تقدير موقف

نادي فالداي للحوار

قراءة في رسائل بوتين



شارك الموضوع

في خطاب أعاد إلى الأذهان خطابه في مؤتمر ميونيخ للأمن (MSC) عام 2007، الذي أثار الجدل آنذاك، وجه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، عدة رسائل مهمة في الداخل والخارج، في اجتماع نادي فالداي للحوار، في مدينة سوتشي الروسية، مساء الخميس 21 أكتوبر (تشرين الأول)، الذي وجه فيه انتقادات اتسمت بالحدة إلى الغرب على المستويات الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية، والجيوسياسية.

الحكمة الصينية

في إشارة لا تخلو من دلالة، بدأ بوتين خطابه بالإشارة إلى ما سمَّاها “الحكمة الصينية”، مشيدًا بحكمة الصينيين على مدار التاريخ، وأفكارهم القيمة الصالحة للاستخدام حتى اليوم، مستشهدًا بحكمتين صينيتين.

الحكمة الأولى تقول: “لعلنا لا نريد أن نعيش في فترة التغيرات، ولكننا نعيش ذلك إذا أردنا ذلك أم لا، وهذه التغيرات أعمق وأعمق، ومع الوقت تصبح أكثر هيكلية”.

أما الحكمة الثانية فتقول: “الأزمة تتكون من حرفين (الخطر والإمكانية)”.

مختتمًا حديث “الحكمة” بحكمة روسية تقول: “كافحوا المشكلات بالعقل، والأخطار بالحكمة”.

فيما يبدو أن الرئيس الروسي، الذي يجيد فن الرسائل المبطنة، قد أراد استخدام هذه المنصة التي يجتمع فيها عدة خبراء من جميع أنحاء العالم، لاستغلال حالة الزخم الحالية لتصاعد الصراع الصيني- الأمريكي، الذي يصفه كثير من الخبراء بأنه دخل في مرحلة “حرب باردة” جديدة، للإشادة برد الفعل الصيني الحكيم، وقدرة بكين على تهديد صدارة الغرب العالمية، وعدم قدرة الأخير منفردًا على كبح تقدمها، مستثنيًا روسيا، بناءً على تصورات قديمة مبنية على نتائج الحرب الباردة منذ ثلاثة عقود، وهنا تأتي الحكمة الصينية الأولى “التغيير حدث بالفعل، سواء أردتم ذلك أم لا، وهو تغيير عميق وهيكلي، ولا يمكنكم عكسه”؛ وعليه يأتي العرض الروسي الذي لم يتوقف منذ صعود بوتين إلى السلطة عام 2000، بخلق شراكة روسية- غربية، يكون لروسيا فيها موقع على قدم المساواة مع الغرب، عبر الاستشهاد بالحكمة الثانية “الخطر”، أي إن عدم سماعكم لنداءات روسيا المتكررة، ويدها الممدودة لكم منذ زمن، مع نفاد صبرها، قد يؤدي إلى حسم خيارها “الشرقي”، وفي هذه الحالة سيكون عليكم مواجهة بكين، ومعها موسكو وحلفاؤهما. مقابل ذلك، هناك “الإمكانية”، أي عقد شراكة “تاريخية”، وهو ما شدد عليه بالقول: “إننا أمام فرصة تاريخية لإعادة تشكيل النظام العالمي الجديد بشكل سلمي”. أخيرًا، كان الاستشهاد بالحكمة الروسية “كافحوا المشكلات بـ (العقل)”- وهي رسالة أخرى إلى الغرب- و”الأخطار بـ (الحكمة)”، في تكرار آخر للنداء الروسي للتعاون والتفاهم، ومراعاة مصالح روسيا الجيوسياسية.

المنتصرون في حالة انحدار

ارتباطًا بالمقدمة، تحدث بوتين عن الظروف الدولية التي نشأت بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، الذي نظرت إليه النخب الجديدة في روسيا آنذاك على أنه يمثل فرصة لنشوء نظام عالمي جديد خالٍ من الصراعات الأيديولوجية، وقائم على التعاون، وسيكون لروسيا مكان فيه، بحكم المساحة، والقوة العسكرية، والإرث التاريخي. وبحسبهم، أراد الغرب استثناءها، وجعلها مجرد بلد “تابع”. ومجددًا، في إشارة لا تخلو من دلالة، قال بوتين إن “المنتصرين”، أي الولايات المتحدة، ومن خلفها الغرب، أرادوا أن يصعدوا وحدهم إلى قمة (جبل أوليمبوس)، الذي وفقًا للميثولوجيا الإغريقية كانت تسكن فيه الآلهة، في إشارة إلى رغبة واشنطن أن تكون “سيد العالم بلا منازع”، لكن هؤلاء “المنتصرين” يعانون الآن حالة “انحدار”، بحسب بوتين، ولا مجال لوقف هذا الانحدار. ومجددًا يشدد على نهاية ما يسميه “لحظة الأحادية القطبية”، والحاجة إلى نظام عالمي جديد، وهي الدعوة التي أطلقها علنًا منذ عام 2007.

كما لم تَفُته فرصة “التشفي” مما سُمِّىَ روسيًّا “الهزيمة” الأمريكية في أفغانستان، وفشل واشنطن في تحقيق جميع الأهداف التي أعلنتها قبل عقدين من الزمان عندما دخلت هذا البلد، وذكر الفارق الكبير الذي لا يقارن في القوة بين الطرفين، ليؤكد مجددًا أن “الهيمنة” الغربية التي استمرت عدة عقود تشهد الآن نهايتها، مع صعود قوى جديدة في ظل عملية فريدة من نوعها لتشكل موازين القوى العالمية.

فشل النظام الليبرالي العالمي

“على أرض الواقع مجرد هراء، فقط هراء”- هكذا وصف بوتين الأفكار الليبرالية الغربية، محملًا إياها أزمات الإرهاب والتطرف عبر تدخلها في شؤون البلدان الأخرى السياسية، وسعيها إلى تطبيق نموذجها قسرًا عليها، ورأسماليتها التي أفقرت الشعوب، ودفعتهم إلى اليأس والهجرة، وغياب التعاون حتى بين البلدان الليبرالية الغربية مع نشوء أول أزمة حقيقية، ويعني جائحة كوفيد- 19، وبقاء العقوبات الدولية على عدة بلدان في ظل ظروف صحية صعبة، وارتداد كل هذه المشكلات التي “صنعها” الغرب- حسب زعمه- على البلدان الغربية نفسها، مخلفة لها أزمات عميقة. في مقابل ذلك، يرفض هذا الغرب، لأسباب “أيديولوجية”، التعاون مع روسيا، مجددًا الدعوة إلى التعاون مع روسيا، وتكرار الرأي السابق له نفسه؛ بأن “الأممية الليبرالية فكرة بالية عفى عليها الزمن”.

إلى جانب ذلك، لم يفت بوتين انتقاد المنظومة الإعلامية الغربية، التي أدركت أن “لعبة” المنصات الرقمية لم تعد حكرًا عليها، بعدما أرادت “استخدامها” لضرب سيادة البلدان الأخرى، باتت الآن “تغلق” أبوابها، وتضيق على الحريات، وتبني “جدارًا” على حدودها، في إشارة إلى الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، والإجراءات المتخذة ضد وسائل الاعلام الروسية؛ مما يفقدها “مصداقيتها”- بحسبه- في حديثها عن حرية الرأي والتعبير.

انتحار الغرب مقابل المحافظة السياسية الروسية

من جديد، يوجه بوتين نقده الحاد للقيم الليبرالية الغربية، وما يصفه بالاستغلال “السيئ” للتكنولوجيا في خلق تغيرات في الطبيعة البشرية، في إشارة إلى عملية تغيير الجنس، ودعم مجتمع الميم (يحظر الاتحاد الروسي أي أنشطة أو دعاية للمثليين، ويعاقب بالسجن على القيام بذلك)، وقد كان هذا الأمر يشكل مصدرًا دائمًا للانتقادات الغربية لروسيا.

كذلك، انتقد بوتين السعي الغربي إلى تغليب هذه القيم، التي وصفها بـ “الشاذة” و “الغربية”، على كثير من المجتمعات، بل على المجتمع الغربي نفسه، مشيرًا إلى أنها من صنع مجموعة من “النخب” التي تتصارع فيما بينها في الغرب، مقللًا من شأن الديمقراطية الغربية، التي يصفها هو وكثير من الخبراء الروس بأنها “مسرحية”، وعملية تداول للسلطة منظمة بين “نخب” محددة، منتقدًا الأفكار الغربية “المدمرة” للمجتمعات، والساعية إلى كسر احتكار وظائف الدولة، والقول إن “الدولة عقبة أمام التقدم والنمو”، وهو ما “فشلت” في القيام به حسب وصفه، وأكدت الجائحة الأخيرة أن فقط “الدولة السيادية هي وحدها القادرة على خدمة شعبها، ومواجهة تغيرات الزمن”.

كما شدد على رفض الثورات، مذكرًا بالتاريخ الروسي الذي تراجعت فيه روسيا، وانهارت الدولة في أقل من قرن مرتين بسب الثورة، وأن “الثورات ليست حلًا لأي أزمة؛ بل بداية لصنع أزمات جديدة أكثر حدة”، مستشهدًا بأحداث التاريخ في الماضي والحاضر القريب، على عدم “نجاح” أي “ثورة” في “تحسين قدرات الإنسان”.

القيم الأخلاقية أخذت- كعادتها- حيزًا في خطاب بوتين، الذي أكد رفضه الصريح لقيم الغرب “القسرية” التي يسعى إلى فرضها على ثقافات ومجتمعات مختلفة، وأكد كذلك “تقدير الروس واحترامهم وتمسكهم بعاداتهم وتقاليدهم، وقيمهم الأخلاقية القومية والاجتماعية المستمدة من تراثهم المتعدد القوميات”، واصفًا تعليم الأطفال في المدارس، وإمكانية تغيير جنسهم دون العودة إلى أسرهم، بأنه “جريمة في حق الإنسانية”، وأن كل هذه الأفكار التي يدّعي الغرب “المتقدم” أنها قيم جديدة ليست سوى إعادة لتكرار ما سبق أن اختبرته روسيا، مشبهًا دعاة هذه القيم في الغرب بـ “البلاشفة”، الذين سعوا إلى “إجبار” المجتمعات على تغيير قيمها وعاداتها وتقاليدها، ودمروا من جراء ذلك روسيا وجزءًا كبيرًا من تاريخها، ملمحًا إلى أن مستقبل الغرب “لن يختلف كثيرًا عن البلاشفة” حال أصر على سعيه هذا الذي وصفه بأنه “أشد غرابة” مما سعى إليه البلاشفة، داعيًا في الوقت نفسه إلى تبني “أيديولوجية جديدة”، سمَّاها “المحافظة المعتدلة”، التي وصفها بأنها “أيديولوجية صائبة وسليمة، لا سيما في عهد التقلبات العالمية الجذرية”، موضحًا أن “المحافظة المعتدلة لا تعني الخوف من التغيرات أو التطورات، ولا تعني الانعزال؛ بل الاعتماد على التقاليد التي اختبرتها الأزمنة، والواقعية في تقييم الذات والآخرين، والبناء الصحيح للأولويات، والتوفيق بين الممكن والضروري، وحساب الأهداف، والتخلي عن التطرف كأسلوب للعمل”.

أما فيما يخص كيفية تعامل ما تسمى “المحافظة المعتدلة” تجاه المتغيرات العالمية الجديدة، فقد قال: “المحافظة المعتدلة أيديولوجية ونهج التصرف الصائب”، مكررًا أن هذه الأيديولوجية “ليست مجرد كلام فارغ؛ بل إنها استخلاص للدروس والعبر من تاريخ روسيا الدموي”.

إصلاح المؤسسات الدولية

دعا الرئيس الروسي، في ختام كلمته، إلى إصلاح المؤسسات الدولية لتصبح أكثر فاعلية، وإلغاء بعضها الذي لم تعد له قيمة، مع الحفاظ على هيكل الأمم المتحدة، والأساس الذي قامت عليه، فيما يبدو أنها إشارة منه إلى عدم موافقته على تصريح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، خلال زيارته إلى أنغولا، بأن مصير العالم لا يجب أن تقرره “حفنة” من المنتصرين في الحرب العالمية الثانية، الذي بدا أن وزير الخارجية سيرغي لافروف قد وافقه عليه، بتعليقه إلى الحاجة إلى “تكييف الأمم المتحدة ومجلس الأمن مع الحقائق الجديدة في العالم الحالي”[1].

الاستنتاجات

أراد بوتين استغلال اشتعال الصراع بين الولايات المتحدة والصين؛ لتكرار رسالته التي عبر عنها تعبيرًا صريحًا في رسالته السنوية أمام الجمعية الفيدرالية الروسية، في الأول من مارس (آذار) 2018، عندما ذكَّرَ من سمَّاهم “الشركاء” الغربيين بضرورة سماع صوت روسيا، وأخذ مصالحها على محمل الجد؛ لمواجهة التحديات العالمية التي لا يمكن للغرب مواجهتها بمفرده[2].

في ظل ما يبدو من عدم وجود إستراتيجية واضحة المعالم لكيفية المواجهة الأمريكية للتمدد الصيني، والخلاف داخل المعسكر الغربي، والجدل الداخلي الأمريكي بشأن دور روسيا في هذه المواجهة، أراد الرئيس الروسي- على الأغلب- مخاطبة أولئك الذين يعتقدون أن بإمكان أمريكا مواجهة بكين وموسكو في آنٍ واحد، من ناحية، ودعم حجج المنادين بالتعاون بين واشنطن وموسكو من جانب آخر. ومن الجدير بالذكر أن وزير الخارجية الأمريكي السابق هنري كيسنجر، الذي تجمعه علاقة ودية مع بوتين، وسبق لهما الاجتماع عدة مرات، من المؤيدين لهذا النهج، وحسب كثير من المراقبين الأمريكيين، نصح الرئيس السابق دونالد ترمب بالعمل مع روسيا إذا أراد مواجهة فعالة مع الصين[3].

رغم ما يبدو من “تحالف” صيني- روسي، تخشى الأخيرة، لأسباب كثيرة، من أن تسقط رهينة لبكين مع تمددها الاقتصادي والجيوسياسي والسكاني الكبير على حدودها، ويسعى الكرملين إلى استغلال الصراع الحالي للحصول على مكتسبات من الأطراف كافة تعزز من مكانة روسيا، وهو ما سبق أن عبَّر عنه رئيس تحرير مجلة «روسيا في الشؤون العالمية»، ومدير الأبحاث في نادي فالداي للحوار فيودور لوكيانوف، بقوله: “إما أن تحفر روسيا قبرها من خلال رمي نفسها تحت أقدام التنين الصيني، وإما- بدلًا من ذلك- أن تدين نفسها وتقبل بلعب دور الخادم، أو حتى تستسلم للقدر بأن تكون فريسة للقوى الغربية”، دون الحديث عن استنتاج ثالث، ألا وهو: “أن العلاقة القوية مع القوة الواعدة في العالم، وسط تراجع الغرب، ستسمح لروسيا بتعزيز موقعها عقودًا مقبلة”[4].

لتأكيد رغبة روسيا في التعاون مع الغرب، وفتح الباب أمامه لعقد “صفقة” متصورة، صرح المتحدث الرسمي باسم الكرملين ديمتري بيسكوف، بأن “خطاب الرئيس الروسي بوتين، في منتدى فالداي للحوار، لن يؤثر في العلاقات الروسية مع الغرب، وأن موسكو ستظل جزءًا من أوروبا”[5].

بحسب الصحفي الروسي فاليري كوروفين، يصنف المحافظون الروس أيديولوجية الرئيس الروسي بوتين بأنها تنتمي إلى مدرسة “الليبرالية المحافظة”[6]، وهو ما عبر عنه بوتين، في خطابه لأول مرة، باستخدام مصطلح “أيديولوجية”، وترويجه لها تحت اسم “المحافظة المعتدلة”، وهي رسالة مزدوجة؛ إلى الداخل في إطار سعيه إلى تعزيز القيم التقليدية، التي يعتقد أنها وسيلة مناسبة لمواجهة ما يسمى “المد” الفكري الغربي، وإلى المحافظين والقوميين في أوروبا وحول العالم، لإظهار روسيا في موقع “المدافع” عن القيم التقليدية العالمية، و”المحافظ” على التنوع مقابل “الشمولية” الغربية التي تريد طبع العالم على صورة الغرب، وفق ما ورد في خطابه.

لم يفوت بوتين- كعادته- الفرصة في التركيز على ما يسميها “تناقضات” الغرب، أو “فشل” الأممية الليبرالية، ومحاولة استغلال الصراعات السياسية الغربية واللعب على تناقضاتها؛ لضرب الوحدة الداخلية للمعسكر الغربي، وفق المنتقدين الغربيين.

أخيرًا، تشدد رسالة بوتين على رغبته في عقد تفاهم مع الغرب، وأن الأخير، رغم كل الصراعات الظاهرة على السطح، هو الخيار المفضل لروسيا، بدلًا من التوجه نحو تحالف شامل مع الصين. وهناك اعتقاد روسي بأن هذه الصفقة المنتظرة منذ عام 2000، عندما تولى السلطة، باتت قريبة، ويمكن لروسيا بعدها ترسيخ مكانتها كقوة عالمية، وتَوْكِيد سيادتها- وهو الأهم بالنسبة إليها- على محيطها السوفيتي السابق.

ما ورد في  المقالة يعبر عن آراء الباحثين ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير


شارك الموضوع