مختارات أوراسية

حرب يوم الغفران.. المعركة التي غيرت إسرائيل



شارك الموضوع

في السادس من أكتوبر (تشرين الأول) 1973، عندما انطلق صوت «الشوفار» فوق إسرائيل[1]، لدعوة المؤمنين اليهود إلى الصوم والتوبة، والاستعداد ليوم القيامة، كانت هناك أصوات أخرى تنطلق على ضفاف قناة السويس عبر هدير مئات المدافع، استعدادًا لحرب يوم الغفران.

لقد شن الجيش المصري عملياته العسكرية، وعبر جنوده- بطريقة ملحمية- قناة السويس، في هجوم شارك فيه أكثر من مئة ألف جندي مصري، وتمكنوا في غضون ساعات قليلة من اقتحام جميع مواقع التحصينات الإسرائيلية على خط بارليف، واستعدوا للتوغل في عمق شبه جزيرة سيناء.

بداية حرب يوم الغفران 1973

في الوقت نفسه، بدأت الحرب شمال “أرض الميعاد”، حيث نزلت القوات الخاصة السورية من طائرات الهليكوبتر على سفوح جبل الشيخ، واستولت على مرصد جبل الشيخ. أدى التقدم الإضافي للسوريين في مرتفعات الجولان إلى تهديد المناطق المكتظة بالسكان في قلب إسرائيل.

مع أن حرب اكتوبر (تشرين الثاني) 1973 انتهت في نهاية المطاف بانتصار عسكري للجيش الإسرائيلي في الجولان، فإنها مثلت فترة بداية إعادة التقييم الداخلي في المجتمع الإسرائيلي.

خلقت حرب الأيام الستة في 4 يونيو (حزيران) عام 1967 “إمبراطورية إسرائيلية” امتدت من حدود إفريقيا إلى الأردن. تم الاستيلاء على مدينة القدس المقدسة بالكامل. كان الإسرائيليون ممتلئين بالفخر والثقة بقدرتهم، وقوة جيشهم الذي “لا يقهر”. يتذكر ضابط المخابرات أوريت شخيم هوبر: “نحن الإسرائيليين كمجتمع شعرنا آنذاك بالقدرة المطلقة”. قلة فقط من تجرأوا على التعبير عن شكوكهم بشأن المستقبل. على سبيل المثال، قارن المؤرخ الشهير إسحاق دويتشر (Isaac Deutscher) إسرائيل بألمانيا زمن القيصر “التي تعرضت لهزيمة مذلة”، محذرًا من استحالة بناء “دولة قابلة للحياة على أسنّة الرماح”.

وسط هذه الحالة من الجدل الداخلي في إسرائيل، وبين أوساط المجتمع اليهودي المتحمس للصهيونية، أعادت حرب يوم الغفران الشك والخوف إلى المجتمع الإسرائيلي، وأجبرت المواطنين على طرح هذه الأسئلة الكبرى مرة أخرى، وكان كثير منها يذكرنا بالمناقشات التي دارت في المجتمع السوفيتي عن الحرب الوطنية العظمى[2].

 لماذا فوجئ الجيش الإسرائيلي بـ حرب يوم الغفران؟

تظهر الوثائق التي رُفِعَت السرية عنها أن المخابرات زودت قيادة الجيش الإسرائيلي وحكومة غولدا مائير بمعلومات عن الاستعدادات العسكرية للسوريين والمصريين، لكن القيادة توصلت إلى استنتاجات خاطئة عن حجم الهجوم المقبل وتوقيته. على سبيل المثال، في اليوم السابق لبدء الحرب، وفي أثناء وجوده في لندن، نقل أشرف مروان مستشار الرئيس المصري أنور السادات، والعميل السري للمخابرات الإسرائيلية، معلومات عن اقتراب بدء الحرب إلى رئيس الموساد تسفي زامير (Zvi Zamir). الغريب أنه في عام 2007، توفي أشرف مروان في ظروف غامضة في العاصمة البريطانية لندن، ولا تزال الشرطة البريطانية تبحث عن مخطوطة مذكراته عن «حرب اكتوبر 1973»، حيث أراد الجاسوس السابق أن يقول الحقيقة عن أحداث حرب يوم الغفران.

تبين أن الاستخفاف بالعدو أشد فتكًا من أي شيء آخر. على مدى سنوات منذ تأسيسها، اعتادت إسرائيل على الانتصارات السهلة، ومعاملة جيرانها العرب بازدراء. كان سر تفوق جيش الدفاع الإسرائيلي على مصر وسوريا ودول أخرى في الشرق الأوسط، يعود إلى أن هذه الدول كانت خارجة لتوها من الاستعمار، ومثقلة في كثير من النواحي بالبقايا الإقطاعية.

الانسحاب الإسرائيلي من سيناء

ما صُوِّرَ رسميًّا في إسرائيل على أنه انتصار في حرب يوم الغفران عام 1973، لم يؤدِّ إلى توسع إقليمي جديد. على العكس من ذلك، بعد عام 1973، بدأ الإسرائيليون بالانسحاب تدريجيًّا من الأراضي التي كانت تحت سيطرتهم سابقًا. في النهاية، عام 1979، عادت شبه جزيرة سيناء بالكامل إلى مصر.

أعقب تلك الحرب الصعبة تغييرات عميقة في السياسة الداخلية لإسرائيل. غولدا مائير، الشخصية القاسية والسلطوية (المرأة الوحيدة التي تولت حكم إسرائيل)، لم تعد تشبه الصورة التي رُسِمَت لها، المستمدة من التراث اليهودي «إيديشا ماما- الأم اليهودية»[3] التي تشكلت بين كثير من مواطني الاتحاد السوفيتي السابق، في حين ارتبطت صورتها في إسرائيل بقمع احتجاجات اليهود الشرقيين الذين تعرضوا للتمييز، والفساد في حكومة “التكتل الوطني” برئاسة “المعراخ”، والدبابات الإسرائيلية المحترقة في سيناء بعدما تم دفعها في هجوم مضاد انتحاري سحقه الجيش المصري بقذائف آر بي جي (RPG)، وصواريخ 9 كي11 ماليوتكا (9M14 Malyutka).

في 11 أبريل (نيسان) 1974، اضطرت حكومة غولدا مائير إلى الاستقالة، وسرعان ما تركت “سيدة إسرائيل الحديدية” السياسة. بعد ثلاث سنوات، أصبح زعيم حزب الليكود الحديث، مناحيم بيغن، رئيس وزراء إسرائيل، وأنهى فوزه عام 1977 ما يقرب من 30 عامًا من هيمنة حزب العمل اليساري على الحياة السياسية الإسرائيلية.

من النتائج المهمة الأخرى لحرب يوم الغفران أن كثيرًا من الإسرائيليين أدركوا حدود قوة بلادهم. لم يكن جيش الدفاع الإسرائيلي كلي القدرة، ولا هو “الجيش الذي لا يقهر”، ولم تكن الدول المجاورة عاجزة. كما أظهر مسار الحرب مدى اعتماد الآلة الحربية الإسرائيلية على المساعدات الخارجية، وكيف أنقذ الجسر الجوي الذي حمل أطنانًا من الذخيرة والمعدات العسكرية الأمريكية، الجيش الإسرائيلي من خسارة محققة.

بعد عام 1973، دار الجدل داخل الجيش الإسرائيلي والنخب الأكاديمية، حيث تعالت أصوات المطالبين بالبحث عن حلول وسط دبلوماسية مع الدول العربية المجاورة، ومع السكان الفلسطينيين الذين يعيشون على الأراضي التي تم الاستيلاء عليها عام 1967. بالنسبة إلى كثير من الإسرائيليين العاديين الذين نجوا من مفرمة المعارك في سيناء والجولان، ظلت أحداث عام 1973 تشكل لهم صدمة وعقدة نفسية.

هناك كثير من الصفحات غير المعروفة في تاريخ حرب اكتوبر، وفي كل عام تظهر مواد جديدة عن دراما تلك الأيام على صفحات الصحافة الإسرائيلية. في سبتمبر (أيلول) 2021، نشرت صحيفة إسرائيل هيوم (Israel Hayom) مذكرات أسرى إسرائيليين سابقين عُزلوا في أماكن خاصة عند عودتهم من الأسر، وكيف تعرضوا لاستجوابات قاسية، حسب شهاداتهم: “كانت التحقيقات شديدة القسوة، وقد تولت وكالة مكافحة التجسس التي كانت مهمتها إلقاء القبض على الجواسيس والخونة والمخبرين، التحقيق معنا. لقد سألونا: لماذا استسلمت؟ لماذا لم تقاتل حتى آخر رصاصة؟… كان علينا إلقاء اللوم على أنفسنا لوقعونا في الأسر بعدما تم ترهيبنا وإسكاتنا حتى لا نتحدث عن عدم كفاءة قادتنا وجبنهم”.

لكن عامًا بعد آخر، أصبحت حرب يوم الغفران 1973، بالنسبة إلى غالبية الإسرائيليين، مجرد حدث من التاريخ. الجيل الأصغر يعرف عنها فقط من قصص الآباء. مئات الآلاف من المهاجرين جاءوا إلى البلاد بعد هذه الحرب، تاريخ إسرائيل بالنسبة إليهم سلسلة لا نهاية لها من الانتصارات العسكرية. في العقود الأخيرة، وبفضل الدعم غير المشروط من الولايات المتحدة، تمتعت إسرائيل بحرية تامة في فعل ما تريد في الشرق الأوسط. يشن الطيران الإسرائيلي- بانتظام- ضربات صاروخية على سوريا، وتنظم وحدات إسرائيلية خاصة أعمالًا تخريبية لأهداف عسكرية واقتصادية إيرانية، وتسيطر قوات جيش الدفاع الإسرائيلي- بإحكام- على الأراضي الفلسطينية. لطالما دعم المجتمع الإسرائيلي القادة المتشددين، مع ثقته اللامحدودة بأن أي شيء لا يمكن تحقيقه بالقوة يمكن تحقيقه بقوة أكبر منها.

حرب يوم الغفران

حرب يوم الغفران

المشكلة الكامنة خلف واجهة القوة للآلة العسكرية الإسرائيلية

كما في عام 1973، هناك مشكلات خفية وراء الواجهة القوية للآلة العسكرية الإسرائيلية. عام 2006، لم يتمكن الجيش الإسرائيلي من هزيمة حزب الله الشيعي في لبنان، وبعد ذلك تخلى- بحكم الأمر الواقع- عن القيام بعمليات برية واسعة النطاق. في وسائل الإعلام الغربية والإسرائيلية، هناك تقارير منتظمة عن ضباط كبار في الجيش الإسرائيلي يتحدثون فيها عن عدم استعداد الجيش لحرب واسعة النطاق. كما أن اعتماد إسرائيل على الحليف الأمريكي، ولم تتمكن بعد من الاكتفاء الذاتي دفاعيًّا، وبعد الحرب مع حماس في مايو (أيار) 2021، اضطرت إلى اللجوء إلى واشنطن لطلب المساعدة على تجديد ترسانة صواريخ نظام الدفاع الجوي “القبة الحديدية”.

أدت حقيقة ما جرى في حرب يوم الغفران 1973 إلى عملية تقييم شاملة داخل الدولة والمجتمع الإسرائيلي؛ مما أجبرها على الانتقال إلى إصلاحات داخلية وسياسة خارجية أكثر مرونة. نأمل ألا تصبح هذه التجربة المحزنة بالنسبة إلى الإسرائيليين مجرد ذكرى مأساوية فقط؛ بل أيضًا درسًا مهمًّا للمستقبل، والحاجة إلى صنع سلام حقيقي مع جيرانهم[4].

 

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير


شارك الموضوع