في عهد قيصر وإمبراطور روسيا، ألكسندر الثالث (1881 – 1894) تطلَّعت روسيا لمنطقة القرن الإفريقي على أمل أن تجد لنفسها موطأ قدم فيها، أثناء المرحلة المسماة (التدافع على إفريقيا) التي شهدت تسابق القوى الاستعمارية للسيطرة على أراضيها. وجَّهت روسيا أنظارها نحو الحبشة، كون أباطرتها أرثوذكسًا، وهو ما يمكن أن يشكل عنصر تقارب بين البلدين. كان المغامر القوزاقي، أشينوف نيكولاي إيفانوفيتش، أول روسي تطأ قدماه أراضي الحبشة عام 1883، في إطار خطة لتعزيز التقارب السياسي والكنسي مع الإمبراطورية الروسية، وأقام علاقة مباشرة مع الإمبراطور يوحَنس الرابع.[1]
المغامر الروسي القوزاقي أشينوف نيكولاي إيفانوفيتش
عاد أشينوف إلى روسيا، ووضع أول قاموس (روسي-إثيوبي) عام 1888، وحاول بناء مستوطنة للروس في ساغلو، على خليج تجرة في أرض الصومال الفرنسي (جيبوتي الحالية) عام 1889، وسماها «موسكو الجديدة»، لكن الفرنسيين قاموا بطرده ومن معه منها. إلا أن العلاقات قد تعززت بين الإمبراطوريتين، وحدث تواصل مستمر بينهما وصل لذروته في عهد الإمبراطور الإثيوبي منليك الثاني، الذي حصل من روسيا على أسلحة بجانب بريطانيا لمواجهة الغزو الإيطالي، وتمكَّن من سحقه في معركة عدوة بالأول من مارس (آذار) 1896، وهي المعركة الأولى التي تنتصر فيها دولة إفريقية على قوى استعمارية غربية.
رسم تخيلي لمعركة عدوة بين الإمبراطورية الإثيوبية وجيش مملكة إيطاليا الاستعمارية عام 1896 – Shutterstock
بعد قيام الاتحاد السوفيتي، انقطعت العلاقات بين البلدين، وعادت من جديد عام 1943، بعدما رفضت موسكو الاعتراف بالاحتلال الإيطالي لبعض أراضي إثيوبيا. إلا أنها كانت علاقات باردة، وفي غالب الأحيان متوترة طيلة عهد الإمبراطور هيلا سيلاسي، الذي كانت تنظر إليه موسكو على أنه حاكم رجعي ينتمي للعصور الوسطى، وأداة أمريكية بالمنطقة. بينما كانت العلاقات مع مصر في أوجها، ودعم الاتحاد السوفيتي بناء السد العالي تقنيًّا وماليًّا.
تحويل مجرى نهر النيل عند السد العالي بحضور الزعيمين المصري جمال عبد الناصر والسوفيتي نيكيتا خروتشوف، مايو 1964 – Родина
بدلت الخيارات السياسة مواقع مصر وإثيوبيا، وساهمت في إبعادهما عن بعضهما البعض بدلًا من تقاربهما، وذلك منذ العام 1974، الذي شهد تحالفًا مصريًّا مع الولايات المتحدة وقطيعة مع الاتحاد السوفيتي، بينما قام الجيش الإثيوبي بانقلاب عسكري على الإمبراطور هيلا سيلاسي، وعقد منغستو هيلا مريام، زعيم (الديرغ – المجلس العسكري الإثيوبي) لعلاقة تحالف وثيقة مع موسكو.
الزعيم السوفيتي ليونيد بريجنيف مع قائد الديرغ منغستو هيلا مريام أثناء توقيع معاهدة الصداقة والتعاون بين الاتحاد السوفيتي وإثيوبيا الاشتراكية 1978 – Компромат
يمكن القول إن روسيا هي أكثر بلد في العالم لديه دراية وتأثير ممتد حتى الآن على إثيوبيا، فغالبية تسليح وعقيدة الجيش الإثيوبي القتالية روسية رغم علاقة أديس أبابا المميزة مع الغرب منذ العام 1992. كما أن قادة الجبهة الثورية الديمقراطية الشعبية الإثيوبية، وهو ائتلاف من عدة أحزاب بزعامة جبهة تحرير شعب التغراي، حكمت إثيوبيا منذ عام 1991، حتى حل محلها حزب الازدهار، عام 2019. تلقوا تعليمهم في الاتحاد السوفيتي، ونقلوا التجربة السوفيتية البلشفية بالحكم الفيدرالي لإثيوبيا، وعبرها توقفت الحرب الأهلية التي امتدت لعدة عقود. أي أن إثيوبيا الحالية تكوين سياسي وعسكري روسي إلى حدٍّ كبير، وإن كان رئيس الوزراء الحالي أبي أحمد، يسعى لتغيير ذلك.[2]
في يوم 13 أكتوبر (تشرين الأول) 2019، افتتحت روسيا أول قمة إفريقية-روسية، في سوتشي، وعرض الرئيس فلاديمير بوتين، وساطة روسية لحل أزمة سد النهضة بين البلدين، لكن وبحسب الخبراء الروس لم تلقَ صدًى من كلا الطرفين، وفضلت القاهرة الوساطة الأمريكية، التي لم تصل إلى شيء نتيجة رفض إثيوبيا التوقيع على وثيقة الحل النهائي بحضور مندوب البنك الدولي.[3]
يعتمد الموقف الروسي على عدة أسس في تعاطيه مع هذه الأزمة، يمكن إجمالها في العناصر التالية:
وفق الموقف الروسي المعلن، وآراء الخبراء الروس، يرون ألا حل عسكريًّا لهذا الخلاف، وأن الأفضل لمصر التمسك بالقانون الدولي، وذلك لأنه في صالحها، بينما اللجوء للقوة قد يمنح إثيوبيا، الفرصة لتعبئة شعبية في ظل أزمة داخلية يعيشها النظام في أديس أبابا، ويوفر لها كذلك كافة المبررات للتملص من الالتزامات القانونية، وقد عُقدت في موسكو، دائرة مستديرة ضمت نخبة من الخبراء الروس بالشؤون الإفريقية، لمناقشة أزمة سد النهضة، وضمت كلًّا من:
أجمع الخبراء الثلاثة. على أن إثيوبيا في حالة نزاع داخلي، وأنها استغلت حالة الانشغال المصري نتيجة أحداث «الربيع العربي» للبدء في هذا المشروع ولولا ذلك كان من الصعب عليها اتخاذ هذه الخطوة الأحادية. أما فيما يخص التدخل العسكري، فقد حذروا من أن استخدم القوة سيخرج النظام الإثيوبي من مأزقه ويمنحه فرصة مثالية للتحلل من كافة التزاماته تجاه مصر والسودان، وكذلك ستتعاطف معه الدول الإفريقية والكثير من بلدان العالم، وهو ما يضعف موقف مصر أمام مجلس الأمن، حال تمت إحالة الأمر إليه للنظر فيه. كما أن موسكو، لا يمكنها في هذه الحالة أن تدعم المطالب المصرية المشروعة.[4]
على جانب آخر يوجد تعاطف كبير وتفهم من النخب الروسية للموقف المصري، وصل لحد تشبيه الكاتب الروسي ميلوسلاف يانوبولسكي، مساعي إثيوبيا، لبناء السد دون الاتفاق مع مصر، بالسياسة العدوانية التي تمارسها الحكومة الأوكرانية تجاه سكان شبه جزيرة القرم عبر حرمانهم من حقهم في المياه، عبر بناء سدود تحجز وصولها إليهم.[5]
يمكن تلخيص الموقف الروسي، تجاه هذه الأزمة، بأنه لا ينحاز لصالح طرف على حساب الآخر، بدلًا من ذلك يضع القانون الدولي كمعيار وحكم بين الطرفين. فعليًا لا تملك موسكو، نفوذ سياسي يمكنها من حل هذه الأزمة بالطرق الدبلوماسية، تفضل مصر الوساطة الأمريكية، وإثيوبيا تحصرها في وساطة الاتحاد الإفريقي، ولروسيا مصالح هامة بين كلا البلدين، وتطمح في العودة للقارة الإفريقية ولمنطقة القرن الإفريقي على وجه الخصوص وإثيوبيا بلد هام لا يمكن تجاوزه حال أرادت أن يكون لها دور نشط بالمنطقة، وهناك العديد من المشاريع الواعدة التي تم الاتفاق عليها بين الطرفين بحسب السفير الروسي في أديس أبابا، يفغيني تيريخين. بدأت شركة روس آتوم، مفاوضات مع الحكومة الإثيوبية، لبناء محطة كهروذرية بجانب مشاريع في قطاع السكك الحديدة والزراعة، وإنشاء مركز للبحوث البيولوجية، وعليه من مصلحتها حل هذا الخلاف بالطرق السلمية وعدم خسارة كلا الطرفين.[6]
يعتقد الخبراء المشار إليهم بعاليه أن مصر بحاجة وبمعزل عن هذه الأزمة الحالية، لبناء منظومة أمن مائي جديدة، تعتمد على توفير بدائل من خلال تعزيز مخزونها من المياه الجوفية بالصحراء الغربية، وقدرة الخبراء الروس على مساعدتها في ذلك، والتوسع في مشاريع تحلية المياه عبر التقنيات النووية بعد بدء عمل محطة الضبعة، والبدء بشكل جدي في إعادة إحياء مشروع قناة جونقلي، مع السودان وجنوب السودان. بجانب التوصل لاتفاقية دائمة لتقاسم مياه النيل مع إثيوبيا؛ ذلك لأن موارد مصر المائية الحالية حتى في ظل الحفاظ على حصتها التاريخية لن تكفيها مستقبلًا.
