مختارات أوراسية

سياسة المشي ومضغ العلكة

الحوار الأمريكي-الروسي لا طائل منه في الوقت الحالي


  • 7 مايو 2021

شارك الموضوع

«نعم» هكذا أجاب جو بايدن على سؤال حول ما إذا كان يرى فلاديمير بوتين قاتلًا أم لا. تُعد هذه الإجابة أمرًا شائنًا حتى في ظل العلاقات المروعة بين واشنطن وموسكو. قوبلت إجابة الرئيس الأمريكي بمجموعة واسعة من ردود الفعل في روسيا، منها على سبيل المثال قول البعض إن الرئيس الأمريكي غير قادر تمامًا على فهم الأسئلة المطروحة عليه، بينما يرى آخرون أن بايدن قد أعلن الحرب على بوتين.

النظرية الأولى: لا تبدو ذات مصداقية – فقط شاهد الفيديو، وستلاحظ أن بايدن يتحدث بثقة وتماسك مستذكرًا اجتماعاته السابقة مع بوتين التي جرت منذ فترة طويلة. إن إجابته عن السؤال حول كون بوتين قاتلًا توضح إلى حدٍّ ما نظرته إليه.

النظرية الثانية: يمكننا أن نقول إنه من خلال بيانه النهائي، أعطى بايدن إشارة إلى أعداء الكرملين، لقد أخبرهم أن الرئيس الروسي بات منبوذًا رسميًّا ويمكن معاملته على هذا النحو. لكن هذا يعني أيضًا للبعض أن روسيا قضية مهمة على جدول أعمال الرئيس الأمريكي. مع ذلك، إذا حللنا المقابلة والمناخ السياسي ككل لا يبدو أن هذا هو الحال.

كان بايدن يتحدث عن قضايا أمريكية داخلية. ظهر اسم بوتين في سياق تقرير استخباراتي صدر مؤخرًا يوضح بالتفصيل التدخل الأجنبي في الانتخابات في عام 2020. خلصت هذه المزاعم إلى أن “الروس حاولوا زرع الفتنة في قلوب وعقول الشعب الأمريكي”؛ أي مجرد محاولات لا تدخلات كما جاء في تقرير وكالات الاستخبارات بعد انتخابات عام 2016. كما أشار التقرير إلى أن حلفاء ترامب، قد عززوا من هذه العملية عن قصد أو عن غير قصد. تقرير استخباراتي آخر نُشر في يوم المقابلة، يشرح هذه الفكرة بشكل أكبر، قائلًا إن التصريحات التي أدلى بها ترامب وأنصاره حول سرقة الانتخابات، قد حرَّضت على التطرف الداخلي في الولايات المتحدة.

بمعنى آخر إنهم يريدون بناء صلة بين أعداء خارجيين و “طابور خامس” داخلي يتم التلاعب به من خلال هذا الخصم، وفق اللعبة الكلاسيكية المتعارف عليها.

هناك نوعان من الاستنتاجات المحتملة يمكن للمرء أن يتوصل إليهما بناءً على تصريحات بايدن

أولاً: من الواضح أن السياسة الداخلية لا تزال تحتل المرتبة الأولى في جدول أعمال الإدارة الجديدة، تمامًا كما كانت خلال رئاسة ترامب. يبدو أن تمني البعض بأن انتصار الديمقراطيين سيؤدي إلى إنهاء جميع الصراعات الداخلية التي تمزق البلاد كان عبثيًّا. حيث يتوق الديمقراطيون إلى تعزيز نجاحهم وهنا يأتي دور أداة “التدخل الروسي” القديمة الجيدة لاستخدامها مرة أخرى. إنها لا تزال أداة وليست هدفًا.

من الصحيح بالطبع أن خطاب إدارة بايدن، أيضًا حول «استعادة» القيادة العالمية لأمريكا هو إلى حد كبير خطاب استعراضي. يهدف إلى الإيحاء بنهاية “الترامبية”، لكن في الواقع ستواصل الولايات المتحدة تقليص نطاق التزاماتها على الساحة الدولية. لكن ذلك سيحدث بالتدريج وعبر تكتيكات مختلفة عكس الطريقة الصدامية المفاجئة التي تعامل بها ترامب مع الأمر، ولكن أيضًا بشكل أكثر حزمًا مقارنةً برئاسة أوباما. بعبارة أخرى إنها مجرد ستار دخاني يُخفي ما يحدث بالفعل.

ثانيًا: ربما الأهم من كل ما سبق، أن كلمات بايدن تشير إلى شيء ما تتجه إليه السياسة العالمية، ويبدو أن هذا الاتجاه آخذ في الازدياد بقوة. إنه شيء يمكن للمرء أن يسميه من الناحية المجازية «متلازمة اللسان الرخو»؛ والذي يعني في الواقع، وجود فجوة متزايدة بين الأقوال والأفعال.

منذ فترة كان وصف زعيم دولة أخرى، وخاصة قوة عظمى بأنه “قاتل” من شأنه أن يُترجم إلى قطع العلاقات ومواجهة العواقب التي قد يكون بعضها جذريًّا. من الواضح الآن أن الوضع قد تغير. في المقابلة نفسها بعد تسمية بوتين بالقاتل، ذهب بايدن ليقول دون أن يرمش له جفن بإمكانية «المشي ومضغ العلكة في نفس الوقت»؛ بعبارة أخرى، تخطط واشنطن للتفاعل مع موسكو في أي وقت وبالقدر الذي يناسبها.

هذا الإحساس المبالغ فيه بالأهمية الذاتية متجذر في الثقة المطلقة للقيادة الأمريكية بأنها لن تضطر إلى مواجهة أي عواقب حقيقية لسلوكها. في الثلاثين عامًا التي مرت منذ نهاية الحرب الباردة، أصبحت أمريكا معتادة تمامًا على كونها دولة مهيمنة قوية للغاية، ولا تزال تنظر إلى نفسها على هذا النحو، على الرغم من المشكلات الواضحة التي تواجهها.

تعتقد المؤسسة السياسية في واشنطن أن العلاقات مع الولايات المتحدة ذات قيمة في حد ذاتها، وأن أي بلد بما في ذلك الصين وروسيا، اللذان يُعترف بهما علنًا على أنهما منافسان استراتيجيان – على استعداد لإظهار التواضع من أجل الحفاظ على هذه العلاقات (أو على الأقل منعها من التصاعد إلى العداء المفتوح).

بعبارة أخرى، يُنظر إلى العلاقات مع الولايات المتحدة على أنها أكثر أهمية للشركاء الخارجيين من الولايات المتحدة نفسها. تم التعبير عن هذا المواقف بإيجاز شديد قبل ربع قرن من قبل مادلين أولبرايت، التي وصفت الولايات المتحدة بأنها «الأمة التي لا غنى عنها».

مع ذلك، هناك سبب آخر. ألا وهو غياب تهديد عسكري ملموس، أو بشكل أدق، الإيمان المطلق بمفهوم «الردع» والاعتماد عليه الذي يمنح صانعي السياسة الأمريكيين (على حد تعبير الروائي الروسي نيقولاي غوغول) «تدفقًا رائعًا للأفكار» ويحول العلاقات الدولية إلى نوع من ألعاب الفيديو على الإنترنت. حيث بدأت أعراف وعادات الدبلوماسية تشبه أسلوب الاتصال الذي يواجهه المرء على وسائل التواصل الاجتماعي.

بفضل دونالد ترامب، أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي ليست فقط الأداة الرئيسية للترويج للأفكار السياسية، ولكن أيضًا مصدرها وساحة المعركة السياسية الرئيسية. لكن يظل هناك دائمًا احتمال أن تضطر إلى تحمل المسؤولية عن كلماتك – كلما كنت أقل حكمة في اختيار هذه الكلمات، زادت خطورة الأمر خارج العالم «غير المتصل بالإنترنت».

لا يمكن ترك بيان بايدن دون رد مباشر على الأقل؛ لأن هذا سيعزز فقط شعور واشنطن بـ “الإفلات التام من العقاب”، ويؤكد للمؤثرين والمسؤولين هناك أن أي شيء مباح. كان استدعاء سفير روسيا إلى موسكو للتشاور خطوة طبيعية – لكن هذا ليس كافياً. قد يكون النهج الأكثر منطقية هو تجميد العلاقات الروسية الأمريكية باستثناء بعض الجوانب الأساسية «على المستوى التقني». والأهم من ذلك، يجب أن نثبت للولايات المتحدة أنها مخطئة في اقتناعها بأنها يمكن أن تتصرف بتهور في جميع جوانب الدبلوماسية، مع الحفاظ على مستوى مفيد من التفاعل في المجالات المهمة للمصالح القومية الأمريكية. بمعنى آخر لا بد من رد روسي عملي مفاده: «لا يا سيد بايدن، لا يمكنك المشي ومضغ العلكة في نفس الوقت».

تقليديًّا كان النهج الروسي عكس ذلك. موسكو لا تتوقف أبدًا عن التأكيد على استعدادها لأن تتخذ خطوات بناءة إلى الحد الذي تكون فيه الولايات المتحدة مستعدة لفعل الشيء نفسه. من المنطقي أن نفترض أن الوضع الحالي هو نتيجة لهذا النهج، مما يعني أن الوقت قد حان للتخلي عنه. لكن هذا الرأي يواجه عادةً بالاعتراض من قبل البعض محتجين بوجود مصلحة مشتركة لكلا البلدين ومشاكل عليهم حلها، وأن بعض الحوار أفضل من عدم وجود حوار على الإطلاق. بالإضافة لتذكرينا بـ «أحلك صفحات الحرب الباردة» كمثال على أن بلادنا تمكَّنت من إيجاد أرضية مشتركة بشأن القضايا الحرجة مثل الأمن، وما إلى ذلك.

إذا أردنا اللجوء إلى مثل هذا المنطق، فيجب على المرء أن يتذكر أن تلك «الصفحات الأكثر ظلمة» تميزت بمواجهة شديدة التنظيم واهتمام وثيق بالكلمات والأفعال. كما كانت القوتان تأخذان بعضهما البعض على محمل الجد وتفكران في الآفاق طويلة المدى، مما يعني أنه لن يفترض أي من الجانبين حتى إمكانية إضعاف أو حتى انهيار منافسه.

اليوم، لا نرى أيًّا من هذا الموقف «الجاد» أو «طويل الأمد». بل نشاهد ركائز الاستقرار الاستراتيجي (التي كانت أساس الاستقرار بشكلٍ عام) تتعرض للتآكل أمام أعيننا. إن الحوار الذي كان يتسع (أو يتقلص) على مدى السنوات القليلة الماضية لم ينتج عنه أي أجندة جديدة بل تدمير ما تبقى من القديم.

يمر نظام العلاقات الدولية بتحول جوهري حقيقي، ونتيجته لا تزال مجهولة. لذا يجب توخي الحذر وهي الفضيلة الرئيسية للسياسة الدولية، خاصةً عندما تفوق المشاكل الداخلية لأي دولة أيًا من قضاياها الخارجية. في هذه الحالة قد يبدو من الطبيعي الرغبة في تقليل التفاعلات الخارجية إلى ما هو فقط ضروري وعاجل للغاية أو تلك التي تضمن أن تكون ذات نتائج مثمرة. مع ذلك، من الصعب رؤية أي قيمة في العلاقات التي تقوم على الصراع أو تسفر عن نتائج ضئيلة أو معدومة، أو يتم تلطيخها من قبل أي طرف يحاول إهانة الطرف الآخر. [1]

ترجمة: وحدة الرصد والترجمة في مركز الدراسات العربية الأوراسية

ما ورد في المقالة يعبر عن رأي الكاتب ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير 


شارك الموضوع