لعل القارئ العربي لا يعرف من سيرة إيڨان بونين سوى عشقه للشرق، وقصائده: “امرؤ القيس”، “محمد مطارداً”، “أحفاد الرسول”، “زينب”، “البدوي”، “القاهرة”، وقصة “ظل الطائر”…
وبالفعل، فقد خبر حائز جائزةَ نوبل في الآداب بنفسه حياة هذا الشرق السحري، “خزانة الحكمة القديمة، الحقائق الإلهية وأسرار الكون، التي منحت للبشرية”. وزار لبنان وسوريا وفلسطين وتونس والجزائر وتركيا واليونان ومصر وغيرها غير مرة.
وإذا كان تأثره بالشرق قد حظي بعناية بعض الباحثين العرب، فإن الجوانب الأخرى من إبداعه لم تنل اهتمامهم على الإطلاق، وتكاد تكون مجهولة للقراء العرب.
بيد أن شهرة الكاتب الروسي في أوروبا وفي روسيا ما بعد السوفيتية نبعت بصورة أساس من عدائه الشديد للبلشفية وزعيمها فلاديمير لينين.
ويشير الباحثون الروس إلى أن سبب هذا العداء يكمن في أن بونين، الذي ولد بمدينة فورونيج في عائلة نبلاء (1870)، كان شاهدا على اندلاع الثورة البلشفية (1917). وهو خلافا للشاعر ألكسندر بلوك، الذي اعترف بالسلطة السوفيتية، و”شنفت موسيقى الثورة مسامعه”، لم يصل إلى أذنيه إلا “نشاز العصيان”، كما قال الناقد الروسي الأدبي إيغور سوخيخ. بل إن بونين أعرب في أحاديثه الخاصة مرارا عن نيته الالتحاق بـ “جيش المتطوعين” الأبيض، الذي ناهض البلاشفة وحارب “الجيش الأحمر” خلال الحرب الأهلية الروسية. وفي نهاية المطاف فضل الرجل الرحيل إلى فرنسا في سنة 1920.
وقد كتب عما واجهه في حياته وواجهته روسيا في تلك المرحلة: “منحنا القدر كثيرا، نعم، كثيرا جدا من الأحداث “العظيمة، التاريخية”. فأنا ولدت في وقت متأخر جدا. ولو أنني ولدت قبل ذلك، لما كانت مذكراتي الأدبية على هذا النحو. ولم يكن علي أن أعاني ما ارتبط بها: سنة 1905 (حرب روسيا المذلة مع اليابان – الكاتب)، ثم الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، وبعدها السنة السابعة عشرة (الثورة البلشفية في سنة 1917 – الكاتب) وتتمتها، لينين، ستالين، هتلر… كيف لا أحسد جدنا نوح! فقد كان طوفان واحد من نصيبه…” (كتاب “ذكريات”، باريس 1950).
ومن سخرية القدر أن تصادف سنة ولادته 1870، سنة ولادة لينين، الذي فضل الكاتب الروسي في عهد سلطته السوفيتية مغادرة الوطن، وأن تصادف سنة وفاته 1953 سنة وفاة الزعيم السوفيتي يوسف (وليس جوزيف) ستالين.
وهو حقا كان معاديا شرسا لكل ما هو سوفيتي ، ولكل مؤيد للنظام السوفيتي
فقد هاجم بونين فلاديمير ماياكوفسكي، أحد أهم شعراء الثورة البلشفية، “شاعر المستقبل”، ووصفه بـ “الأزعر المسعور”، وشبَّه فمه بقارب قديم متداع، وشفتيه بشفاه الضفادع الملتوية، وسماه “مهرج شوارع بذيئا”.
وذكَّر ماياكوفسكي بلقبه في المدرسة الثانوية، وهو “بوليفيموس الأبله”. وبوليفيموس هو أحد شخصيات الميثولوجيا الإغريقية “ضخم الجثة ذو عين وحيدة وسط جبهته، ولا يقيم وزنا لأي قانون إلهي أو بشري”.
وقد قال بونين في آخر زيارة له إلى سان بطرسبورغ في شهر أبريل (نيسان) من سنة 1917 عن ماياكوفسكي إنه “ليس عبثا سمى نفسه “مستقبليا”، أي إنسان المستقبل: فهو أحس أن هذا المستقبل سيكون على شاكلة بوليفيموس، وسيكون مُلكا له هو بالذات”. (كتاب “تحت المطرقة والسندان”، إيفان بونين 1930).
أما الشاعر ألكسندر بلوك، الذي كان يزجي آيات الحمد للثورة البلشفية، كما فعل في قصيدته الطويلة “اثنا عشر”، وهو الرقم المقدس منذ القدم، فإن بونين يسميه ببساطة “غبيا”، ويصف قصيدته بـ “الشعبوية الرخيصة”.
وكان يسمي الأدباء السوفيت جميعا “هستيريين، حمقى، ومجانين” (كتاب “ذكريات”، باريس 1950).
كان بونين يعتقد أن عالم الأدباء السوفيت الجدد يتعفن ويعيش في عزلة تامة، لأنهم لا يأخذون بتجارب الآخرين، الذين يقرأون طوال حياتهم الفيدا (كتاب المعرفة الهندوسي) والتوراة والإنجيل والقرآن.
وفي 16 فبراير (شباط) سنة 1924، غداة وفاة لينين، ألقى خطابا مدويا في باريس سماه “مهمة المهاجرين الروس”، وهاجم فيه بعنف زعيم البلاشفة، مسميا إياه “شريرا كوكبيا”، و”مسخًا، حقيرا، أحمق الخُلق منذ الولادة، همجيا”.
وبالطبع، لا غرابة في أن يثير الخطاب عاصفة عاتية في الصحافة السوفيتية الشيوعية واليسارية، لكن الغرابة تمثلت في أن بونين صدم المهاجرين الروس، وأن الديمقراطيين اللبراليين انضموا إلى خصومهم الأزليين البلشفيين في انتقاده.
فالصحيفة الباريسية الروسية “Последние новости” (آخر الأنباء) (1)، التي كان يرأسها اللبرالي الدستوري بافل [اي ميليوكوف (2)، وصحيفة “برافدا” المسكوفية السوفيتية (3)، عنونتا مقالتين لهما على نحو متماثل عن أمسية الكتاب الروس، التي تكلم فيها بونين: “أصوات من القبر” في الصحيفة الباريسية. و”استعراض الموتى” في الصحيفة المسكوفية.
الصحف اللبرالية اتهمت الكاتب بالافتراء على الإنتلجنسيا الثورية. أما المنظرون السوفيت فوصموه بالكليشيهات المعهودة: “ملاَّك أراضٍ-ظلامي”، “نبيل-إقطاعي”، ممثل الطبقة التي حطمتها الثورة”.
وفي مطلق الأحوال، لم يعرف المواطنون السوفيت شيئا عما قاله بونين في خطابه المذهل هذا، فهو لم ينشر كاملا في روسيا إلا بعد 74 عاما من إلقائه في سنة 1998.
غير أن وثيقة العصر هذه كانت نادرة بألمها وحدَّتها.
قال بونين في خطابه: “ماذا جرى؟ لقد جرى انحدار روسيا العظيم، ومعه عمومًا، انحدار الإنسان فيها. في حين أن انحدار روسيا لا يمكن أن يبرره أي شيء.
هل كانت الثورة الروسية محتمة أم لا؟ بالطبع، لا، لم تكن هناك أي حتمية على الإطلاق، وخاصة أن روسيا، بصرف النظر عن كل نواقصها آنذاك، كانت تزدهر، وتنمو بسرعة خرافية، وتتطور، وتتغير من النواحي كافة (…).
لا، لم تكن هناك حتمية، والمسألة نجحت على أي حال، كيف وتحت أي راية؟ هي تحققت بطريقة مروعة ورايتهم كانت ولا تزال أممية. أي إنها تطمح لأن تصبح راية الأمم كافة، ولإعطاء العالم شيئا ما جديدا وشيطانيا بدلا من ألواح موسى وعظة الجبل”.
ويضيف بحرقة: “كانت روسيا، وكان هناك منزل عامر، زاخر بمختلف الأمتعة، تقطن فيه عائلة جبارة بكل المعاني. والعمل المبارك لكثير وكثير من الأجيال رفع بنيان المنزل، وباركته عبادة الله، وذكرى الماضي، وكل ما يسمى الثقافة والعبادة.
فماذا فعلنا نحن به؟ لقد دفعنا لإطاحة رب المنزل ثمنا تمثل حرفيا في تدمير كامل للدار، واقتتال بين الإخوة لم يسبق له مثيل، ومجون دموي-فظيع، لا تحصى عواقبه المهولة، التي ربما لن يمكن إصلاحها إلى الأبد.
وتتمثل فظاعة هذا الكابوس الكبرى، أكرر، في أن تمجيده قائم على قدم وساق. حيث يشاد بناء يجري فيه اختلاق الجانب الإيجابي، ويعمر سنين طويلة وسط تغاضي العالم كله. في حين أن حملة صليبية كان يجب أن تعلن منذ زمن بعيد ضد موسكو.
بيد أن روسيا، التي ألهبها “الشرير الكوكبي”، اتخذ من سلطة العامة وكل الخصائص الأكثر وضاعة فيها دينًا حقيقيا. لقد فقدت روسيا عقلها.
(…).
“الشرير الكوكبي” هذا، وقد تَظلل براية الدعوة إلى الحرية، والإخاء والمساواة، (…) كان يدعو العالم كله إلى تمريغ الضمير في الوحل، والخجل، والحب، والرحمة. وكان يدعو أيضا إلى تحويل ألواح موسى والمسيح إلى هباء، وإقامة نصب ليهوذا وقايين، وتدريس “وصايا لينين السبع”.
(…).
الأسس تهدمت، والقناديل أطفئت فوق ضريح القديس سيرغي، وأبواب ديره (4) أوصدت، في حين أن الصلاة محرمة في العتمة، تلك جريمة.
نعم. زُلزلت دعائم العالم كله، وبدا ممكنا أن العالم لن يحرك ساكنا حتى لو رفرف العلم الأحمر فوق القدس نفسه، ورمي بقبر السيد المسيح إلى الخارج.
والمسيح الدجال الموسكوفي أصبح يحلم بإضفاء شرعية على نفسه تماثل شرعية بابا الفاتيكان نائب للمسيح في روما. أما العالم فمهووس بتعطش غير مسبوق إلى الطمع والاصطفاف مع الرعاع، إنه من جديد يتشبه بصيدا وصور، سدوم وعمورة. حيث إن سدوم وعمورة من أجل التجارة لم تتورعا عن شيء، لم تخجلا من شيء من أجل الفجور.
والرعاع، الذين ازداد عددهم أكثر فأكثر، شمخوا برؤوسهم أعلى فأعلى، وتحرقوا شوقا إلى اللذة، تحرقوا حسدًا لكل من يتلذذ (…).
ولكن كيف تمتلك السلطة على الرعاع، كيف تشتهر في مدينة صور كلها، في عمورة كلها، لكي تدخل إلى قصر القيصر السابق أو على الأقل لكي تتوج بإكليل المناضل لمصلحة الشعب؟
من أجل ذلك يجب استحماق العامة، وأحيانا حتى نفسك، ضميرك، ويجب شراء مزاج العامة بمحاباتهم.
(…).
ولكن، لإدراك المبتغى، أكرر، لا بد من اللجوء إلى كذب عظيم، وتملق عظيم، وتدبير اضطرابات، وثورات. يجب الخوض بالدم إلى الركب من وقت إلى آخر.
والأهم هو تجريد الرعاع من “أفيون الدين”، وإعطاؤهم بدلا من الإله صنما بصورة عجل، أي ببساطة، بهيمة.
(…) لينين هو مسخ، حقير، أحمق الخُلق منذ ولادته، همجي. (…) لقد دمر دولة عظمى في العالم، وقتل بضعة ملايين من البشر – والعالم قد جُن بحيث إنه مع ذلك يجادل في وضح النهار، هل إنه ولي نعمة الإنسانية أم لا؟
(…).
أما أنصاره فيكتبون هكذا حرفيا: “مات الإله الجديد، مات ديميورغوس (5)، خالق الكون المادي!” (…).
ومدينة القديس بطرس بتروغراد (6) تغير اسمها إلى مدينة لينين لينينغراد (…)”.
غير أن إيفان بونين لم يكن قاسيا في خطابه الباريسي فحسب، إذ إنه كان قد شن هجوما عنيفا على لينين واللينيين أيضا في كتاب “الأيام الملعونة”.
هذا الكتاب الذي اعتمد فيه على المذكرات، التي كتبها في (1918-1920)، أصبح وثيقة مهمة لأيام روسيا العصيبة بعد تحولها إلى الشيوعية اللينينة، التي لم يهادنها الأديب قط حتى وفاته.
إن هذا الكتاب لا يرحم البلشفية، وهو الأكثر قسوة، ومرارة إزاءها. ولا سيما أنه يتضمن سخرية لاذعة لا هوادة فيها وكراهية سافرة للسلطة السوفيتية، التي كان بونين شاهدا على أولى مراحلها، بداية في موسكو ثم في أوديسا. في هذا الكتاب لم يجد الكاتب الروسي الكبير كلمة طيبة واحدة يقولها عن الثورة البلشفية. فهي برأيه “فوضى دموية، مرعبة، مقززة، انتحارية اجتاحت روسيا في سنة 1917”.
يقول: “خرجت من المنزل مرتين لمشاهدة احتفالاتهم بالأول من أيار. أجبرت نفسي، إذ إن كياني يرتعد حرفيا من هذه العروض. رايات، يافطات، موسيقى. مئات من الحركات المتنافرة. هيا، قم، انهض أيها الشعب العامل.
“(…) البروليتاريا” هي كلمات فقط. أما بالنسبة إليَّ فهي دوما عيون، وأفواه، ودوي أصوات. (…) كانت هناك “لوحات حية” جسدت قوة وجمال عالم العمال وشيوعيون متعانقون متآخون. وكان هناك عمال مرعبون بمآزر جلدية وفلاحون مسالمون. (…) وهذه هي إحدى خصائص الثورة المميزة: التعطش المسعور للعب، للتمثيل، للتصنع، والمجون. في الإنسان يصحو القرد… وبصورة عامة ما إن تصبح المدينة “حمراء” حتى يتغير الجمهور فورا وتكتظ الشوارع بالناس، ويحدث انتقاء معين للأشخاص. الشارع يتبدل تماما. كل هذه الوجوه (…) منفرة، تخيف ببلادتها الشريرة، وتذللها للجميع وكل شيء. عموما، السير في الشوارع يصبح مخيفا”.
ثم يلفت بونين إلى أن “أبحاث الأنثروبولوجيا الجنائية المعاصرة تقول إن لدى عدد ضخم ممن يسمون المجرمين الفطريين وجوها شاحبة وعظاما وجنية كبيرة وفكا سفليا غليظا وعيونا غائرة. فكيف لا تتذكر بعد هذا لينين وآلافًا آخرين. في وقت السلم نحن ننسى أن العالم يعج بهؤلاء المسوخ، لأنهم في وقت السلم هم يقبعون في السجون والمصحات النفسية. غير أن هناك أوقاتًا ينتصر فيها الشعب الجبار، وتشرَّع أبواب المصحات النفسية والسجون، وتُحرق أرشيفات أقسام شرطة المباحث، ثم تبدأ الفوضى، بيد أن الفوضى الروسية فاقت كل شيء”.
هذا، ويشير الصحافي الروسي ألكسندر دينيسوف في فيلمه الوثائقي الرائع “الأيام الملعونة” (2017)، إلى أن “إيفان بونين رفض البلشفية قبل كل شيء لأنها قضت على صورة المسيح وكل ما هو مرتبط بالأرثوذكسية، وهو كان قضاء تدريجيا منهجيا استمر مدة طويلة جدا”.
ويضيف أن “بونين رأى الخطر الأساس في هذا المنحى للبلشفية، التي استقطبت الرعاع والناس من الصف الثاني، والمجرمين وعناصر أنصاف المجرمين. وأن ذلك كله كان سببا في تأليف الكاتب “الأيام الملعونة”.
يجب القول إن بونين كان قاسيا مع أول مفوض شعبي سوفيتي للثقافة والتعليم الكاتب المسرحي أناطولي لوناتشارسكي، ووصفه بأنه حقير.
ومن جانبهم، لم يُكن ممثلو السلطة السوفيتية كثيرا من الود لآخر نبيل بين الشعراء وآخر شاعر بين النبلاء، وناصبوه أشد العداء.
فلوناتشارسكي مثلا ذكر في العدد الثالث من “مجلة الأدب الأجنبي” في سنة 1928، أن بونين “إقطاعي… وهو يعلم أن طبقته رمي بها إلى حافة طريق الحياة”.
وجاء في “الموسوعة السوفيتية الكبرى” (1927)، أن “بونين يحاكي ثقافة النبلاء. وأنه استقبل الثورة بعداء في سنة 1917، ومجَّد التدخل الأجنبي لأنه خائن وفاقد للوطنية”. إضافة إلى أن “مؤلفات بونين مشبعة بالتشاؤم الميؤوس منه، وتافهة بموضوعاتها”.
ثم جاء في “الموسوعة السوفيتية الصغرى” (1928)، أن “بونين معادٍ للسوفيت ، نصير للحرس الأبيض. هو طريد، مرتد، “مشبَّع بالكراهية الحاقدة المريضة لسلطة السوفيت والبروليتاريا والفلاحين”، و”مهاجم حانق لروسيا السوفيتية، وساخط عليها”.
أما عندما مُنح إيفان بونين في سنة 1933 جائزة نوبل للآداب عن روايته “حياة أرسينييف”، “لموهبته الأدبية المَهيبة، التي يطور بها تقاليد النثر الروسي الكلاسيكي”، فاحتدمت السلطات الستالينية عليه غيظا، ولا سيما أنه كان أول أديب روسي ينالها، فأحيط ذلك بجدار من الصمت المطبق في الاتحاد السوفيتي وعلى الرغم من الاعتراف العالمي بالكاتب، فإن اسمه ظل خلال 25 عاما محظورا تماما في بلده. ولم يُسمح بنشر عمل واحد من أعماله في الاتحاد السوفيتي منذ سنة 1930 إلى سنة 1955. ولم يبدأ ذلك إلا بعد ثلاثة أعوام من وفاته. حيث ظهرت في سنة 1956 خمسة مجلدات مجتزأة من مؤلفاته في عهد الزعيم السوفيتي نيكيتا خروشُّـوف (وليس خروتشوف).
على أن الطباعة الكاملة لكتابه “الأيام الملعونة” لم تبدأ إلا في سنة 1988 بعد إعلان “البيريسترويكا” (إعادة البناء) في عهد أول وآخر رئيس للاتحاد السوفيتي ميخائيل غورباتشوف.
غير أن هذا كله لا يعني أنه نسي بلده ولو يوما واحدا في منفاه الاختياري. فقد كان وطنيا حتى النخاع. وعندما شنت ألمانيا النازية عدوانها على الاتحاد السوفيتي سنة 1941، اشترى إيفان بونين خريطة للاتحاد السوفيتي وعلقها في منزله، وأصبح يرصد مسار العمليات الحربية، ويفرح كطفل صغير لكل انتصار سوفيتي ويتكدر لكل انكسار.
جدير بالذكر أن سكرتير بونين الناقد الأدبي الروسي ألكسندر باخراخ يذكر في كتابه “بونين في ردائه المنزلي” (الولايات المتحدة، 1979) أن بونين قال له في سنة 1943 قبيل انعقاد مؤتمر طهران الثلاثي الذي شارك فيه يوسف ستالين وفرانكلين روزفلت وونستون تشرشل: “لا، أنتم فقط انظروا أي حد بلغ بي الأمر – ستالين يطير إلى بلاد فارس، أما أنا فأرتعد خوفا، لكيلا يحدث له شيء، لا سمح الله، في طريقه!”.
في ذلك الحين، كان يعاني شظف العيش بعد توزيعه نقود جائزة نوبل، التي تجاوزت 700 ألف فرنك، على الأدباء المعدمين وذوي الفاقة، ولتلبية طلبات المساعدة، التي تجاوزت ألفي طلب.
آنذاك بدأت محاولات الكرملين لإقناعه بالعودة إلى وطنه. فجاء إليه الشاعر السوفيتي قسطنطين سيميونوف في صيف سنة 1946، وجلب معه خبزًا أسود تقليديا وفودكا ومرتديلا من موسكو، حيث التهم بونين الطعام الروسي بشهية (أركادي لفوف، “راديو الحرية” (17/07/2001). وتشير بعض المصادر الروسية (قسطنطين كودرياشوف، صحيفة “أرغومينتي إي فاكتي” (22 10 2015) و(متحف بونين الأدبي والتذكاري في مدينة يليتس الروسية) إلى أنه قال لسيمونوف: “يجب أن تعرفوا أنني أنا الذي كتبت كل ما كتبته قبل 22 يونيو (حزيران) 1941 (بدء العدوان النازي على الاتحاد السوفيتي)، بما في ذلك كتاب “الأيام الملعونة” المناهض للسوفيت . أنا الآن أضع سيفي في غمده إزاء حكام روسيا الحاليين وإلى الأبد”.
وعلى الرغم من أنه قال لسيمونوف إن “المرتديلا البلشفية لذيذة”، فإنه فضل الغربة الموحشة على العودة، وعلى إمكانية التنعم بامتيازات السلطات الستالينية. إذ إن حملة اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي في ذلك الحين على مجلتي “زفيزدا” و”لينينغراد” الأدبيتين لنشرهما أعمال الكاتب المسرحي ميخائيل زوشِّـينكو والشاعرة آنا أخماتوفا، أسقطت فكرة العودة نهائيا من جدول أعماله إلى الأبد.
وبعد بضعة أعوام من ذلك هاجم لينين وستالين وهتلر ووضعهم في مرتبة واحدة. (كتاب “ذكريات”، باريس 1950).
فماذا عن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين؟ إنه قومي النزعة، محافظ على انتمائه الديني المسيحي واحترامه للأديان الأخرى، وهو لا يكن الود كثيرا لزعيم البلشفية، وهو مثل إيفان بونين ينتقد “معاهدة بريست” (7).
وهو دائما ينتقد البلشفيين ويؤكد أنهم هم كانوا السبب في هزيمة روسيا في الحرب العالمية الأولى، وكان بالغ الوضوح خلال مشاركته في جلسة مجلس الاتحاد الروسي (27/06/2012)، حين تطرق إلى نتائج هذه الحرب، مؤكدا أن روسيا خسرتها من جراء خيانة البلشفيين الوطنية وعقدهم معاهدة سلام منفصل مع ألمانيا.
وقال إن “بلدنا خسر الحرب مع الجانب الخاسر… تلك حالة نادرة في تاريخ البشرية. نحن خسرنا أمام ألمانيا الخاسرة، في الواقع، نحن استسلمنا لها. وبعد حين استسلمت هي نفسها لدول الحلفاء”.
وأضاف أن “هذا كان نتيجة لخيانة الحكومة آنذاك. هذا واضح. هم خافوا ولم يريدوا الحديث عن ذلك. ولهذا صمتوا… لكنهم كفَّروا عن ذنبهم أمام بلدهم خلال الحرب العالمية الثانية. هذه حقيقة”.
وأكد الرئيس الروسي أن “ذلك كان فعل خيانة وطنية من جانب الحكومة البلشفية الجديدة، التي خشيت الاعتراف بذلك من أجل مصالحها الحزبية”.
وفلاديمير بوتين مثل إيفان بونين لا يؤمن بحتمية الثورة البلشفية وضرورتها لروسيا. وقد ذكر في جلسة المجلس الرئاسي في العاصمة الروسية (21/01/2016)، أن (البلشفيين) “وضعوا قنبلة نووية تحت العمارة التي تسمى روسيا، وهي قد انفجرت فيما بعد، في حين أن الثورة العالمية لم تكن ضرورية لنا”.
وفي مؤتمره الصحافي السنوي التقليدي الكبير (19/12/2019) في موسكو، شن بوتين هجوما قاسيا على “العجوز لينين”، وقال إن “تاريخ دولتنا يبلغ ألوفًا من السنين. لقد كانت دائما دولة مركزية قيصرية كما نعرف. فما الذي اقترحه فلاديمير لينين؟ هو لم يقترح فدرالية، بل اقترح كونفدرالية أضعفت السلطة المركزية وعززت قوة الجمهوريات، ما أدى الى ظهور مشكلات ومناطق ساخنة بين الجمهوريات من جهة، وخروج بعض الجمهوريات من نطاق الدولة من جهة أخرى”. مؤكدا أن لينين “لم يكن رجل دولة وإنما كان ثوريا”.
هذه بضع محطات من مواقف كثيرة تلقي الضوء على نظرة بوتين إلى لينين.
بوتين يشير دوما إلى إنجازات الاتحاد السوفيتي تحت القيادة الستالينية، وقد قال في مؤتمره الصحافي المذكور إنه “على الرغم من كل شيء، يجب علينا أن نفتخر بما جرى إنجازه في الاتحاد السوفيتي ، بما في ذلك النصر في الحرب العالمية الثانية، وغزو الفضاء”.
وليس ذلك وحسب، إنه يفضل النموذج الستاليني على النموذج اللينيني، حيث ذكر في حديثه عن الكونفدرالية، التي اقترحها لينين أن “ستالين بالمناسبة كان ضد هذا الأمر، وقد كتب مقالا عن مناطق الحكم الذاتي، بيد أنه في النهاية رضخ للنموذج اللينيني، فماذا كانت النتيجة؟”. وألمح بوتين إلى أن بلاده تعاني حتى اليوم من سوء إدارة لينين، مُنتقدا منح الزعيم الشيوعي أراضي روسية لأوكرانيا تحت غطاء الإيديولوجيا.
إذن هو يلمح إلى أن ستالين كان رجل دولة على العكس من الثوري لينين.
ومع أنه، في رأيي، لا يكن لستالين احتراما عميقا، فإنه يراه قائدا بارعا.
وفي ذلك يلتقي مع إيفان بونين، الذي أصبح ينظر إلى ستالين، بعد نشوب الحرب العالمية الثانية، كقائد فذ للدولة السوفيتية، لكنه مع ذلك لم يتمتع بالاحترام لديه.
ومن الواضح أن روسيا، وهي تسعى اليوم للملمة أوراسيا بعد تفكك الاتحاد السوفيتي ، تسير على خطى إيفان بونين عاشق الشرق، مهبط الديانات السماوية الثلاث. وهي تحاول، بقيادة فلاديمير بوتين، التحرر شيئا فشيئا من عبء أخطاء سياسة زعيم البروليتاريا الملحد فلاديمير لينين، التي أدت في نهاية الأمر، إلى ظهور أشخاص مثل ميخائيل غورباتشوف وبوريس يلتسين وأسفرت عن تفكك الاتحاد السوفيتي ، الذي عده بوتين (في خطابه أمام مجلس الاتحاد، 2005) أكبر كارثة جيوسياسية في القرن العشرين، وخاصة أنه كاد أن يفضي إلى تفكك روسيا نفسها.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير
——-