عرفت منطقة الساحل أو الصحراء الكبرى في إفريقيا عدة انقلابات في الآونة الأخيرة؛ ما يستلزم إعادة النظر والتفكير في المقاربات الأمنية تجاه المنطقة. منذ إعلان المكافحة الدولية للإرهاب، وُجِدَت قوى دولية مختلفة في المنطقة تحت مظلة الأمم المتحدة تارة، وتحت مظلة التعاون الثنائي أو الجماعي تارة أخرى. كان من المفترض بعد كل هذه الفترة أن تعرف المنطقة استقرارًا أمنيًّا، يليه تركيز على التنمية والتطوير، لكن هذه النتيجة- مع الأسف- لم تتحقق بعد؛ بسبب سياسات الدول الكبرى التي استهدفت مصالح شخصية أبعد من مجرد تحقيق الأمن في المنطقة. سنحاول في هذا المقال استعراض أهم محطات التنافس بين روسيا والجمهورية الفرنسية، ونتائج هذا التنافس.
تأثرت منطقة الساحل الإفريقي بالصراع الليبي الذي غُمرت بعده منطقة الساحل بالأسلحة من مستودعات جيش الجماهيرية؛ مما أسهم في احتدام الصراع في مالي، والنيجر، وتشاد، وغيرها من البلدان.
منذ بداية العقد الحالي، تجري عملية توحيد أخرى في المجال الأمني- المواجهة بين القوى العظمى، وخاصة المواجهة الفرنسية الروسية. إن تشكيل المنطقة الأمنية للساحل جاء بتحريض من الإرهاب العابر للحدود في المنطقة. ومع بداية الألفية، بدأت الجماعات الإرهابية الدولية والعابرة للحدود الوطنية تعمل في المنطقة. نشأ انتشار الإرهاب من الحرب الأهلية في الجزائر، وكذلك”العائدون الأفغان” (الذين قاتلوا ضد الاتحاد السوفيتي في أفغانستان وعادوا لإقامة دولة إسلامية في بلدانهم الأصلية). ومن المناطق الجنوبية في ليبيا والجزائر، بدأ الإرهابيون العمل في المناطق الشمالية من دول الساحل، حيث أقاموا اتصالات، وجنّدوا السكان المحليين. كان للمتطرفين جاذبية معينة بالنسبة للفقراء والمضطهدين في دول الساحل. بالإضافة إلى ذلك، قدم المتطرفون الموارد والحماية. وباستخدام حدود الصحراء التي يسهل اختراقها، وضع المتطرفون الجهاديون موطئ قدم في مالي، وتشاد، والنيجر، ولم تكن بوركينا فاسو ترحب بالأيديولوجية السلفية، في حين قمعت موريتانيا المتطرفين.
إن ما بدأ باعتباره انتفاضة انفصالية عرقية للطوارق، سرعان ما اختطفها المتطرفون، واجتاحت منطقة الساحل بكاملها. طوال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، نما التطرف الإسلامي وانتشر عبر منطقة الساحل، ووصل إلى حوض بحيرة تشاد. كانت إحدى سماته الرئيسة هي طابعه العابر للحدود الوطنية الذي يشبه الامتياز: “بدأت المنظمات كمجموعات متطرفة صغيرة مستقلة تعهدت بالولاء إما لتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، وإما لداعش”.
احتاجت التنظيمات الإرهابية النشطة إلى التمويل المحلي؛ لذلك أصبحت التجارة عبر الساحل في الأسلحة، والمخدرات، والوقود، وتهريب السجائر ذات أهمية مماثلة. في وقت مبكر من العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، استخدمت عصابات المخدرات في أمريكا اللاتينية طرقًا عبر الصحراء لتهريب الكوكايين إلى أوروبا، ومع ظهور الجماعات المسلحة في منطقة الساحل في الفترة نفسها، اندمجت الجريمة مع الإرهاب العابر للحدود الوطنية، وحصل المهربون على حماية الإرهابيين مقابل مكاسب مالية من التهريب والاتجار بالبشر (الهجرة غير الشرعية) عبر الصحراء.
روسيا وفرنسا، مع كونهما قوتين عظميين فإنهما تختلفان بوضوح فيما يتعلق بموقعهما في منطقة الساحل. تعد فرنسا قوة مهيمنة في المنطقة، خاصة على الصعيدين السياسي والعسكري، ولديها مجموعة واسعة من القواعد العسكرية في جميع أنحاء منطقة الساحل: في النيجر، وبوركينا فاسو، وتشاد، وموريتانيا (تخلت فرنسا عن قواعدها في مالي عام 2022). كما تعد موردًا رئيسًا للأسلحة إلى المغرب، وتتعاون على نطاق عريض مع تونس والرباط في المسائل الأمنية. وتعد باريس أيضًا لاعبًا رئيسًا في الحرب الأهلية الليبية الثانية المستمرة. تحاول الجمهورية الخامسة الحفاظ على موقفين مختلفين فيما يتعلق بالمغرب والساحل. وفي منطقة المغرب العربي، تضع فرنسا نفسها شريكًا رئيسًا في كثير من المجالات الإستراتيجية- مبيعات الأسلحة، والطاقة، ومشروعات البنية التحتيةـ ومحاورًا رئيسًا بين المغرب العربي والاتحاد الأوروبي، والغرب بشكل عام. وفي منطقة الساحل، تقدم فرنسا نفسها وتعمل كمزود أمني رئيس، بوصفها دولة تتمتع بالحق الحصري في استخدام القوة العسكرية.
وهكذا، في حين أن باريس في المغرب العربي راضية عن مكانتها كقوة عظمى، فإنها في منطقة الساحل تسعى جاهدة إلى الحفاظ على تفوقها. وتهتم باريس بضمان هيمنتها على منطقة الساحل نظرًا إلى أهميتها الإستراتيجية، وتأثيرها في الدول المطلة على غرب إفريقيا. وتتمتع منطقة الساحل بأهمية إستراتيجية لفرنسا بسبب مخزونها من اليورانيوم؛ إذ إن ثلث اليورانيوم الفرنسي للاستخدامات السلمية (توليد الكهرباء) و100 في المئة من اليورانيوم للأغراض العسكرية يأتي من النيجر، حيث تمتلك شركة أورانو الفرنسية حقول اليورانيوم من خلال شركاتها، وتشحنه إلى فرنسا بسعر أقل بكثير من سعر السوق. إن عدم الاستقرار الذي يغذيه الطوارق يهدد- تهديدًا مباشرًا- المصالح الفرنسية في النيجر، حيث يشكل الطوارق نحو 10% من السكان. بالإضافة إلى ذلك، قد يمتد انعدام الأمن في منطقة الساحل إلى بلدان ذات أهمية اقتصادية كبيرة لفرنسا، مثل كوت ديفوار، والسنغال. تعد المعادن الأرضية النادرة من غرب إفريقيا ذات أهمية بالغة للصفقة الخضراء الأوروبية أيضًا؛ ومن ثم، فمن خلال ضمان الأولوية في منطقة الساحل، لا تضمن فرنسا عمقها الإستراتيجي فحسب؛ بل عمق الاتحاد الأوروبي أيضًا.
تمتلك فرنسا أيضًا مجموعة أدوات متعددة الاستخدامات في السياسة الخارجية فيما يتعلق بمنطقة الساحل. بصرف النظر عن حضورها العسكري الكبير، تعد فرنسا لاعبًا اقتصاديًّا رئيسًا في منطقة الساحل والمغرب العربي، حيث تحتل المرتبتين الأولى والثالثة من حيث الاستثمار الأجنبي المباشر في المنطقتين، على التوالي. وتوجد الشركات الفرنسية الرائدة، مثل توتال، وبولوريه، وفينشي، وأورانو في جميع أنحاء المنطقة. تعد باريس جهة مانحة دولية مهمة للمساعدات، وتؤدي دورًا مهمًّا في تخصيص المساعدات التنموية الأوروبية، وهو أمر بالغ الأهمية بشكل خاص لدول الساحل الخمس. كما أن الجمهورية الخامسة هي المهيمنة ثقافيًّا بسبب الطابع الفرانكوفوني لمنطقة الساحل. وأخيرًا، ترتبط فرنسا- ارتباطًا وثيقًا- بالنخب الإقليمية، وتحديدًا نخب دول الساحل، التي تعد المستفيد الرئيس مما يسمى بنظام العلاقات الفرنسية الإفريقية.
ومع ذلك، تواجه فرنسا كثيرًا من التحديات في منطقة الصحراء الكبرى، التي ترجع- بشكل رئيس- إلى قدراتها العسكرية والاقتصادية المتضائلة، والأساليب الفاشلة في بناء العلاقات مع الجهات الفاعلة الإقليمية. عسكريًّا، تجد باريس صعوبة في العمل باستقلال في المنطقة، حيث تضطر إلى الاعتماد على الدعم اللوجستي الأمريكي خلال عمليتي سيرفال وبرخان. ومن الناحية الاقتصادية، فقد تفوقت الصين بالفعل على فرنسا في التجارة والاستثمار الأجنبي المباشر. أخيرًا، تسبب الموقف الاستعماري الجديد لفرنسا، في كثير من الأحيان، وخاصة تجاه دول الساحل، في استياء واسع النطاق. أما روسيا، باعتبارها قوة ناشئة (عائدة، في الواقع) في منطقة الساحل، فتقدم نفسها بشكل مختلف؛ ففي الخطاب الجيوسياسي الروسي، مصطلح “منطقة الصحراء والساحل” ليس سائدًا. يستخدم الخطاب الجيوسياسي الروسي مصطلح “شمال إفريقيا” للإشارة إلى دول المغرب العربي، وغرب إفريقيا بالنسبة لدول الساحل.
يشار إلى أن التشكيل والتنفيذ الشامل للسياسة الخارجية الروسية على مستوى وزارة الخارجية في الساحل يتولى إدارتها “فريق الشرق الأوسط” بقيادة ميخائيل بوغدانوف، الذي يشرف على شؤون الشرق الأوسط وإفريقيا. مع ذلك، فإن الكتلة الأمنية (وزارة الدفاع، وأجهزة الأمن الخارجية والعسكرية، والشركات العسكرية الخاصة التابعة لها) تكتسب دورًا متزايد الأهمية في تشكيل السياسة الخارجية الروسية في المنطقة.
أولًا: تتحدى روسيا- تحديًا مباشرًا- نظام الوجود العسكري الفرنسي في المنطقة. وتتنافس المقاتلات والقاذفات المقاتلة الروسية (سو-35، سو-34، سو-30) مع شركة داسو رافال الفرنسية؛ ودبابة القتال الرئيسية (T-90)، مع لوكلي؛ وأسلحتها الصغيرة والخفيفة، وأنظمة الصواريخ المضادة للدبابات، وأنظمة الدفاع الجوي، إلى جانب تلك الموجودة في فرنسا. إن التهديد الأكثر إيلامًا لفرنسا هو الوجود العسكري الروسي المتزايد في أراضي دول الساحل كمقدمي خدمات أمنية خاصة، ووجود مدربين عسكريين، وأفراد داعمين قادرين على تغيير الواقع على الأرض. لا توجد قوة عظمى أخرى قادرة أو راغبة في الالتزام بهذه الأنشطة في المنطقة؛ ومن ثم فإن العودة العسكرية الروسية إلى منطقة الساحل تشكل تهديدًا مباشرًا للتفوق الفرنسي في الشؤون الأمنية.
ثانيًا: تستطيع روسيا، مع أنها ليست شريكًا تجاريًّا مهمًّا أو مانحًا أو مستثمرًا، أن تقدم بدائل للشركات الفرنسية في كثير من المجالات الرئيسة: “النفط والغاز، التعدين، إدارة المياه والأراضي، الطاقة النووية، الأقمار الصناعية الفضائية، البنية التحتية”. ينشط كثير من الشركات الروسية بالفعل في المنطقة: “غازبروم، وروسنفت، وسترويترانسجاز، وتيخنوبروميكسبورت في الجزائر، وتاتنفت في ليبيا، وجلافكوسموس وسبونتيك في تونس، ونورد غولد في بوركينا فاسو”، كما تتطلع شركات البنية التحتية الروسية، مثل الروسية للسكك الحديدية، إلى السوق الإقليمية.
أخيرًا، تنشط روسيا في محاولة كسر الاحتكار الفرنسي للموارد الإعلامية من خلال تقديم مصادر موضوعية بديلة للمعلومات، خاصة بعد إعادة توجيه RT France وSputnik France (المعروفة الآن باسم Sputnik Afrique) نحو الشعوب الإفريقية. وتنشط روسيا أيضًا في وسائل التواصل الاجتماعي، خاصة في دول الساحل الخمس، مستفيدة من المشاعر المعادية لفرنسا التي انتشرت على نطاق عريض في جميع أنحاء المنطقة في السنوات الأخيرة؛ ما يضر بالمصالح الفرنسية ضررًا أكبر، ويثير غضب صناع السياسات الفرنسيين، وهو ما يجعلهم ينخرطون في حملات إعلامية مناهضة لروسيا على فيسبوك، وفي وسائل الإعلام الرئيسة.
بشكل عام، فإن التنافس بين فرنسا وروسيا له تأثير مباشر في المنطقة؛ مما يخلق ديناميكية أمنية قوية. هذا التنافس هو نتيجة مباشرة لجهود روسيا للاستفادة من نقاط الضعف الفرنسية، التي بدورها تجعل موسكو التهديد الرئيس للسياسة الخارجية الفرنسية في المنطقة. ومن الأمثلة الرئيسة على هذا التطور مالي.
منذ بدء عملية سيرفال الفرنسية عام 2013، كانت مالي النقطة المحورية للجهود الفرنسية لمكافحة الإرهاب في منطقة الصحراء والساحل. أصبحت مالي، خاصة مناطقها الشمالية والوسطى، معقلًا للمتطرفين. يشار إلى أن مالي في ذاتها لا تحظى باهتمام كبير من باريس، لكن مكانتها الإقليمية تجعلها مهمة. إن فرنسا مهتمة بتأمين مكانتها بوصفها لاعبًا أمنيًّا لا غنى عنه في المنطقة. كان التدخل الفرنسي عام 2013 يمليه- في كثير من النواحي- مبدأ “إذا لم نفعل ذلك، فمن سيفعل؟”، وهكذا، فإن علاقة فرنسا الخاصة مع مستعمراتها السابقة، حتى بعد إنهاء الاستعمار، أجبرتها على التحرك في مالي.
بعد هزيمة المتمردين عام 2013، بدأت فرنسا في إضفاء الطابع الإقليمي على جهودها في مكافحة الإرهاب من خلال إطلاق عملية برخان، التي شملت دول الساحل الخمس، وشاركت في رعاية إنشاء منظمة مجموعة دول الساحل الخمس لإنشاء قوة مساعدة محلية قادرة. في الوقت نفسه، أطلقت فرنسا حملة دولية تهدف إلى تعبئة الموارد المالية والعسكرية لمنطقة الساحل.
في الفترة من عام 2014 إلى عام 2022، خُصصت مساعدات بقيمة ثمانية مليارات يورو لدول الساحل، وعُبئت أموال إضافية في إطار تحالف الساحل والتحالف من أجل الساحل. بعد الضغط الفرنسي، أُطلقت ثلاث بعثات تابعة للاتحاد الأوروبي في منطقة الساحل، جنبًا إلى جنب مع أنشطة أمن الحدود التي ترعاها فرونتكس في النيجر، وبوركينا فاسو، ومالي. كانت ذروة إضفاء الطابع الأوروبي الفرنسي على الأنشطة العسكرية في منطقة الصحراء والساحل هي إطلاق فرقة عمل تاكوبا، التي تضم قوات عمليات خاصة من سبع دول أوروبية. مع ذلك، فشلت تلك الجهود في الحد من العنف في المنطقة، وانتشر التطرف من شمال مالي وأزواد إلى المناطق الوسطى من مالي والنيجر، والجزء الشمالي من بوركينافاسو. بالإضافة إلى ذلك، مع أن جماعات الطوارق غير الإسلامية (في المقام الأول، الحركة الوطنية لتحرير أزواد) أبرمت اتفاقًا مع الحكومة الجزائرية في الجزائر العاصمة عام 2015، فإن الاتفاقات لم تُنفذ، وظلت القدرات القتالية لجيوش مالي وجيوش منطقة الساحل الأخرى، باستثناء تشاد، ضعيفة. في تلك اللحظة من عام 2020، قام الجيش المالي بانقلاب، وأطاح بالرئيس إبراهيم كيتا، وتحت ضغط من فرنسا والشركاء الأفارقة على حد سواء، وافق المجلس العسكري على تعيين رئيس مدني؛ هو باه نداو. بعد تسعة أشهر، أطاح به الجيش أيضًا تحت قيادة العقيد عاصمي غويتا، الذي أعلن نفسه رئيسًا مؤقتًا، ودعا إلى سحب القوات الفرنسية والأوروبية من الأراضي المالية، وبدأ تعاونًا عسكريًّا مكثفًا مع روسيا، مما مهد الطريق للوجود العسكري الروسي في مالي.
من خلال زيادة وجودها العسكري، ومساعدة الحكومة المالية في محاربة الإرهابيين، حصلت روسيا على فرصة لتعزيز نفوذها في المنطقة، وتحويله إلى مكاسب اقتصادية. بعد النجاحات الأولى في ليبيا، وجمهورية إفريقيا الوسطى، بدأت روسيا تتطلع نحو دول الساحل، حيث وقعت اتفاقية تعاون عسكري مع مالي عام 2019، ومع ذلك، فإن التعاون الحقيقي لم يبدأ إلا بعد الانقلاب الثاني في مالي، الذي عزز قبضة الجيش على السلطة في البلاد، وظهر مستشارون وأفراد عسكريون روس في البلاد إلى جانب المعدات العسكرية المتبرع بها. كانت المهمة الرئيسة للأفراد العسكريين الروس هي الحماية والتدريب، فقد كان الجيش المالي غير راضٍ عن التدريب الأوروبي، وظلت الكفاءات العامة للقوات المالية منخفضة، وهو ما أصبح واضحًا خلال الهجمات الإرهابية الدموية على قواعد الجيش المالي في غاو وإنديليمان عامي 2017 و2019 على التوالي. رد صناع السياسة الفرنسيون على التقدم الروسي في مالي، وحذر وزير الخارجية الفرنسي روسيا من التدخل في منطقة الساحل، وهدد في الوقت نفسه الحكومة المالية بقطع المساعدات العسكرية والاقتصادية إذا لم تمتثل باماكو. لم تلق تلك التهديدات آذانًا مصغية، وفي ديسمبر (كانون الأول) 2021، ظهرت الأفواج الأولى من شركة فاغنر العسكرية الخاصة في باماكو. وبدورها أنهت فرنسا عملية برخان، وسحبت قواتها من قواعدها في مالي. نتيجة لذلك، احتل الجيش الروسي قواعد معينة.
هناك جوانب متعددة لعواقب انسحاب فرنسا من مالي، وتعزيز وجود روسيا، تتعلق بكثير من العمليات الأمنية في منطقة الصحراء والساحل؛ أولًا: التنافس الفرنسي الروسي لديه القدرة على تفاقم الانقسامات العرقية القائمة في مالي وجوارها. بينما كانت فرنسا عازمة على إجبار حكومة باماكو على الامتثال لاتفاقية الجزائر عام 2015 فإن هذا ليس على جدول أعمال روسيا. في الوقت نفسه، فإن الإطار الإستراتيجي الدائم للسلام والأمن والتنمية، وهو الهيئة السياسية العسكرية الرئيسة في أزواد، وهي دولة غير معترف بها، ولم تدم طويلاً، علّق مشاركته في هياكل المراقبة التي أنشأها الاتفاق. مظاهرات تطالب بالانفصال أكثر تكرارًا في الأشهر الأخيرة، وبالنظر إلى العلاقات الوثيقة بين الحركة الوطنية لتحرير أزواد والفرنسيين، فضلًا عن الخطاب العدائي القادم من باماكو، فقد تكون هناك حرب محتملة بالوكالة في الشمال. من ناحية أخرى، بدأت التشكيلات الروسية تعتمد ليس فقط على القوات المسلحة المالية؛ بل أيضًا على ميليشيات والدوغون، وتحديدًا دان نا أمباساغو، في قتالها ضد جماعة كتيبة ماسينا المتمركزة حول الفولاني. يمكن أيضًا للجهات الفاعلة الأجنبية أن تستغل الصراع العرقي بين الفولاني والدوغون. بشكل عام، قد يؤدي رد الفعل الفرنسي على الوجود العسكري الروسي في مالي إلى تفاقم التوترات العرقية القائمة.
ثانيًا: بدأ التنافس الفرنسي الروسي بتقسيم المنطقة إلى كتلتين متعارضتين. أدانت النيجر وكوت ديفوار الانقلاب العسكري الثاني في مالي، وقطعتا علاقاتهما مع مالي عمليًّا، كما عُلقت عضوية باماكو أيضًا في الاتحاد الإفريقي، والإيكواس، والاتحاد الاقتصادي والنقدي لغرب إفريقيا. من ناحية أخرى، في ضوء قطع بوركينا فاسو تعاونها العسكري مع فرنسا، كانت هناك مزاعم إعلامية بشأن اتفاق عسكري محتمل بين موسكو وواغادوغو، وكانت هناك أيضًا سلسلة من المظاهرات المناهضة لفرنسا والموالية لروسيا في جميع أنحاء دول الساحل، بما في ذلك تشاد والنيج، معقلي النفوذ الفرنسي في المنطقة.
ثالثًا: بسبب تسمية فاغنر المرتبطة بجميع الأنشطة العسكرية الروسية في المنطقة، حشدت باريس الدعم الغربي ضد الشركات العسكرية الخاصة الروسية، مما أدى إلى فرض مزيد من العقوبات ضد شركة فاغنر العسكرية الخاصة. بالإضافة إلى ذلك، فإن مشاركة فاغنر الأكثر نشاطًا في العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا تمنح الغرب مزيدًا من الحافز للتحرك، خاصة أن الولايات المتحدة تنشر نحو 600 فرد عسكري في النيجر، وتحلق طائرات بدون طيار للاستطلاع والهجوم في المنطقة.
مع ذلك، تجدر الإشارة إلى أن الفرنسيين وحدهم هم الذين ينظرون إلى هذا التنافس باعتباره وجوديًّا. روسيا ليست مهتمة ببناء “روسيا- إفريقيا”؛ فهي تريد بناء شراكات اقتصادية متبادلة المنفعة، وتستخدم منطقة الساحل نموذجًا لكفاءة أجهزتها الأمنية. أدى وجود روسيا في المنطقة إلى تحول النظام الإقليمي من هيكل يهيمن عليه الغرب، إلى هيكل أكثر مرونة وتنافسية، مما فتح الفرص أمام كل من الجهات الفاعلة الإقليمية (الجزائر)، وغير الإقليمية (تركيا)، على حد سواء.
بعد الانسحاب الفرنسي، أصبح يُنظر إلى الجزائر على أنها وسيط محتمل بين باماكو وأزواد، فضلًا عن كونها جهة فاعلة محتملة في مكافحة الإرهاب. أقامت تركيا تعاونًا وثيقًا مع النيجر في مجال التعليم العسكري. ومع ذلك، فإن الوجود الروسي في مالي يخضع- مرة أخرى- لإضفاء طابع أمني على الغرب، ومن المرجح أن يصبح نقطة أخرى للمواجهة بين موسكو والعواصم الغربية.
بشكل عام، فإن التنافس بين فرنسا وروسيا في منطقة الساحل هو- من بين نواحٍ كثيرة- نتيجة للسياسة الخارجية الفرنسية في المنطقة على مدى السنوات الإحدى عشرة الماضية. ظهرت المنطقة ذاتها كواقع جيوسياسي- إلى حد كبير- في أعقاب تدخل حلف شمال الأطلسي بقيادة فرنسا في ليبيا، الذي تسبب في تصاعد الإرهاب والجريمة عبر الصحراء الكبرى، وأدى إلى تشكيل العمليات الأمنية في منطقة الصحراء والساحل. بدت الأساليب الفرنسية في مكافحة انعدام الأمن غير فعالة. ملأت روسيا الفراغ جزئيًّا.
يشكل التنافس الفرنسي الروسي في منطقة الساحل ديناميكية أمنية، وعاملًا يؤثر في العمليات الأمنية الأخرى، ويؤدي إلى تحولات عميقة في المنطقة بكاملها. إحدى النتائج الرئيسة لهذا التنافس هي اندماج المغرب العربي ومنطقة الساحل في مواجهة التهديدات الأمنية غير الحكومية، حيث تعتبر كل من باريس وموسكو منطقة الصحراء والساحل منطقة عمليات، تستفيد من الروابط بين المنطقتين المنفصلتين سابقًا.
من بين العواقب الأخرى للمواجهة بين باريس وموسكو انفتاح النظام الإقليمي بين الصحراء والساحل، وفي الوقت نفسه، عولمته. لدى الجهات الفاعلة الإقليمية وغير الغربية مزيد من الفرص للعمل، ومن ناحية أخرى، تضفي فرنسا وحلفاؤها طابعًا أمنيًّا على الوجود العسكري الروسي باعتباره تهديدًا عالميًّا؛ مما يجر الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إلى المواجهة مع روسيا في المنطقة. كما كان لإضفاء الطابع الأمني على التهديد الروسي على المستوى العالمي تأثير مباشر في بنية التحالفات في المنطقة، كما ظهر في حالة ليبيا. وأخيرًا، فإن التهديدات الأمنية القائمة- الإرهاب العابر للحدود الوطنية المقترن بالجريمة العابرة للحدود الوطنية، والهجرة غير الشرعية، وتدفقات السلع الأساسية- تتفاقم بسبب التوترات الفرنسية الروسية، حيث أصبح لدى الجهات الفاعلة المحلية حافز أقل للبحث عن حل سلمي، وتزايد عدم الاستقرار، وموجة الانقلابات التي تشهدها دول الساحل الإفريقي؛ رفضًا للتبعية الفرنسية، وترحيبًا بالشريك الروسي. من السابق لأوانه أن نقول كيف ستنتهي هذه “اللعبة الكبرى” الإقليمية، ومع ذلك فإن وجودها في ذاته يشير إلى عودة المنافسة بين القوى العظمى التي طال نسيانها، وربما تكون الطلقة الأولى التي تُطلَق في التدافع الثاني القادم إلى إفريقيا.
ملخص دراسة مشتركة للباحثين الروسيين: ألكسندر نادزاروف وإيكاترينا إنتينا.
ما ورد في الدراسة يعبر عن رأي الباحثين ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير