مقالات المركز

حدود النفوذ التركي في البلقان


  • 20 أغسطس 2021

شارك الموضوع

تُعد منطقة البلقان ذات أولوية بالنسبة إلى تركيا ليس فقط من الناحية السياسية، والاقتصادية، والجغرافية؛ ولكن أيضًا بسبب روابطها التاريخية، والثقافية، والإنسانية مع شعوب المنطقة. تتمتع منطقة البلقان بميزة إستراتيجية مهمة، بوصفها نقطة الوصل الجغرافي بين تركيا وبقية أوروبا، وبعد تفكك يوغوسلاڨيا، تغيرت فيها جميع التوازنات، حيث وصل عدم الاستقرار الذي نشأ عن هذه العملية إلى مستوى يهدد السلام الدولي. في تسعينيات القرن الماضي، كان على البلقان أن تعيش حروبًا مُدمرة، وتطهيرًا عرقيًا، ولم يكن بالإمكان تحقيق بيئة من الاستقرار كما هي اليوم إلا بعد حملة عسكرية دولية، وقيام دول حديثة بعدها، مثل: الجبل الأسود (عام 2006) وكوسوڨو (عام 2008)، وأصبحت حدود الدول المستقلة في المنطقة شبه مُحددة.

العلاقات التركية مع دول البلقان

يمكن تحديد أربعة محاور رئيسية للعلاقات بين دول البلقان وتركيا، وهي: (الحوار السياسي الرفيع المستوى، والأمن الإقليمي، والتكامل الاقتصادي، والحفاظ على الهياكل الاجتماعية المتعددة الأعراق والثقافات والأديان في المنطقة). وفي هذا الصدد، فإن آلية التعاون في جنوب شرق أوروبا (SEECP) لها أهمية بوصفها المبادرة المحلية الوحيدة ذات البعد الإقليمي، حيث قامت بناءً على مبادرة من بلغاريا عام 1996، وكانت تركيا عضوًا مؤسسًا فيها، وتضم الآن 12 عضوًا بعد انضمام سلوڨينيا وقد تولت تركيا رئاستها في الفترة بين عامي 2009 و2010، وتولت الرئاسة مجددًا عام 2020.

يتولى مجلس التعاون الإقليمي (RCC)، الذراع التنفيذية لـ (SEECP)، المهمة الرئيسية لتطوير التعاون الإقليمي في جنوب شرق أوروبا، وتساهم تركيا- بشكل كبير- في ميزانية المجلس، وتؤدي دورًا فعالًا في المشروعات الإقليمية المشتركة. كما طورت تركيا آلية عمل ثلاثية بين البوسنة والهرسك، وصربيا، وكرواتيا، كإجراء مهم في ضوء بناء الثقة، وتعزيز السلام والاستقرار والازدهار في منطقة البلقان.

تركيا وصربيا

أسهمت آليات التعاون المستحدثة بين دول البلقان وتركيا في تحسين العلاقات، حيث شهد عام 2017 زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى صربيا، ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي يذهب فيها زعيم تركي إلى صربيا، لكنها كانت المرة الأولى التي يستقبل فيها الصرب مسؤولًا تركيًّا بحفاوة، حيث قام أردوغان بجولة في بلغراد مع الزعيم الصربي ألكسندر ڨوتشيتش، وزار مؤسسات تديرها تركيا في العاصمة الصربية، إلى جانب قلعة عثمانية قديمة.

كانت صربيا وتركيا على طرفي النقيض طوال الحرب الباردة، ودعمتا أطرافًا مختلفة في حرب البوسنة. وبالنسبة إلى الثقافة الشعبية التركية، كان مصطلح مثل “جزار صربي” مستخدمًا طوال التسعينيات، في إشارة إلى الفظائع التي ارتكبتها القوات الصربية في البوسنة. وفي غضون ذلك، بنى الصرب كثيرًا من هويتهم الوطنية الحديثة على شجب قرون من الحكم العثماني. وبالنسبة إلى القوميين الصرب، مثل ألكسندر ڨوتشيتش، فإن معركة كوسوڨو عام 1389، التي هزمت فيها القوات العثمانية الصرب، “هي لحظة محورية في الروح الوطنية لصربيا”.

بناءً على ما سبق، ما الذي حدث بالضبط؟ هل ستعود تركيا إلى البلقان بعد توقف دام قرنًا؟ هل عادت الإمبراطورية التركية العثمانية تحت قيادة أردوغان؟ لا. في الواقع، تختلف إستراتيجية أنقرة الفعلية في البلقان اختلافًا ملحوظًا عن هذه التقييمات التاريخية المباشرة. وأهم من ذلك أن قدرة تركيا على تنفيذ أي نوع من الإستراتيجيات التوسعية في البلقان هي ببساطة غير موجودة. نعم، لقد برزت تركيا كلاعب في البلقان في العقد الماضي، ونما نفوذها الاقتصادي والسياسي منذ التسعينيات، وصحيح أن أنقرة تنظر إلى البلقان على أنها جزء من مناطقها النائية الجغرافية والعاطفية، لكن القادة الأتراك يروجون لأسطورة القوة التركية في إطار الدعاية الداخلية. ومهما كانت أحلام القادة الأتراك بالمجد العثماني، فإنها لا تشكل أساس سياسة أنقرة في البلقان. في الواقع، تركيا ليست بديلاً، أو حتى الفاعل الاقتصادي الأكبر في المنطقة، فهي لا تسعى إلى إبعاد دول البلقان عن الاتحاد الأوروبي، كما أنها لا تعُد نفسها قوة موازنة لروسيا.

تبنى حزب العدالة والتنمية التركي، منذ توليه السلطة عام 2002، ثلاثة مناهج واسعة ومتتالية تجاه البلقان، وهي: (منهج الأوروبيين التقليدي، ومنهج “عثماني جديد”، ومنهج براغماتي في عهد أردوغان).

المرحلة الأولى: بدأت قبل صعود حزب العدالة والتنمية إلى السلطة عام 2002، حيث كانت سياسة تركيا في البلقان متوافقة مع سياسة حلفائها الغربيين، ولا سيما الولايات المتحدة. ولم يتغير هذا جذريًّا بعد عام 2002. في التسعينيات، تعززت شراكة أنقرة مع واشنطن في أثناء الحرب على يوغوسلاڨيا وبعدها. كما دعمت تركيا المسلمين البشناق بنشاط خلال الحرب في البوسنة، وفي أعقاب الصراع، كانت تركيا حريصة على أداء دور نشيط في استقرار المنطقة، وشجعت أيضًا مشاركة دول البلقان في الناتو، من خلال دعم محاولة مقدونيا الحصول على عضوية الناتو؛ لذا طور الجيش التركي علاقات وثيقة مع مقدونيا، وساعد على تدريب كوادر عسكرية هناك. وكانت تركيا أيضًا الدولة الثانية التي اعترفت باستقلال كوسوڨو عام 2008 (بعد الولايات المتحدة). كان نهج السياسة الخارجية لحزب العدالة والتنمية، بشكل عام في هذا الوقت، هو الحفاظ على علاقاته مع الدول المجاورة وتحسينها، وقد عُرفت بسياسة “صفر مشكلات”.

المرحلة الثانية من سياسة حزب العدالة والتنمية في البلقان، تبدأ من عام 2009، حيث تنامى نفوذ وزير الخارجية التركي آنذاك أحمد داود أوغلو، وتميزت هذه المرحلة بتكثيف التواصل الدبلوماسي التركي مع دول البلقان، الذي تخللته إشارات إلى الماضي العثماني، حيث قدم داود أوغلو في كتابه «العمق الإستراتيجي: موقع تركيا ودورها في الساحة الدولية»، فكرًا يدور حول هوية تركيا المركبة من هوية شرق أوسطية، وبلقانية، وآسيوية؛ لذا كان عليها- وفقًا له- أن تنهج سياسة خارجية تهدف إلى إرساء دعائم استقرار داخلي وإقليمي؛ وهو ما يترتب عليه ضرورة أن تُوظف تركيا موروثها التاريخي والجغرافي في سياستها الخارجية.

راهن داود أوغلو في كتابه بأن على أنقرة بناء سياستها في البلقان على أساس التحالف الوثيق مع البوشناق والألبان، وهما المجموعتان المسلمتان المهمتان في المنطقة. ورأى أن توثيق العلاقات مع هذه المجتمعات هو المفتاح لتوسيع نفوذ تركيا في المنطقة. ولكن، في إطار السياسة الفعلية، طور أوغلو علاقات ليس فقط مع البوسنة وألبانيا؛ بل مع مقدونيا وصربيا أيضًا.

كانت سياسة داود أوغلو التي تحاول الجمع بين الأضداد في البلقان ذات حدين؛ فمن ناحية، عززت الدبلوماسية والمبادرات الثقافية المكثفة من مكانة تركيا، وولدت مشاعر إيجابية بين النخب البلقانية، ولكن من ناحية أخرى، لم تتحول البلقان إلى “الفناء الخلفي” لتركيا، على الرغم من أحلام داود أوغلو، فالدور التركي الثقافي الكبير لم يتحول إلى تأثير سياسي، حيث لم يكن هناك صدى للفكر العثماني خارج المجتمعات الإسلامية في البلقان، ولم تكن اللغة التركية لغة مشتركة لسكان المنطقة.

المرحلة الثالثة والأخيرة من إستراتيجية حزب العدالة والتنمية في البلقان تمثل نهجًا أكثر واقعية. فمنذ مغادرة داود أوغلو منصبه العام في عام 2016، خفضت تركيا وتيرة وشدة نشاطها الإقليمي ومبادراتها الدبلوماسية. وقد استبدلت بذلك الأمر التركيز على علاقات اقتصادية أكبر مع البلقان.

في 9 يوليو (تموز) 2018، أقام أردوغان مراسم أداء اليمين الرئاسية في أنقرة، وبينما تجاهل معظم القادة الأوروبيين الحدث، شغل رؤساء دول وحكومات من بلغاريا ومقدونيا والبوسنة وألبانيا وكوسوڨو وصربيا مقاعد الصف الأول في احتفال تنصيب الرئيس التركي. كما شهد افتتاح مطار إسطنبول في أكتوبر (تشرين الأول) 2018، دعوة شخصية لقادة ألبانيا وكوسوڨو ومقدونيا والبوسنة وبلغاريا وصربيا، وفي العام نفسه حدثت وساطة تركية بين صربيا وكوسوڨو لحل نزاع حدودي وجمركي؛ وهو ما أسهم في تعزيز العلاقات التجارية والاقتصادية بين دول البلقان وتركيا.

العلاقات التجارية بين تركيا ودول البلقان

وقد تضاعف حجم التجارة بين تركيا ودول البلقان، تقريبًا بمقدار عشرة أضعاف خلال الفترة من 2000 إلى 2019، ليرتفع من 2.2 مليار دولار إلى نحو 20 مليار دولار، وبلغت الصادرات التركية إلى المنطقة 10 مليارات دولار، يذهب ثلثها إلى صربيا. في الفترة نفسها، سعت الشركات التركية وراء فرص الاستثمار المباشر في الاتصالات السلكية واللاسلكية، والبناء، والنقل، والتمويل في البلقان.

توفر مؤشرات الواردات والصادرات والاستثمارات الأجنبية المباشرة (FDI) لدول البلقان، مع أن هذه المؤشرات الثلاثة لها حدودها في الاستنتاج، بيانات كافية عن حجم التعاون الاقتصادي مع تركيا، حيث تتمتع الأخيرة بمزايا القرب الجغرافي؛ مما يسمح بتخفيض تكاليف النقل، فضلاً عن التشابه الحالي في عادات الاستهلاك. كما وقعت تركيا اتفاقيات تجارة ثنائية حرة مع ألبانيا، والبوسنة والهرسك، وكوسوڨو. ومع ذلك، لا تؤدي تركيا دورًا مهمًّا في اقتصادات الدول ذات الأغلبية المسلمة في البلقان، فعلى سبيل المثال، تتصدر إيطاليا الصادرات إلى ألبانيا بنسبة تساوي صادرات البلدان الثلاثة التالية (تركيا، واليونان، وألمانيا) مجتمعة، تحتل تركيا المرتبة الثانية في الترتيب، لكنها أقل بكثير مقارنة بإيطاليا. ومن حيث الاستثمارات الأجنبية المباشرة، تمتلك سويسرا أعلى معدلات الاستثمار الأجنبي المباشر في ألبانيا، تليها هولندا، وكندا، وإيطاليا، وتحتل تركيا المرتبة الخامسة فقط. أما ألمانيا فتستحوذ على معظم الصادرات إلى كوسوڨو، تليها تركيا (تشكل 1.8٪ فقط من صادرات كوسوڨو) والصين، وإيطاليا. وسجلت ألمانيا والصين أعلى معدلات الاستثمار الأجنبي المباشر في كوسوڨو، في حين حلت تركيا في المرتبة الثالثة. على عكس ألبانيا وكوسوڨو، اللتين لديهما تبادل تجاري نسبي مع تركيا، لا تتمتع البوسنة والهرسك بمثل هذه المستويات من التجارة. فالبوسنة والهرسك لديها كثير من الشركاء التجاريين، مثل ألمانيا، وكرواتيا، وصربيا، وإيطاليا، في حين أن تركيا ليست ذات أهمية في حجم التجارة الإجمالي للبوسنة والهرسك، حيث تحتل المرتبة السادسة في الصادرات إليها، والثامنة في الواردات. إضافة إلى ذلك، تؤدي تركيا أيضًا دورًا ضئيلًا في الاستثمارات الأجنبية المباشرة للبوسنة والهرسك، حيث تحتل المرتبة الثانية عشرة.

ارتبطت تركيا في الواقع مع الدول ذات الأغلبية المسلمة في البلقان من خلال الاستثمار في مشروعات ذات صخب إعلامي، مثل الطرق السريعة، والمستشفيات، والمدارس، والمساجد، والجسور، وترميم المباني من العهد العثماني. لكن التأثير السياسي لتركيا يظل ثانويًّا؛ فالنفوذ السياسي الروسي في البلقان ما زال يملك القوة والتأثير، وعلى الرغم من علاقات تركيا المتنامية مع روسيا، لا يوجد تنسيق تركي- روسي في البلقان. وفي الآونة الأخيرة، أيدتا رؤى مختلفة. ولم يتماشى اهتمام تركيا بالمنطقة مع مشروع روسيا الثقافي والسياسي الخاص بمنطقة البلقان. باختصار، علاقة تركيا مع دول البلقان معقدة ومتعددة المستويات، لكن هدفها ليس الهيمنة على الإقليم، عبر منافسة الإتحاد الأوروبي، أو روسيا هناك؛ بل تريد تركيا أن تؤخذ مصالحها في البلقان على محمل الجد، وتخشى من حدوث هيمنة يونانية على البلقان، لا سيما أن المنطقة بمنزلة جسر بين تركيا وأوروبا، وهي منطقة ذات أهمية حيوية لاقتصاد تركيا، والطاقة، والنقل، والسياحة. كما تمثل عناصر الأمن القومي، والهجرة، وأمن الحدود، أهمية قصوى بالنظر إلى أن الصراعات في البلقان تسببت في موجات من الهجرة الجماعية التي تشكل تهديدًا للمصالح التركية.

ما ورد في المقالة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع