أبحاث ودراسات

صعود الخطاب الفاشي في الداخل الروسي



شارك الموضوع

شهدت روسيا منذ تفكك الاتحاد السوفيتي عام 1991، عدة تحولات كبرى على المستويات كافة، كان من بينها بروز ظاهرة القومية، التي تنامت في نهاية عشرية التسعينيات المظلمة (كما يسميها الروس). بعدما تولى بوتين السلطة عام 2000، كانت هذه الظاهرة قد تمددت، وتفرع منها عدة حركات أقرب ما تكون إلى الفاشية، وهو ما شكل تهديدًا جديًّا لوحدة روسيا واستقرارها. دفع هذا التحول الخطير الكرملين إلى التصدي لها بقوة منذ عام 2008، ووضع أبرز هذه الحركات على قائمة المنظمات المتطرفة المحظورة في روسيا. على وقع الصراع العسكري الحالي في أوكرانيا، أعادت هذه الحركات تعويم نفسها، وبدأت بنشر أفكارها من جديد.

غموض مصطلح القومية الروسية

ما تسمى “القومية الروسية” مصطلح سياسي وأيديولوجي غير واضح أو محدد المعالم، كذلك الأمر لتعريف مَن “الروسي”، أو “الروس”؟ هل هو كل من يحمل الجنسية الروسية ويعيش على أرضها؟ أم العرق السلافي؟ وإذا كان السلاف، فهل كل السلاف، بمن فيهم الشرقيون، والغربيون، والجنوبيون، أم السلاف الشرقيون (الروس، والبيلاروسيون، والأوكرانيون)، أم السلاف الشرقيون فقط داخل روسيا؟ هل هذا الانتماء القومي على أساس لغوي أو عرقي لا يكتمل بسوى انتماء ديني؟ هل يمكن أن يسمى سلافيًّا داخل روسيا من ليس أرثوذكسيًّا؟

لا يوجد حتى الآن تعريف واضح متفق عليه بين أتباع هذا التيار. لكن في العموم، تعتقد أغلبية التيارات القومية أن الروسي هو “السلافي الشرقي الذي يتحدث الروسية، ويعتنق الأرثوذكسية”. أكد هذا التعريف- بوضوح- المتروبوليتان الروسي إيلاريون، الذي قال: “كأبناء وبنات للكنيسة الأرثوذكسية الروسية، نحن جميعًا مواطنون في روسيا المقدسة. عندما نتحدث عن روسيا المقدسة، لا يمكن أن يكون فيها المرء روسيًّا حقيقيًّا، دون أن يصبح أولًا أرثوذكسيًّا”.

البحث عن الراية

منذ تأسيس الدولة الروسية القديمة عام 862، وتوسعها في منطقة السهل الأوروبي الشرقي، ثم اتخاذها من كييف عاصمة لها، تحولت إلى ما يشبه الدولة العباسية في عصرها الثاني. كان الحاكم يسمى (أمير كييف المعظم)، ويدين له جميع الأمراء بالولاء والتبعية “الاسمية”، لكنهم فعليًّا مستقلون بإماراتهم، ولا سلطة حقيقية عليهم.

سهل هذا التفكك من مهمة المغول عندما بدؤوا باجتياح أراضي الدولة الروسية القديمة عام 1237، وما تبع ذلك من إخضاع جميع الإمارات الروسية لحكمهم المباشر زهاء قرنين ونصف القرن. تسمى هذه الحقبة روسيًّا بـ “النير المغولي”.

شكل حكم القبيلة الذهبية منعطفًا جديدًا في تاريخ روسيا والروس، حيث تعلموا من هذه التجربة عدة أشياء كانت جديدة عليهم. على سبيل المثال، التدوين؛ وآلية تحصيل الضرائب؛ وإمكانية حكم إمبراطورية مترامية الأطراف ومتعددة القوميات والعرقيات والأديان. يمكن القول إن الحكم التتري- المغولي هو من ألهم السلاف الشرقيين بفكرة الإمبراطورية، التي تشكلت في صورتها الأولية بقيادة سلافية في ظل إيفان الرابع “الرهيب”، الذي أعلن نفسه قيصرًا لروسيا عام 1547.

نظرًا إلى أن إيفان الرهيب كان أول حاكم سلافي يقود إمبراطورية متعددة الأديان والقوميات، كان لا بد لهذه الإمبراطورية الوليدة من “راية” أو فكرة “أيديولوجية” تنطلق منها. استخدام لقب “القيصر” كان الراية في ذلك الوقت، ومعها ظهر مصطلح “موسكو روما الثالثة” وريثة الإمبراطورية البيزنطية. بُنيت هذه الأيديولوجية الجديدة على أساس أن إيفان الرابع تسري في عروقه دماء إمبراطورية عن طريق جدته صوفيا باليولوغ، ابنة شقيق آخر أباطرة بيزنطية قسطنطين الحادي عشر، وبما أن هذه الإمبراطورية قد سقطت عام 1453، وروسيا في ذلك الوقت البلد الأرثوذكسي الأكبر على وجه الأرض، فهي الوريث الشرعي لهذه الإمبراطورية “المقدسة” التي لا بد أن تظل باقية، وإن سقطت في مكانٍ، فسرعان ما تعاود الظهور في مكانٍ آخر. نشأت في روما، ثم انتقلت إلى القسطنطينية أو “روما الجديدة”، وبعد سقوط الأخيرة، أصبحت موسكو “روما الثالثة”.

انحسرت هذه الأيديولوجية- إلى حد كبير- نتيجة فترة الاضطرابات (1595- 1613)، التي شهدت صراعًا على السلطة في ظل غياب وريث شرعي من سلالة آل روريك الحاكمة، وصولًا إلى تولي ميخائيل فيدوروفيتش السلطة ليبدأ معه عصر حكم أسرة رومانوف.

بعد تولي بطرس الأكبر، وإعلانه رسميًّا قيام الإمبراطورية الروسية (1721)، وإدخاله التقنيات والأفكار الأوروبية، عادت من جديد نظرية “موسكو روما الثالثة”، وبالتحديد في عهد كاترين الثانية، على أمل حشد القوى الأوروبية خلف روسيا لطرد العثمانيين من القارة، والسيطرة على القسطنطينية. فشل مشروع الاندماج الروسي- الأوروبي. وقد ظهر ذلك جليًّا في حرب القرم (1853)، عندما راهن الإمبراطور نيقولاي الأول على أن أوروبا ستساند روسيا “المسيحية” في حربها “المقدسة” ضد الدولة العثمانية “المسلمة”، في حين أن ما حدث كان العكس، حيث تشكل تحالف أوروبي واسع مع العثمانيين مناهض للروس.

بعد انتهاء حرب القرم عام 1856، ظهرت حركة فكرية جديدة تسمى (سلافوفيليا)، وتطورت في شكل “قومية سلافية” الغرض منها جمع كل السلاف وحشدهم تحت راية واحدة بقيادة روسيا، تحت شعار “تحريرهم” من العثمانيين والتأثيرات الأوروبية الغربية، والعودة بهم إلى الثقافة السلافية الأصيلة وقيمها المحافظة. كان هذا الاتجاه القومي بديلًا عن المشروع الأوروبي بعدما خاب أمل الروس فيه، وباسم “الأخوة السلافية” برر الإمبراطور الأخير نيقولاي الثاني قرار دخوله الحرب العالمية الأولى، لدعم الصرب ومساندتهم.

نتيجة لأحداث طويلة، انهارت الإمبراطورية الروسية عام 1917، وحل محلها الاتحاد السوفيتي، الذي ورث إمبراطورية مفككة تعصف بها الأفكار والصراعات القومية من كل جانب كرد فعل على نمو القومية السلافية، ورغبة باقي الشعوب في التحرر من الهيمنة الروسية، بمن فيهم بعض السلاف.

تعامل الاتحاد السوفيتي مع مسألة تفجر المسألة القومية في الإمبراطورية الروسية بشكل عملي ماكر. من ناحية، أقر بوجود وحقوق جميع القوميات، وانتقد النهج الشوفيني السابق للإمبراطورية، ومنح القوميات الكبرى جمهوريات في إطار فيدرالي في الشكل، مركزي في الجوهر والتطبيق. على الجانب الآخر، عمق من دور اللغة والثقافة الروسية ومركزيتها على حساب اللغات القومية الأخرى، حتى باتت كل شعوب الاتحاد السوفيتي تتقنها، وهو ما فشلت الإمبراطورية في تحقيقه. يمكن القول إن الاتحاد السوفيتي قد أعاد الإمبراطورية الروسية، بل وسّع من حدود تأثيرها ونفوذها بعد الحرب العالمية الثانية، لكن في شكل عصري جديد.

القوميون الروس المعاصرون

لدى القوميين الروس المعاصرين ما بعد الاتحاد السوفيتي، قناعة تبدو يقينية من أن الاتحاد السوفيتي “مؤامرة يهودية ماسونية غربية”، كان الغرض منها تفكيك الإمبراطورية الروسية وتدميرها، ومحو دور الروس (أي السلاف الشرقيين الأرثوذكس) وتأثيرهم. كما يؤمنون بأن الثورة الروسية، ثم الانقلاب البلشفي في أكتوبر (تشرين الأول) 1917، أضاعا على روسيا فرصة تمددها وصولًا إلى إسطنبول، والسيطرة عليها، واستعادة اسمها التاريخي “القسطنطينية”، لتصبح إحدى المدن الروسية العظيمة الثلاث، بجانب موسكو، وسانت بطرسبورغ. لكن هذا “اليقين” يبدو مخالفًا لأبسط قواعد المنطق. على سبيل المثال، لماذا سقطت الإمبراطوريات العثمانية، والألمانية، والنمساوية المجرية، وبعدها- بسنوات قليلة- البريطانية، والفرنسية، في حين كانت ستظل الإمبراطورية الروسية التي وصلت إلى طريق مسدود، وكانت قائمة على حكم أوتوقراطي ينتمي إلى العصور الوسطى؟

نشأت القومية الروسية المعاصرة على أساس عرقي في المقام الأول، وفي بعض الأحيان يضاف إليها البعد الديني الأرثوذكسي، أو العودة إلى الوثنية السلافية القديمة ما قبل المسيحية في أكثر صورها تطرفًا، وهو ما يجعل منها قومية مغلقة غير قابلة للتمدد والانتشار. وفق هذا التصور، نحن أمام قومية “جبرية” لا مجال للانتماء إليها، حتى لو كان المرء يحمل الجنسية الروسية، ويتحدث الروسية، ويعتنق الأرثوذكسية، سيظل في نظر هؤلاء القوميين الروس ليس روسيًّا حقيقيًّا؛ لأن القدر لم يمنحه “امتياز” أن يولد لعائلة سلافية.

تبدو القومية الروسية خليطًا هجينًا مضطربًا ومتضاربًا ومستنسخًا من الأفكار الأوروبية الفاشية. على سبيل المثال، ظهرت حركات ضد الهجرة من البلدان السوفيتية السابقة تدعو إلى “تطهير” روسيا منهم، إلى جانب جماعات النازية الجديدة التي تمجد هتلر والرايخ الثالث، رغم كل ما فعله في الروس خلال الحرب العالمية الثانية، مع شعارات تنم عن جهل وغوغائية، مثل “أوقفوا اطعام القوقاز”، ونظريات تفوق البيض، وجماعات حليقي الرؤوس.

داخل الحركة القومية، يتجلى الاضطراب والخلل الفكري في رؤيتهم للشكل المستقبلي لروسيا. يمكن تقسيم هذا التيار إلى ثلاثة فرق رئيسة:

الفريق الأولى يدعو إلى إمبراطورية روسية عظمى حصرًا للسلاف الشرقيين الأرثوذكس، من خلال وحدة السلافيات الثلاث (روسيا، وبيلاروس، وأوكرانيا)، وبقاء باقي القوميات وأصحاب المعتقدات الدينية الأخرى في مرتبة متدنية فيما يشبه “العبيد” لهذا العرق السلافي الأسمى، في استنساخ ركيك للنازية الألمانية. كان هذا الفريق مقربًا جدًّا، بل في علاقة تحالف مع نظرائه الأوكرانيين. حدث الانشقاق بينهم بعد أحداث الميدان عام 2014، عندما اعتبروا القوميين الأوكرانيين قد “انحرفوا” عن المسار القومي “الصحيح”؛ لأن مشروعهم مفترض أنه قائم على توحيد السلاف الشرقيين في دولة واحدة، وسحق جميع القوميات الأخرى، في حين أن مطالبة القوميين الأوكرانيين بدولة قومية منفصلة تعني إجهاضًا لهذا المشروع، وإدخال عناصر “غريبة” داخل السلاف الشرقيين للتحكم في مصيرهم.

الفريق الثاني حافظ على تحالفه مع القوميين الأوكرانيون بعد عام 2014، بل وثّقه من خلال تشكيل كتائب روسية قومية تقاتل الجيش الروسي والموالين لروسيا في شرق أوكرانيا. يعتقد هذا الفريق أن بوتين ونظامه امتداد لجهاز فيتشكا (ВЧК)، أي (اللجنة الاستثنائية لعموم روسيا لمكافحة الثورة المضادة والتخريب)، التي أسسها البلاشفة عام 1917؛ لملاحقة أتباع “الثورة المضادة”، وأن هزيمة روسيا بوتين في هذه الحرب ستشكل عقدة وإذلالًا للروس، من خلال انتصار دولة صغيرة، مثل أوكرانيا، على دولة “عظمى”، مثل روسيا، التي يحتل جيشها المرتبة الثانية عالميًّا، وهو ما سيؤدي إلى سخط جماهيري يسقط على إثره النظام، ليتقدموا بعدها الصفوف ويسيطروا على السلطة، مقدمين إلى الشعب تبريرهم بأن هذه الهزيمة ناتجة عن الشكل “المشوه” للدولة الروسية المتعددة القوميات، وأن الانتصار الأوكراني كان نتيجة لقوة الدولة الأحادية القومية. لا مانع لدى هذا الفريق من تفكيك روسيا لبناء دولة قومية أحادية العرق والدين تسيطر على المناطق التي يشكل فيها “الروس” الأغلبية، ومنح باقي المناطق الأخرى الاستقلال، وعمل استبدال سكاني على غرار ما حدث بعد تقسيم شبه القارة الهندية، أو بين اليونان وتركيا.

الفريق الثالث يطالب بدولة قومية للسلاف الشرقيين الأرثوذكس من الروس حصرًا، لكنه لا يقدم تصورًا واضحًا لكيفية التعامل مع باقي القوميات الأخرى، بمن فيهم السلاف الشرقيون أنفسهم، بل يصفون الأوكرانيين بأنهم مجرد “قرويين” متخلفين، أدنى مرتبة من الروس، أو “بعوضة” هدفها إزعاج روسيا.

العامل المشترك بين كل هذه التيارات القومية المختلفة عداؤهم المطلق لليهود والمسلمين معًا. اليهود في نظرهم “حشرات” طفيلية تمتص دماء روسيا والروس من “السكان الأصليين”، ومع أول أزمة يقفزون من المركب الروسي إلى خارج البلاد للهجوم عليها، مع نعتهم بـ “الخيانة” و “نكران الجميل”. أما المسلمون، فهم خطر ديمغرافي يهدد بقاء “العرق” الروسي، وعبارة عن عصابات قومية قوقازية، أو إسلاميين متطرفين.

صعود الخطاب الفاشي

نتيجة لحالة عسكرة المجتمع، والضخ الإعلامي المستمر على مدار الساعة بشأن وجود خطر “وجودي” يتهدد روسيا والروس، ومؤامرة كونية “لتدمير” روسيا، وعقد الغرب الجماعي العزم على “التخلص” من الروس مرة واحدة وأخيرة لحل “المسألة الروسية”، بعد الانتهاء من المهمة الأولى التي تمثلت في تفكيك الاتحاد السوفيتي، أدى الضخ الإعلامي المستمر داخل المجتمع إلى حالة من الخوف والفزع لدى البعض، وعدم مبالاة لدى البعض الآخر. إذا كان الغرب الجماعي بكل قوته العسكرية والاقتصادية يحارب روسيا، وقرر التخلص منها، ومن شعبها الروسي، وإذا كان الروس في المخيلة الجمعية هم فقط “السلاف الأرثوذكس داخل روسيا”، وبما أن المواطن العادي لا يمكنه مواجهة هذه القوى والتصدي لها، لكنه يمكن أن يتصدى “لأعداء” الداخل؛ هنا بدأت أبواق الدعاية القومية الفاشية تظهر، مستغلة هذا الوضع لتوجيه طاقة الغضب والقلق والخوف تجاه القوميات والأديان الأخرى، واستغلال كل حدث مهما بدا عاديًّا لتضخيمه، والتلاعب بالمشاعر الشعبية من خلال قنوات التيليجرام غير الخاضعة لأي رقابة حكومية.

على سبيل المثال، يوجد في موسكو من مليونين إلى أربعة ملايين مسلم، ما بين مواطن ومقيم، في حين لا يوجد سوى ثلاثة مساجد فقط. من الطبيعي أن السلطات الروسية تفكر في خطورة وجود هذا العدد الكبير من المسلمين دون مساجد كافية لهم، وهو ما قد يؤدي إلى تجمعات دينية خارج نطاق المؤسسة الدينية الرسمية، يتم من خلالها نشر الأفكار المتطرفة؛ لذلك قررت الشروع في بناء مسجد رابع، في منطقة (كوسينا- أوختومسكي) بجوار بحيرة يدعى أنها “مقدسة”. استُثِيرَ السكان من أن المسجد ستكون مساحته (40) ألف متر؛ مما يعني أعدادًا ضخمة من المصلين يزعجون سكان المنطقة. ثم استُثِيرَ الأرثوذكس، من خلال الادعاء أن المسجد سيكون أكبر من كاتدرائية المسيح المخلص، وهي أطول كنيسة أرثوذكسية في العالم. حتى المدافعون عن البيئة، حُشِدُوا من خلال الادعاء بأن المسجد سيكون على ضفاف البحيرة؛ مما سيؤثر في طبيعتها، وأخيرًا، تضخيم الخطر الذي يتهدد وجه موسكو “السلافي” من خلال جلب مزيد من المسلمين، وتحويلها إلى مدينة “إسلامية”؛ من خلال إعادة استخدام نظرية المؤامرة لليمين المتطرف الفرنسي “الاستبدال العظيم”. نتيجة لحالة الهياج الشعبي الذي تمكن الفاشيون من صنعه، اضطر عمدة موسكو سيرغي سوبيانين إلى إصدار بيان أكد فيه أن مساحة المسجد المقترح (2500) متر مربع فقط، ولم يكن مخططًا له أن يُبنى على ضفاف “البحيرة المقدسة”. ودرءًا للفتنة؛ قرر مع رئيس مجلس المفتين الروسي اختيار موقع آخر.

قد تبدو هذه الحادثة عادية، وتكررت في عدة بلدان في العالم، ولا تستدعي الشعور بالقلق، لكنها مجرد مثال على حالة عامة تشهد فيها دعاية هذا التيار صعودًا كبيرًا، ساعد عليه عدة عوامل، أبرزها:

  • الضخ الإعلامي على مدار عدة عقود في الداخل الروسي لنظريات المؤامرة. التاريخ في نظر أغلبية المعلقين الإعلاميين والكتاب السياسيين الروس عبارة عن مؤامرة كبرى. على سبيل المثال، لا يذكر أحد أن تفكك الاتحاد السوفيتي، ومن قبله الإمبراطورية الروسية، كان أولًا وقبل كل شيء بسبب خلل داخلي وقصور ذاتي، وأن الروس أنفسهم بقيادة بوريس يلتسن هم من فككوا هذا الاتحاد، في حين تمسكت عدة قوميات، على رأسها المسلمون في آسيا الوسطى، ببقائه. وحتى لو ذُكِرَ دور العوامل الداخلية، فغالبًا ما يُذكَر كشيء هامشي غير مؤثر في مجرى الحدث لزيادة الحبكة المؤامراتية؛ لذا يبدو التاريخ السياسي الروسي مجموعة كاملة من الأساطير غير المستندة إلى سوى انطباعات شخصية، بلا أي دليل موثق.
  • التضخيم الدعائي للانسحاب الأمريكي من أفغانستان، والتقليل من شأن الغرب وقوته، والترويج لنظريات “انهيار الغرب”، و”انهيار الدولار”، و”التحلل الأخلاقي والديني للغرب”، و”هيمنة الشواذ والمتحولين جنسيًّا على صنع القرار الغربي”، و”التفكك الوشيك للاتحاد الأوروبي”، و”قرب دخول أمريكا في حرب أهلية وتفتيتها”، و”حتمية تحول العالم نحو التعددية القطبية”، و”فقدان أمريكا والغرب للهيمنة”.
  • الترويج الإعلامي المبالغ فيه لقوة الدولة الروسية العسكرية والاستخباراتية، وقوة المجتمع ومتانته وسلامته، بشكل كبير جدًّا لم يصرح به لا الرئيس بوتين، ولا أي مسؤول روسي آخر.
  • الاحتفاء بكل التيارات اليمينية المتطرفة في الغرب، وإبراز قادتها في الإعلام الروسي في صورة “القادة النموذجيين”، و”الوطنيين الحقيقيين” الراغبين في ازدهار شعوبهم، والتسخيف من قضايا حقوق الإنسان والأقليات والأفكار الليبرالية واليسارية، ووصفها بـ “الفاشية”؛ مما جعل شخصيات مثل (بنيامين نتنياهو، وفيكتور أوربان، وترمب، وماري لوبان، وناريندرا مودي) في أعين الشعب نماذج مثالية للحاكم الوطني المدافع عن مصالح أمته؛ ومن ثم فقد قدم الإعلام- بشكل غير مباشر- دعمًا مجانيًّا لكل دعاية اليمين المتطرف الفاشي في روسيا.
  • التقليل من شأن الدولة الأوكرانية وقوة شعبها، والدعم الغربي المقدم إليها. يمكن اختصار الدعاية الإعلامية، منذ عام 2014 حتى قبل اليوم الأول من بدء “العملية العسكرية الخاصة” في 24 فبراير (شباط) 2022، بأن الجيش الأوكراني “مجموعة من النازيين الجدد والشواذ والمتحولين جنسيًّا الذين يقودهم مهرج يهودي”.
  • عن غير قصد، استخدم الخطاب الرسمي الروسي مقولات غرضها تحفيز الشعور الوطني، لشخصيات مثل إيفان إيليين، في حين أن كتابات إيليين وتاريخه ينضحان- على أقل تقدير- بالأفكار الشوفينية، إن لم تكن تحمل بذورًا فاشية، كما كان من أبرز المدافعين والداعمين لصعود هتلر والحركة النازية والفاشية في إيطاليا وألمانيا. استخدام إيليين، سمح للفاشيين الروس بنبش تراثه للترويج لأفكارهم من خلالها.
  • استخدام تقارير تتحدث عن التدهور الديمغرافي، وهو خطر حقيقي حذرت منه دراسة حديثة للمدرسة العليا للاقتصاد، جاء فيها: “لكي تحافظ روسيا على تعداد سكاني يبلغ (146) مليون نسمة؛ يجب أن تجتذب ما معدله (390) ألف مهاجر سنويًّا لمدة 80 عامًا”. وفي السيناريو السلبي ستحتاج إلى “(1.1) مليون سنويًّا”، في حين أنه إذا ظل الوضع السكاني على ما هو عليه، دون نقصان، وفتح باب الهجرة، سيصل عدد سكان البلاد عام 2100 إلى “(67,4) مليون نسمة فقط، في مساحة تبلغ (17,098,242) كيلومترًا مربعًا”. كما ذكر التقرير أن روسيا: “تراجع عدد سكانها عام 2021 لأول مرة في التاريخ (1.04) مليون نسمة”. هذه التقارير تُستَغل للترويج لخطر “الاستبدال السكاني”، من خلال “استيراد” مسلمين من بلدان آسيا الوسطى، والترويج لنظرية مؤامرة، يدعمها الكرملين والنخبة الحاكمة، للقضاء على الشعب الروسي (السلافي الأرثوذكسي)، ليسهل على النخبة حكم البلاد بلا أي معارضة.
  • التضخيم من كل حدث مهما كان صغيرًا أو معتادًا بين الجماعات العرقية المختلفة، وخاصةً القوقازيين، للترويج لنظرية “استضعاف” الروس في “وطنهم” على يد “العصابات القومية القوقازية”؛ لتنمية نزعة رهاب القوقازيين، أو التتار والمسلمين، وحاجة روسيا إلى سلطة قوية تقمع هذه القوميات لتعيد إلى الروس “حقوقهم” المهدرة في ظل سلطة بوتين الحالية.
  • استغلال مشاعر المستائين من المحافظين ورجال الدين الأرثوذكس لما يعتقدونه تراجعًا للقيم الأخلاقية والدينية للسلاف؛ من خلال إثارة حسدهم، وربما حقدهم، على المسلمين وباقي القوميات الأخرى التي تشهد ازدهارًا ديمغرافيًّا، وتماسكًا مجتمعيًّا لدفعهم- دون أن يدروا- إلى تبني الخطاب الفاشي.

خلقت هذه الحالة تربة خصبة لصعود الخطاب الفاشي من جديد، بعد وأده والتخلص منه عام 2012، بشكل بدا نهائيًّا، في ظل ما يبدو من تعثر روسي في أوكرانيا، وطول أمد الصراع العسكري عكس المتوقع. اجتذب هذا الخطاب الساخطين من “الوطنيين”، وبدؤوا يتماهون مع هذا الخطاب الفاشي، وكذلك قطاع من السكان الذي شعر بالصدمة نتيجة عدم الحسم السريع، وأصحاب الطموحات الإمبراطورية الذين راهنوا على انتصار سريع في أوكرانيا، سيؤدي إلى ضم نحو 40 مليون سلافي شرقي أرثوذكسي إلى فلك الدولة الروسية بجانب بيلاروس، وبقية الروس المنتشرين في بعض جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق؛ ومن ثم خلق توازن ديمغرافي في ظل إمبراطورية جديدة، يكون السلاف فيها هم الطرف المهيمن من الناحية العددية.

لعب اليمين الفاشي على كل هذه المخاوف، واستخدم- ببراعة- الأخطاء التي وقع فيها الإعلام والسلطة الروسية للتسويق لقضيته في ظل غياب للنقد الذاتي، والبحث عن أسباب التراجع الديمغرافي. يعلمنا التاريخ أن روسيا في وقت الأزمات، يتحول فيها السخط باتجاه الداخل بعد نهاية المعركة مع الخارج، ونتيجة لعقود طويلة من الترويج لنظريات “المؤامرة”، يتحول السخط والاستياء إلى صراع أهلي إما على أساس إيديولوجي، كما حدث في الحرب الأهلية (1917- 1922)، وإما- وهذا هو الأخطر- إلى صراع عرقي ديني، كما في الوضع الحالي.

الاستنتاجات

نموذج الدولة القومية “الأحادية” العرق والدين، مناسب لدول صغيرة وضعيفة تحاول الحفاظ على بقائها، مثل أرمينيا أو اليونان، لكنه لا يصلح مع روسيا. الترويج لهذا النموذج يعيد روسيا إلى حدود دوقية موسكو الكبرى لعام 1263، أو يجعلها تتحول حقًا إلى “سجن الشعوب”، وهو أمر مستحيل حدوثه في عالم اليوم الحديث.

الأيديولوجية القومية سم قاتل لروسيا، حيث لا وجود واضحًا ومحددًا لهذه “القومية” الافتراضية. ربما يكون من المناسب، في ظل حالة الفراغ الأيديولوجي الذي يعانيه الاتحاد الروسي، تبني الفكرة التي طرحها البروفيسور سيرغي كاراغانوف “روسيا حضارة الحضارات“؛ حيث تجمع روسيا بين الشرق والغرب، وتحتوي على شعوب كلا العالمين وحضاراتهما.

التكوين الفكري للسلطة السياسية في روسيا تتري- مغولي، مع تأثيرات بيزنطية، وقشرة أوروبية خارجية، كان تأثيرها هامشيًّا في النظم الإدارية، والقوانين، والنظام السياسي. يمكن القول إن روسيا قلبها وفؤادها مع الغرب، لكن عقلها ونمط تفكيرها شرقي بامتياز، وهو ما يجعل روسيا بلدًا أوروبيًّا فقط في جزء من مساحتها، لكنها لم ولا يعتقد أنها ستكون يومًا ما أوروبية بنمط تفكيرها وثقافتها.

الخبر السار، أن تأثير الأفكار الفاشية ما زال (حتى الآن) محدودًا، والسلطة السياسية- ممثلة في الرئيس فلاديمير بوتين- تدرك جيدًا خطر هذا التيار، وتتصدى له بكل قوة. الخبر السيئ، أن هذا التيار ينتعش الآن على وقع الصراع العسكري في أوكرانيا، والمواجهة التي تبدو مفتوحة مع الغرب. كلما طال أمد الصراع؛ أُتيحت لهذا التيار فرصة أكبر للتمدد.

اليمين الفاشي هو القوة الوحيدة في العالم القادرة على تدمير روسيا وتفكيكها، في حين لا يمكن لروسيا أن تتعرض لأي خطر أو إيذاء من طرف خارجي يهدد وحدتها.

روسيا بحاجة إلى مراجعة شاملة لكل أدوات قوتها الناعمة، ومنظومة عملها الإعلامي، الذي ثبت أنه غير مؤثر في الخارج، وله آثار سلبية في الداخل، وإعادة النظر في قراءة التاريخ الروسي وتدريسه، والتأكيد أن القوميات والأديان المختلفة في روسيا ليست “دخيلة” أو “وافدة” على البلاد. على سبيل المثال، الإسلام دخل الأراضي التي باتت اليوم جزءًا من روسيا قبل المسيحية بثلاثة قرون، وهناك قوميات وجودها أقدم بآلاف السنين من السلاف الشرقيين. هذه المراجعة مهمة للتصدي للفكر الفاشي الذي يروج لشعار “روسيا للروس”.

تجنبت السلطة السياسية في الاتحاد الروسي، منذ تفكك الاتحاد السوفيتي، تقديم تعريف واضح للمواطن الروسي، أو لمن هو “الروسي”؛ منعًا لحدوث لبس، أو نزاع قومي، لكن هذا التجاهل بعد مرور ثلاثة عقود من تأسيس الاتحاد الروسي لم يعد مناسبًا، وهناك حاجة ماسة إلى مفهوم واضح ومحدد للمواطنة في ظل دولة تعددية، فلا يكون الروسي هو حصرًا “السلافي الأرثوذكسي”؛ مما يجعل باقي القوميات تدافع عن هويتها من خلال إبراز انتمائها القومي، وهو ما يخلق جوًّا من التنازع والاختلاف.

خلافًا لما يروج غربيًّا، وبغض النظر عن رأي أي شخص، أو جهة، أو مؤسسة، في الرئيس بوتين وسياساته، إلا أنه أبعد ما يكون عن القومية أو الفاشية. بوتين من خلال سياساته براغماتي، لديه ربما طموحات إمبراطورية، وارتباط قوي بالتاريخ، ورغبة في أن يدون فيه اسمه إلى جانب الأباطرة والزعماء الروس العظام، لكنه لا يحمل أي أفكار إقصائية، ويدرك جيدًا طبيعة التكوين الديني والعرقي للاتحاد الروسي، ويسعى إلى تعزيزه والحفاظ عليه، بل يمكن القول- بلا أي مبالغة، وبالنظر إلى التاريخ الروسي في جميع حقبه المختلفة- إن بوتين هو الحاكم الروسي الأكثر إيمانًا بالتعددية، والعمل على تعزيزها في المجتمع؛ لذلك يناصبه التيار الفاشي العداء.

رغم كل جهود الرئيس بوتين للتصدي للتيار الفاشي، فإنه لا ضمانة لعدم صعود هذا التيار من جديد، وحفظ السلم الأهلي في روسيا، سوى بوتين نفسه؛ بمعنى أن مستقبل الوحدة الداخلية في البلاد يشوبه الشك وعدم اليقين، وهو ما يستدعي وضع تصور للمستقبل، ومأسسة سياسة بوتين تجاه القوميات والأديان، لتصبح جزءًا لا يتجزأ من عقيدة الدولة الروسية وقوانينها ومنظومتها.

يتصدى كثير من المفكرين الروس لهذا التيار الفاشي، ويعارضون- بشكل منهجي- الدعاية التي تسهم- إسهامًا غير مباشر- في نمو الفاشية داخل المجتمع، وأحب في هذا المجال أن أشيد- على وجه الخصوص- بمبادرات البروفيسور فيرونيكا كراشينينيكوفا، التي كرست نفسها ووقتها لفضح هذا التيار، والتحذير منه.

قد يكون من المفيد، بل من المهم عربيًّا، الاهتمام بصعود الخطاب الفاشي في روسيا، والنقاش مع المسؤولين الروس بشأن آليات عمل مشتركة للتصدي له؛ لأن روسيا والعالمين العربي والإسلامي، حال تفجر أي صراع على أساس قومي- ديني، سيكونون الخاسر الأكبر من هذا الصراع، وستمتد آثاره إلى المنطقة كلها. ربما يجد البعض في هذا الوصف مبالغة، لكن هذه القضايا الحساسة لا بد من التعامل معها بأقصى درجات الحيطة والحذر، مهما بدت نسبة حدوثها ضعيفة.

يعتقد بعض الباحثين والسياسيين في الغرب أن تفجر الصراع القومي- الديني في روسيا، أمر لا مفر منه بعد بوتين، وقد خرجت بالفعل كثير من الدراسات التي تتحدث عن “مستقبل روسيا” وفق التصورات التي وضعها بريجينسكي في كتابه الشهير “رقعة الشطرنج الكبرى”، بشأن تقسيم روسيا إلى عدة مقاطعات. هذه الأفكار خطيرة، وتبدو ساذجة، وسطحية، وغير مسؤولة. شيوع الفوضى في بلد مثل روسيا، مع ما تمتلكه من موارد، وأسلحة تقليدية وغير تقليدية، لن يمكن السيطرة عليه، وستُقسَّم البلاد وفق تصورات رغبوية وضعها السيد بريجينسكي، المدفوع- إلى حد كبير- بإرثه البولندي الذي يحمل كثيرًا من الكراهية التاريخية المتأصلة تجاه روسيا. سيكون لأي فوضى داخل روسيا تأثير كارثي في العالم أجمع، وضرب للتوازنات الجيوسياسية، والإضرار بمصالح الغرب، قبل روسيا نفسها.

ما ورد في الدراسة يعبر عن رأي الكاتب ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير


شارك الموضوع