في الجلسة الاعتيادية لمنتدى فالداي، عُرض عليّ التحدث في جلسة بعنوان: “العالم المُنهار.. دروس لمستقبل الأزمة العسكرية والسياسية لعام 2022”. أصبح منتدى فالداي الدولي للحوار أحد قادة المجتمع الفكري الدولي الذين يتعاملون مع عالم الحاضر والمستقبل، لكن عنوان الجلسة أثار في داخلي، إن لم يكن احتجاجًا، بعض الشكوك.
لم تبدأ الأزمة عام 2022، بل بدأت في منتصف التسعينيات، تمامًا مثل الحرب العالمية الثانية التي بدأت بالفعل مع معاهدة فرساي 1919، التي كانت غير عادلة، وأرست الأساس لقيام هذه الحرب بنسبة مئة في المئة. قبل 25-27 سنة، رفض الغرب عقد سلام عادل مع روسيا، وكما بدا للكثيرين في ذلك الوقت، فقد أنشأ نظامًا جديدًا لهيمنته، قائمًا على “القواعد”. بدأ آخرون فيما بعد بتسميته- بشكل أكثر صراحة وواقعية- “الإمبريالية الليبرالية العالمية”، لكن هذا النظام مبني على الرمال، ومُلغم للتأسيس لقيام حرب عالمية ثالثة يمكن أن تنفجر عاجلًا أو آجلًا. في الفترة من 1996 إلى 1997 تحدث وكتب الكثيرون أكثر من مرة أن العالم القائم على توسع الناتو والهيمنة الغربية يؤدي إلى الحرب.
بدأت الهيمنة الغربية بالانهيار عام 1999، عندما اغتصب “الناتو” يوغوسلافيا، مع الإفلات من العقاب. ذهب السقوط إلى أبعد من ذلك في غمرة ما بدا “نصرًا” سريعًا من أفغانستان إلى العراق، لكن هذه الحروب كانت خسارة، وقللت تفوق الغرب العسكري وقيادته الأخلاقية. في الوقت نفسه، كانت هناك عمليتان أكثر أهمية؛ أولًا: “باتت روسيا مقتنعة بعد حروب يوغوسلافيا وأفغانستان والعراق، وانسحاب الولايات المتحدة من معاهدة الصواريخ المضادة للباليستية، بأنه من المستحيل بناء سلام عادل ودائم مع الغرب”. ثانيًا: “بدأت روسيا باستعادة قوتها العسكرية”. وهكذا، مرة أخرى كما في الستينيات والثمانينيات، بدأت بالسعي إلى تقليص الهيمنة الغربية في الاقتصاد، والسياسة، والثقافة العالمية، التي كانت قائمة على التفوق العسكري. استمرت هذه الهيمنة خمسمئة عام، وبدأت بالانهيار في الستينيات. لكن في التسعينيات، وبسبب انهيار الاتحاد السوفيتي، بدا أن هذه الهيمنة قد عادت من جديد، لكن روسيا الآن بدأت- مرة أخرى- بالسعي نحو تقليص هذه الهيمنة. في الوقت نفسه، واجه الغرب تحدي صعود الصين. في موازاة ذلك، ارتُكِبَ خطأ أكثر إثارة للدهشة، وهو إدراك الغرب، منذ أواخر العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، لهذا التحدي، ومحاولة كبح جماح كل من الصين وروسيا في آنٍ واحد، ودفعهما نحو إنشاء كتلة سياسية- عسكرية واحدة لا تتعارض مع مصالحهما الأساسية.
كانت الأزمة المالية لعام 2008، التي حدثت على خلفية العمليات المذكورة أعلاه، قد قوضت الثقة بالقيادة الأخلاقية والاقتصادية والفكرية للغرب، وشكلت أحد مظاهر الانهيار القوي للقوة الغربية.
منذ أواخر العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، بدأ الغرب بشن حرب باردة جديدة، لكن كانت لا تزال هناك فرصة سانحة للتفاوض مع روسيا والصين، بشأن الظروف الجديدة للعالم الجديد. كانت هذه الفرصة موجودة في مكانٍ ما من في الفترة من 2008 إلى 2013، لكنها لم تُستغَل. منذ عام 2014، صّعد الغرب سياسته النشطة لاحتواء الصين وروسيا، بما في ذلك من خلال تنفيذ انقلاب في كييف، لإحداث صدمة هدفها تقويض روسيا، واستعادة هيمنته. بدأ الغرب، الذي فقد مواقفه العسكرية، والسياسية، والأخلاقية، وحتى جوهره الأخلاقي (دعني أذكرك برفض المسيحية في أوروبا منذ عام 2002)، هجومًا مضادًا هستيريًّا. كانت الحرب حتمية، وكان السؤال: أين؟ ومتى؟
في الوقت نفسه، لم تُحَل المشكلات العالمية التي تواجه البشرية؛ بل تفاقمت: (المناخ، والطاقة، ونقص المياه، والغذاء، والنمو الضخم لعدم المساواة داخل الغرب نفسه، والتخلص من الطبقة الوسطى). في المقابل، استُخِدَم تفشي فيروس كوفيد-19 بديلًا للحرب لمدة عامين، ولكن بعد إضعاف تأثيره، أصبح الاصطدام هنا أو هناك أمرًا لا مفر منه. إدراكًا منها لذلك، قررت روسيا أن تضرب أولًا.
لهذه الحرب عدة أهداف؛ الهدف الأول: “منع إنشاء موطئ قدم هجومي عسكري للغرب على حدود روسيا، والإعداد لوضع روسيا في عالم من الصراعات والتغيرات السريعة الطويلة الأمد التي تتطلب نموذجًا مختلفًا للمجتمع والاقتصاد والتعبئة”- الهدف الثاني: “تطهير النخب الروسية من العناصر المؤيدة للغرب، والتخلص من الطبقة الكومبرادورية”.
لكن ربما يكون المحتوى الرئيسي لهذه الحرب أو العملية، من وجهة نظر تاريخ العالم، وليس التاريخ الروسي فقط، هو النضال من أجل التحرر النهائي للعالم من نير الغرب البالغ من العمر خمسمئة عام، والذي قمع خلالها الدول والحضارات، وفرض شروطًا غير متكافئة للتفاعل؛ أولًا: نهب دول العالم من خلال الاستعمار بصيغته القديمة، ثم عبر الصيغة الجديدة، وأخيرًا من خلال الإمبريالية العالمية في الثلاثين سنة الماضية. الحرب في أوكرانيا، مثل كثير من الأحداث التي وقعت في العقد الماضي، ليست فقط رغبة في العودة إلى العالم القديم؛ بل أيضًا خلق عالم جديد أكثر حرية وعدالة، وأكثر تعددية ثقافية وسياسية.
المعنى العالمي للقتال الدائر حاليًا في أوكرانيا هو عودة الحرية والكرامة والاستقلال إلى الدول غير الغربية، التي أقترح تسميتها اسمًا مختلفًا، باسم (الغالبية العالمية التي تم قمعها ونهبها وإهانتها ثقافيًّا)، وبالطبع التوزيع العادل لثروات العالم. في هذه الحرب، لا يمكن لروسيا إلا أن تنتصر، مع أن ذلك سيكون صعبًا جدًّا؛ لأننا لم نكن مؤهلين للقتال ومواجهة هذا الاستعداد العسكري الغربي العالي المستوى، وكذلك هذا الاستعداد العالي لجزء من سكان أوكرانيا، بعدما تحولوا إلى شكل من أشكال النازية الألمانية، وتم دعمهم من جانب الغرب سابقًا ضد الاتحاد السوفيتي. ربما، نظرًا إلى الاتجاهات العامة في تطور العالم، وتوازن القوى العالمي، كان الأمر يستحق أن تبدأ روسيا ضربتها في وقت سابق، لكني لا أعرف مستوى جاهزية قواتنا المسلحة في ذلك الوقت، مع أنني أعتقد أنه في عام 2014، كان من الضروري بالتأكيد العمل بشكل أكثر حسمًا، والتخلص من الآمال والوعود الكاذبة في التوصل إلى اتفاق.
نحن نعيش في فترة خطرة، وبتنا على شفا حرب عالمية ثالثة مكتملة الأركان، يمكن- بكل بساطة- أن تُنهي وجود البشرية، لكن إذا انتصرت روسيا، وهو أمر مرجح جدًّا، ولم يتصاعد الصراع إلى حرب نووية كاملة، فيجب أن ننظر إلى العقود المقبلة على أنها ليست أوقاتًا من الفوضى الخطيرة (كما يتحدث عنها معظم الناس في الغرب)؛ لأننا نعيش بالفعل في هذه الفوضى منذ فترة طويلة.
لقد انهار النظام القديم للمؤسسات والأنظمة العالمية بالفعل (التجارة الحرة، واحترام الملكية الخاصة، والمؤسسات مثل منظمة التجارة العالمية، والبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا)، كما أخشى أن يكون الاتحاد الأوروبي يعيش سنواته الأخيرة. بدأت المؤسسات الجديدة بالنمو، وهي تمثل المستقبل. هذه المنظمات مثل: (منظمة شانغهاي للتعاون، ورابطة دول جنوب شرق آسيا “آسيان”، ومنظمة الوحدة الإفريقية، والشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة). على سبيل المثال، بنك التنمية الآسيوي يُقرض بالفعل أضعاف ما يقرضه البنك الدولي؛ لذا نأمل أن يبقى عدد من المؤسسات القديمة، أولًا وقبل كل شيء نظام الأمم المتحدة، وهو ما يتطلب إصلاحًا عاجلًا، وأهم هذه الإصلاحات منح الحق في التصويت عبر الأمانة العامة للأمم المتحدة، لا عن طريق مجلس الأمن؛ لأنها تمثل الأغلبية العالمية، وهو ما سيؤدي- ببساطة- إلى فقدان الغرب فرصة نهب بقية العالم؛ لذلك تكتسب المعركة في أوكرانيا أهمية خاصة.
أخشى أن هذا العالم الجديد الذي يتشكل الآن، سوف يُنشَأ خارج إطار حياتي الفكرية، أو الجسدية، لكن طلابي في الجامعة، وبالتأكيد أبنائي، سيرون هذا العالم؛ لذا يجب أن نقاتل من أجل هذا العالم الجميل، أولًا وقبل كل شيء، عبر منع الحرب العالمية الثالثة، بسبب محاولة الغرب للانتقام. أكرر، في أوروبا اندلعت أول حربين عالميتين. روسيا تقاتل الآن، لكن المتطلبات الأساسية لقيام حرب عالمية ثالثة ليست ناضجة بعد، لكن الصراعات ستحدث في عصر التغيير السريع؛ لذلك يجب أن يصبح النضال من أجل السلام أحد الموضوعات الرئيسية لمجتمعنا الفكري، وفي جميع أنحاء العالم، وربما أيضًا أحد مجالات العمل الرئيسية لمنتدى فالداي الدولي للحوار.
ما ورد في المقالة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.