مقالات المركز

فاعلية العقوبات الأوروبية على روسيا


  • 22 فبراير 2023

شارك الموضوع

في أعقاب ضم روسيا شبه جزيرة القرم عام 2014، وتدخلها في الصراع في شرق أوكرانيا، فرض الاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة، وحلفاؤهما سلسلة من العقوبات على روسيا. وعادة ما يكون هُناك اهتمام بضمان أن تضر العقوبات أولئك الذين يخضعون للعقوبات بدرجة أكبر بكثير مما تفعل أولئك الذين بدؤوا العقوبات. وتم تجاهل أن تأثير العقوبات محدود من حيث الوقت؛ بسبب ميل المتضررين إلى التكيف، وإيجاد طرق للتغلب عليها. وفي حين يمكن اعتبار التأثير الاقتصادي للسياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي تجاه روسيا في الناتج المحلي الإجمالي للاتحاد الأوروبي إيجابيًّا، فإن تأثير هذه السياسات في اقتصادات دول الاتحاد داخليًّا يعد أمرًا آخر تمامًا يمكن تقييمه بأنه شديد السلبية.

مرة أخرى، ومنذ بدء النزاع العسكري الروسي مع أوكرانيا عام 2022، فرضت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي عقوبات جديدة على روسيا، مستهدفين ثلاثة محاور رئيسة، كالتالي:

  1. التوسع الدراماتيكي للعقوبات على أفراد روس محددين.
  2. سلسلة من العقوبات على البنوك الروسية الفردية، بما في ذلك – على سبيل المثال- قدرة الاتحاد الأوروبي المبالغة كثيرًا على فرض فصلها عن نظام (SWIFT)، وهو نظام المراسلة الدولي بين البنوك الذي يقع مقره في بلجيكا، ومن ثم يخضع لسلطة الاتحاد الأوروبي.
  3. عدم قدرة البنك المركزي الروسي على استخدام احتياطياته الدولية في عدد من بلدان العالم، أهمها: الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، والمملكة المتحدة، وكندا، واليابان، وأستراليا، وسويسرا.

على الرغم من الزخم الإعلامي المُرافق لفرض عقوبات غربية على روسيا منذ اندلاع الصراع المسلح في أوكرانيا، فإن قلة من الخبراء اهتموا بدراسة الأثر الذي ستحدثه هذه العقوبات في الغرب نفسه، وخاصةً الاتحاد الأوروبي، علمًا بأن تعقيد المتغيرات ذات الصلة بالصراع الروسي- الأطلسي يُصعب جدًّا التنبؤ بنتيجة العقوبات، لكن من شأن تقييم دقيق لهذه العقوبات أن يكون أداة لا تقدر بثمن لصانعي القرارات، خاصةً إذا كانت قرارتهم الأخيرة المتعلقة بالسياسة الخارجية لم تُراعِ التأثر الاقتصادي على المستوى الداخلي للدول، وعلى العالم كله.

تاريخيًّا، وبينما كانت الشيوعية تنهار، وافقت الدول الأوروبية على توقيع معاهدة ماستريخت التي تضمنت خلق إطار عمل موحد لتقوية الاتحاد الأوروبي، وكان سقوط الاتحاد السوفيتي في أواخر عام 1991 خطوة إلى الأمام نحو تحقيق التقارب بين الدول الأوروبية وسياساتها المشتركة وبين ما سيعرف بالاتحاد الروسي، وشهدت العلاقة بين الطرفين تطورات جيوستراتيجية تمثلت في تأثيرهما النسبي أحدهما في الآخر، وخاصةً في ظل توسع البناء السياسي الجديد للاتحاد الأوروبي ليضم ما كان يُعرف من قبل باسم البلدان “الشيوعية”، أو “الشرقية”، أو السوفيتية؛ لذا فقد الاتحاد الأوروبي جارًا لروسيا أصبح  في الوقت الحاضر؛ ولهذا فإن التعاون والتنسيق بينهما أمر لا مفر منه.

أتاح توسع الاتحاد الأوروبي نحو الشرق الفرصة لإعادة تقييم الإطار الإستراتيجي والقانوني للعلاقة الاقتصادية مع روسيا؛ لذا اتفق صانعو القرار الأوروبيون والروس في قمة بطرسبرج، عام 2003، على إنشاء الفضاء الاقتصادي المشترك، وهي خطوة نحو سوق أكثر انفتاحًا وتكاملًا بين روسيا والاتحاد الأوروبي. والغرض من هذا الفضاء الاقتصادي هو توفير الوسائل اللازمة لتجارة أكثر حُرية من خلال خلق فرص استثمار على أساس التكامل الاقتصادي، وإزالة الحواجز الجمركية، والتقارب التنظيمي، وتطوير البنية التحتية. ويهدف التقارب التنظيمي إلى السماح للوكلاء الاقتصاديين بالتعاون بموجب مجموعة مشتركة من القواعد في كثير من المجالات، من خلال سوق موسعة تضم أكثر من (600) مليون مستهلك في الاتحاد الأوروبي وروسيا. وحددت خريطة الطريق بشأن الفضاء الاقتصادي المشترك التي تم الاتفاق عليها (عام 2005) الأهداف العامة، ومجالات التعاون بين الاتحاد الأوروبي وروسيا على المديين القصير والمتوسط. كما حددت خريطة الطريق أيضًا حوارات بشأن قضايا إضافية، مثل: سياسات الصناعة والمؤسسات، والطاقة، والمنافسة، والاقتصاد الكلي، والخدمات المالية.

في قمة خانتي- مانسييسك، عام 2008، انطلقت مفاوضات بشأن اتفاقية جديدة بين الاتحاد الأوروبي وروسيا، من شأنها أن توفر إطارًا أكثر فاعلية للشراكة الإستراتيجية، مما يعكس التعاون المتزايد، ويتضمن التزامات مُلزمة قانونًا في المجالات السياسية، والأمنية، والاقتصادية، والبحثية، والتعليمية، ومجالات التجارة، والاستثمار، والطاقة.

في النصف الأول من عام 2014، وبعد التطبيق التدريجي لعقوبات الاتحاد الأوروبي على موسكو، نشأ نقاش سريع جدًّا بشأن التكاليف الاقتصادية، خاصة للدول الأوروبية. في البداية، ركز النقاش على العواقب السلبية لتعطيل التجارة. ولا جدال بين الاقتصاديين- إلى حد كبير- أن الحواجز الإضافية أمام التجارة والاستثمار، التي نشأت في هذه الحالة بسبب القيود المفروضة على صادرات بعض السلع، وكذلك القيود المالية، ستقلل من حجم التجارة والاستثمار الأجنبي؛ ومن ثم الإنتاج، والقيمة المضافة، والتوظيف لجميع الشركاء التجاريين داخل الاتحاد مع روسيا.

لذا، نجد اليوم تعاملًا سريعًا نحو تسوية أزمة النزاع المُسلح في أوكرانيا، بعيدًا عن لغة التصعيد العسكري، والتلويح بالعقوبات، خاصةً من الدول المركزية الفاعلة في الاتحاد الأوروبي، حيث أعلن قادة روسيا وألمانيا وفرنسا اتفاقًا على استمرار التواصل، وأكد كل من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والمستشار الألماني أولاف شولتز للرئيس الروسي فلاديمير بوتين ضرورة حل الصراع في أوكرانيا من خلال المفاوضات.

روسيا وألمانيا

جعلت بداية القرن الحادي والعشرين من روسيا أحد الشركاء التجاريين الرئيسين لألمانيا. ويوفر تعاونهم الواردات والصادرات لكلا الجانبين، والاستثمارات الأجنبية المباشرة، والموارد المالية، وجميع أنواع الخدمات، مثل التكنولوجيا الجديدة، ونقل المعرفة.

تحتل روسيا المركز السابع في قائمة الواردات الألمانية، وتعد موسكو هي السوق الحادية عشرة لصادرات السلع والخدمات. وبالنظر إلى الفترة من 2000 إلى 2012، من السهل تقييم الاتجاه التصاعدي في الواردات والصادرات بين البلدين. في عام 2000 بلغت قيمة الصادرات من روسيا إلى ألمانيا (9.2) مليار دولار، لتصل عام 2010 إلى (25.6) مليار دولار، ووصلت في عام 2012 إلى (34.9) مليار دولار. ويمكن ملاحظة الاتجاه نفسه فيما يتعلق بقيمة الواردات من (3.8) مليار دولار عام 2000 إلى (38.3) مليار دولار عام 2012.

في عام 2013 انخفضت التجارة بين ألمانيا وروسيا بنسبة (5.4٪)، بما في ذلك الصادرات الروسية، ويعود السبب الرئيس في انخفاض الأداء التجاري إلى السياق السياسي الصعب.

في هيكل الواردات الألمانية- الروسية، فإن أحد أهم العناصر هو إنتاج صناعة الطاقة، الذي يصل إلى (86.7٪). وبالمضي قدمًا، فإن مجموعات الصناعة الرئيسة الأخرى تشمل: صناعات السلع، وتمثل المرتبة الأولى من حيث الصادرات (نحو 55٪)، وصناعة المواد (الخام ونصف المصنعة)، التي تحتل المركز الثاني من حيث الصادرات (23.7٪)، والواردات وصناعات السلع الاستهلاكية، التي تمثل (18.1٪) من الصادرات.

تطور التعاون بين ألمانيا وروسيا ليس فقط في التجارة الخارجية؛ ولكن أيضًا في مجال الاستثمارات الأجنبية المباشرة. في السنوات الأخيرة، عززت ألمانيا دورها بوصفها مستثمرًا أجنبيًّا رئيسًا في روسيا. في نهاية عام 2012، بلغت جميع استثمارات ألمانيا في روسيا (25) مليار دولار، في حين بلغت في نهاية عام 2013  (21.3) مليار دولار. ويمكن تقسيم هذه الاستثمارات إلى استثمار أجنبي مباشر بقيمة (13.5) مليار دولار، واستثمارات مالية أخرى بقيمة (13.5) مليار دولار.

عام 2012، سُجِّلَ أكثر من (6000) شركة ألمانية في روسيا. ولقد تداولت مليارات الدولارات، ولديها طواقم عمل من نحو (270.000) شخص. وفي ألمانيا، تشير التقديرات إلى أن نحو (350) ألف وظيفة تعتمد على التعامل مع روسيا.

في السنوات الأخيرة، يمكننا ملاحظة الاتجاهات الجديدة فيما يتعلق بهذه الشراكة الثنائية بين ألمانيا وروسيا، لا سيما أن موسكو أصبحت أكثر جاذبية لمزيد من التطوير للتكنولوجيات الجديدة. وهناك اتجاه تصاعدي للمؤشرات الرئيسة في التعاون التجاري والاقتصادي حتى في فترة الأزمة الأوكرانية.

روسيا وفرنسا

تعد فرنسا خامس أكبر شريك تجاري لروسيا في الاتحاد الأوروبي، وفقًا لإحصاءات عام 2012. وتمثل التجارة مع فرنسا نسبة (2.9٪) من تجارة روسيا، ومعدل (5.9٪) من إجمالي تجارة الاتحاد الأوروبي. كما كانت الحال مع ألمانيا، في عام 2013، تراجعت التجارة الخارجية بين روسيا وفرنسا بنسبة (4٪) مقارنة بالفترة نفسها من عام 2012، حيث بلغت (22) مليار دولار، بما في ذلك الصادرات (9 مليارات دولار)، والواردات (13 مليار دولار).

بالنظر إلى الواردات الفرنسية من روسيا، وفقًا لإحصاءات عام 2012، تتمثل الفئة الرئيسة للسلع الواردة في المنتجات المعدنية (إلى جانب منتجات الوقود والطاقة)، التي تصل إلى (89.3٪) من إجمالي الواردات؛ ومن ثم فإن السلع الأساسية المصدرة من روسيا إلى فرنسا هي البترول، والفحم، والغاز الطبيعي، والنفط.

بالانتقال إلى الصادرات الفرنسية، تهيمن الآلات والمعدات والمركبات على مجموعة المنتجات بنسبة (54.2٪) من إجمالي الصادرات، في حين تبلغ نسبة المنتجات الغذائية والمواد الزراعية (11٪). وتشمل سلع التصدير الرئيسة: معدات الطيران، والمنتجات الطبية، ومستحضرات التجميل، والعطور، والسيارات، والمنتجات الغذائية الفرنسية، مثل النبيذ، والجبن، واللحوم، وما إلى ذلك، لتُعرف فرنسا تقليديًا بأنها أحد المستثمرين الأوروبيين الرئيسين في السوق الروسية. في عام 2012، كانت فرنسا واحدة من أكبر (10) مستثمرين في السوق الروسية.

الآثار المتبادلة للعقوبات الغربية في الاتحاد الأوروبي وروسيا

خلال عام الفترة من عام 2014 إلى عام 2018، تشير التقديرات إلى خسارة (-0.2٪) من الناتج المحلي الإجمالي الألماني بسبب انخفاض الصادرات إلى روسيا، والنمسا قدرت خسارة تراكمية للناتج المحلي الإجمالي بنسبة (-0.5٪). وكانت جمهورية التشيك والمجر الأكثر تضررًا (كل منهما [-0.6٪] من الناتج المحلي الإجمالي)، وخاصة سلوفاكيا التي لديها تعاون مرتفع نسبيًّا مع السوق الروسية (خسارة أكثر من [-1٪] من الناتج المحلي الإجمالي). ومع ذلك، من حيث القيمة المطلقة، تكبدت ألمانيا أكبر خسارة (خسارة في الصادرات تجاوزت 14 مليار يورو خلال المدة من 2014 إلى 2016)، وتكبدت إيطاليا وفرنسا وبولندا خسائر تصدير كبيرة مطلقة في روسيا كذلك.

كانت القطاعات الأوروبية الخمسة الأكثر تعرضًا للسوق الروسية في وقت فرض العقوبات هي المنسوجات، والأدوية، والآلات الكهربائية، والآلات، ومعدات النقل- جميع هذه القطاعات شكلت صادرات البضائع إلى روسيا بأكثر من (3٪) من الإجمالي عام 2013. وما زالت الآلات، ومعدات النقل، والأدوية تؤدي دورًا مهمًّا في الصادرات النمساوية والألمانية إلى روسيا.

على النقيض من ذلك، لم تؤدِّ المواد الغذائية (واردات اللحوم، والألبان، والأسماك، والفواكه، والخضراوات من الغرب، التي حُظِرَت بموجب الحظر الروسي منذ عام 2014) دورًا رئيسًا في صادرات الاتحاد الأوروبي (باستثناء دول البلطيق، وفنلندا، وألمانيا، وهولندا، وبولندا). وقد بلغت الصادرات النمساوية من هذه المنتجات إلى روسيا (100) مليون يورو فقط عام 2013، وتم تحويل جزء من هذه الصادرات إلى أسواق أخرى، أو وجدت طريقها إلى روسيا على سبيل المثال من خلال بيلاروسيا، أو صربيا.

أجرى المعهد النمساوي للبحوث الاقتصادية (WIFO) ثلاث دراسات منذ عام 2014 لتحليل العواقب الاقتصادية الأوسع على الاتحاد الأوروبي من جراء العقوبات على روسيا؛ ولهذا الغرض تم تحويل خسائر الصادرات أولًا إلى قيمة مضافة مباشرة وتأثيرات على العمالة. بعد ذلك، قُدرت الآثار الاقتصادية غير المباشرة من خلال الربط بين مختلف القطاعات والبلدان باستخدام نموذج المدخلات والمخرجات العالمي للاقتصاد القياسي الذي يغطي (27) دولة عضوًا في الاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى اقتصادات أهم الشركاء التجاريين (في المقام الأول روسيا، ولكن أيضًا الولايات المتحدة الأمريكية، والصين، وكوريا الجنوبية، إلخ).

أخذت الدراستان الأوليان الانخفاض الملحوظ في صادرات الاتحاد الأوروبي إلى روسيا نقطة انطلاق لتقدير تأثيرات القيمة المضافة المباشرة وغير المباشرة والتأثير على العمالة لتكشفا أن التأثيرات الاقتصادية الكلية (الخسائر) الناجمة عن العقوبات بالنسبة لدول الاتحاد الأوروبي السبع والعشرين (بدون كرواتيا) قد بلغت (27.8) مليار يورو، وبلغت خسائر القيمة المضافة نحو (33.5) مليار يورو، وانخفض معدل التوظيف بمقدار (500000– 870000) فرصة عمل. على سبيل المثال، عانت الشركات النمساوية المنضمة إلى سلاسل التوريد الأوروبية لصناعة السيارات- بشدة- انخفاضًا في صادرات السيارات الألمانية إلى روسيا2.

في دراسة أخرى، نُشرت عام 2016، حاولت فصل التأثيرات الناجمة عن العقوبات والآثار التي تسببها عوامل أخرى. وبشكل عام، قارنت أرقام عام 2015، وتوصلت إلى أن نحو ثلث خسائر الاقتصاد الكلي- على وجه التحديد- كان من جراء العقوبات. وانخفضت الحصيلة المالية من القمية المضافة بنحو (17.6) مليار دولار، وأصبحت (400000) وظيفة معرضة للخطر في جميع دول الاتحاد الأوروبي، وهو ما يمثل (0.2٪) من إجمالي القيمة المضافة والعمالة، على التوالي[1].

كما كان للحظر الروسي المفروض على دول غربية مختارة تأثير كبير في تجارة الأغذية الزراعية، حيث قيست المنتجات المتأثرة بالقيود المفروضة على الواردات على أساس حجم التجارة لعام 2013، إذ شكلت أكثر من (50٪) من واردات روسيا من الأغذية الزراعية، بما يعادل (9.6) مليار دولار أمريكي. أما الاتحاد الأوروبي، فتشكل له روسيا ثاني أهم سوق للسلع الغذائية الزراعية، ولا تتفوق عليها سوى الولايات المتحدة الأمريكية، حيث بلغت صادراتها (15.5) مليار دولار أمريكي في المجموع، أو (2.9٪) من إجمالي صادرات الأغذية الزراعية في الاتحاد. وبلغت قيمة صادرات الاتحاد الأوروبي التي استهدفها حظر الاستيراد الروسي (7.3) مليار دولار أمريكي عام 2013، أي (47.3٪) من إجمالي صادرات الأغذية الزراعية إلى روسيا في ذلك العام؛ لذا يؤثر الحظر التجاري في نحو (1.4٪) من إجمالي صادرات الاتحاد الأوروبي من المنتجات الزراعية. بالقياس إلى القيمة المطلقة للسلع المحظورة عام 2013، تأثرت ليتوانيا وبولندا أكثر من غيرها، تليها ألمانيا، وهولندا، والدنمارك، وإسبانيا، وفنلندا، وبلجيكا، وفرنسا.

هناك ست دول (قبرص، ولاتفيا، والدنمارك، واليونان، وأيرلندا، وليتوانيا) وجّهت لا يقل عن (30٪) من صادرات الأغذية الزراعية إلى السوق الروسية عام 2013. وبالمقارنة، دول الاتحاد الأوروبي الأخرى، ولا سيما ألمانيا، والسويد، ورومانيا، وسلوفينيا، وجمهورية التشيك، وسلوفاكيا، ومالطا، تمثل فيها السوق الروسية أقل من (5٪) من إجمالي صادراتها الغذائية. ونتيجة لانخفاض صادرات الأغذية الزراعية إلى روسيا بسبب الحظر التجاري، انخفضت أهمية السوق الروسية في إجمالي الصادرات الغذائية الزراعية انخفاضًا كبيرًا في جميع دول الاتحاد الأوروبي تقريبًا. وقد تناولت إحدى الدراسات عواقب حظر الاستيراد الروسي لعدد من المنتجات الزراعية من الاتحاد الأوروبي ودول أخرى، وقدمت تحليلًا للنتائج المباشرة وغير المباشرة لهذه القيود على الزراعة، وصناعات الأغذية. في النمسا مثلًا، على المديين القصير والطويل، قُدر انخفاض الصادرات إلى روسيا بنحو (50) مليون يورو سنويًّا، ما يعني انخفاضًا نسبيًّا بنحو (50٪)[2].

أدت العقوبات الأوروبية على روسيا إلى ظهور انعكاسات على دول الاتحاد تمثلت في التالي:

  1. زيادة ضغط السوق (عن طريق سحب المنتجات من السوق ، وتحويل الفاكهة إلى عصير).
  2. أسعار غير مستقرة (يتحقق الاستقرار من خلال تغطية تكاليف تخزين المنتجات ذات الصلة).
  3. دخل المزارع غير المستقر (ينطبق بشكل خاص على منتجي الألبان في دول البلطيق).

لم تتأثر صادرات الأغذية الزراعية إلى روسيا سلبًا فقط بالقيود التجارية التقديرية الخاصة بمنتج معين؛ ولكن أيضًا من خلال تحركات أسعار الصرف غير المواتية. في أوائل عام 2014، كان سعر الصرف الذي يقل قليلًا عن (50) روبل لليورو الواحد مستقرًا نسبيًّا. وعندما انتهى العام، لوحظ انخفاض كبير في قيمة العملة إلى ما يزيد على (70) روبل لكل يورو، حيث يؤدي الانخفاض المفاجئ وغير المتوقع في الطلب إلى انخفاض الأسعار عندما يتعذر تعديل العرض. وقد تأثر منتجو الخضراوات بشدة؛ لأنه لا يمكن تخزين هذه المنتجات. وينطبق الشيء نفسه على أنواع كثيرة من الفاكهة.

في روسيا، كان هناك ارتفاع طفيف في تضخم أسعار الغذاء في الفترة من عام 2014 إلى عام 2015، لكن الاستبدال المتزامن للواردات أسهم في إحياء الزراعة المحلية التي كانت أحد النجاحات النادرة للاقتصاد المحلي. وعلى مستوى الخدمات، تأثرت السياحة- بشكل خاص- سلبًا، حيث انخفض عدد السياح الروس انخفاضًا كبيرًا بعد عام 2014، مع أن هذا ليس بسبب العقوبات، ويمكن أن يُعزى ذلك- إلى حد كبير- إلى انخفاض قيمة الروبل في (2014-2015)؛ مما جعل الرحلات الخارجية للروس أكثر تكلفة.

خلال عام 2016، بدأ الاقتصاد الروسي في الاستقرار، وانخفض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة (0.2٪) فقط، على الرغم من استمرار العقوبات. إضافة إلى ذلك، شهد مناخ الاستثمار تحسنًا طفيفًا، حيث تمكنت الحكومة الروسية من بيع سندات جديدة في أسواق رأس المال الدولية، وتباطأ خروج رأس المال من السوق، وبدأت عودة الاستثمار الأجنبي المباشر الوارد إلى روسيا، الذي توقف بين عامي 2014 و2015. وفقًا لتقديرات صندوق النقد الدولي، فإن الإقتصاد الروسي استفاد من ارتفاع سعر النفط من (43.7) دولارًا للبرميل إلى (53) دولارًا للبرميل. (وجب التنويه أن سعر برميل النفط بلغ اليوم في أثناء كتابة هذه الدراسة [128.46] دولار للبرميل).

وقد شهد عام 2017 انتعاشًا قويًّا للواردات الروسية ([+ 22٪] مقارنة بعام 2016). وشمل ذلك ارتفاع الواردات من الاتحاد الأوروبي، حيث عاد الاقتصاد الروسي إلى النمو، وارتفعت قيمة الروبل، دون أي تغيير جوهري في سياسات العقوبات خلال ذلك العام، واستمر تعافي الواردات الروسية في عام 2018، ووصل النمو الاقتصادي إلى مستوى مرتفع بشكل لافت للنظر، بلغ (+ 2.3٪).

وبالانتقال إلى دراسة أثر العقوبات في تحويل التجارة من الاتحاد الأوروبي وإليه، خاصةً فيما يتعلق بالشركات الأوروبية التي تعمل مع روسيا، فقد بحثت مؤلفات أكاديمية قليلة، ولكنها متنامية، في مجال التجارة الدولية، آثار العقوبات على مستوى الشركات. وتركز هذه الدراسات عادةً على ثلاث نقاط مهمة، هي:

  1. إذا كانت الشركات تبيع كميات أقل في الأسواق المفروض عليها عقوبات، أو إن توقفت تمامًا.
  2. الآليات التي يجب توافرها للتعامل مع تأثيرات العقوبات.
  3. الفرص المتاحة للشركات المتضررة لتحويل مبيعاتها إلى أسواق أخرى.

وعلى الرغم من عدم وجود دراسة حتى الآن عن التأثيرات على مستوى الشركات للعقوبات في الاقتصاد المستهدف في حالة روسيا مثلًا، تتوافر دراستان حديثتان تقدمان أدلة جزئية في هذا الصدد[3]. وتقدم إحدى هاتين الدراستين قراءة مفيدة عن الحالة الأكثر قابلية للمقارنة، وهي نظام العقوبات تجاه إيران، حيث وجد أن الشركات الكبيرة في إيران كانت أكثر قدرة على التعامل مع الصدمة، وفعلت ذلك من خلال تحويل مبيعاتها من الدول الغربية إلى الصين والهند؛ ومن ثم، في الحالة الإيرانية، غالبًا ما كانت الشركات الكبيرة قادرة على تعويض الخسائر المتكبدة في الأسواق المتأثرة من جراء العقوبات، مثل الاتحاد الأوروبي، وأمريكا الشمالية[4].

وتناولت دراسة أخرى التأثيرات على مستوى الشركات لنظام العقوبات بين روسيا والدول الغربية. بصرف النظر عن التحليل العالمي “للتكلفة” الإجمالية للعقوبات الروسية، فإنها اعتمدت على البيانات الفرنسية للإجابة عن النقاط الثلاث التي أثيرت أعلاه[5]. ويكشف تحليلها عن نتائج متعددة ذات صلة، وهي:

  1. تأثرت صادرات الشركات الفرنسية فيما يتعلق بكل من هوامش التجارة، أي مشاركة الشركات في السوق الروسية، وكذلك تأثرت قيمة صادرات تلك الشركات التي بقيت في هذه السوق. ويكشف التحليل أنه فيما يتعلق بالمنتجات الغذائية الزراعية، فإن نحو (25٪) فقط من الشركات التي خدمت السوق سابقًا كانت لا تزال نشطة بعد فرض العقوبات، وأن تلك التي بقيت في السوق توقفت عن تصدير ما يقرب من (89 ٪) مما كانت تصدره. ومع ذلك، لا ينبغي أن يكون هذا مفاجأة كبيرة؛ لأن الهدف الأساسي للعقوبات هو حظر تجارة السلع المحددة في قائمة الحظر، والأكثر إثارة للاهتمام- ربما- هو أنه يتم ملاحظة نتائج مماثلة، وإن كانت أقل حدة، للسلع التي لم تستهدفها العقوبات.
  2. الجزء الأكبر من التكاليف التي تكبدها المصدرون الفرنسيون لم يكن بسبب الحظر الروسي؛ بل جاء نتيجة للعقوبات الغربية، التي صيغت لكي تكون أشبه بـ”نيران صديقة”. وبشكل أكثر تحديدًا، العقوبات الروسية قللت ما يعادل (9%) فقط من الصادرات، أما باقي خسائر المصدرين الفرنسيين فكانت نتيجة عدم الاستقرار السياسي والقانوني داخل فرنسا.
  3. تحويل التجارة على الأقل في المدى القصير كان محدودًا جدًّا. لم تتمكن الشركات التي سبق لها تصدير المنتجات الغذائية الزراعية المحظورة بموجب الحظر الروسي من تعويض خسائرها، وكان متوسط حصة هذه الشركات في السوق الروسية (20٪) قبل الأزمة السياسية، ومرة أخرى في المتوسط، خسرت ما يقرب من (20٪) من إجمالي صادراتها إلى جميع الأسواق بعد فرض العقوبات عام 2014. أما الشركات في حالة تصدير سلع غير محظورة بموجب الحظر الروسي، فكانت الآثار أقل حدة، حيث بلغ متوسط حصتها في السوق الروسية (14٪)، لتنخفض في إجمالي صادراتها بنسبة (6٪).

تحليل خسائر الشركات الغربية، نتيجة لعقوبات عام 2014، يقدم دليلًا تجريبيًّا على ما ستعيشه هذه الشركات مرة أخرى من جراء عقوبات 2022.

ما سبق من علاقات أوروبية- روسية يُفسر لماذا في غضون أيام قليلة فقط من العمل العسكري الروسي في أوكرانيا أصبحت الآفاق الاقتصادية العالمية مظلمة، وكانت العقوبات المالية الغربية القوية التي استهدفت هز الاقتصاد الروسي هي سبب زيادة التضخم في جميع أنحاء العالم، حيث ارتفعت أسعار النفط، والغاز الطبيعي، والسلع الأساسية الأخرى. في الوقت نفسه، اختلت سلاسل التوريد العالمية، التي لم تتعافَ من الوباء. ومع أن روسيا لاعب ثانوي- نسبيًّا- في الاقتصاد العالمي، حيث تمثل (1.7%) فقط من إجمالي الناتج العالمي، فإن العمل العسكري والعقوبات معًا مثّلا جرعة كبيرة من عدم اليقين والتقلب في عملية صنع القرار الاقتصادي، مما يزيد من الأخطار على الاقتصاد العالمي.

حاول الاتحاد الأوروبي أن يتجنب تعطيل صادرات الطاقة الأساسية من روسيا، التي يعتمد عليها على وجه الخصوص لتدفئة المنازل والمصانع، لكن هذا لم يحد من الارتفاع المفاجئ في أسعار الطاقة بسبب الحرب والمخاوف من حدوث اضطرابات في تدفق النفط والغاز. كما أدت المخاوف بشأن نقص السلع إلى ارتفاع أسعار بعض الحبوب والمعادن، مما سيؤدي إلى ارتفاع التكاليف على المستهلكين والشركات، حيث تعد روسيا وأوكرانيا مِن كبار المصدرين للقمح والذرة، فضلًا عن المعادن الأساسية، مثل البلاديوم، والألومنيوم، والنيكل، التي تُستخدم في كل شيء، من الهواتف المحمولة إلى السيارات.

وقد أدت عقوبات الحظر الجوي الغربي على روسيا إلى أن تأخذ الأخيرة إجراءات مماثلة؛ ما يعني أن طائرات الشحن الأوروبية ستضطر إلى تحويل مسارها إلى طرق ملتوية، مما يؤدي إلى إنفاق المزيد على الوقود، وربما تشجيعها على تقليل حجم حمولاتها، ما سبب ارتفاعًا كبيرًا في أسعار النقل عبر المحيطات والجو، في ظل تحذيرات دولية من أن أسعار الشحن في المحيطات يمكن أن تتضاعف ثلاث مرات، لتصل إلى 30 ألف دولار للحاوية، من 10 آلاف دولار للحاوية، ومن المتوقع أن تقفز تكاليف الشحن الجوي إلى معدلات أعلى.

ومع استمرار العمل العسكري كانت أسعار النفط هي الأعلى منذ عام 2014، حيث تعد روسيا ثالث أكبر منتج للنفط؛ لذا فإن مزيدًا من الزيادات في الأسعار هو أمر لا مفر منه. وبالمثل، حدث هذا في أسعار الغاز، خاصةً في أوروبا، التي تحصل على نحو (40%) من غازها الطبيعي من موسكو، ومن المرجح أن تتعرض فواتير التدفئة لزيادات جنونية، ويخشى القادة الأوروبيون من أن موسكو قد تخفض تدفقات الطاقة نتيجة دعم الاتحاد لأوكرانيا، وهذا مستبعد؛ لأن موسكو لا تريد أن تخرج من سوق الطاقة، أو أن تخل بعقودها.

كما أن روسيا هي أكبر مورد للقمح في العالم، وتمثل مع الهند وأوكرانيا ما يقرب من ربع إجمالي الصادرات العالمية، هذا بالإضافة إلى نقص المعادن الأساسية. وارتفع سعر البلاديوم، المستخدم في أنظمة عوادم السيارات، والهواتف المحمولة، فروسيا هي أكبر مصدر في العالم للمعدن، وقد ينقطع عن الأسواق العالمية، إلى جانب ارتفاع سعر النيكل، وهو أحد الصادرات الروسية الرئيسة الأخرى.

أقر كثير من المحللين والاقتصاديين في “وول ستريت” بأنهم قد استهانوا بمدى الأثر الاقتصادي لعمل عسكري روسي في أوكرانيا، والاستجابة الدولية بالعقوبات. ومع تراكم الأحداث بسرعة، تراوحت تقييمات التداعيات الاقتصادية المحتملة من المعتدلة إلى الكارثية، حيث كان التضخم بالفعل مصدر قلق، إذ وصل في الولايات المتحدة إلى أعلى مستوياته منذ الثمانينيات. وأصبح السؤال الآن: كيف يستجيب الاحتياطي الفيدرالي والبنوك المركزية الأخرى لهذا الأمر؟ فإذا لجأ الغرب إلى رفع أسعار الفائدة، فإن ذلك سيؤدي إلى انهيار الأسواق، ما يعني أن العمل العسكري الروسي في أوكرانيا، وما تبعه من عقوبات غربية على موسكو، أخرج الاقتصاد العالمي عن مسار التعافي بعد صدمة الأسواق من جراء جائحة (كوفيد- 19)؛ مما يعقد الأمور لصانعي السياسة، المطلوب منهم احتواء التضخم الذي بلغ أعلى مستوياته منذ عقود في بلدان مثل الولايات المتحدة، وألمانيا، حتى قبل اندلاع الصراع المسلح في أوكرانيا.

هل تحقق العقوبات الغربية هدفها؟

السؤال الأكثر شيوعًا المتعلق بالعقوبات الغربية هو ما إذا كانت تحقق هدفها. الجواب يعتمد على الهدف. تسعى العقوبات- بشكل عام- إلى تحقيق هدف واحد على الأقل من ثلاثة أهداف (معظم الوقت- الثلاثة جميعها):

  1. التحذير
  2. المنع
  3. الإجبار

كان الهدف من الإجماع الدولي على العقوبات هو إظهار موقف سلبي تجاه مختلف أنشطة روسيا. وقد يمكن الإشارة إلى أنه تم تحقيق هذا الهدف بالكامل. أما هدف منع روسيا من زيادة الوضع سوءًا في أوكرانيا، أو إجبار موسكو على تغيير سياستها الخارجية، فهذا لم تحرز فيه العقوبات أي تقدم حتى الآن.

على العكس من ذلك، بررت العقوبات الغربية كلًا من حدة السلوك العسكري الروسي، وشدة نبرتها في الخطاب السياسي. كما أدت العقوبات إلى توحيد الدولة والمجتمع في روسيا. فعلى سبيل المثال، زادت العقوبات المفروضة على روسيا عام 2014 معدل الموافقة على قرارات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى مستوى قياسي، بلغ (89٪) بحلول عام 2015. لقد غذى بوتين التعبئة المجتمعية من خلال ربط استطرادي لحملة العقوبات الحالية بالتصورات الراسخة للروس الذين يظهرون شخصية وطبيعة لا تقهر عبر التاريخ، وعلى الأخص منذ الحرب العالمية الثانية. مع أن الصعوبات الاقتصادية محسوسة بشكل كبير الآن، فإن قلة من الناس يربطون التضخم، والركود الاقتصادي، وانخفاض مستويات المعيشة بالسياسة الخارجية لروسيا. ويظل فساد الحكومة تفسيرًا أكثر شيوعًا، حيث يقع عبء عدم الشعبية على عاتق الحكومة الروسية، وهو ما يثني عن الارتباط بين السياسة الخارجية والمصاعب الاقتصادية الداخلية.

هناك مسائل أخرى تُسهم في فشل العقوبات المفروضة على روسيا في تحقيق هدفها القسري، مثل:

  1. تعتقد روسيا أن العقوبات ستكون سارية المفعول إلى الأبد؛ لأن احتمالات إزالتها غامضة. وأصبح هذا الاعتقاد متجذرًا عندما دوّر الاتحاد الأوروبي عقوباته بانتظام وبدقة. حتى عندما ارتبطت العقوبات السابقة لعام 2014 بتنفيذ اتفاقيات مينسك، كانت التجربة السوفيتية مع تعديل جاكسون- فانيك الذي فرضته الولايات المتحدة عام 1974 على البلدان التي قيدت الهجرة، وألغته عام 2012 فقط، تذكيرًا قويًّا بأن العقوبات تعيش فترة أطول بكثير من أسباب فرضها.
  2. ربط الغرب العقوبات على روسيا ليس فقط بالخطوات التي تتخذها موسكو؛ ولكن أيضًا بالإجراءات التي (لن تتخذها) السلطات الأوكرانية. وأكدت السلطات الروسية- من جانبها- أن ربط أي اتفاق بالعقوبات غير عادل، حيث تُعاقَب روسيا على رفض تنفيذ أي طرف آخر الجزء الخاص به من أي اتفاق متوقع.
  3. لم تكن عقوبات الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة ذكية بما فيه الكفاية. بعبارة أخرى، استهداف الشركات والأفراد الذين شاركوا في شن الحرب على أوكرانيا يتجاهل أن هناك إجراءت في الداخل الروسي اتُّخِذت بعد عام 2014 لحماية بعض الأفراد والشركات الإستراتيجية، واستفادت البنوك الخاضعة للعقوبات من عمليات الشراء المكثفة للبنك المركزي الروسي، التي ساعدت أيضًا البنوك الخاضعة للعقوبات على الوصول إلى العملات الأجنبية. بالإضافة إلى ذلك، ضخّمت روسيا إنفاقها العسكري، وهو ما دعم التوظيف في هذا المجال.
  4. مُنحت الشركات والأفراد الخاضعون لعقوبات عام 2014 عقودًا مربحة. وبحسب بعض التقديرات، تحملت ميزانية الدولة الروسية نحو (45٪) من التكاليف الإجمالية للعقوبات.
  5. أدت العقوبات إلى برنامج ضخم لإحلال الواردات في روسيا، لا سيما في الزراعة، والآلات، وتكنولوجيا المعلومات. ويتضمن هذا البرنامج مزيجًا من الدعم للبحث والتطوير، والمنح ، واستثمارات الدولة في مرافق الإنتاج الجديدة، وسياسة الشراء المواتية للسلع المنتجة محليًّا، وتم تنفيذ البرنامج على مستوى الشركات. وتتحمل ميزانية الدولة- في الغالب- ثمن الأصول الموجودة بالفعل على مستوى العالم، ويتطلب استبدال الواردات الدائم أيضًا الوصول إلى التقنيات الغربية، والأسواق العالمية، وكلاهما محدود في الوقت الحالي. كما خلقت سياسات استبدال الواردات أصحاب مصلحة داخل البلد تمثل العقوبات ربحًا لهم.
  6. ازداد إنتاج روسيا من النفط والغاز في السنوات التي أعقبت فرض عقوبات عام 2014، والتي يمكن أن تكون مؤشرًا على التكيف الناجح للعقوبات المفروضة. ومع ذلك، استهدفت عقوبات النفط والغاز الإنتاج الروسي المستقبلي، وبذلك تسببت في تأجيل شركات النفط استكشاف حقول جديدة في القطب الشمالي وسيبيريا. مع أنه يمكن القول إن استكشاف هذه الحقول لن يكون له معنى كبير- على أي حال- بالنظر إلى أسعار النفط المرتفعة اليوم.
  7. داخليًّا، أسهمت العقوبات في زيادة توطيد سلطة الكرملين، وأدى العداء الممنهج للغرب ضد روسيا إلى تدهور مكانة النخبة الليبرالية والتجارية، وهذا نتيجة منطقية لضعف الوضع الاقتصادي. كما حدت عقوبات الاتحاد الأوروبي من توافر التمويل الدولي؛ ومن ثم زادت المنافسة بين النخبة الروسية على التمويل الحكومي. نتيجة لذلك، تم تعزيز “الانضباط” بين النخبة الروسية. في الواقع، أصبح إدراج الغرب في القائمة السوداء، بالنسبة إلى البعض، علامة على ولائهم للنظام الحالي.
  8. خارجيًّا، تعتمد روسيا على محورها في الشرق كجزء من إستراتيجيتها للتكيف مع العقوبات. تنظر موسكو إلى شركائها هناك (على وجه الخصوص، الصين) على أنهم مصدر بديل للتقنيات، والتمويل، وأيضًا سوق يمكن أن تقلل من أهمية الاتحاد الأوروبي لتصدير النفط والغاز الروسي. وحصلت بعض شركات النفط والغاز على تمويل من الصين للمضي قدمًا في مشروعاتها (مثل إنشاء خطوط الأنابيب، ومنشآت الغاز الطبيعي المسال).

مستقبل العلاقات الروسية والأوروبية

أدت سياسات استبدال الواردات الروسية، وتوجهها نحو الشرق، إلى الحد تدريجيًّا من الاعتماد الاقتصادي المتبادل بين الاتحاد الأوروبي وروسيا. ويتم تعزيز هذه العملية تعزيزًا أكبر من خلال محاولات الاتحاد الأوروبي إيجاد بدائل عن الطاقة الروسية. على المدى الطويل، تفضل بعض البلدان الأوروبية مصادر الطاقة المتجددة؛ ما يعني التخلص التدريجي من النفط والغاز الطبيعي (الذي يمثل حاليًّا 70٪ من الميزان التجاري بين الاتحاد الأوروبي وروسيا). وما قبل اندلاع النزاع العسكري في أوكرانيا، تم تكثيف المحادثات بشأن مشاركة روسيا في الاتفاقية الخضراء للاتحاد الأوروبي (شارك الاتحاد الأوروبي وروسيا في تنظيم كثير من المؤتمرات والمناقشات الأخرى بشأن هذا الموضوع). ومع ذلك، هناك كثير من الغموض بشأن ما إذا كان الاتحاد الأوروبي سيعتمد على الغاز الطبيعي على المدى الطويل، أو ما إذا كان سيُستخدَم فقط حتى عام 2030 كوقود وسيط، مع قليل من التمويل المتاح له من المصادر العامة (مثل بنك الاستثمار الأوروبي).

بعد الصدام العسكري في أوكرانيا، سيصبح التحول العام إلى مصادر الطاقة المتجددة مرتبطًا بتقليل اعتماد الاتحاد الأوروبي للطاقة على روسيا، لكن يجب الإشارة أنه لا توجد خطط محددة للتعاون بين الاتحاد الأوروبي وروسيا بشأن انتقال الطاقة والهيدروجين (على النقيض من خطط الاتحاد الأوروبي وإفريقيا على سبيل المثال).

يعتمد استخدام الغاز الطبيعي في الاتحاد الأوروبي على المدى الطويل أيضًا على ما إذا كانت هناك تقنيات تجارية لإنتاج الهيدروجين من الغاز الطبيعي، مع انبعاثات منخفضة من غازات الاحتباس الحراري. في الوقت الحالي، وصلت هذه التقنيات إلى مرحلة تجريبية فقط. تؤخر شركات الطاقة الروسية تسويق هذه التقنيات، وتقلل- في كثير من الأحيان- من أهمية الصفقة الخضراء، فضلًا عن الجدوى التجارية لمصادر الطاقة المتجددة. بالإضافة إلى ذلك، يختلف اللاعبون في السوق الأوروبية والروسية بشأن ما إذا كان سيتم إنتاج الهيدروجين في روسيا (الخيار المفضل للاتحاد الأوروبي)، أو تصدير الغاز الطبيعي إلى الاتحاد الأوروبي، وتحويله إلى هيدروجين فور وجوده (الخيار الذي طوره خبراء الطاقة الروس). على الرغم من وجود أسباب تكنولوجية لكل خيار من الخيارات، فإن الاختلاف بين الجهات الفاعلة في الاتحاد الأوروبي والروس هو أيضًا نتيجة عدم اليقين في العلاقات الثنائية، ورغبتهم في تجنب النتائج غير المواتية (على سبيل المثال، الأصول التي تقطعت بها السبل، أو عدم استكمال المشروعات نتيجة العقوبات). تقلل العقوبات الحالية، وأي عقوبات جديدة محتملة، من استعداد الشركاء للاستثمار في مشروعات طويلة الأجل.

تحد العقوبات من الموارد المالية المتاحة (وكذلك رغبة البنوك في الانخراط في العمليات ذات الصلة). بالإضافة إلى ذلك، فإن الهيكل الغامض للملكية في روسيا يجعل من الصعب إثبات ما إذا كان الأفراد، أو الكيانات المحددة (المدرجة في القائمة السوداء) تتحكم في شركة معينة، وهذا يعزز الموقف الحذر، والابتعاد عن المخاطرة من جانب مستثمري الاتحاد الأوروبي عندما يختارون عدم التعامل مع الشركاء الروس. إضافة إلى ذلك، تدمر العقوبات الثقة، وهو أمر ضروري لأي تعاون.

باختصار، إن عودة بناء العلاقات الاقتصادية بين الاتحاد الأوروبي وروسيا على أساس إمدادات الطاقة، والتخفيف من آثار تغير المناخ، لم تعد مؤكدة، هذا إلى جانب توقف أي تعاون في الاقتصاد الرقمي والطب/ الأدوية، وهما مجالان آخران مهمان للانتعاش الاقتصادي الحالي، واقتصاد المستقبل، وستؤدي الشكوك العميقة المتبادلة إلى تفاقم مشكلات التعاون الاقتصادي في هذه المجالات. ونظرًا إلى الصدمة التي أحدثتها العقوبات في روسيا، ستكون قيادة البلاد متشككة بشأن إعادة إنشاء الترابط الاقتصادي مع الاتحاد الأوروبي.

أخيرًا، قللت العقوبات من أهمية الاتحاد الأوروبي لروسيا، وجاء هذا نتيجة التحالف الوثيق بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة بشأن العقوبات، علمًا بأن العقوبات الأمريكية تتسم بطابع أكثر شمولًا من تلك التي يفرضها الاتحاد الأوروبي، وهي تغطي مزيدًا من الكيانات الروسية، وتُعزّز القيود على القائمة السوداء وغيرها من القيود في أعمال مختلفة لأسباب مختلفة. ولا تؤثر الإجراءات الأمريكية في العقود المستقبلية فحسب؛ بل تؤثر أيضًا في العقود الحالية؛ ومن ثم تغطي مزيدًا من المعاملات التجارية،  ما يعني أن الاتحاد الأوروبي الذي يستحوذ على (40%) من التجارة الخارجية لروسيا في موقف يشبه إطلاق الرصاص على قدمه.

حرمت العقوبات الأمريكية الاتحاد الأوروبي من قدر كبير من استقلاليته في بناء علاقاته الاقتصادية مع روسيا. وتجري الولايات المتحدة تحققًا صارمًا من امتثال جميع الكيانات (بما في ذلك تلك الموجودة في الاتحاد الأوروبي) للتدابير الأمريكية. وتحتفظ واشنطن أيضًا بالحق في فرض عقوبات على انتهاك نظام العقوبات الخاص بها. لقد أثبتت هذه الإستراتيجية أنها وسيلة ضغط فعالة جدًّا على مختلف الأفراد والكيانات في جميع أنحاء العالم (بما في ذلك شركات الاتحاد الأوروبي وبنوكه). حتى إذا قرر الاتحاد الأوروبي تقديم بعض المرونة في عقوباته، ستحد العقوبات الأمريكية- بشكل فعال- من تأثير مبادرات الاتحاد؛ لأن الشركات الأوروبية ستظل ملتزمة بالعقوبات الأمريكية. وبالنظر إلى حالة العلاقات الأمريكية الروسية اليوم، فمن غير المرجح أن تُخفَّف العقوبات الأمريكية، أو تُلغى على المدى المتوسط. لقد أصبح الاتحاد الأوروبي مدركًا بالفعل لهذا التأثير خارج الحدود الإقليمية لسياسات الولايات المتحدة. ومع ذلك ، فإن مناقشات الاتحاد الأوروبي بشأن أي آلية لتجاوز العقوبات الأمريكية لا تبدو أنها ستكون ذات مصداقية.

ما ورد في المقالة يعبر عن رأي الكاتب ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير


شارك الموضوع