تقارير

كيف تقيّم روسيا تطورات الحدث الأفغاني؟

من جديد.. عمائم طالبان فوق كابول

«ترتبط اليوم أفغانستان في الوعي العام الروسي بمكافحة الإرهاب، والمحاولات الأمريكية لفرض الديمقراطية في جميع أنحاء العالم، والحرب الفاشلة للاتحاد السوفيتي، وتجارة المخدرات السيئة السمعة التي تمر عبر آسيا الوسطى وروسيا إلى أوروبا. ولكنها لم تكن كذلك دائمًا عندما اكتشف الروس الأراضي الأفغانية، أذهلهم ذلك العالم الشرقي الرائع المليء بالخيال، وجذب إليه التجار والمغامرين الشجعان» – المؤرخ الروسي فيتالي تروفيموف.

سيطرة طالبان على كابول

في هذه الأثناء التي تُحكم فيها حركة طالبان (منظمة إرهابية محظورة في روسيا)، سيطرتها على العاصمة الأفغانية كابول، يسود دخل المجتمع السياسي الروسي شعوران متناقضان؛ الأول يبدي فرحته وسعادته ولا يُخفي شماتته فيما يراها «هزيمة» للولايات المتحدة، رافق ذلك مجموعة ضخمة من التحليلات التي تدعي أن العالم يشهد في عام 2021 نهاية الأممية الليبرالية قبيل الذكرى الثلاثين لتفكك الاتحاد السوفيتي (1991)، وانتشاء المحافظين والأوراسيين، وعلى رأسهم أتباع الفيلسوف الروسي الشهير ألكسندر دوغين، الذي قدم أطروحته النظرية للنظام العالمي الجديد، تحت اسم «النظرية السياسية الرابعة»، والتي قال فيها- من ضمن أشياء عدة- إن نهاية الحرب العالمية الثانية شهدت نهاية الأيديولوجية الفاشية، وانتهت الحرب الباردة (1991) بنهاية الأممية الشيوعية، وإن الفترة المقبلة ستشهد نهاية الأممية الليبرالية، لتسقط بذلك الأيديولوجيات الغربية الثلاث التي سعت إلى الهيمنة على البشرية (الفاشية- الشيوعية- الليبرالية)، ليبدأ عصر جديد من التعددية القطبية، وبناء كل أمة لنموذج الحكم والسيادة السياسية وفقًا لثقافتها وتقاليدها الراسخة. الثاني شعور يسوده القلق من تطور الأحداث في كابول، وانتقاد للسياسة الأمريكية وانسحابها الذي وصف بـ “الفوضوي”، مع تحليلات يمكن وصفها بأنها تحمل طابع «نظرية المؤامرة»، وأن روسيا مقبلة على أعباء جديدة ستتحملها وحدها في منطقة آسيا الوسطى، وربما تمتد إلى شمال القوقاز  وتُضر بمصالحها القومية، مع التشديد على ضرورة عدم المبالغة بالفرح؛ لأن روسيا- ببساطة- كانت حليفًا للولايات المتحدة في حربها التي بدأت منذ عام 2001، بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، حتى إن موسكو سمحت بفتح مجالها الجوي لطيران الولايات المتحدة والناتو، للعبور إلى أفغانستان.

تاريخ العلاقات الأفغانية الروسية

بدأت العلاقات بين موسكو وكابول، منذ نحو 600 عام تقريبًا، ويمكن القول إن لدى موسكو سجل غني جدًّا بالمعرفة عن أفغانستان، وتركيبتها العرقية، وعادات وتقاليد شعبها. بدأت هذه العلاقات بحسب بحث مفصل كتبه المؤرخ وعالم الاجتماع الروسي فيتالي تروفيموف (Vitaly Trofimov)،[1] منذ عهد أمير موسكو المعظم إيفان الثالث (1440- 1505)، الذي أوفد سفارة إلى حاكم هرات أبو سعيد ميرزا (1424-1469)، أحد أحفاد تيمورلنك، لعقد تحالف معه ضد خَانِيَّة القبيلة الذهبية المغولية، التي كانت تحكم أراضي واسعة مما تعرف الآن بروسيا، وقد رد عليها حاكم هرات بإيفاد سفارة إلى موسكو عام 1490 للتعبير عن مشاعر “الحب والاحترام والرغبة في إقامة علاقات صداقة متينة”.

شهدت العلاقات الروسية- الأفغانية، دفعة جديدة عام 1533، عندما وصل خوجة حسين، من كابول إلى موسكو، موفدًا من مؤسس سلطنة مغول الهند السلطان ظهير الدين بابر (1483- 1530)، لعقد شراكة مع موسكو بشأن إدارة شؤون منطقة آسيا الوسطى «تركستان»، ومواجهة الأخطار المشتركة. أدى هذا التفاهم إلى نشاط تجاري كبير بين موسكو وسلطنة مغول الهند، وكانت أفغانستان مركزًا للتجارة الروسية القادمة من الهند وآسيا الوسطى، حتى أصبحت اللغة الروسية- تدريجيًّا- لغة التجارة الدولية المعتمدة في المنطقة.

يوجد اليوم نحو 100 ألف أفغاني يتحدثون الروسية، وهم- حسب التعبير الروسي «الأنتليغنسيا»- نخبة مثقفة من الأفغان ذوي الثقافة الروسية، وكثير منهم يحمل جنسيتها، ولديه روابط عائلية مع روسيا نتيجة الزواج بروسيات.

كيف رسمت كابول سياسات موسكو الخارجية

نشأت علاقات تبادل تجاري وحسن جوار مميزة بين الإمبراطورية الروسية وإمارات آسيا الوسطى الإسلامية، ومع الوقت كان النفوذ الروسي هو الأقوى فيها، ولم تكن هناك حاجة إلى غزوها، أو تحمل عبء ضمها إلى الإمبراطورية. إلا أن التقدم البريطاني في الهند، وتدخلها في شؤون أفغانستان، وحسمها النزاع على الحكم بين دوست محمد خان (1793- 1863) وغريمه شجاع شاه الدراني (1785- 1842) وانحيازهم إلى الأخير ليصبح ملك أفغانستان، مع تزايد عدد العملاء والمغامرين البريطانيين، وسعي شركة الهند الشرقية، إلى مد نفوذها التجاري على أفغانستان وآسيا الوسطى بكاملها، وتهديد التجارة والأمن القومي الروسي، دفع موسكو إلى ما يسمى «الاندفاع الروسي نحو غزو آسيا الوسطى، الذي بدأ بعام 1839، واستمر حتى عام 1897، ضمت خلاله روسيا (3,501,510) كيلو متر مربع، ثم الاتفاق على أن تكون أفغانستان عازلا بين الإمبراطوريتين الروسية والبريطانية، وقد مهد هذا التفاهم لما يسمى (الوفاق الثلاثي) لعام 1904 بين «بريطانيا وروسيا وفرنسا»، وصولاً إلى معاهدة سانت بطرسبرغ (1907) التي سوّت جميع المسائل العالقة في المنطقة.

بعد قيام ثورة أكتوبر البلشفية، خشي السوفيت أن تتحول أفغانستان، التي هاجر إليها كثير من روس آسيا الوسطى نتيجة العنف الثوري، إلى مركز للمناوئين لها، كما كانت أيضًا مركزًا لتنقل أتباع حركة «باسماتشيستفا» وفق التسمية الروسية، المشتقة من الكلمة الأوزبكية «باسماتشي»، أي «قطاع الطرق»، وهو وصف دعائي استخدمه البلاشفة لتشويه سمعة هذا الحركة الإسلامية القومية الداعية إلى إخراج البلاشفة من آسيا الوسطى، وكانت تتلقى دعمًا من بريطانيا عبر أفغانستان، وهو ما دفع البلاشفة إلى تعزيز علاقتهم مع كابول، واعترافهم باستقلالها عام 1919، وتوقيع معاهدة صداقة (1921)، وتقديم مساعدات اقتصادية وتقنية سخية لكابول.

مرة أخرى تدفع تطورات الأحداث في أفغانستان، إلى فرض خيارات سياسية خارجية على موسكو، وسقوط السوفيت فيما يصفه الخبراء الروس في «الفخ» الذي نصبه إليهم الأمريكان، عبر الإيحاء باستخدام أراضي أفغانستان لدعم الثورات على النظام الاشتراكي في آسيا الوسطى السوفيتية، وبعد أحداث متلاحقة وجد الروس أنفسهم متورطين، عام 1979، في حرب طاحنة داخل أفغانستان لمدة عقد كامل. ينظر إلى هذه الحرب بأنها تسببت- إلى جانب عوامل أخرى- في تفكك الاتحاد السوفيتي.

الحرب الأمريكية على الإرهاب

كان فلاديمير بوتين أول رئيس دولة يتصل بنظيره الأمريكي جورج بوش الابن، ليعلن دعمه اللامحدود لأمريكا بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، وزار موقع برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك. كان بوتين آنذاك لم يمضِ على تسلمه السلطة سوى أقل من عام، ودعم الحرب الأمريكية على «الإرهاب»، وبالتحديد في أفغانستان، على أمل أن تمنحه فرصة للقضاء على التمرد المسلح في الشيشان ومنطقة شمال القوقاز، وإطلاق الغرب يده في استخدام القوة العسكرية المفرطة، وهو ما حدث بالفعل.

بعد غزو العراق (2003)، وبدء أكبر عملية لتوسع حلف شمال الأطلسي «الناتو» منذ نهاية الحرب الباردة في (2004)، وتبني الولايات المتحدة لما يسمى «نشر الديمقراطية» حول العالم، وتزايد القواعد الغربية في منطقة آسيا الوسطى، بدعوى الحرب على القاعدة وطالبان: (قاعدة فرنسية في طاجيكستان- قاعدة ترمذ الألمانية في أوزباكستان- قاعدة كارشي الأمريكية في أوزباكستان- قاعدة ماناس في قرغيزستان)، بدأت موسكو تشعر بالقلق من تحول الحرب في أفغانستان إلى وسيلة لتعزيز الوجود العسكري الغربي في آسيا الوسطى، إلى جانب توسع الناتو على حدودها الغربية وتطويقها من كل جانب.

عززت موسكو علاقاتها مع أفغانستان خلال العشرين عامًا الماضية، حيث أقامت عدة مشروعات ثقافية، وارتبط الرئيس الأول بعد سقوط طالبان حميد كرزاي، بعلاقة جيدة معها، وتولى العديد من النخب المرتبطة بها مناصب عليا في الحكومة الجديدة، كما أن لها صداقة ممتدة مع الزعيم الأوزبكي عبد الرشيد دوستم، وقائد حزب الوحدة الإسلامي الشيعي، المكون الرئيسي للهزارة، كريم خليلي.

مراحل تطور العلاقة بين موسكو وطالبان

أصدرت المحكمة العليا الروسية، عام 2003، قرارًا باعتبار حركة طالبان منظمة إرهابية محظورة في روسيا، كان هذا القرار متسقًا مع مرحلة «دفء» العلاقات المؤقت بين واشنطن وموسكو، وسعي الأخيرة إلى استغلال الحرب الأمريكية على الإرهاب لصالح حل قضية الشيشان، ومن باب التقرب مع حكام كابول الجدد، تغير الوضع بدءًا من عام 2017، مع تزايد التقارير عن تجمع مقاتلين من تنظيم «الدولة الإسلامية – داعش» (منظمة إرهابية محظورة في روسيا) داخل أفغانستان، والخشية من تحولهم إلى مركز جديد لتجمع المقاتلين المنتمين إلى جماعات إسلاموية تصنفها روسيا وبلدان آسيا الوسطى إرهابية، ومهاجمة حلفائها، وإحياء التمرد في شمال القوقاز. في هذه الأثناء بدا للمسؤولين الروس أن حكومة كابول ضعيفة، والخلافات تعصف بها من كل جانب، مع تصدع التحالف الحاكم، بجانب مؤشرات عن تغير في مواقف حركة طالبان. بدأت الاتصالات الروسية مع طالبان منذ تلك اللحظة، وتوجت باستقبال موسكو وفد الحركة المكون من خمسة من قادتها في إطار سعيها إلى عقد مؤتمر للسلام لبدء مفاوضات بين الحكومة الأفغانية وطالبان تحت اسم “صيغة موسكو”، في 9 نوفمبر (تشرين الثاني) 2018.[2]

توالت بعد ذلك الاجتماعات في عامي 2019 و2020، وفي العام الحالي، وهو ما أدى- حسب كثير من الخبراء الروس- إلى رفض الحكومة الأفغانية المشاركة في اجتماع موسكو، في الرابع من سبتمبر (أيلول) 2018.[3]

نتيجة لتعدد لقاءات وفود طالبان مع المسؤولين الروس، والتوصل- فيما يبدو- إلى تفاهمات بشأن عدة أمور بين الجانبين، صرح الجانب الروسي بعدم إغلاقه سفارته في كابول، وردًا على ذلك، أكد المتحدث باسم طالبان محمد سهيل شاهين، في موسكو يوم 8 يوليو (تموز)، أن الحركة «لن تسمح لأي شخص أو جهة باستخدام أراضي أفغانستان لمهاجمة روسيا، أو البلدان المجاورة، أو تهريب المخدرات إلى روسيا». كما أكد أن القنصلية الروسية في مدينة مزار شريف، ستكون تحت حماية الحركة، ولن تسمح بالهجوم عليها، وأن طالبان تريد «علاقات جيدة مع روسيا وجميع بلدان العالم، شريطة عدم التدخل في شؤونها الداخلية».[4]

رغم تطمينات طالبان، والحوار الممتد مع موسكو، فإن الأخيرة ما زالت تتعامل معها بحذر شديد، وعند سؤال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، في حوار صحفي له بجامعة الشرق الأقصى الفيدرالية، عن إمكانية التدخل العسكري في أفغانستان، أجاب: «الانسحاب الأمريكي يعني اعترافًا بالهزيمة في هذا البلد، وتربطنا اتفاقية دفاع مشترك مع طاجيكستان في إطار معاهدة الأمن الجماعي، وحال تعرضت لهجوم من أي طرف فسيكون لنا رد فعل جدي وفوري»، لكنه أكد أيضًا أن روسيا لن تتدخل في شؤون أفغانستان الداخلية.[5]

لوحت موسكو أيضًا باستخدام القوة حال تعرضت- هي أو حلفاؤها- لأي أخطار من داخل الأراضي الأفغانية، عبر عقد عدة لقاءات ومشاورات أمنية مع قادة بلدان آسيا الوسطى، وإقامة مناورات عسكرية على الحدود مع طاجيكستان، ورفع درجة الاستعداد القصوى بقاعدتها العسكرية (201) في طاجيكستان، وقاعدة الطيران في قرغيزستان، وتدريب الخبراء العسكريين الروس قوات حرس الحدود الأوزبكية. تعليقًا على هذا النشاط العسكري المكثف في المنطقة، صرح الخبير الروسي في نادي فالداي الدولي، ومدير مركز أبحاث آسيا الوسطى وأفغانستان أندريه كازانتسيف، بأن موسكو تريد أن تكون «مستعدة لأي حدث أمني قد يهدد مصالحها أو مصالح حلفائها، دون التورط بتدخل عسكري مباشر، نتيجة الجرح الذي سببته حرب أفغانستان السابقة؛ ولذلك تعمل على دعم حلفائها بالتدريب والعتاد، لمواجهة أي أخطار أمنية، ولكي يتمكنوا من التعامل مع تدفق اللاجئين الأفغان».[6]

لماذا تحتاج روسيا إلى طالبان؟

سواء أكان “تسليم” أفغانستان لطالبان- كما يعتقد البعض- جزءًا من “مؤامرة” في ظل “إستراتيجية أمريكية” متكاملة لمواجهة خصومها بالمنطقة، وهو ما لا يعتقده معدو هذا التقرير، أم نتيجة معطيات وظروف موضوعية. تحتاج موسكو إلى حوار وعلاقات جيدة مع طالبان، فالولايات المتحدة تفصلها عن أفغانستان (11,925) كم، وحصلت على ضمانات منها بعدم إيواء أعدائها، أو القيام بالهجوم على مصالحها، وغالبية جيران أفغانستان إما بلدان هامشية في أهميتها بالنسبة إلى واشنطن، وإما خصوم لها؛ وعليه فلن يقع ضرر مباشر يؤثر في مصالحها، أما روسيا فـ (4,053) كم فقط بينها وبين أفغانستان، وهناك تشابك تاريخي وجغرافي كبير بين البلدين عبر أقرب حلفاء لموسكو، وبما أنها القوى المهيمنة على المشهد الأفغاني (قبل الغزو الأمريكي لأفغانستان، وطيلة حكم طالبان من 1996 إلى 2001، لم تسيطر قط على شمال البلاد، في حين أصبح الشمال بكامله تقريبًا تحت سيطرتها الآن)؛ لذلك لا يمكن أن تقفز روسيا على هذه الحقائق، بغض النظر عن موقفها، أو عدم تفضيلها حكم طالبان.

وفق الخبير الروسي بيوتر أكوبوف، تطمح روسيا إلى عملية سلام تفضي إلى حكومة ائتلافية بين طالبان وباقي الأطراف الأفغانية الأخرى، وبالحد الأدنى عدم تحول أفغانستان إلى عنصر مزعزع لأمن بلدان آسيا الوسطى الحليفة مما يضاعف الأعباء الأمنية والاقتصادية على موسكو. أما فيما يخص القول بأن طالبان قد “صنعتها” الولايات المتحدة، فيقول: «هذا التصور مبني على فهم سطحي للواقع الأفغاني. صحيح أن المجاهدين الأفغان صناعة أمريكية، لكن طالبان لم تكن جزءًا منهم؛ بل قاتلتهم وأخرجتهم عام 1996 من كابول». كما يقلل من مدى تأثير باكستان على طالبان، حيث يرى أن الوضع قد تغير عما كانت عليه الحال عام 2001، وليس من مصلحة باكستان أن «تصل حركة بشتونية لا تعترف بالحدود الموروثة عن البريطانيين، إلى حكم أفغانستان، في ظل وجود 40 مليون بشتوني في باكستان تعتبرهم جزءًا لا يتجزأ من شعبها«، وأن باكستان يمكنها «التأثير على طالبان، ولكن دون السيطرة عليها»، وأن التفكك الحالي للدولة الأفغانية «لا يناسب أيًّا من جيران أفغانستان»، لكن من الواضح أيضًا- بحسبه- أن غالبية الشعب الأفغاني «يعتقد أن نظام طالبان هو الأقرب إليه».[7]

حسب زامير كابولوف، مبعوث الرئيس الروسي إلى أفغانستان، الذي يعقد اللقاءات الدورية مع ممثلي حركة طالبان، وتصريح سابق لوزير الخارجية لافروف، والمتحدث باسم الكرملين ديمتري بسكوف، فإن الاتصالات مع طالبان مهمة رغم تصنيفها في روسيا (منظمة إرهابية)؛ لأنها «تمثل جزءًا لا يمكن استثناؤه من المجتمع الأفغاني، ولأجل التفاوض معها للتوصل إلى اتفاق سلام، ولتعهدها بعدم التعرض للمصالح الروسية، أو لحلفائها».[8]

بالنسبة إلى روسيا، يظل خطر تنظيم «الدولة الإسلامية- داعش»، هو الأساس، كما يوضح أستاذ المدرسة العليا للاقتصاد أندريه كازانتسف، الذي قال إن روسيا «مهتمة بحقيقة أن تنظيم (الدولة الإسلامية) لا يكتسب موطئ قدم في أراضي أفغانستان». في الوقت نفسه، وفي المقابل، تسعى طالبان “إلى نيل اعتراف دولي بها عبر عقد مفاوضات مع موسكو”.[9]

كذلك أكد نائب رئيس لجنة الدفاع والأمن في مجلس الاتحاد الروسي، فلاديمير جباروف، أن الحكومة الروسية لا بد لها من التواصل مع طالبان، بل إنها «ستتعامل مع أي حكومة أفغانية مقبلة، حتى لو بقيادة طالبان، ما دامت الأخيرة ملتزمة بعدم التعرض للمصالح الروسية»، مع طرحه إمكانية إعادة النظر في تصنيفها كمنظمة إرهابية محظورة في روسيا، كما شدد اللواء بافل زولوتاريف على أن «التفاهم مع طالبان مفيد لعدم تحمل روسيا وحدها العبء بالدفاع عن المنطقة وحلفائها».[10]

رغم حالة السعادة أو «الشماتة» من البعض بسبب ما يعتبرونها «هزيمة» أمريكية في أفغانستان، فإن تصريحات المسؤولين الروس كانت متشائمة كثيرًا من جراء هذه الخطوة الأمريكية. يفسر الباحث الروسي بافل زريفولين، مدير مركز ليف غوميليوف لأبحاث أفغانستان، الموقف الروسي الرسمي، بالقول: «بالنسبة إلى المسؤولين الروس، فهم ليسوا سعداء بالانسحاب الأمريكي. في السابق كان لدى روسيا حلفاء داخل الحكومة الأفغانية وخارجها، والأمور تبدو أكثر وضوحًا، وفي ظل الوجود الأمريكي لم يكن بوسع طالبان السيطرة على البلاد بكاملها، وكانت هناك فرصة للضغط عليها للحصول على ضمانات وتطمينات بشكل أكبر من الوضع الحالي بعد الانسحاب الأمريكي غير المشروط، الذي يتسم بعدم اليقين»، كما يعتقد أن «طالبان ستكون لديها علاقات قوية مع راعي باكستان الجديد الصين، وستؤدي دورًا مهمًّا في مشروع الحزام والطريق، وسيطرتها على البلاد بكاملها تعزز هذه الفرضية». لكنه في المقابل يعتقد أن روسيا «قد خسرت كثيرًا من الكفاءات التي كانت تعيش داخل أفغانستان وستضطر إلى الهجرة، وستعود البلاد إلى العصور الوسطى، وستُسحَق بذور التنوير والجمال في بلخ وكابول وهرات، تلك المدن التي أسهمت في صنع الحضارة العالمية». لكن مع ذلك «لا مناص من التواصل الروسي النشط مع طالبان، لحماية مصالح روسيا القومية».[11]

استنتاجات

بناءً على ما سبق، لدى روسيا، مصالح حيوية في أفغانستان، وعلاقات قديمة أنتجت معرفة جيدة بهذا البلد وتركيبته.

مثلت أفغانستان جزءًا لا يتجزأ من «الجغرافيا السياسية الروسية»، وأسهمت- إسهامًا غير مباشر- في رسم سياساتها الخارجية في منطقة آسيا الوسطى عبر التاريخ، وسيظل هذا الدور المهم لهذا البلد حاضرًا في ذهن صانع القرار الروسي، ولا يمكنه تجاوز أهميته.

رغم عدم تفضيل موسكو لسيطرة طالبان على أفغانستان بكاملها، ورغبتها في عقد تفاهم بين الحركة وباقي الأطراف الأفغانية، فإن محاولاتها باءت بالفشل نتيجة الانسحاب الأمريكي السريع وغير المشروط، وعدم تجاوب الحكومة الأفغانية معها؛ ولذلك تجد نفسها مضطرة إلى التعامل مع طالبان.

تدرك طالبان جيدًا أهمية أفغانستان بالنسبة إلى الإستراتيجية الأمنية والجيوسياسية الروسية، وأنها الأقرب إليها من أي طرف آخر؛ ولذلك حرصت على تقديم تطمينات لروسيا لتبديد مخاوفها، والحصول منها على اعتراف سيعزز من مكانتها.

رغم تطمينات طالبان، تخشى موسكو من أن تفقد الحركة القدرة على السيطرة، وهو ما يمكّن حركات تراها أشد خطورة، مثل تنظيم «الدولة الإسلامية- داعش»، والقاعدة، والحركات الجهادية في شمال القوقاز ومنطقة آسيا الوسطى؛ لتتحول أفغانستان إلى مركز تجمع لهذه الحركات؛ مما يزيد الأعباء الأمنية عليها، ويضعف قدراتها السياسية الخارجية.

يشكل حكم طالبان مشكلة أخرى لروسيا، تتمثل فيما يمكن اعتباره «إلهامًا» قد يشكله وصول الحركة إلى حكم أفغانستان من جديد لباقي الحركات الإسلاموية الطامحة للسلطة في بلدان آسيا الوسطى، والمعادية بطبيعتها لروسيا. على سبيل المثال، يوجد لجماعة «الإخوان المسلمون» في طاجيكستان، حزب سياسي رسمي (حزب النهضة الإسلامية في طاجكستان)، وهي الدولة الوحيدة في بلدان آسيا الوسطى السوفيتية السابقة التي سمحت بوجود حزب إسلامي، إلى جانب (حزب التحرير الإسلامي الطاجيكي)، وحركات جهادية لها امتدادات عرقية في أفغانستان، مع إمكانية انخراطها في الصراع، مثل (حركة أوزباكستان الإسلامية) الجهادية المتطرفة، التي لها حاضنة شعبية عرقية وأيديولوجية داخل الأوزبك في أفغانستان، وقد بايعت عام 2015 طالبان، ثم انقلبت عليها وبايعت تنظيم داعش الإرهابي، و(منظمة الإكرامية الإسلامية)، وتنظيم (جند الخلافة)، و (حزب آلاش الإسلامي- القومي) في كازاخستان، المعادي لروسيا وثقافتها، والذي يدعو إلى طرد الروس من كازاخستان، ولكل هذه الحركات امتدادات في قرغيزستان، التي تعاني صراعًا عرقيًّا وسياسيًّا داخليًّا عنيفًا.

طورت روسيا- على مدى السنوات القليلة الماضية- علاقاتها مع باكستان، وتعتقد أن «الدولة العميقة» الباكستانية باتت مدركة للمتغيرات العالمية، وتسعى إلى بناء قوة باكستانية مستقلة عن الكتلة الغربية، وتعول على هذه العلاقة، إلى جانب التفاهمات مع الصين، في إمكانية ضبطها للأوضاع في أفغانستان، إلى جانب اعتمادها على الوجود العسكري الكبير في طاجيكستان وقرغيزستان، لردع أي جهة تسعى إلى زعزعة الأمن في المنطقة.

في إطار سعي روسيا إلى تقوية الاتحاد الأوراسي، وضم البلدان السوفيتية السابقة داخله، لبناء قطب عالمي جديد بقيادتها قادر على خلق توازن مع الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، والصين، تخشى (روسيا) من انعكاس الأوضاع الأفغانية على أمنها؛ نظرًا إلى حرية الانتقال بدون تأشيرة بين شعوب بلدان آسيا الوسطى وروسيا، وهو ما قد يدفعها إلى فرض تأشيرة دخول مسبقة، ستؤثر بالسلب في نفوذها، وتضعف من اقتصادات بلدان المنطقة المتداعية أصلاً، التي زادت أزمتها بعد كوفيد-19، وهو ما يعزلها عنها في ظل سعيها إلى تقارب أكبر، أو المخاطرة بأمنها الداخلي.

يرى المتفائلون أن لدى روسيا فرصة جيدة لتعزيز مواقعها في المنطقة، وتدعيم تحالفاتها مع بلدان آسيا الوسطى، وضم أوزباكستان الطرف المتمرد والرافض حتى الآن الانخراط في الاتحاد الأوراسي بقيادتها، عبر استغلال مخاوف هذه البلدان من خطر تمدد الإرهاب على أراضيهم، وفقدانهم الثقة بالطرف الأمريكي بعد انسحابه، تاركًا خلفه حلفاءه؛ ولذا تسوق لنفسها بالتأكيد أنها حليف موثوق به، ويمكن الاعتماد عليه، وهو ما قد يدفع هذه البلدان إلى مزيد من وحدة المواقف مع موسكو، وتقارب طشقند معها، وتوقفهم عن التلويح بورقة الطرف الأمريكي للضغط على روسيا، في حين يرى المتشائمون أن الانسحاب الأمريكي من أفغانستان قد تتبعه إعادة انتشار في بعض بلدان آسيا الوسطى، وترحيب كثير من أنظمتها بوجود عسكري أمريكي حتى لا تقع تلك البلدان تحت الهيمنة الروسية؛ وهو ما يجعل كل العبء ملقى على روسيا وحدها.

تخشى جهات كثيرة في روسيا من سيطرة تركيا على مطار كابول، ويحذر كثير من المراقبين من أن إدارة تركيا للمطار قد تؤدي إلى تهريب أعداد كبير من مقاتلي إدلب؛ لخلق تسوية في سوريا، وبدء مشكلة جديدة في أفغانستان بالقرب منها.

تعد تجربة التفاهم مع طالبان أول عملية من نوعها بين الدولة الروسية وحركة إسلاموية مسلحة سُنية، وحال نجاحها قد تعيد موسكو النظر في علاقاتها مع هذه الحركات، وتنفتح انفتاحًا أكبر عليها مقابل شروط.

يظل الوضع بالنسبة إلى روسيا غامضًا في أفغانستان، عكس المرحلة السابقة التي كان فيها الوجود الأمريكي ضامنًا للأمن بحد أدنى، ويتوقع أن يستحوذ الملف الأفغاني على جل اهتمام السياسة الروسية في المرحلة المقبلة.

توصيات

لا يبدو أن هناك دورًا عربيًّا فيما يحدث في أفغانستان، رغم أهمية هذا البلد بالنسبة إلى أمن المنطقة واستقرارها، باستثناء الدور القطري المرتبط بالطرف الأمريكي كوكيل مصالح معتاد، في حين أن هناك دورًا نشطًا لباكستان، وإيران، وتركيا البعيدة عن أفغانستان، وهو ما يستلزم بدء القيام بدور عربي فعال، والتواصل مع طالبان التي تسعى إلى الحصول على اعتراف ودعم عربي وإسلامي؛ لخلق موازنة مع هذه الأدوار الإقليمية الأخرى التي قد تستغل الحدث الحالي لإضعاف موقف البلدان العربية الداعية إلى الاستقرار.

كانت السعودية والإمارات وباكستان، هي الدول الثلاث المعترفة بحكم طالبان (1996- 2001)، ثم قطعت العلاقات معها نتيجة أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، وقد يكون من المفيد استغلال هذه العلاقة القديمة بالانفتاح والحوار مع قادة الحركة، التي ستكون بحاجة إلى اعتراف السعودية؛ لما تمثله من ثقل عربي وإسلامي كبير، وكذلك الإمارات بما تملك من قدرات اقتصادية وسوق مفتوحة، إلى جانب مصر ومرجعية الأزهر الشريف، مقابل الحصول من الحركة على ضمانات بعدم إيواء فلول «القاعدة»، أو استقبال أي مقاتلين فارين من بؤر الصراع في ليبيا، وسوريا، وغيرهما، وكذلك قد يُسهم هذا الانفتاح في ضبط سياسات طالبان وانتهاجها مواقف أقل حدة وتشددًا مما عُرفت به، وهو ما سيلقى ترحيبًا من جميع الأطراف الدولية، ويضمن ألا تتحول أفغانستان إلى بؤرة جديدة تهدد أمن المنطقة وسلامتها، أو تشكل إلهامًا لغيرها من الحركات الإسلاموية.

يُخشى من أن ترك أفغانستان بلا وجود عربي، مع تجربة موسكو بالتعاون مع الجماعات الإسلاموية المسلحة الشيعية، ونجاح التفاهمات الأخيرة مع طالبان، بأن تشكل بداية لاتباع نفس النهج مع الحركات الإسلاموية السنية الأخرى، فعلى الرغم من تصنيف روسيا لجماعة «الإخوان» (منظمة محظورة) فإن للجماعة نشاطًا في الداخل الروسي عبر التنسيق مع جهاز الأمن الفيدرالي الروسي (FSB)، حيث قدمت بعض أطراف الجماعة نفسها للأمن الروسي كمساهم في حفظ أمن روسيا واستقرارها الداخلي، وعنصر مواجه للحركات المسلحة، ويتبنى أعضاؤها الذين هم في غالبيتهم روس من أصول عربية مواقف راديكالية مؤيدة لسياسات موسكو الخارجية من باب تأكيد ولائهم للدولة. لا يوجد لدى موسكو موقف مبدئي معارض لهذه الجماعات ما دامت لا تهدد أمنها وأمن حلفائها، وتناوئ السياسة الأمريكية، وحتى الجماعات المسلحة منها حال كانت منضبطة، ولها قيادة قادرة على التحكم بأفراد التنظيم المسلح، لا تجد بأسًا من التعاون معها، ولعل تجربة حزب الله اللبناني، وتعاون كلا الطرفين في سوريا مع الميليشيات الشيعية الباكستانية والأفغانية، والحشد الشعبي في العراق، والانفتاح على الحوثيين في اليمن، خير دليل، وتنبع الخطورة من وجود مفكرين روس ذوي تأثير كبير، ولديهم ما يشبه الهوس بالتنظير لعالم متعدد الأقطاب، وهم مستعدون للتحالف مع أي طرف لا يشكل تهديدًا مباشرًا لهم، ويشاطرهم أفكارهم نفسها، كما أن بعض المحافظين يعتقدون أن نمو الفكر الإسلامي المحافظ يشكل عامل تحفيز للمواطنين السلاف الذين يعانون منذ سقوط الاتحاد السوفيتي من إشكالية الهوية، لدعم الروح الأرثوذكسية المحافظة لديهم، ويعبر كثير من رجال الكنيسة أيضًا عن ذلك، بل يَدْعُون الأرثوذكس الروس إلى الاقتداء بالمسلمين، وحال نجحت تجربة طالبان، يمكن أن تدفع الطرف الروسي إلى استنساخها مع جماعات إسلاموية سُنية أخرى، حيث يخشى المتشائمون أن تلعب موسكو بورقة الإسلامويين مقابل تخليهم عن الأفكار الأممية، والحصول منهم على ضمانات أمنية بعدم العمل ضد روسيا وحلفائها، مقابل عدم معارضة وصولهم للسلطة، والأمر نفسه ينطبق على الصين، التي تولي كل اهتمامها بإتمام مشروعها الطموح (الحزام والطريق) الذي تمثل فيه أفغانستان أهمية كبرى، حتى إن الصحفي الروسي الشهير ماكسيم شيفتشينكو، يعتقد أن بكين شجعت طالبان على السيطرة على أفغانستان بكاملها؛ لتضمن وجود قوة واحدة مهيمنة لديها معها تفاهمات لتسهيل مشروعها بدلاً من عدة قوى غير متوافقة بعضها مع بعض.[12] قد يخلق سيناريو متشائم كهذا وضعًا جديدًا في المنطقة، تتوافق فيه بكين وموسكو، وقبلهما واشنطن، على تمكين الحركات الإسلاموية من السلطة حال ضمنت لهم مصالحهم.

من المهم أن ينفتح العالم العربي انفتاحًا أكبر على روسيا، ولا يكتفي بالعلاقات الحكومية، وأن يوسّعها لتشمل علاقات بحثية وفكرية وإعلامية، وأن يخلق قنوات اتصال نشطة مع المفكرين المؤثرين لنقل وجهات نظر البلدان الداعمة للاستقرار، وألا يترك الساحة للأطراف الإسلاموية والتركية والإيرانية، لنقل الحدث من وجهة نظرها.

 

ما ورد في  التقرير يعبر عن آراء الباحثين ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير


شارك الموضوع