يُعد انتشار شبكات الإنترنت، واستخدام الأجهزة الرقمية، اليوم، أحد أهم العوامل التي تهيئ الظروف لتنمية الاقتصاد الرقمي، كما يُعد فهم هذا النموذج وإدارته أمرًا ضروريًّا في أثناء السعي إلى المنافسة في السوق العالمية، ولضمان مستوى معيشي مرتفع للمواطنين. وتستغل دول البلطيق (إستونيا، وليتوانيا، ولاتڨيا) إمكانات التقنيات الرقمية لتحقيق التنمية المستدامة.
أصبح الاقتصاد الرقمي اليوم موضوعًا للنقاش على نطاق عريض، رغم عدم توافر تعريف علمي شامل له، لكن البحث التفصيلي بشأن هذا النموذج الاقتصادي يُمهد الطريق لفهم التقنيات الرقمية، حيث بات من الضروري لكل حكومة أن تُنشئ النموذج الخاص بها، وأن تركز على تحسين الاقتصاد الرقمي من أجل ضمان المنافسة، ليس فقط داخل الدولة؛ ولكن أيضًا على نطاق عالمي.
يُستخدم مؤشر الاقتصاد والمجتمع الرقمي (DESI) الذي تنشره المفوضية الأوروبية لاستكشاف إمكانات الاقتصاد الرقمي، لقياس التقدم من خلال خمسة مكونات رئيسية، هي: (الاتصال، ورأس المال البشري، واستخدام الإنترنت، وتكامل التكنولوجيا الرقمية، والخدمات العامة الرقمية). ويعد (DESI) مؤشرًا مهمًّا لإظهار تجربة دول البلطيق في سياق الدول الأوروبية الأخرى، والاستفادة مِن التقدم الذي أحرزته نحو تطوير الاقتصاد والمجتمع الرقمي، وتحديد المجالات التي تتطلب استثمارات وإجراءات ذات أولوية.
تمتلك إستونيا أعلى نسبة (DESI) بالمقارنة مع دول البلطيق الأخرى. ولوحظ انخفاض الدرجات في الاتصال وتكامل مكونات التكنولوجيا الرقمية. كما حققت ليتوانيا درجات عالية في دمج التكنولوجيا الرقمية، في حين أن عنصر رأس المال البشري لا يزال قليلا. أما لاتڨيا فهي رائدة في مجال الاتصال ولكنها تمتلك قدرات أقل في رأس المال البشري، وتكامل مكونات التكنولوجيا الرقمية.
عام 2018، حصلت إستونيا على أعلى تصنيف في دول البلطيق الثلاث، بناءً على مؤشر (DESI). ومن بين جميع الدول الأوروبية، تحتل المركز التاسع، بدرجة مؤشر (60٪). في حين حصلت ليتوانيا على درجة (57٪)، واحتلت المرتبة الثالثة عشرة بين الدول الأوروبية، وحصلت لاتڨيا على (54٪)، واحتلت المرتبة العشرين. وتعد إستونيا وليتوانيا أعلى من متوسط الاتحاد الأوروبي (54٪)، في حين أن مؤشر لاتڨيا أقل، ولكنها تبقى نماذج واعدة على طريق اتخذته الدول الأوروبية الرائدة في الاقتصاد الرقمي، مثل الدنمارك التي لها (72٪)، والسويد وفنلندا وهولندا التي لها (70٪) على مؤشر (DESI).
يُظهر التباين في أرقام مؤشر (DESI) لدول البلطيق في الفترة بين عامي 2014و2018 اتجاهات النمو بالمقارنة مع متوسط بلدان الاتحاد الأوروبي، خلال الفترة التي تم تحليلها، وقد زادت قيمة مؤشر (DESI) لجميع دول البلطيق، حيث ارتفعت قيمة مؤشر إستونيا ارتفاعًا مطردا بنسبة 3٪ في كل عام، وارتفعت قيمة مؤشر ليتوانيا بنسبة 4٪، باستثناء عام 2017، عندما تباطأ النمو وانخفض إلى 2٪ في لاتڨيا، وفي ليتوانيا إلى 1٪ فقط.
تنعكس جهود كل من إستونيا ولاتڨيا لرقمنة الأعمال والتجارة الإلكترونية على مؤشر (DESI) بنسب (60٪) و (40٪) على التوالي. حيث يبذل البلدان جهودًا لتطبيق التقنيات الرقمية في شركات الدولة، والمشاركة الإلكترونية للمعلومات داخل الشركات، والتواصل من خلال الشبكات الاجتماعية، وكذلك استخدام الفواتير الإلكترونية، والاعتماد على التجارة الإلكترونية، التي توفر فرصًا للشركات لتصبح جزءًا من سوق أكبر بكثير، وتفتح إمكانات نمو أعلى، وتروج لمنتجاتها في السوق الداخلية، وأسواق دول الاتحاد الأوروبي الأخرى.
وضع الاتحاد الأوروبي بالفعل حدًا لرسوم التجوال عبر الهاتف المحمول في الاتحاد الأوروبي، وسمح للأوروبيين بالسفر عبر الاتحاد الأوروبي باشتراكاتهم عبر الإنترنت للأفلام، أو المسلسلات التلفزيونية، أو ألعاب الفيديو، أو الموسيقى، أو البرامج الرياضية، أو الكتب الإلكترونية.
عام 2018، تعين على دول الاتحاد الأوروبي تطبيق أول تشريع على مستوى الاتحاد بشأن الأمن السيبراني، والتوجيه الخاص بأمن الشبكات وأنظمة المعلومات (توجيه NIS)، الذي سيُستكمَل من خلال مجموعة واسعة النطاق من التدابير لتعزيز الأمن السيبراني في الاتحاد الاوروبي. ويتضمن ذلك اقتراحًا لوكالة الأمن السيبراني التابعة للاتحاد الأوروبي لمساعدة الدول الأعضاء في التعامل مع الهجمات الإلكترونية، بالإضافة إلى مخطط اعتماد أوروبي جديد يضمن أن المنتجات والخدمات في العالم الرقمي آمنة للاستخدام بفضل القواعد الجديدة ضد الحظر الجغرافي غير المبرر، ولن يواجه المستهلكون حواجز عند شراء المنتجات أو الخدمات عبر الإنترنت داخل الاتحاد الأوروبي. بالنسبة إلى الشركات، فإن هذا يعني مزيدًا من اليقين القانوني للعمل عبر الحدود.
وتُعزز دول البلطيق عناصر رأس المال البشري، التي تنقسم إلى بُعدين فرعيين، هما: (المهارات الأساسية، واستخدام المهارات)، ويشير البُعد الأول إلى معرفة عامة السكان بالتقنيات، وزيادة عدد مستخدمي الإنترنت المنتظمين، ومحو الأمية الرقمية. أما البعد الثاني فيشير إلى قدرة الموظفين في الدولة والقطاع الخاص على استخدام هذه المهارات وتطويرها، حيث إنها تساعد على حل مشكلات أكثر عمومية. وتعزيز المهارات الرقمية للجميع له تأثير إيجابي في الكفاءات الأساسية المطلوبة في سوق العمل، ووفقًا لقيمة بُعد رأس المال البشري، تحتل إستونيا المرتبة الأولى بنسبة (15.34٪)، وهي الدولة البلطيقية الوحيدة التي تتجاوز متوسط الاتحاد الأوروبي الذي يبلغ (14.12٪). وتبلغ قيمة بُعد رأس المال البشري في ليتوانيا (12.13٪)، في حين تبلغ في لاتڨيا (10.96٪).
وفقًا لبعد استخدام الإنترنت، احتلت إستونيا أيضًا المرتبة الأولى بنسبة (9.24٪)، في حين احتلت ليتوانيا المرتبة الثانية بنسبة (8.53٪)؛ وحلت لاتڨيا ثالثة بنسبة (8.22٪). وفقًا لاستخدام الإنترنت، تتجاوز دول البلطيق الثلاث متوسط الاتحاد الأوروبي، وهو (7.57٪). وفيما يتعلق ببعد تكامل التكنولوجيا الرقمية، تملك ليتوانيا أعلى قيمة، وهي (9.49٪)، وهذه القيمة أعلى من متوسط الاتحاد الأوروبي (8.02٪). وتبلغ قيم دولتي البلطيق الأخريين إستونيا ولاتڨيا (7.41٪) و (5.41٪) على التوالي. ووفقًا لبعد الخدمات العامة الرقمية، تملك إستونيا أعلى قيمة، وهي (11.72٪)، وليتوانيا ليست متخلفة كثيرًا بنسبة (10.23٪)، في حين أن قيمة هذا البعد في لاتڨيا تبلغ (9.78٪)، فجميع دول البلطيق الثلاث أعلى من متوسط الاتحاد الأوروبي (8.62٪).
وتظهر هذه الأرقام الآثار الإيجابية للرقمنة في المجتمع، التي تتمثل في خلق وظائف جديدة، ومرونة أكبر في ظروف العمل (وظائف عن بعد)، وأتمتة العمل التي تزيد من إنتاجية العمل، ومجموعة أوسع من السلع والخدمات المتاحة للمستهلكين؛ مما يسمح بتلبية احتياجاتهم. أما بالنسبة إلى الأعمال التجارية، فقد خلقت الرقمنة أسواق تداول جديدة، وجعلت إدارة رأس المال أكثر فاعلية وربحية، كما إنها تعزز المنافسة. إضافة إلى ذلك، تسمح الرقمنة بإشراك عدد أكبر من السكان في الأنشطة العامة على المستوى الحكومي، وتزيد من عدد الخدمات المتاحة للمجتمع، وتخلق ظروفًا لعمل أجهزة الدولة بكفاءة وشفافية.
مع ذلك تواجه دول البلطيق تحديًا يتمثل في إدارة الانتقال من اقتصاد منخفض التكلفة ومنخفض التقنية إلى اقتصاد يتسم بالكفاءة، ومنفتح على المهارات والابتكارات، وتضارب المصالح التجارية لكثير من فروع الصناعة، إلى جانب الافتقار إلى التنظيم المعقول، والمنافسة المحدودة للمنصات الرقمية، وإمكانية أن تؤدي أتمتة العمل السريعة إلى اختفاء الوظائف، وزيادة البطالة الهيكلية، وتزايد عدم المساواة في المجتمع. كما يمكن للدولة والمنظمات استخدام التقنيات الرقمية للسيطرة على المواطنين، وليس تطوير فرصهم وحقوقهم.
يُمكن التعامل مع التحديات من خلال تنظيم أنشطة الأعمال الخاصة بالشركات لتطبيق الإمكانات التي يوفرها الإنترنت، وزيادة القدرة التنافسية والابتكارات، وهذا بالتزامن مع محو الأمية الرقمية للناس الذي من شأنه أن يوفر مزيدًا من الفرص لاستخدام مزايا تكنولوجيا المعلومات، وأهمها إخضاع مؤسسات الدولة للمساءلة من خلال التحكم في استخدام التقنيات.
وتدعو المفوضية الأوروبية قادة الاتحاد إلى مناقشة توجهاتهم الإستراتيجية وإعطائها بهدف: “حشد الاستثمارات العامة والخاصة اللازمة لنشر الذكاء الاصطناعي وشبكات الاتصال (5G ) والحوسبة العالية الأداء، وضمان اعتماد لائحة التدفق الحر للبيانات غير الشخصية، والاحتكام إلى قانون اتصالات إلكترونية يهدف إلى تعزيز الاستثمار في الشبكات العالية السرعة والعالية الجودة في جميع أنحاء الاتحاد الأوروبي”، لتزويد المواطنين بالمهارات الرقمية التي يحتاجون إليها في الاقتصاد الرقمي الحديث والمجتمع.
يؤكد تقييم دول البلطيق وفقًا لتقدمها الرقمي في سياق الاتحاد الأوروبي عبر مؤشر (DESI) أهمية الاقتصاد الرقمي للمجتمع، وللشركات، وللدولة؛ حيث يتم خلق قيمة مُضافة إضافية، وتحقيق مزيد من الكفاءة، وخلق دولة الرفاه؛ ولهذا السبب يكون إنشاء الاقتصاد الرقمي أحد الأهداف الأساسية لبلدان الشرق الأوسط، وإذا استُخدِمَت جميع المزايا استخدامًا صحيحًا، وتمت إدارة المخاطر، يمكن لأي دولة تحقيق نتائج جيدة.