعية، فلا يكون هناك أي تعارض بين اقتسام المسؤولية والسيطرة المدنية على الحكم.
تتّسم الصين بطابع السياسة “المدنية” ذات الصلة بشخصية الدولة “الشعبية” في مجتمعها السياسي، وكذلك العسكري، وهو ما ننطلق منه كقاعدة لفهم طبيعة العلاقات العسكرية- المدنية داخل الصين، من خلال معرفة مكانة “الشعب” في الهوية السياسية والعسكرية للدولة الصينية بشكل جوهري، وبيان الدور الذي يضطلع به جيش التحرير الشعبي الصيني في البنيتين السياسية والمجتمعية الصينية.
برز توجّه الصين نحو التعريف بالهوية المدنية للدولة من خلال اتخاذ اسم «جمهورية الصين “الشعبية”» الذي تهدف الصين من خلاله إلى تأكيد وحدة الهوية السياسية والاجتماعية لجميع القوميات الصينية المكوّنة للشعب الصيني والمؤسسة للجمهورية. وفي الإطار نفسه، حرصت الصين على حفظ وحدة الهوية للشعب الصيني داخل المؤسسة العسكرية، ودفع دور هذه الوحدة الصينية في الدفاع عن الشعب وبناء الأمة؛ فقد نشأ «جيش التحرير “الشعبي” الصيني» من صلب الحركة الشعبية، حيث عرف بكونه جيش الفلاحين والعمال الذين تفانوا في القتال في الهبّة الشعبية لتحرير أرضهم؛ لتعود القوات العسكرية الشيوعية وتدمج لاحقًا في الجيش الثوري الوطني لجمهورية الصين الشعبية، الذي تم تحويله إلى جيش حديث في خمسينيات القرن الماضي.
تاريخيًّا، استمدّت حكومة الصين الشعبية التأييد العسكري لاستمرارها في الحكم من مساندة جيش التحرير الشعبي الصيني أولًا، حيث إنها غالبًا ما كانت تعتمد على استخدام القوة للاستمرار في الحكم، وحفظ الأمن والسلم المحلي، وصون المؤسسات الحكومية، بل الأهم، الحفاظ على وحدة الأقاليم الصينية. أمّا مدنيًّا، فتستمد الحكومة شرعيتها من دعم الحزب الشيوعي الصيني المؤسس والحاكم لجمهورية الصين الشعبية.
وقد عمدت الحكومة الصينية إلى معالجة أزمة الشرعية في إضفاء الطابع الديمقراطي على الحكم، من حيث السماح بمشاركة المدنيين من أصحاب الثقافة السياسية في الحكم عبر نظام ائتلافي متعدد الأحزاب، كما سمحت بمشاركة عدد من الشخصيات الصينية البارزة المستقلة؛ وعليه، تضم الحكومة بموجب هذا النظام وزراء مستقلين، ووزراء ممثلين للأحزاب الثمانية الصينية التي تعمد إلى التعاون والتشاور مع الحزب الشيوعي الصيني الحاكم بشأن توجهاته السياسية والعسكرية، بالإضافة إلى دعم سياسات حكومة الصين الشعبية.
بالنظر إلى العلاقة الجدلية الثلاثية بين الجيش، والمجتمع، وسلطة الحكم في جمهورية الصين الشعبية، وواقع سيطرة الحزب الشيوعي الصيني على المؤسسة العسكرية؛ نستطلع مسار تطور العلاقات المدنية- العسكرية على قاعدة النظريات السابق ذكرها، وصولًا إلى التعمق فيما يلي في تفاصيل الإستراتيجية النموذجية للاندماج العسكري- المدني. وفي قراءة للسياسات الذاتية التي اتبعتها أكثر النخب السياسية نفوذًا في الصين الحديثة، نلحظ أن جميع الحكام جمعوا بين القيادة العسكرية للجيش الصيني والقيادة السياسية للحزب الشيوعي وللدولة.
ممّا تقدّم، كان لا بد أن نتخذ من “الماوية السياسية” نقطة انطلاق لدراسة تطور العلاقات المدنية العسكرية في الصين الحديثة؛ إذ إنّ »ماو تسي تونغ« هو مؤسس وزعيم الحزب الشيوعي الصيني وجمهورية الصين الشعبية، كما صاغ الدستور الذي وُضِعَ على أسس البناء الاشتراكي لجمهورية الصين الشعبية. أما عن علاقته بالقوات العسكرية، فقد أسس «ماو» جيش التحرير الشعبي ليكون قوة عسكرية داعمة للحزب الشيوعي الصيني، بعد صراع على السلطة، وخلاف بشأن الإستراتيجيات العسكرية مع القوات المسلحة الثورية. وعلى الرغم من تأكيده أنّ الصين لن تسعى أبدًا إلى الهيمنة، شجّع «ماو» على صناعة القوّة لدى “الأمّة الصينية”، من خلال إعادة الهيكلة البنيوية للدولة سياسيًّا وعسكريًّا.
بالمثل، شارك الزعيم الصيني «زو إن لاي» في تأسيس جيش التحرير الشعبي، وقد تمكّن خلال فترة حكمه من تحقيق التحديثات الأربعة في الصناعة، والزراعة، والنقل، والدفاع الوطني، كما طوّر العلوم، وأرسى المبادئ الخمسة للتعايش السلمي. وسياسيًّا، تفوق «زو» في تطوير الشؤون الخارجية والعلاقات الدبلوماسية بين الولايات المتحدة واليابان، كما تمكّن من استعادة مقعد الصين في الأمم المتحدة، وتحسين مكانتها الدولية. أما السياسات الإصلاحية، فقد أقدم على تنفيذها الرئيس «دينغ تشياو بينغ» لناحية إصلاح النظام الاشتراكي الصيني، وبناء سياسة الانفتاح والتحديث؛ إذ أصرّ على استقلال الحزب الشيوعي الصيني، وأرسى نظرية بناء الاشتراكية “ذات الخصائص الصينية”.
أمّا التحول نحو تطبيق نظرية “الفاعلية” في العلاقات العسكرية- المدنية، فقد تم خلال فترة حكم «جيانغ زيمين»؛ حيث تم التركيز على التطوير الدفاعي، ورفع مستوى الكفاءات والخبرات والجهوزية العسكرية. وقد أسهم هذا التحديث للبنية العسكرية بدور فعال في صناعة القرار السياسي، وسياسات التحديث، وهو ما تم ترجمته خلال حكم الرئيس «هو جين تاو» بتأسيس اللجنة العسكرية المركزية المنبثقة عن المكتب السياسي للحزب الشيوعي (التي يترأسها الأمين العام للحزب)، محققًا بذلك الخطوة الأولى نحو بناء سياسة التكامل العسكري المدني، التي أرساها الرئيس الحالي «شي جين بينغ»، واستكمل تطويرها في سياسة الاندماج العسكري- المدني.
طرحت الحكومة الصينية مصطلح «الاندماج العسكري- المدني» عبر الخطط الخمسية، بدءًا من الخطة الخمسية الثامنة لعام (1991- 1995)، لتجسّد به النموذج المتطور إستراتيجيًّا عن سياسة «التكامل المدني- العسكري» الصينية (CMI، 军民 结合). وفي منحى موازٍ، حرصت الحكومة الصينية على العمل مع المجتمع الأكاديمي الصيني لتداول مصطلح “الاندماج” العسكري- المدني، حيث تزايدت المناقشات بشأنه في الأدبيات الأكاديمية، وتم ترويج أهميته الإستراتيجية في تحقيق الحلم الصيني بإعادة صعود الأمّة الصينية كقوة عظمى.
ولمّا كان «التكامل العسكري- المدني» قد هدف إلى تحقيق التوافق بين القطاعين العسكري والمدني، برز مسعى الحكومة الصينية إلى ترسيخ هذا التوافق على نحو شامل ومتوازن بين التطورات العسكرية والمدنية، وتنميته من خلال تعزيز دمج وتقاسم موارد الدولة العسكرية، والصناعية- المدنية، والعلمية، بالإضافة إلى التعاون في البحوث والتطبيقات، على النحو الذي يضمن التنسيق الفعّال بين القطاعين لبناء الاقتصاد والدفاع الوطني.
في هذا السبيل، دعا الرئيس الصيني «شي جين بينغ» إلى تعزيز ”وحدة الجيش والحكومة والجيش والشعب“ وتطويرها، وتوحيد أمة قوية لإعادة إحياء الجيش الصيني، ولقد قدّم «شي» ثلاثة مسارات لتوطيد هذه الوحدة باستمرار على جميع المستويات. استوجب المسار الأول من الوكالات المركزية والولائية، ولجان الحزب المحلية والحكومات أن تدعم- بقوة- الدفاع الوطني، وبناء الجيش. أما المسار الثاني فقد استلزم من الجيش بكامله أن يدعم التنمية الاقتصادية والاجتماعية المحلية بنشاط، في حين أوجب المسار الثالث على كل من الجيش والحكومة المحلية المضي قدمًا في التقليد المجيد المتمثل في حب الشعب ودعم الجيش من جانب الشعب[4].
شدّدت الحكومة الصينية على ضرورة الدفع بقوة لتحقيق إصلاحات السياسة والنظم المحلية، بوصفها من المهام الأساسية لتنفيذ إستراتيجية الدمج العسكري- المدني بطريقة شاملة. في هذا الإطار، دعت الحكومة إلى الإسراع في بناء نظام حديث للسياسة العسكرية الصينية، والقضاء- بحزم- على أوجه القصور في الأنظمة والآليات المختلفة، وتنفيذ الإصلاح بثبات واستدامة. وقد أكّد الرئيس «شي» أنّ هذه الإصلاحات في السياسات والنظم، وعلى رأسها نظام حكم القانون العسكري، سوف تعطي ضمانات قانونية مهمة لتقوية الحزب الشيوعي الصيني، وتحقيق هدفه المتمثل في تعزيز الجيش في العصر الجديد، وبناء جيش على مستوى عالمي، بطريقة شاملة.
وقد اشتملت الإصلاحات التي أُعلِنَت سياسات مجمل الأنظمة والقطاعات، إذ تم تأكيد وجوب تحقيق نظام قضائي أكثر عدلًا، كما هدفت الحكومة، على مستوى الإصلاح السياسي، إلى احتواء مطالب المواطنين، والحاجة أن يكون لهم تأثير أكبر في العملية السياسية “الديمقراطية”، ولكن مع الحرص بأن تكون المشاركة في صنع القرار عبر الآليات السياسية الداخلية في الحزب الشيوعي الصيني فقط. اجتماعيًّا، يحقق الإصلاح الاستجابة لحالة عدم الرضا الشعبي بسبب إرتفاع تكاليف النمو الاقتصادي السريع للدولة، حيث تسعى الحكومة إلى تقليص فجوات الدخل للحد من الفقر، وزيادة نطاق فرص العمل ومصادر الدخل للأفراد، وتحسين المستوى التعليمي للعامة، للوصول إلى ”المجتمع الاشتراكي المتناغم“. ولم تغفل الحكومة الصينية أن يتحقق هذا التناغم على المستوى الثقافي من خلال الإصلاحات التي تطول نظام القيم والأخلاق التي يدعمها الحزب، بالإضافة إلى المنتجات الثقافية الصينية، مثل معاهد كونفوشيوس التي تعنى بترويج الثقافة الصينية محليًّا على المستوى الجامعي، ودوليًّا بنشر الثقافة الصينية في العالم من خلال فروع المعهد الموجودة في 114 دولة. وأكّدت الحكومة الصينية قيادة ”الوضع الطبيعي الجديد“ في تعزيز التنمية الاقتصادية المستدامة والصحية بنشاط، بحيث يمكن التناغم مع نمو أبطأ على المستوى الاقتصادي، ولكن على نحو أكثر استدامة وإنصافًا.[5]
وبالتكامل مع هذه الإصلاحات الشاملة في الإطار المدني، أرست الصين- بعناية- متطلبات تنفيذ إستراتيجية تطوير التكامل العسكري- المدني، بدءًا من تحقيق الإصلاحات في النظم والسياسات الموضوعة لهذه الغاية، حيث اتُّخِذَت كثير من الإجراءات بشأن سياسة التكامل المدني- العسكري، كما أُنشئت لجنة التنمية العسكرية والمدنية المتكاملة، برئاسة الرئيس «شي»، في أوائل عام 2017[6]، وقد أنشأت الحكومة أيضًا اللجنة التوجيهية لبحوث العلوم العسكرية[7]. وقد شددت الحكومة على أهمية التسريع في إنشاء آليات التنسيق العسكري- المدني، والعمل على تمويل المشروعات التي يطورها القطاع الخاص في مجال البحث والتطوير الدفاعي، وهو ما يترجم- بوضوح- التحول في إستراتيجية الحكومة بشأن العلاقات المدنية العسكرية من التركيز على التكامل العسكري- المدني في إطار تكنولوجيا الدفاع، إلى تنسيق يحقق الوحدة على نحو أكثر شمولًا.
صرّح الرئيس الصيني «شي جين بينغ» أنّ إقامة نظام حكم قانون عسكري بخصائص صينية في العصر الجديد هو المهمة الأساسية للنهوض بسيادة القانون الشاملة، وتحسين مستوى هذه السيادة في الدفاع الوطني وبناء الجيش، فقد أكّد «شي» ضرورة تكثيف عمل حكم الجيش وفقًا للقانون، والحاجة إلى تعزيز الإيمان بفكر سيادة القانون، والإسراع في بناء نظام حكم القانون العسكري ذي الخصائص الصينية، مشدّدًا على أنه ”يجب على الجيش كله زيادة الوعي بالدستور، والمضي قدمًا بروح الدستور، وأن يكون نصيرًا مخلصًا، وملتزمًا واعيًا، ومدافعًا قويًا عن الدستور“[8]؛ ومن ثم ترجمت الحكومة الصينية التطور في إستراتيجية الاندماج العسكري المدني نظاميًّا من خلال التحول الأساسي في طريقة حكم الجيش لجهة تعزيز ارتباط هذا الحكم بالعمل التشريعي الوطني، وتسليط الضوء على بناء اللوائح والأنظمة العسكرية اللازمة بشكل عاجل للتحضير للحرب وفقًا للوضع الفعلي للجيش، وتلك المطلوبة للإصلاحات من حيث إصلاح قوة الشرطة المسلحة، والتكيف مع متطلبات نظام التفتيش التأديبي للحزب، وإصلاح نظام الإشراف الحكومي على المؤسسة العسكرية من حيث تعزيز الانضباط، والإشراف على إنفاذ القانون، والسعي الجاد للمساءلة، وتطبيق القانون بصرامة في جميع مراحل عملية الدفاع الوطني.
وضع الحزب الشيوعي الصيني الحاكم رؤية “الحلم الصيني” هادفًا إلى استكمال بناء دولة ثرية، وقوية، وديمقراطية، ومتحضرة، واشتراكية حديثة، متناغمة في تحقيق الرخاء الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي ونوعية حياة أفضل عمومًا للمواطنين الصينيين. وقد شددت الحكومة في هذا الإطار أنّ نهضة الدولة يجب أن تضمن- بشكل جوهري- “سعادة الأفراد” التي تحققها معيشة لائقة وكريمة لجميع أفراد الشعب الصيني، إلى جانب تحقيق صعود الصين كقوة عظمى، وإعادة تطوير وبناء الجيش في جميع المجالات.
من هذا المنطلق، تعزز إستراتيجية الدمج العسكري- المدني علاقة الجيش الصيني مع الشعب من خلال دور الجيش الجوهري في “إعادة بث الحماسة لدى الشعب الصيني”؛ وذلك بتشجيع وحدات جيش التحرير الشعبي الصيني على تقديم المساعدة في المناطق النائية، والريفية، والفقيرة؛ من خلال القيام بدور أكبر في تحسين مستوى البيئة المعيشية للتخفيف من حدة الفقر، وتقديم المساعدات الطبية. ويتبلور هذا الدور أيضًا في المجال العلمي عبر تعاون الحكومات المحلية ووحدات جيش التحرير الشعبي الصيني على تنظيم أنشطة تعليمية، تشمل الأيام الافتتاحية للمخيمات العسكرية، وترتيب زيارات للعروض والمسابقات العسكرية، وللقاعات التذكارية التي تخلد التاريخ الثوري الصيني. هذا وقد أمرت الوحدات العسكرية كذلك بالاستعداد الجيد لأعمال الإغاثة في حالات الكوارث في المناطق المتأثرة بالفيضانات، وبناء الطرق، والحفاظ على الأراضي الزراعية والمياه.
من جهة أخرى، لم تغفل الحكومة الصينية عن الحاجة إلى تحسين إدارة شؤون قدامى المحاربين الصينيين ودعمهم، حيث أصدرت وزارة شؤون المحاربين القدامى وإدارة العمل السياسي باللجنة العسكرية المركزية، في يوليو (تموز) 2018، تعميمًا مشتركًا لتعزيز العلاقات العسكرية- المدنية في جميع أنحاء الصين. تعهّد التعميم بمساعدة العسكرين المسرّحين من الجيش الصيني على العثور على فرص عمل، بالإضافة إلى تحسين وضع العمالة لأزواج العسكريين الذين يعيشون مع أفراد الخدمة في مراكز العمل العسكرية، انطلاقًا من أنّ دعم المحاربين القدامى وتقديم خدمة أفضل لهم، له أهمية كبيرة في تعزيز احترام المهنة العسكرية من جانب المجتمع بأسره.
في نظرة إلى تاريخ العلاقات المدنية العسكرية، نلحظ أن هذه العلاقات كانت تقوم في الماضي على مبدأ القوة العسكرية وما يقابلها من السيطرة المدنية في المجتمعات القديمة، ذات الأنظمة العسكرية والملكية على حد سواء. ومع تطور أشكال الأنظمة، أصبحت إدارة العلاقات المدنية العسكرية اليوم في ظل النظم الديمقراطية تتميز بالتأثير المتبادل مع غلبة حكم الشعب، حيث تقوم العلاقة على أساس التبعية الكاملة من المؤسسة العسكرية للسلطة المدنية المنتخبة، ويكون التدخل العسكري في الحياة المدنية محدودًا ومحددًا بأطر وأنماط مباشرة أو غير مباشرة، باختلاف خصوصية نظام الحكم، وتغيّر السياسات داخل كل دولة.
لم تزل القوة معيارًا رئيسيًّا في تحديد العلاقات المدنية- العسكرية بالنسبة إلى الصين، كما أنها تتخذ حيزًا مهمًّا في تحديد علاقة الدولة الصينية مع باقي الدول وتفوقها كقوة عظمى دوليًّا، وهو ما يثبته النمو الكبير في الإنفاق الدفاعي في السنوات السابقة للحكومة الصينية. إلّا أنّ الصين عملت على تطوير إستراتيجيتها الدفاعية وتحويل الأولويات الإستراتيجية لجيش التحرير الشعبي من التركيز التقليدي على القوة البرية إلى تطوير وتعزيز قاعدتها الصناعية والتكنولوجية الدفاعية بالتكامل مع التحولات السياسية، والنمو الصناعي والتكنولوجي محليًّا ودوليًّا. وقد عملت الصين على تحقيق الدمج بين مفهومي الخدمة التطوعية والتجنيد الإلزامي عن طريق التحوّل بالجيش من جيش مبني على التطوّع إلى فرض نظام الخدمة الإلزامية باعتبار أنّ الخدمة العسكرية «واجب مقدّس على كل مواطن؛ للدفاع عن وطنه الأم، ومقاومة الغزو» وفق المادة الخامسة والخمسين من دستور جمهورية الصين الشعبية؛ وذلك لإعادة هيبة الجيش في أذهان الشعب، وترسيخ البعد الأيديولوجي لحماية المكتسبات القومية للثورة الصينية.
ولموازاة عملية التحديث، تتوخى الصين من خلال إستراتيجية الدمج العسكري- المدني التركيز على تحقيق الاكتفاء الذاتي للدولة عسكريًّا، بالتصميم على حشد قدرات التصنيع الدفاعية الأكثر مرونة وابتكارًا في القطاع الخاص، وإشراك القطاع المدني التجاري بهدف التوسع في آفاق تصدير الأسلحة الصينية إلى الخارج. ومن أبرز البنود التي أُعلنت في إطار إستراتيجية الدمج العسكري- المدني لتعزيز قوة جيش التحرير الشعبي، التعامل مع القطاع الخاص للبناء على الابتكارات التي تحدث خارج الشركات المصنعة للصناعات الدفاعية التقليدية، إلى جانب إيلاء أهمية إستراتيجية لتطوير قدرات الجيش في الفضاء، والإلكترونيات، والشبكة السيبرانية، وتسريع تطوير مجال الطيران، والعمل على زيادة الابتكار والإنتاج الصناعي الدفاعي لترقية سلاح المدفعية والأسلحة الصاروخية البالستية والنووية.
أشار الرئيس «شي جين بينغ» إلى أنّ الدفاع الوطني وبناء الجيش هما السبب المشترك للحزب بكامله والجيش والشعب من جميع المجموعات العرقية في جميع أنحاء البلاد؛ وأنّ السبيل لتحقيق قدر أكبر من الكفاءة هو تطوير إستراتيجية التكامل المدني- العسكري لبناء وطن متكامل، وبناء جيش من الطراز العالمي بطريقة شاملة. في هذا الإطار، عملت الحكومة الصينية على اتخاذ خطوات جديدة في سبيل تحديث جيش التحرير الشعبي الصيني؛ بتعزيز التدريب والاستعدادات، وتعميق إصلاح سياسات الدفاع الوطني والنظم العسكرية، وإيلاء اهتمام وثيق للإدارة الشاملة والصارمة للقوات المسلحة. في السياق نفسه، تعمل الحكومة على تعميق التعاون في العلوم والتكنولوجيا والصناعة الدفاعية لتنمية القدرات الإستراتيجية الدفاعية، وفاعلية التدريب القتالي الفعلي.
ويتطلب الدمج العسكري- المدني بدرجة أولى، تحقيق التوازن في العلاقة بين التطوّر الاقتصادي والتطوّر العسكري، لجهة دور الخبرات والكفاءات في المؤسّسة العسكرية في بناء الاقتصاد الصيني، ودفعه نحو التطوّر والعالمية، وفي المقابل دور الاقتصاد الصيني الصاعد، والقطاع الصناعي المدني في تحقيق الفاعلية القتالية للجيش من خلال الابتكار التكنولوجي. وبدرجة مقابلة، إنّ إستراتيجية الانفتاح العسكرية مبنيّة على أسس من التعاون والمصالح المتبادلة، التي يحقق بها الجيش التوافق مع توجه الحزب الشوعي الصيني الحاكم للوفاء “بالمصالح الأساسية” للشعب، على مختلف المستويات الاقتصادية، والسياسية، والثقافية، والبيئية، والرفاهية الاجتماعية.
أكّد الرئيس الصيني السابق «جيانغ زيمين»، في خطاب أمام القوات العسكرية الصينية، أنّ السلطة المطلقة للحزب الشيوعي الصيني على الجيش ”مسألة أساسية“، على النحو الذي تكون به السلطة العليا لصنع القرار منوطة باللجان المركزية ذات الطابع العسكري، المنبثقة عن هيكلية الحزب الشيوعي الصيني الحاكم، والمسؤولة عن رسم السياسات العامة للجيش والقوات المسلحة. فبالعودة إلى نظرية «دوغلاس لـ. بلاند»، لنا أن نلحظ وجه التقارب مع الفرضيتين اللتين قدمهما «بلاند» في نظريته؛ إذ تشير الفرضية الأولى منهما إلى تحقق السيطرة المدنية على العسكريين واستمرارها من خلال اقتسام السلطة، تبعًا للمسؤوليات المختلفة لكل من المدنيين والعسكريين التي يحاسبون عليها، دون أن يكون هناك تداخل بين المسؤوليات.
أما الفرضية الثانية فتشير إلى وجود مصدر واحد لتوجيه العسكريين نابع من المدنيين المنتخبين خارج المؤسسة العسكرية؛ إذ يرى «بلاند» ههنا أنّ السيطرة المدنية عملية متغيرة وديناميكية، تتغير وفقًا للأفكار، والقيم، والظروف المحيطة، والقضايا، والمسؤوليات، والضغوط المرتبطة بالأزمات والحروب. وعلى وجه التناسب، يلحظ أنّ جيش التحرير الشعبي ينفذ- بحزم- تعليمات صنع القرار للجنة المركزية في الحزب الشيوعي واللجنة العسكرية المركزية، فالجيش ”درس بضمير حي، ونفذ روح المؤتمر الوطني التاسع عشر للحزب، درس ونفذ بدقة فكرة الحزب في تعزيز الجيش في العصر الجديد، وركز على تحقيق قيادة الحزب في العصر الجديد“[9].
في السبيل إلى تنفيذ الاندماج العسكري- المدني، كشفت الصين عن الحاجة إلى تحسين قدرات الابتكار العلمي والتكنولوجي المستقل في الدفاع الوطني بقوة، والسعي نحو تعزيز تحول الجيش إلى بناء يتسم بالكفاءة والجودة. على الصعيد التكنولوجي، تعمل الصين على دفع التحول العسكري نحو تطبيق الإنجازات العلمية والتكنولوجية المتقدمة، والسعي إلى الاستيلاء على المرتفعات القيادية لإستراتيجيات الابتكار العلمي والتكنولوجي، مع الحرص على التخصيص الأمثل لموارد الابتكار العلمي والتكنولوجي للاستفادة من إمكاناتها في المجتمع بأسره؛ من هنا، دعت الحكومة إلى التركيز على الابتكار “المنسق” والمكثف للتكنولوجيا العسكرية والمدنية في المجالات الرئيسية، مع إيلاء اهتمام وثيق لاتجاه تطوير التكنولوجيا العسكرية العالمية، ومعدات الأسلحة.
بالتوازي، توجهت السياسة الصينية نحو تعزيز مفهوم الانفتاح والمشاركة بين القطاعين العسكري والمدني، وكسر الاحتكارات المغلقة بحزم؛ من خلال إشراك المؤسّسة العسكرية في إدارة عملية الإنتاج، وتشكيل وضع حيوي تتنافس بموجبه الابتكارات العلمية والتكنولوجية للدفاع الوطني بعضها مع بعض. وفي حين شدّدت الصين- من جهة- على حماية المناخ التنافسي؛ من خلال تعزيز العرض التوضيحي المتكامل للابتكارات، ودعم تنفيذ المشروعات العلمية والتكنولوجية الكبرى، فإنها توسّعت- من جهة أخرى- في دور المؤسسة العسكرية في حماية المناخ التنافسي، وأمن تنفيذ المشروعات واستمراريتها، وحماية الاستثمارات الصينية بكل الطرق داخل حدود الدولة وخارجها.
حذّر قائد الأسطول الأمريكي في المحيط الهادئ «هاري ب. هاريس جونيور»، في شهادته أمام لجنة الخدمات المسلحة في الكونغرس الأمريكي عام 2018، من مسار تطور العلاقات المدنية- العسكرية الصينية، مشيرًا إلى أنّه: “لقد مكّن التطور الاقتصادي الصيني غير المسبوق تاريخيًّا من بناء عسكري مثير للإعجاب، يمكن أن يتحدى الولايات المتحدة قريبًا في جميع المجالات تقريبًا”.[10] ومع توجّه الصين نحو تطوير التكامل العسكري المدني إلى حد تحقيق الاندماج بين البنيتين، برز الموقف الأمريكي الحذر والقلق من هذا التوجه الذي اعتبره “تهديدًا متزايدًا” لأمن الولايات المتحدة الأمريكية، ممّا دفع القيادة الأمريكية إلى اتخاذ إجراءات تنفيذية عاجلة.
مستندًا إلى قانون السلطات الاقتصادية الطارئة الدولية، وقانون الطوارئ الوطنية، وقانون الولايات المتحدة، أصدر الرئيس الأمريكي السابق «دونالد ترمب» أمرًا تنفيذيًّا يجب على النواب بموجبه اتخاذ خطوات إضافية للتعامل مع التهديد المتزايد الذي تشكله جمهورية الصين الشعبية، لاستغلال رأس مال الولايات المتحدة الأمريكية لتمكين أجهزة الصين العسكرية والاستخباراتية والأمنية من حيث تأمين الموارد لتطويرها وتحديثها[11]. أما عن سياسة الاندماج العسكري- المدني، فقد أشار «ترمب» إلى أنه من خلال الإستراتيجية الوطنية للاندماج العسكري- المدني، تزيد جمهورية الصين الشعبية من حجم المجمع الصناعي العسكري في البلاد من خلال إجبار الشركات الصينية المدنية على دعم أنشطتها العسكرية والاستخباراتية. وأوضح الرئيس الأمريكي، في هذا الإطار، أنّه مع أن هذه الشركات تظل خاصة ومدنية ظاهريًّا، فإنها تدعم- بشكل مباشر- الأجهزة العسكرية والاستخباراتية والأمنية لجمهورية الصين الشعبية، وتساعد على تطويرها وتحديثها.
وقد أعلن بموجب الأمر التنفيذي “حالة طوارئ وطنية” في وجه الإستراتيجية الصينية للاندماج العسكري- المدني، لحماية وطن الولايات المتحدة والشعب الأمريكي، فيما يتعلق بالتهديد “الاستثنائي” الذي تعكسه على الأمن القومي، والسياسة الخارجية، والاقتصاد للولايات المتحدة الأمريكية. في هذا الإطار، أوضح «ترمب» أن هذا التهديد غير الاعتيادي، مصدره- في جزء كبير منه- الدعم المباشر الذي يقدمه المجمع الصناعي العسكري لجمهورية الصين الشعبية لجهود الأجهزة العسكرية والاستخباراتية والأمنية الأخرى داخل الصين. وقد نصّ الأمر التنفيذي على أن تمويل هذه الأجهزة لا يزال يسمح لجمهورية الصين الشعبية بتهديد الولايات المتحدة وقواتها في الخارج بشكل مباشر؛ عن طريق العمل على تطوير ونشر أسلحة دمار شامل، وأسلحة تقليدية متطورة، وإجراءات سيبرانية وصفها بالـ “خبيثة” ضد الولايات المتحدة وشعبها.
عادت القيادة الأمريكية وأصدرت لائحة بالشركات الصينية التي أضيفت إلى قائمة الكيانات المحظورة بسبب الإجراءات «التي تعد مخالفة للأمن القومي لمصالح السياسة الخارجية للولايات المتحدة»، بسبب “عقيدة” الاندماج العسكري- المدني الصيني، والأنشطة بين هذه الشركات والكيانات المعنية في المجمع الصناعي العسكري الصيني[12]. وشددت الولايات المتحدة أنها لن تسمح للتكنولوجيا الأمريكية المتقدمة بالمساعدة في بناء جيش لعدو عدواني بشكل متزايد، باعتبار أنّ تطبيق الصين “العدواني” لتفويضات الاندماج المدني- العسكري والإعانات الموجهة من الدولة يوضح مخاطر وصول الصين إلى التكنولوجيا الأمريكية لدعم تحديثها العسكري[13].
كما حذّرت الولايات المتحدة الأمريكية مواطنيها بعد ذلك من أنّ جمهورية الصين الشعبية تستغل مستثمري الولايات المتحدة لتمويل تطوير جيشها وتحديثه، حيث تجمع هذه الشركات رأس المال عن طريق بيع الأوراق المالية لمستثمري الولايات المتحدة الذين يتداولون في البورصات العامة داخل الولايات المتحدة وخارجها، والضغط على موفّري وصناديق المؤشرات في الولايات المتحدة لإدراج هذه الأوراق المالية في عروض السوق، والانخراط في أعمال أخرى لضمان الوصول إلى عاصمة الولايات المتحدة؛ ولهذا حرصت الولايات المتحدة على معالجة التهديد الذي تتعرض له من استثمارات الأوراق المالية التي تموّل الشركات العسكرية الصينية الشيوعية، على النحو الذي يحظر به حيازة الأوراق المالية فيما هو مرتبط بالجيش الصيني الشيوع، بعدما كان الأمر التنفيذي سابقًا يحظر التعاملات في تلك الأوراق المالية فقط[14].
وفي الثالث من يونيو (حزيران) 2021، تابع الرئيس الأمريكي الحالي «جو بايدن» معالجة هذه التهديدات الصينية بإصدار أمر تنفيذي يحظر من خلاله على المواطنين الأمريكيين التعامل بالأوراق المالية مع عدد من الكيانات التي تقرر العمل، أو تكون قد عملت في قطاع الدفاع والعتاد الصيني ذي الصلة، أو قطاع تكنولوجيا المراقبة لاقتصاد جمهورية الصين الشعبية، أو تقرر الامتلاك أو السيطرة، أو أن تكون مملوكة أو مسيطرًا عليها من جانب فرد أو كيان، عمل/ أو يعمل في أي قطاع من شركات المجمع الصناعي العسكري الصيني[15].
وردًا على الموقف الأمريكي، صرّحت الحكومة الصينية أنّ ”تعزيز التكامل العسكري- المدني يُعد ممارسة دولية مألوفة“، وقد أعطت في هذا الشأن مثالًا بشركة «لوكهيد مارتن» وكثير من الشركات الأمريكية الأخرى التي تعد نموذجًا “للاندماج العسكري- المدني”، كما عبّرت عن موقفها من هذه الإجراءات التنفيذية الأمريكية بالقول إنه ”من الواضح أن إلقاء اللوم على الصين في هذا العذر يمثل معيارًا مزدوجًا“.
بُعيد النجاح الذي حقّقته سياسة الحكومة الصينية في التكامل المدني- العسكري، وإصلاح النظم والمؤسسات الدفاعية، وتعزيز القوة الاقتصادية للدولة، عمدت الصين مؤخرًا إلى صب اهتمامها على تطوير هذه السياسة؛ بالعمل على تنفيذ إستراتيجية نموذجية فريدة لتنظيم العلاقات المدنية- العسكرية، قائمة على تحقيق الاندماج العسكري- المدني “بخصائص صينية”. وعلى قاعدة القوة، والتوافق، والفاعلية، تسعى الحكومة الصينية إلى تحديث جيش التحرير الشعبى الصيني وإصلاحه، ودعمه من خلال اتخاذ قطاع الصناعة المدنية والدفاعية والابتكار التكنولوجي ركيزة أساسية من أركان القوة العسكرية للبلاد، والتوسع في دور جيش الحرير الشعبي في المجتمع، حيث إن أداء الجيش لمهامه العسكرية يوجب عليه بموازاة الدفاع، دعم التنمية الاقتصادية والاجتماعية المحلية، ودعم الانتصار في مكافحة الفقر، ومساعدة الحكومات المحلية على الحفاظ على الاستقرار الاجتماعي الشامل.
وفي ظل مسعى الصين إلى بناء قاعدة تكنولوجية وصناعية دفاعية قوية، وجدت الولايات المتحدة الأمريكية في إستراتيجية الاندماج العسكري- المدني تهديدًا لأمنها القومي، وأمن مواطنيها؛ ممّا دفع الرئاسة الأمريكية إلى إصدار أوامر تنفيذية عاجلة على نحو متلاحق، هدفت إلى التحذير من خطر سياسة الاندماج الصينية على أمن الولايات المتحدة، وحظر الأشخاص الأمريكيين من التعامل بالأوراق المالية المتداولة مع الشركات الصينية المحددة في الأمر، وجميع الجهات- أفرادًا وكيانات- التي يثبت ارتباطها بالمجمع الصناعي العسكري الصيني.
غير أنّ الموقف الأمريكي والأوامر التنفيذية المتتابعة لم يُثنيا الصين عن المضي قدمًا في تنفيذ إستراتيجية الاندماج العسكري- المدني وتطويرها، والسعي إلى تقوية الدفاع الوطني؛ إذ صرح «شي» بأنه: “إذا أردنا الفوز بالمبادرة في المنافسة العسكرية؛ يجب علينا بذل جهود أكبر لتقدم الجيش من خلال العلوم والتكنولوجيا”[16]. وفي خلاصة ما تقدّم، تتبلور القيمة الإستراتيجية للاندماج العسكري- المدني في الأهمية الكبرى التي توليها القيادة الصينية لوحدة الجيش والحكومة، والجيش والمدنيين في النهوض بالدفاع الوطني، وبناء الجيش، وهو ما يؤكده باستمرار الرئيس الصيني «شي جين بينغ»، مشددًا في الإطار نفسه على وجوب تعزيز تعليم الدفاع الوطني للشعب بأسره، وتعزيز وحدة الجيش والحكومة، والعسكريين والمدنيين، لتتمكن من خلالها الصين من جمع قوة جبارة ”لتحقيق حلم جيش قوي في الصين“[17].
ما ورد في المقالة يعبر عن رأي الكاتبة ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير