أكتب هذا المقال على عجل، وأنا الآن على أراضي جمهورية تتارستان الفيدرالية الروسية؛ لحضور المنتدى الاقتصادي الدولي الرابع عشر “روسيا- العالم الإسلامي: منتدى قازان”، في الفترة من 18 إلى 19 مايو (أيار) 2023. على الرغم من إقامتي أكثر من عقدين في روسيا، فإنني أزور هذه الجمهورية، وعاصمتها قازان، للمرة الأولى في حياتي، حيث يلتقي الشرق مع الغرب، الماضي مع الحاضر والمستقبل، الإسلام والمسيحية واليهودية والبوذية والشامانية، والسلاف والتتر والبشكير، في هذه المدينة الفريدة من نوعها، التي تختصر روسيا بكل تنوعها الديني، والعرقي، والثقافي، واللغوي، وهو ما أهلها (دون غيرها من المدن الروسية) أن يشيد فيها (معبد كل الأديان) الذي صممه المهندس الروسي إلدار خانوف، ليكون المعبد الوحيد، ليس في روسيا وحسب؛ بل في العالم، الذي يحتوي على مكان عبادة: (إسلامي، وأرثوذكسي، وكاثوليكي، وبروتستانتي، ويهودي، وبوذي) وفق تصميمات شرقية- غربية، بطابع روسي.
روسيا، أو “الاتحاد الروسي” وفق المسمى الرسمي، ليست مثل أي دولة. خلافًا لما هو معروف بأنها البلد الأكبر في العالم من حيث المساحة (أكثر من 17 مليون كيلومتر مربع)، وموقعها الأوراسي الفريد في قارتي أوروبا وآسيا، وهو ما يشير إليه بوضوح شعار الدولة الروسية (النسر ذو الرأسين، أحدهما يتجه نحو الغرب والآخر نحو الشرق)، فإنها أيضًا دولة ذات تاريخ إسلامي عريق، لا يقل عن بقية البلدان العربية والإسلامية.
بدأ الاتصال الأول بين العرب وأراضي ما باتت تُعرف اليوم بالاتحاد الروسي، في ظل خلافة الفاروق عمر بن الخطاب، عام (22 هـ)- (643 م) عندما تمكن القائد العربي المسلم سراقة بن عمرو الأنصاري، القادم من المدينة المنورة، في المملكة العربية السعودية الآن، من فتح مدينة (دَربَند) التي كانت تسمى عربيًّا (باب الأبواب)، الواقعة حاليًا في جمهورية داغستان الفيدرالية الروسية، وتبعد عن موسكو (2212) كيلومترًا. وفيها دفن ومعه كثير من الصحابة، ما زالت قبورهم شاهدة حتى اليوم على هذا الاتصال الأول. كما يوجد (مسجد الجمعة) في المدينة نفسها، الذي بناه القائد الأموي مسلمة بن عبد الملك بن مروان عام (733 م)، وهو أول مسجد، ليس في روسيا وحسب؛ بل في جميع بلدان الاتحاد السوفيتي السابق، بما فيها البلدان ذات الأغلبية المسلمة في آسيا الوسطى، كدليل على عراقة الإسلام وقدمه في هذا البلد. أيضًا استوطن في شمال القوقاز الروسي منذ القرن الثامن الميلادي، أكثر من خمسة عشر ألفًا من عرب الشام من القبائل اليمانية، وما زال أحفادهم حتى الآن يعيشون في داغستان وباقي منطقة شمال القوقاز الروسي، بوصفهم مواطنين روسيين يعتزون بأصولهم العربية، وهو ما يمثّل دليلًا حيًّا على هذا التمازج العربي- الروسي- الإسلامي المبكر.
تقع مدينة قازان، عاصمة جمهورية تتارستان الفيدرالية الروسية، في السهل الأوروبي الشرقي، عند التقاء نهري الفولغا وكاما، وتبعد (800) كيلومتر فقط عن العاصمة موسكو. ما زالت شواهد وأطلال مدينة بلغار القديمة، العاصمة التاريخية لمملكة (فولغا بلغاريا)، حية لتروي قصة أول دولة مركزية تنشأ على أراضي روسيا في القرن الثامن الميلادي، قبل أن يؤسس الأمير روريك، مملكة الروس القديمة عام (862) في نوفغورود.
كانت هذه المملكة مثالًا على الوحدة والتآخي، حيث وحد أميرها ألمش خان، قبائل الترك والبلغار والسلاف، والشعوب الفنلندية الأوغرية، في مملكة واحدة، وعبر اتصالهم بالتجار العرب المسلمين، اعتنقوا الإسلام طواعية، وأرسلوا أول سفارة أو “بعثة دبلوماسية”- بالمفهوم الحديث- إلى الخليفة العباسي المقتدر بالله، ليُعلموه بتبعيتهم الروحية للخلافة العربية الإسلامية في بغداد، وحاجتهم إلى من يفقهم في الدين، فأرسل إليهم سفيره أحمد بن فضلان، الذي دخل هذه الأرض في مايو (أيار) (922 م)، وكتب أول مرجع تاريخي عن الروس، وعاداتهم، وتقاليدهم. تتخذ جمهورية تتارستان من هذا اليوم عيدًا قوميًّا للجمهورية، وفي هذا الشهر تمر الذكرى الأولى بعد المئة والألف (1101) على اعتناق شعوب الفولغا للإسلام، في حين بدأ اعتناق بقية الروس للمسيحية في عهد الأمير فلاديمير الأول (عام 990 م).
عندما اجتاح التتر والمغول أراضي روسيا (عام 1237)، وعبر اتصالهم بمسلمي الفولغا، تحولوا مع الوقت إلى الإسلام، ونشأ التمازج بين البلغار والتتر والسلاف، وهم أسلاف سكان تتارستان الآن، وبفضل هذا التمازج نشأت ثقافة جديدة فريدة على هذه الأرض، عمّت الأراضي الروسية كافة، واستفاد منها الجميع. هنا أحب أن أستشهد بما قاله المؤرخ الروسي الشهير ليف نيكولايفيتش غوميليف: “التتار هم من ألهموا الروس بفكرة الإمبراطورية، وبفضلهم تحولت موسكو من إمارة هامشية إلى قوة عظمى أوراسية، واعترافًا مني بهذا الفضل سأظل أدافع طيلة عمري عن التتار وثقافتهم”. كذلك أستشهد بما قاله الكاتب السياسي الروسي سيرغي كاراغانوف: “لقد تعلمنا- نحن الروس- التسامح وقبول الآخر، وبناء إمبراطورية متعددة القوميات والأديان بفضل فترة الحكم التتري- المغولي”. ثم أكمل: “لذا، روسيا ودورها التاريخي ينبغي أن يكون شعاره (روسيا حضارة الحضارات)”.
يوجد اليوم في الاتحاد الروسي (8) جمهوريات فيدرالية ذات أغلبية مسلمة، من بين (24) جمهورية فيدرالية تشكل قوام الاتحاد الروسي. ينتشر المسلمون في جميع أرجاء هذا الاتحاد بوصفهم مواطنين أصليين (لا وافدين أو مجنسين)، وهو ما يجعل روسيا بلدًا ذا ثقافة إسلامية عريقة؛ ولذلك فهي تختلف عن أي دولة أخرى أوروآسيوية.
إدراكًا منه لهذه الحقائق التاريخية، ولإيمانه العميق بقيم التعايش والحرية والتسامح، ومهمة روسيا الحضارية، رسخ الرئيس بوتين هذا النموذج الروسي الفريد من نوعه، وهو بحق وبلا أي مبالغة، الزعيم الروسي الأكثر تسامحًا وانفتاحًا على الإسلام والمسلمين في كل تاريخ روسيا، ولا أدل على ذلك إلا مبادرته الشخصية بطلب نيل روسيا عضوية منظمة التعاون الإسلامي (بصفة مراقب)، عام 2005، وكذلك مبادرته لتأسيس منتدى (روسيا– العالم الإسلامي)، عام 2006، واختيار جمهورية تتارستان لتولي دور قيادة هذا التعاون.
في ظل الظروف الحالية التي يشهد فيها العالم تحولًا دراماتيكيًّا نحو “التعددية القطبية” في ظل عملية ربما تستمر عقدين أو ثلاثة حتى يستقر الشكل الجديد لهذا العالم، يجتمع ممثلو الشركات التجارية ومسؤولون من بلدان عربية، ومن بلدان العالم الإسلامي، مع نظرائهم الروس في قازان، تحت رعاية رئيسها رستم مينيخانوف، الذي شهدت رئاسته تطورًا ودفعة قوية للتعاون بين روسيا والعالم الإسلامي.
ركزت الدورة الحالية للمنتدى على عدة أنشطة، أبرزها: (التمويل الإسلامي– صناعة المنتجات الحلال–الاستثمارات المشتركة– الصناعة التحويلية– الخدمات اللوجستية– السياحة– التكنولوجيا– التعاون الدولي– تنشيط العلاقات الدبلوماسية– فرص الأعمال المشتركة).
ربما يعتقد البعض أن العقوبات الغربية قد تشكل عقبة أمام التعاون مع روسيا، لكن ما لمسته بنفسي من خلال المنتدى، وإدارة جلستين، هو وجود عزم مشترك لدى الجهات الروسية، وحكومات ورواد الأعمال في العالمين العربي والإسلامي، على تطوير العلاقات الاقتصادية والتجارية. في النهاية، الصراع العسكري الحالي لن يستمر إلى الأبد، وسيصل- مثل أي صراع عسكري- إلى مرحلة تسوية سياسية، أو جمود. روسيا دولة كبرى، لا يمكن تجاوزها، أو التعامل معها على نمط كوريا الشمالية.
يشكل هذا المنتدى فرصة في ظل الفراغ الناتج عن خروج الشركات الغربية من السوق الروسية؛ لخلق شراكة عربية- إسلامية حقيقة مع روسيا، في ظل وجود عدد كبير من مواطني هذا البلد يعتنقون الإسلام، وهو ما يتيح مزيدًا من تعميق العلاقات، والتوازنات الاقتصادية والجيوسياسية، في ظل عالم متغير.
ما ورد في المقالة يعبر عن رأي الكاتب ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير