حدد النزاع العربي -الإسرائيلي، علاقات إسرائيل مع معظم دول البلقان، وباستثناء رومانيا، قطعت دول المنطقة علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل، حتى عام 1990، لكن إسرائيل تمكنت من إقامة علاقات جيدة مع كرواتيا وألبانيا ومقدونيا الشمالية والجبل الأسود، ومنذ عام 2020 (بعد توقيع اتفاقات إبراهيم)، بدأ التطبيع مع صربيا وكوسوڨو. وبعد اعتراف إسرائيل بالأخيرة، صارت تملك علاقات دبلوماسية جيدة مع جميع دول البلقان، وأصبحت المنطقة هي ساحة لإسرائيل لتعزيز علاقاتها الدبلوماسية.
تاريخيًّا كان لإسرائيل علاقة جيدة ومتشابكة مع بعض دول البلقان، ارتكزت على الإجراءات التي اتخذها سكان هذه المنطقة لإنقاذ اليهود خلال الهولوكوست. فالعلاقات الوثيقة بين إسرائيل وصربيا قائمة على مقاومة الصرب للنازيين خلال الحرب العالمية الثانية، وعام 1999، انتقد وزير الخارجية الإسرائيلي آنذاك أرييل شارون قصف الناتو ليوغوسلاڨيا، مُعتبرًا الصرب “أصدقاء تقليديين لإسرائيل”. وبالمثل، تتمتع إسرائيل وألبانيا بعلاقات دافئة تاريخيًّا، وتستند- جزئيًّا- إلى حقيقة أن ألبانيا هي الدولة الأوروبية الوحيدة التي احتلتها دول المحور، وكان فيها أكبر عدد سكان يهود في نهاية الحرب العالمية الثانية مقارنة بما كانت عليه قبل الحرب. وقد وفر الألبان المأوى لكل من اليهود الألبان واليهود من البلدان المجاورة، وفي المقابل، استقبلت إسرائيل اللاجئين الألبان من كوسوڨو خلال حرب في عام 1999.
تدعم إسرائيل العلاقات الثنائية، لا سيما مع الدول الأعضاء في الناتو، أو الاتحاد الأوروبي، وهما منظمتان مهمتان من الناحية الإستراتيجية للنفوذ الإسرائيلي في الشرق الأوسط، ويمثل الاتحاد الأوروبي شوكة في جانب إسرائيل بشأن القضية الفلسطينية بصفته مؤيدًا لحل الدولتين ومعارضًا للمستوطنات الإسرائيلية، ومنذ عام 2011، بذلت إسرائيل جهودًا لكسب دعم دول البلقان في الاتحاد الأوروبي، بعدما تدهورت العلاقات بين إسرائيل والاتحاد تدهورَا كبيرَا، بعد قرار أوروبي عام 2015 بوضع علامات على منتجات المستوطنات، وبالنظر إلى أن دول البلقان تدخل في فلك الاتحاد، وبعضها أعضاء بالفعل في الناتو، مثل ألبانيا، ولكل دولة تصويت ليس في الأمم المتحدة فحسب؛ بل في وكالاتها أيضًا، ما يعني أن كسب تأييد دول البلقان علانية في الأمم المتحدة، يمكّن الدبلوماسية الناعمة الإسرائيلية من أن تكون أداة ناجحة وذكية لتحقيق الأهداف السياسية، ويبدو أن جهودها كانت ناجحة، ففي عام 2012، امتنعت رومانيا وبلغاريا عن التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة على الاعتراف بفلسطين دولةً غير عضو.
إن تحول السياسة الخارجية لإسرائيل نحو البلقان قائم على البحث عن فرص لتعزيز مصالحها الخاصة، وهو في ذاته استغلال للفراغ الناجم عن عدم وجود نشاط للاعبين الغربيين في البلقان، فالولايات المتحدة منشغلة بأولويات أخرى مثل روسيا والصين، وتركت للاتحاد الأوروبي قيادة الإرشاد السياسي للبلقان، لكن الاتحاد مشغول أيضًا بالمشكلات في الداخل، ومن الواضح أن وباء كوفيد- 19، ومشكلات الهجرة، وأزمة منطقة شنغن، وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي قد تسببت في توتر مواقف الاتحاد الأوروبي بشأن عضوية دول البلقان، ويبدو أن مجتمعات هذه البلدان صارت مرهقة من الانخراط في إصلاحات لن تكافأ عليها أبدًا بالعضوية.
لذا تدور العلاقات بين إسرائيل ودول البلقان حول التعاون العسكري والاستخباراتي، والصفقات السياسية، والمشاركة في اتفاقيات الطاقة، وتقديم المساعدات والاستشارات في عمليات إدارة الأزمات. وقد شاركت إسرائيل في مناورات حلف شمال الأطلسي (الناتو) في البلقان، كما تعد الدولة شريكًا صناعيًّا مهمًّا في مشروعات مختلفة منذ التمثيل في الحلف عام 2016، وعلى سبيل المثال، في عام 2019، أسند الناتو إلى إسرائيل مناقصة حيوية بقيمة 4.5 مليار دولار.
ملف الطاقة وطريق الأنابيب، ملف إستراتيجي بين إسرائيل ودول البلقان؛ فالقرب الجغرافي بينهما، واكتشافات النفط والغاز في البحر المتوسط، دفعا الطرفين إلى الانخراط في إقامة شراكات قوية، وقد عبر ألكسيس تسيبراس، رئيس وزراء اليونان السابق (2015 – 2019)، عن رغبة زعماء البلقان في الغاز والتكنولوجيا الإسرائيلية. والأمر بالمثل لإسرائيل؛ فالوجود في البلقان أمر مغر ومنطقي جيوسياسيًّا، فالجغرافيا تضع كثيرًا من هذه البلدان على مفترق طرق بين الغرب والشرق. واليونان لديها منفذ بحري إلى كل من شمال إفريقيا والشرق الأوسط. وتربط صربيا شبه جزيرة البلقان بأوروبا الوسطى، وفتحت رومانيا وبلغاريا طريقًا على البحر الأسود، والباب أمام القوقاز وآسيا الوسطى.
أصبح من الواضح أن هناك تفاعلًا جيوسياسيًّا وأمنيًّا بين إسرائيل والبلقان، لا سيما فيما يتعلق بملف وجود الجماعات الجهادية وتدفق اللاجئين؛ فالإرهاب مصدر قلق أمني لإسرائيل، خاصةً بعد هجوم بورغاس الإرهابي عام 2012 الذي أسفر عن مقتل خمسة سائحين إسرائيليين في بلغاريا؛ ما جعل إسرائيل منخرطة أمنيًّا- بشكل متزايد- بسبب مزاعم تهديد إيراني محتمل لمصالحها في المنطقة. وتشارك السفارات الإسرائيلية في البلقان- بشكل متزايد- المعلومات الاستخباراتية والخدمات اللوجستية والعسكرية مع الحكومات القائمة. وخلال قمة كرايوفا 2018، التي تضم بلغاريا ورومانيا وصربيا واليونان، شارك رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنيامين نتنياهو كضيف شرف. وكانت هذه أول مرة يحضر فيها هذا المنتدى زعيم أجنبي، وأثنى نتنياهو على التعاون الاستخباراتي بين دول البلقان وإسرائيل.
إلى جانب ذلك، كثف جيش الدفاع الإسرائيلي (IDF)، وسلاح الجو الإسرائيلي (IAF) تعاونهما مع بعض الدول في المنطقة، وذلك عبر تعزيز التعاون العسكري مع بلغاريا ورومانيا واليونان من خلال حثها على فتح مجالها الجوي أمام الطائرات الإسرائيلية، والأنشطة العسكرية، والتدريب المشترك، والتعاون في الصناعة العسكرية. وكان الجيش الإسرائيلي حريصًا على المشاركة في تقديم الدعم لألبانيا عام 2019، وكرواتيا عام 2020 عندما تعرضت الدولتان لزلزال شديد. كما شارك جيش الدفاع الإسرائيلي في عمليات البحث والإنقاذ، وعمليات التفتيش الطارئة لتقييم سلامة المباني المتضررة. كما ساهمت إسرائيل في بناء منازل جديدة لضحايا الزلزال.
هناك مشكلات آخرى أكثر تعقيدًا إلى جانب المخاوف الأمنية الرئيسية في البلقان، والوعود الاقتصادية للتطبيع مع إسرائيل، تتعلق بقضايا الدين، والعرق، وبناء الدولة وتنظيمها، وإضفاء الطابع المؤسسي، وتقنين الاقتصاد غير الرسمي، بالإضافة إلى جهود الاندماج مع الاتحاد الأوروبي في البلقان. فظاهرة مثل الاقتصاد غير الرسمي، تؤدي إلي الزيادة في العمالة الخفية في اقتصادات البلقان، ولها تكاليف اجتماعية وأمنية، وفي حين أن صربيا هي الاستثناء الوحيد، فإن كوسوڨو لديها أكثر من (80٪) من علاقات العمل مؤطرة بشكل غير رسمي، ووفقًا للسلطات الإسرائيلية، فإن لديها نحو (80.000) شخص ولدوا في رومانيا، بالإضافة إلى أن إسرائيل صارت موطنًا لكثير من الرومانيين غير اليهود الذين ذهبوا إلى هناك للعمل. وهذا إلى جانب عشرات الآلاف من الأشخاص الذين يحملون الجنسية المولدوڨية، أو من أصل مولدوڨي، ومعظمهم من اليهود الذين يعتبرون إسرائيل وطنهم. وفي عام 2019، أصبحت إسرائيل ثاني أكبر بلد للتحويلات المالية لمولدوڨا.
تبقى فوائد التعامل مع إسرائيل على وجه التحديد مُعلقة بالنسبة إلى معظم دول البلقان. ولا يعزز أيًّا من مصالحها الأساسية بشكل مُطلق في ظل وجود رغبة من لاعبين آخرين في المنافسة في المنطقة، مثل: تركيا، والإمارات العربية المتحدة، والمملكة العربية السعودية،وإيران. هذا إلى جانب متغيرات تتحكم في مستقبل العلاقات، مثل سياسات الولايات المتحدة تجاه المنطقة، فإذا ضغطت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن على صربيا بشكل أكبر للاعتراف بكوسوڨو، وتحمل قدر أكبر من المساءلة عن الجرائم السابقة ضد الإنسانية خلال الحرب، فإن إسرائيل قد تكون بين خيار صعب لموازنة العلاقة بين صربيا وكوسوڨو؛ فإذا قررت اختيار صربيا ستلحق الضرر بالعلاقات مع كل من كوسوڨو وألبانيا، وربما مع الولايات المتحدة كذلك، وإن قررت تعزيز العلاقات مع كوسوڨو فإنها ستحافظ بدرجة أكبر على علاقات هادئة مع أكبر حلفائها وأهمهم على حساب نفوذها في باقي البلقان.
ما ورد في المقالة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.