مقالات المركز

مستقبل المحكمة الجنائية الدولية في ظل الصراع الروسي – الأمريكي


  • 30 مارس 2023

شارك الموضوع

في الآونة الأخيرة، عادت رغبة غير مسبوقة في إخضاع السياسة للإجراءات القضائية الدولية. ومن المؤكد أن انتهاكات حقوق الإنسان، وجرائم الحرب، والإبادة الجماعية، والتعذيب، قد شوهت العصر الحديث، لكن منطق “الولاية القضائية الدولية” انتشر بسرعة غير عادية، ولم يخضع للنقاش المنهجي، ويرجع ذلك- جزئيًّا- إلى الشغف المخيف لمناصريه. ويكمن الخطر في دفع جهود “العدالة” إلى أقصى درجات المخاطرة بإحلال استبداد القضاة باستبداد الحكومات. ومن الناحية التاريخية، غالبًا ما أدت دكتاتورية الفاضلين إلى محاكم التفتيش، ومطاردة السحرة، والتطهير العرقي.[1]

يؤكد مبدأ الولاية القضائية العالمية أن بعض الجرائم شنيعة، ولا ينبغي لمرتكبيها أن يفلتوا من العدالة من خلال التذرع بمذاهب الحصانة السيادية، أو الطبيعة المقدسة للحدود الوطنية. وظهر نهجان محددان لتحقيق هذا الهدف؛ الأول: يسعى إلى تطبيق إجراءات العدالة الجنائية المحلية على انتهاكات المعايير العالمية، التي يتجسد بعضها في اتفاقيات الأمم المتحدة، من خلال السماح للمدعين العامين الوطنيين بإحضار الجناة إلى ولاياتهم القضائية من خلال تسليم المجرمين من بلدان ثالثة. والنهج الثاني هو المحكمة الجنائية الدولية (ICC)، والمعاهدة التأسيسية التي أُنشئت عقب مؤتمر عُقد في روما يوليو 1998، ووقعت عليها 95 دولة، بما في ذلك معظم الدول الأوروبية. في 31 ديسمبر 2000، وقع الرئيس بيل كلينتون على معاهدة المحكمة الجنائية الدولية، لكنه أشار إلى أنه لن يقدمها لموافقة مجلس الشيوخ، ولن يوصي بأن يقوم خليفته بذلك.

يعد مفهوم الولاية القضائية العالمية في ذاته حديث العهد؛ فالطبعة السادسة من قاموس بلاكس لو، التي نُشرت عام 1990، لا تحتوي حتى على المصطلح. وأقرب مفهوم مشابه مدرج هو (Hostes humani generis) (“أعداء الجنس البشري”). حتى وقت قريب، طُبِّقَ المصطلح الأخير على القراصنة والخاطفين وغيرهم من الخارجين عن القانون الذين ارتُكبت جرائمهم- عادة- خارج أراضي أي دولة. والفكرة القائلة بأن رؤساء الدول وكبار المسؤولين الحكوميين يجب أن تكون لهم المكانة نفسها التي يتمتع بها الخارجون عن القانون أمام محكمة العدل هي فكرة جديدة تمامًا.[2]

في أعقاب الهولوكوست، وكثير من الفظائع التي ارتكبت منذ ذلك الحين، بُذلت جهود كبيرة لإيجاد معيار قضائي للتعامل مع هذه الكوارث: محاكمات نورمبرغ (1945- 1946)، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948)، واتفاقية الإبادة الجماعية (1948)، واتفاقية مناهضة التعذيب (1988). وألزم القانون الختامي لمؤتمر الأمن والتعاون في أوروبا، الذي وقعه الرئيس جيرالد فورد، نيابة عن الولايات المتحدة، في هلسنكي عام 1975، الدول الخمس والثلاثين الموقعة بمراعاة بعض حقوق الإنسان المنصوص عليها، وإخضاع المنتهكين للضغوط التي يتم من خلالها الحفاظ على التزامات السياسة الخارجية بشكل عام. وأصبح القانون النهائي واحدًا من عدة أسلحة نُزعت من خلالها الشرعية عن الحكم الشيوعي، وقُوِّضَ في نهاية الأمر.

لكن لم تُصوَّر أي من هذه الخطوات في ذلك الوقت على أنها إنشاء “اختصاص قضائي عالمي”. ومن غير المحتمل أن يعتقد أي من الموقعين على اتفاقيات الأمم المتحدة، أو وثيقة هلسنكي النهائية، أنه من الممكن أن يستخدمها القضاة الوطنيون أساسًا لطلبات تسليم المجرمين فيما يتعلق بالجرائم المزعومة المرتكبة خارج نطاق اختصاصهم. ومن شبه المؤكد أن واضعي الصياغة كانوا يعتقدون أنهم كانوا يذكرون المبادئ العامة، وليس القوانين التي ستُنْفِذُها المحاكم الوطنية. على سبيل المثال، أشارت إليانور روزفلت، أحد صائغي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، إلى الإعلان على أنه “معيار مشترك”. ويؤكد هنري كيسنجر- بصفته أحد المفاوضين على الوثيقة الختامية لمؤتمر هلسنكي- أن الإدارة التي مَثَّلَها اعتبرت الوثيقة في الأساس سلاحًا دبلوماسيًّا لإحباط الشيوعيين، ومحاولة للضغط على الشعوب السوفيتية. حتى فيما يتعلق بالتعهدات الملزمة، مثل اتفاقية الإبادة الجماعية، لم يُعتقد قط أنهم سيعرضون القادة السابقين والمستقبليين لأمة ما للمقاضاة من جانب القضاة الوطنيين لدولة أخرى، حيث لم تحدث الانتهاكات. ولم يُقل، حتى وقت قريب، أن إعلانات الأمم المتحدة المختلفة أخضعت القادة السابقين والمستقبليين لإمكانية المحاكمة من جانب قضاة محليين في بلدان ثالثة، دون ضمانات الإجراءات القانونية الواجبة، أو قيود مؤسسية.[3]

لذلك، فإن مذكرتي التوقيف بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ومفوضة حقوق الطفل في الرئاسة الروسية ماريا بيلوفا، الصادرتين عن الدائرة التمهيدية الثانية في المحكمة الجنائية الدولية، في 17 مارس/ آذار 2023، تُعيدنا إلى ضرورة أن أي نظام عالمي يجب أن يحتوي على إجراءات، ليس فقط لمعاقبة الأشرار؛ ولكن أيضًا لتقييد الصالحين. يجب ألا تسمح باستخدام المبادئ القانونية كأسلحة لتصفية حسابات سياسية؛ لذلك يجب الإجابة عن هذه الأسئلة: ما القوة القضائية على الدول غير الأعضاء في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية؟ ما ضمانات عدم تسييس المحكمة الجنائية الدولية؟ وكيف ستؤثر الملاحقات القضائية في أهداف السياسة الخارجية الأساسية الأخرى ومصالحها؟

القوة القضائية على الدول غير الأعضاء في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية

فقط الدول التي تصدق على المعاهدات ملزمة بمراعاتها، لكن مع مذكرات التوقيف بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فإن المحكمة الجنائية الدولية تهدف إلى إخضاع مواطني الدول غير الأطراف لولايتها القضائية، لكن الجنائية الدولية لها ولاية قضائية على الأشخاص وليس الدول، فالدول غير الأطراف ليست ملزمة بفعل أي شيء بموجب المعاهدة؛ لذلك لا يزعم نظام روما الأساسي إلزام غير الأطراف، مع أن الدول غير الأطراف قد تتعاون أو تدافع عن مصالحها الخاصة التي قد تتأثر بقضية مُتداولة، وبهذا يصبح اتهام الأفراد بسلوك يتعلق بتنفيذ سياسة رسمية، والفرق بين تأكيد الولاية القضائية على الأفراد وعلى الأمة نفسها، يصبح أقل وضوحًا. ويمكن القول إن القرار المتعلق بالسياسة، وليس السلوك الفردي، هو- في الواقع- موضوع الخلاف.

يُغطي نظام روما الأساسي جرائم محظورة بالفعل بموجب القانون الدولي، أو بموجب مفهوم “الولاية القضائية العالمية”، أو كليهما؛ لذلك قد تؤكد جميع الدول الولاية القضائية لمحاكمة الأشخاص على هذه الجرائم. ومع أن المحكمة الجنائية الدولية تمارس الولاية القضائية الجماعية على أعضائها فقط، ويمكن لأي منها بشكل مستقل أن تؤكد الولاية القضائية على المتهمين بموجب نظرية “الولاية القضائية العالمية”، مثل محاكمات نورمبرغ، لكن على النقيض، فإن وجود “الولاية القضائية العالمية” كان محل نزاع من جانب بعض الأكاديميين، الذين يجادلون بأن ممارسات المحكمة الفعلية لا توفر الدعم الكبير لهذا المفهوم.[4]

نظام روما الأساسي لا يعتمد- بالكامل- على الولاية القضائية العالمية؛ ويجب استيفاء بعض الشروط المسبقة للولاية القضائية، بما في ذلك موافقة الدولة التي وقعت الجريمة على أراضيها، أو موافقة الدولة التي يحمل المتهم جنسيتها، لكن روسيا وأوكرانيا ليستا طرفًا في معظم المعاهدات التي تشكل الأساس لتعريفات الجرائم في نظام روما الأساسي؛ مما يعني أن مواطني البلدين لا يخضعون بالفعل للحظر الذي سيكون للمحكمة الجنائية الدولية الولاية القضائية عليه.

تسييس المحكمة الجنائية الدولية

قد تسمح عيوب المحكمة الجنائية الدولية باستخدامها من جانب بعض الدول لتوجيه تهم ملفقة. لكن مبدأ “التكامل” سيضمن أن المحكمة الجنائية الدولية لا تمارس الولاية القضائية على قضية تتعلق بمواطن ما، إلا إذا كانت دولته غير راغبة، أو غير قادرة على التحقيق في الادعاءات بنفسها.

كما يتمتع مكتب المدعي العام، وهو جهاز تابع للمحكمة الجنائية الدولية، ولا يخضع لسيطرة أي سلطة سياسية منفصلة، بسلطة تقديرية غير مقيدة لبدء القضايا، مما قد يؤدي إلى “محاكمات مسيسة”. والنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية لا يحتوي على بعض القيود على المدعي العام، بما في ذلك شرط أن المدعي العام يجب أن يسعى إلى الحصول على إذن من دائرة ما قبل المحاكمة، أو بند لعزل المدعي العام عن طريق تصويت الدول الأطراف.

ويُقال إن استقلالية المدعي العام أمر حيوي لضمان نتائج عادلة وخالية من السيطرة السياسية، لكن الولايات المتحدة في مؤتمر روما ضغطت من أجل دور لمجلس الأمن الدولي لفحص المدعين العامين، ومنع الملاحقات القضائية المسيسة. ورأت غالبية الدول الممثلة في مؤتمر روما أن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، بهيكله وأعضائه الدائمين، سيشكل خطرًا أكبر يتمثل في “تسييس” محاكمات المحكمة الجنائية الدولية؛ ومن ثم ضمان الإفلات من العقاب على بعض الجرائم في أثناء مقاضاة الآخرين بناءً على المصالح الوطنية للدول القوية.

وإذا لم تستطع المحكمة الجنائية الدولية تأكيد اختصاصها على الدول غير الأطراف، فيمكن لما يسمى “الأنظمة المارقة” عزل نفسها عن متناول المحكمة الجنائية الدولية ببساطة من خلال عدم التصديق على نظام روما الأساسي. والغرض من إنشاء المحكمة الجنائية الدولية سيتم تخريبه؛ لذا اقترحت الولايات المتحدة حل هذه المشكلة من خلال إنشاء دور إلزامي لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في تقرير متى يجب على المحكمة الجنائية الدولية تأكيد الولاية القضائية، لكن غالبية الدول الأخرى رفضت اعتماد هذه القاعدة على الأسس المعلنة؛ لأنها ستعكس التفاوت في القوى بين الدول؛ ما يجعل المحاكمة مُسيسة.

التعدي على صلاحيات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة

يمنح النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية المحكمة الجنائية الدولية سلطة تعريف جريمة “العدوان” والمعاقبة عليها، وهي من اختصاص مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة فقط بموجب ميثاق الأمم المتحدة، علمًا بأن جميع الدول الأطراف ستتاح لها الفرصة للتصويت على تعريف للعدوان بعد أن تكون المعاهدة سارية المفعول مدة سبع سنوات، ويجب أن يتوافق هذا التعريف مع ميثاق الأمم المتحدة، ومن ثم الحفاظ على دور مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. فالمحكمة الجنائية الدولية توفر فقط محاكمة الأشخاص المتهمين بارتكاب “عدوان” بموجب القانون الدولي. ومع ذلك، عدم وجود اتفاق بين الدول فيما يتعلق بتعريف العدوان يشير إلى أن أي تعريف يتم تبنيه فقط من جانب غالبية الدول الأعضاء في المحكمة الجنائية الدولية ولا يكون له أساس كافٍ في القانون الدولي ليكون ملزمًا باعتباره قانونًا. وتبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارًا عام 1974، تناول تعريف العدوان، لكن مجلس الأمن احتج به مرة واحدة فقط. ويحتوي التعريف على تعداد للجرائم المدرجة على أنها عدوان محتمل، لكنه يترك الحُكم لمجلس الأمن.

الملاحقات القضائية ومصالح السياسة الخارجية

خلال مارس/ آذار 2023، منع البنتاغون إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن من مشاركة الأدلة التي جمعتها وكالات الاستخبارات الأمريكية بشأن الجرائم الروسية المزعومة في أوكرانيا مع المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، ويعارض القادة العسكريون الأمريكيون مساعدة المحكمة في التحقيق مع الروس؛ لأنهم يخشون وضع سابقة قد تساعد على تمهيد الطريق أمامها لمحاكمة الأمريكيين.[5]

في ديسمبر/ كانون الأول، عدل الكونغرس الأمريكي القيود القانونية القائمة منذ فترة طويلة على المساعدة الأمريكية للمحكمة الجنائية الدولية، مما سمح لواشنطن بالمساعدة في تحقيقاتها، والملاحقات القضائية النهائية المتعلقة بالحرب في أوكرانيا، ولكن داخل إدارة بايدن، لا يزال الخلاف السياسي قائمًا بشأن ما إذا كان يجب القيام بذلك. وقال المسؤولون إن مجلس الأمن القومي عقد اجتماعًا على مستوى مجلس الوزراء في محاولة لحل النزاع، لكن وزير الدفاع لويد أوستن استمر في الاعتراض.

وانضم كثير من الديمقراطيات إلى المحكمة الجنائية الدولية، بما في ذلك حلفاء أمريكا المقربون، مثل بريطانيا، لكن الولايات المتحدة ظلت بعيدة منذ فترة طويلة؛ خشية أن تحاول المحكمة ذات يوم محاكمة الأمريكيين. كما اتخذت إدارات كلا الطرفين، مثل الولايات المتحدة وروسيا، موقفًا مفاده أن المحكمة يجب ألا تمارس الولاية القضائية على المواطنين من دولة ليست طرفًا في المعاهدة، حتى عندما تحدث جرائم الحرب المزعومة في أراضي دولة دولة وقعت عليها، مثل أوكرانيا، وأفغانستان.

وسبق أن هدد جون بولتون، مستشار الأمن القومي للرئيس الأمريكي دونالد ترمب، بأن واشنطن ستفرض عقوبات على القضاة والمدعين العامين في المحكمة الجنائية الدولية إذا شرعوا في التحقيق في جرائم حرب يُزعم أن الأمريكيين ارتكبوها في أفغانستان.[6]

وقال بولتون: “سنمنع القضاة والمدعين العامين من دخول الولايات المتحدة، وسنفرض عقوبات على أموالهم في النظام المالي الأمريكي، وسوف نحاكمهم في النظام الجنائي الأمريكي. وسنفعل الشيء نفسه مع أي شركة أو دولة تساعد في تحقيق المحكمة الجنائية الدولية بشأن الأمريكيين”.

وقالت المتحدثة باسم البيت الأبيض سارة ساندرز إن تصريحات بولتون جاءت بعد أن أبلغت المحكمة الجنائية الدولية واشنطن بأنها “على وشك” إعلان قرار بشأن التحقيقات المحتملة في أفغانستان.[7]

في الواقع، كانت المحاكمة تهدف إلى إجراء تحقيق في الفظائع المزعومة التي ارتكبتها طالبان وقوات الحكومة الأفغانية، لكنها قد تغطي أيضًا الحالات التي يُتهم فيها المحققون الأمريكيون بتعذيب المعتقلين داخل أفغانستان، وفي “المواقع السوداء” في بولندا، ورومانيا، وليتوانيا، لكن إدارة ترمب أعلنت أنها “ستستخدم أي وسيلة ضرورية لحماية مواطنيها ومواطني حلفائها من الملاحقة الجائرة من جانب هذه المحكمة غير الشرعية”. وقال بولتون: “الرئيس (أي ترمب) لن يسمح لبيروقراطيين أجانب بملاحقة المواطنين الأمريكيين، ولن يسمح للدول الأخرى بإملاء وسائلنا للدفاع عن النفس”.

وللولايات المُتحدة تاريخ مُتناقض مع المحكمة الجنائية الدولية، فموقف البنتاغون مِن حرب أوكرانيا، وموقف إدارة ترمب من التحقيق بشأن أفغانستان ليس استثناء، بل قد يكون قرار وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن منع مشاركة أي أدلة مع المحكمة مبنيًّا على سابقة عام 1993، عندما أُنشئت محكمة دولية لمجرمي حرب البلقان بطلب من واشنطن، قبل أن تطلب المحكمة التحقيق مع القادة السياسيين والعسكريين الأمريكيين بشأن السلوك الإجرامي المزعوم.

ومع أن المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة اختار عدم متابعة التحقيق- على أساس غامض يتمثل في عدم القدرة على جمع الأدلة- فقد يرغب أي مدعِ عام- في وقت لاحق- في تناول المسألة كموضوع صالح للولاية القضائية العالمية.

لذا، في مايو/ أيار 2002، تخلت الولايات المتحدة رسميًّا عن أي التزامات أمريكية تجاه المحكمة الجنائية الدولية، وخصوصًا نظام روما الأساسي. وأعلن الرئيس جورج بوش قانون حماية العسكريين الأمريكيين (ASPA) لتقييد تعاون الحكومة مع أي محاكمة دولية. وفي العام نفسه، هددت واشنطن باستخدام حق النقض ضد مشروع قرار للأمم المتحدة لتمديد مهمة حفظ السلام في البوسنة؛ لأن أعضاء مجلس الأمن رفضوا إضافة ضمان الحصانة الكاملة للأفراد الأمريكيين إلى اختصاص المحكمة الجنائية الدولية، وهي خطوة التي أثارت معارضة شديدة بشأن جدوى تلك المحكمة، وأثار ذلك أيضًا بعض المخاوف بشأن مستقبل عمليات الأمم المتحدة لحفظ السلام.[8]

في نهاية المطاف، تمكن مجلس الأمن والوفد الأمريكي من التوصل إلى حل وسط، واعتمدوا بالإجماع قرارًا يطالب المحكمة الجنائية الدولية، لفترة أولية مدتها عام واحد، بتأجيل أي محاكمة لأشخاص يشاركون في جهود حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة من مواطني دول ليست طرفًا في المحكمة الجنائية الدولية. والحل الوسط الذي توصل إليه مجلس الأمن لم يوفر حصانة دائمة للجنود والمسؤولين الأمريكيين من الملاحقة القضائية من جانب المحكمة الجنائية الدولية. بدلًا من ذلك، استندت إلى المادة 16 من نظام روما الأساسي لتأجيل الملاحقات القضائية المحتملة عامًا واحدًا. وجادلت بعض الدول الأطراف في نظام روما الأساسي، وأنصار آخرون، بأن المادة 16 كان المقصود منها فقط أن تنطبق على حالات محددة، ولم يكن القصد منها السماح بإعفاء شامل لمواطني بلد معين. وتبنى مجلس الأمن الدولي قرارًا آخر يمدد التأجيل حتى عام 2004. ومع ذلك، أدت معارضة تمديد فترة التأجيل حتى عام 2005، في نهاية المطاف، إلى توصل الولايات المتحدة إلى اتفاقات ثنائية تمنع تسليم مواطني الولايات المتحدة من دول أخرى إلى المحكمة الجنائية الدولية.[9]

تمتعت الولايات المتحدة بسمعة طويلة في الإفلات من العقاب، ومنع أي تحقيق دولي في الحروب التي شنتها، لكن الآن، ومع الدفع بالمحكمة الجنائية الدولية ضد روسيا، قد يتعمق الخلاف مع الحلفاء، خصوصًا الأطراف في المحكمة، حيث شاركت بريطانيا في حربي “أفغانستان، والعراق”، بالإضافة إلى أن إسرائيل تتمتع بحماية كبيرة على جرائمها في حروبها المستمرة، واحتلالها اليومي المستمر للأراضي الفلسطينية، من خلال الضغوط التي تمارسها واشنطن على المحكمة، مثل التهديد بمنع المخصصات المالية عن أعضاء المحكمة الجنائية الدولية.

بالإضافة إلى تعريض حملات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، التي تواجه اتهامات مستمرة بانتهاك حقوق الإنسان، وعمليات اغتصاب جماعية، وسرقة منظمة، خصوصًا في إفريقيا، ولكنها تتمتع أيضًا بحصانة أمريكية؛ ما يجعل تفعيل دور المحكمة الجنائية الدولية إما انتقائيًّا ضد روسيا، وإما مقلقًا للحلفاء إذا فُعِّلَ دون منحهم الضمانات اللازمة بعدم الملاحقة، أو الانسحاب من نظام روما الأساسي.

مِن غير المتوقع أن يتضرر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بمذكرة التوقيف من المحكمة الجنائية الدولية؛ أولًا لأن روسيا ليست عضوًا في المحكمة، بالإضافة إلى أنه رئيس قوة كُبرى تملك ما يكفيها من القوة النووية، والردع العسكري والسياسي والاقتصادي ضد البلدان التي يمكن أن تتعرض لرئيس ضيف على أراضيها، لكن رمزية القرار تنقل الصراع العسكري في أوكرانيا إلى مستوى شخصي يستهدف رأس النظام في موسكو، ويخرب مسارات التسوية السياسية التي قد تُعقَد لحل الأزمة العسكرية، لا سيما أن مذكرة التوقيف صدرت بالتزامن مع المبادرة الصينية الدبلوماسية للحل؛ ما يعني أن واشنطن لا تحرق الجسور مع روسيا فحسب، بل تمتنع عن الحديث مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

مستقبل المحكمة الجنائية الدولية في ضوء الصراع العسكري الروسي- الأوكراني

لا تستطيع الولايات المتحدة التصويت في المحكمة الجنائية الدولية ما دامت أنها لا تصدق على قانون روما الأساسي. ولا يجوز لها ترشيح مواطنين أمريكيين للعمل قضاة، أو الإدلاء بأصواتهم في انتخابات القضاة أو المدعي العام (أو لعزلهم)، أو التصويت على ميزانية المحكمة الجنائية الدولية، لكنها أصبحت قادرة على تعريف جريمة العدوان، أو إدراجها ضمن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية، وفي الوقت نفسه غير ملزمة باعتقال أي شخص ورد اسمه في طلب اعتقال مؤقت، وتسليمه إلى المحكمة الجنائية الدولية. وأيضًا عدم تقديم معلومات أو مستندات قد يؤدي الكشف عنها إلى الإضرار بمصالح أمنها القومي، ورفض الموافقة على إفشاء دولة طرف للمعلومات أو المستندات المقدمة لتلك الدولة بشكل سري. وأخيرًا، بصفتها دولة غير طرف، فإن الولايات المتحدة ليست ملزمة بالمساهمة في ميزانية المحكمة الجنائية الدولية، باستثناء، ربما بشكل غير مباشر ، الحد الذي قد تتضمن فيه الميزانية العادية للجمعية العامة للأمم المتحدة دعم المحكمة الجنائية الدولية؛ ما يعني أن المحكمة الجنائية الدولية أصبحت محكمة محلية أمريكية، ما يفرض ضرورة إعادة التفاوض على النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية لتجنب أوجه القصور والمخاطر، خاصةً التسييس. وحتى ذلك الحين، يمكن اللجوء إلى عدة بدائل، بعيدًا عن سياسات الولايات المتحدة، والامتثال لنظام قانوني مؤقت، ومن تلك البدائل ما يلي[10]:

  • أولًا: يشكل مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لجنة لحقوق الإنسان، أو لجنة فرعية خاصة؛ للإبلاغ كلما بدا أن الانتهاكات المنهجية لحقوق الإنسان تستدعي اتخاذ إجراء قضائي.
  • ثانيًا: عندما لا تكون الحكومة التي وقعت في ظلها الجريمة المزعومة تمثيلية بشكل شرعي، أو عندما يكون النظام القضائي المحلي غير قادر على الحكم على الجريمة، فإن مجلس الأمن ينشئ محكمة دولية خاصة، على غرار محاكم يوغوسلافيا، أو رواندا.
  • ثالثًا: يجب أن يحدد مجلس الأمن إجراءات هذه المحاكم الدولية ونطاق المحاكمة بدقة، ويجب أن يكون المتهم مؤهلًا لضمانات الإجراءات القانونية الواجبة الممنوحة في الولايات القضائية المشتركة.

بهذه الطريقة، يمكن إضفاء الطابع المؤسسي على الإجراءات المتفق عليها دوليًّا للتعامل مع جرائم الحرب، أو الإبادة الجماعية، أو الجرائم الأخرى ضد الإنسانية. بالإضافة إلى ذلك، سيتم تجنب النزعة الأحادية الأمريكية في السعي الحالي إلى تحقيق الولاية القضائية العالمية. ويمكن أن يهدد هذا السعي الهدف نفسه الذي طُوِّرَ المفهوم من أجله. في النهاية، قد يؤدي الاعتماد المفرط على الولاية القضائية العالمية إلى تقويض الإرادة السياسية للحفاظ على المعايير الإنسانية للسلوك الدولي الضرورية جدًّا لتهدئة أوقات العنف التي نعيشها.

ما ورد في المقالة يعبر عن رأي الكاتب ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير


شارك الموضوع