مقالات المركز

قراءة في الدلالات والنتائج

الروسوفوبيا – نمو كراهية روسيا في الغرب



شارك الموضوع

أدى النزاع المُسلح في أوكرانيا إلى اندفاع المشاعر المعادية لروسيا في وسائل الإعلام الغربية؛ فقد ظهر على القنوات والمواقع الأطلسية كثير من المعلقين الراديكاليين المناهضين لرد الفعل العسكري الروسي، وقد جاءت مواقف النخب الأطلسية المتشددة ضد موسكو في إطار يُمكن أن يُعد أغلبها نمطًا من “الروسوفوبيا  (رهاب روسيا، الخوف من الروس)”. لقد تحول أنصار إستراتيجية احتواء روسيا- بشكل متزايد- إلى رهاب الروس؛ لذا نسعى هنا إلى توضيح تاريخ ظهور مفهوم “الروسوفوبيا”، وكيف يؤدي تشويه سمعة روسيا، وكراهية الروس من جانب وسائل الإعلام الأطلسية، إلى رد فعل عكسي.

دخل مفهوم “الروسوفوبيا” (الخوف من روسيا) خلال سياق الصراع الأوكراني- الروسي في لغة السياسة الرسمية الدولية؛ ما دفع الرئيس فلاديمير بوتين إلى التحذير من أن إذكاء مشاعر الخوف من روسيا في أوكرانيا قد يؤدي إلى كارثة. كما أشار وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إلى “أن الخوف من روسيا أصبح سمة من سمات السياسة الخارجية لبعض البلدان”، وقد أضاف، في الوقت نفسه، أن هذا النمط من الكراهية “يمكن علاجه من خلال الحوار”[1]. وقد أكد سيرغي ناريشكين، مدير جهاز المخابرات الخارجية الروسي، أن القوة الناعمة وسيلة فعالة لمكافحة الخوف من روسيا، ولا سيما الترويج للثقافة الروسية، التي ستحيد الرسالة المعادية لروسيا، خاصةً في الغرب[2].

بدأت روسيا بالتعامل بجدية أكبر مع “الروسوفوبيا” بعدما أقر البرلمان الأوروبي، عام 2015، أن موسكو دولة مُعتدية، وشبه جزيرة القرم هي أراضٍ مُحتلة؛ ما دفع الحكومة الروسية إلى الدفاع عن موقفها بالتعبير الذي جاء على لسان السياسي الروسي سيرغي إيفانوف: “ضم شبه جزيرة القرم ودعم استقرار الدونباس منع للـ “روسوفوبيا” من القيام بالتطهير العرقي”.

أسباب ظهور “الروسوفوبيا”

يكمن أساس الخوف من روسيا في الخوف من النظام السياسي الروسي الذي يُعد غريبًا ثقافيًّا وأيديولوجيًّا عن نظام القيم الغربية. ويزيد دعم الروسوفوبيا من خلال الادعاء بأن الغرائز التوسعية والاستبداد متأصلان بعمق في طابعها القومي؛ ومن ثم ستظل مصالح روسيا والغرب غير قابلة للتوافق إلى الأبد. وقد ركز باستمرار كثير من المعلقين الغربيين على تخلف روسيا، وتهديدها، وهويتها غير الغربية، والسعي إلى تصويرها على أنها دولة شريرة بقوة. إضافة إلى ذلك، من خلال إعادة ذكر الآثار المخيفة التي تشكلها روسيا على أوروبا، فإن الذين يكرهون الروس يشنون حملة من أجل إبقاء روسيا ضعيفة، وربط هذا بأمن الغرب.

ومن الجدير بالذكر أن المشاعر المعادية لروسيا لم تزد في وسائل الإعلام الأطلسية فقط؛ بل زادت أيضًا بشكل كبير بين المجتمعات الغربية. على وجه الدقة، في الفترة بين عامي 2013 و2014، زادت المواقف السلبية للمواطنين الأوروبيين تجاه الروس من (54٪) إلى (75٪)، في حين ارتفع هذا الرقم في الولايات المتحدة من (43٪) إلى (72٪) للفترة ذاتها[3]، حيث يطرح كثير من الناس في الغرب روايات خرافية، مثل “أن للروس جينات خاصة تجعلهم يتوقون إلى قيادة استبدادية، والحمض ا لنووي الخاص بهم لا يتوافق مع الحرية؛ ومن ثم لا يمكنهم العيش في دول ديمقراطية”. وهذه الادعاءات خطأ بطبيعتها؛ بل إنها مهينة لكثير من الروس.

تاريخ ظهور مصطلح “الروسوفوبيا”

يُساء استخدام مصطلح “الروسوفوبيا” بشكل متزايد؛ فتاريخيًّا، ظهر مصطلح “رهاب روسيا” في منتصف القرن التاسع عشر لدعم الخطاب الإمبراطوري والحضاري الروسي في ذلك الوقت. حتى ذلك الحين، قُدِّمَت الإمبراطورية الروسية على أنها معارضة لأوروبا “المتدهورة”، ووريث للقيم التقليدية لـ “عالم متحلل”. منذ البداية، كانت “الروسوفوبيا” تعني خطابًا غامضًا سياسيًّا: فمن ناحية، استهدف هذا الخطاب النطاق الجُغرافي لمنطقة سيطرة الإمبراطورية الروسية (السلافية) على وسط أوروبا وجنوبها، ليُشير إلى رؤية عالم يُمثله التقليد الأرثوذكسي الإمبراطوري لبيزنطة، وإرث جنكيز خان، أي هذا التسلسل الهرمي المُختلف للقيم. ولم يكن لهذا الخطاب صدى على سياسة التوسع للنظام القيصري.

بالأساس، ظهر مصطلح “رهاب روسيا” في الخطاب السياسي بواسطة الشاعر والدبلوماسي ومستشار القيصر الروسي فيودور إيفانوفيتش تيوتشيف (1803- 1873) لتقديم الدعم الفكري والمفاهيمي للحكومة[4]. وقد أشار تيوتشيف في نصوصه (روسيا وألمانيا) و(روسيا والثورة) و(روسيا والغرب)، التي كُتبت في أربعينيات القرن التاسع عشر، إلى برامج السياسة الخارجية المحتملة للإمبراطورية الروسية، بما في ذلك التحالف مع “العنصر الجرماني الذي لا يزال يتمتع بصحة جيدة “، والذي كان من المفترض أن يكون علاجًا لوقف “انتشار العفن القادم من فرنسا “، بالإضافة إلى ضرورة الانسجام السلافي تحت رعاية روسيا؛ لذا كان على الإمبراطورية الروسية (“الشرق العظيم”)، المهمشة من العالم الغربي، أن تكون منقذًا للسلاف، ومعقلًا للقيم المسيحية.

ينقسم مفهوم تيوتشيف عن “الروسوفوبيا” (رهاب روسيا) إلى سياقين:

  1. السياق المحلي: يقصد به الغربيين الذين ينتقدون النظام القيصري بسبب قمعه، والفوضى، وانعدام حرية التعبير؛ أي أوروبا التي تعارض روسيا،
  2. السياق الدولي: يقصد به تحديدًا (رفض البولنديين لفكرة الأخوة السلافية)؛ لذا كان نقيض الروسوفوبيا هو الوطني الأرثوذكسي، الذي يدعم الإمبراطورية، أي المحب للروس، أو -بشكل أدق- المُحب للسلافيين.

ربط تيوتشيف ربطًا واضحًا بين الخوف من روسيا و”المسألة البولندية” ونضال الشعب البولندي ضد الإمبراطورية. وطرح هذه القضية للدلالة على الصراع بين السلافيين، حيث اتهم بولندا ما بعد التقسيم بـ “الكارهة للروس”، وفي قصيدته “السلافيون” (1867)، أشار إلى الشعب البولندي باسم “يهوذا السلاف”. ولم يكن وحيدًا في آرائه، حيث قدّم المؤرخ الروسي نيكولاي ميخائيلوفتش كرامزين (1766- 1826) تفسيرًا قوميًّا للتاريخ، داعمًا القيصرية الروسية باعتبارها ضحية لبولندا- بولندا كانت عدوًا.

الروسوفوبيا في المعاجم الروسية وقاموس أوكسفورد

دخل مصطلح “الروسوفوبيا” (رهاب روسيا) المعاجم الروسية في عهد ستالين. وقد ظهر أولًا في قاموس ديمتري أوشاكوف (1935- 1941)؛ ثم في قاموس سيرغي أوزيجوف (1949)، وما يسمى بالقاموس الأكاديمي (1950- 1965). في العهد السوفيتي، كانت الروسوفوبيا موضع اهتمام دائم للتحليل الأكاديمي والصحافة السياسية. على سبيل المثال، درس البروفيسور إيغور شافاريفيتش رهاب روسيا في أواخر الثمانينيات (أي خلال فترة البيريسترويكا)، وقدم نماذج بالمنشقين الكارهين للروس في الداخل والخارج، مثل: (ألكسندر يانوف، وغريغوري بوميرانتس، وألكسندر جاليش، وآخرين)، وكذلك منتقدو الاتحاد السوفيتي (“كارهو الروس”) في الغرب، مثل (ريتشارد بايبس، وفريدريك هايك)، واعتبر رهاب روسيا قوة مدمرة تمنع التطور المستقل لروسيا.

وفقًا لقاموس أوكسفورد الإنجليزي، فـ (الروسوفوبيا) مصطلح ذو جذور تاريخية ممتدة، يمكن أن نُشير إلى أنه ظهر في كتابات جون ستيوارت ميل، عام 1836، ليصف تحذير الوزراء البريطانيين من أن روسيا يمكن أن تتقدم عبر آسيا، وتتحدى سيطرة البريطانيين على الهند. ومع أنه سرعان ما أصبح واضحًا أن هذا الغزو كان شبه مستحيل، فإن المصطلح استمر متداولًا بين أولئك الذين يخشون الدولة الروسية باعتبارها وحشية وتوسعية.

على مدى العقود العديدة التالية، استمر مصطلح “الروسوفوبيا” في الإشارة إلى الخوف من السياسة الخارجية الروسية، بدلًا من الروس أنفسهم، لكن حدث تحول ما بين القرن التاسع عشر إلى الحرب الباردة، وتحديدًا عندما انتقلت مشاعر كراهية الروس من بريطانيا إلى الولايات المتحدة، العدو اللدود للاتحاد السوفيتي، حيث وصف الرئيس الأمريكي رونالد ريغان، في خطابه عام 1983، الاتحاد السوفيتي بأنه “إمبراطورية الشر”؛ ما يؤكد إصابته بالشعور نفسه الذي كان يشعر به رجل الدولة البريطاني قبل نحو قرنين من الزمن.

مؤخرًا، ومع تصاعد النزاع المسلح بين روسيا وأوكرانيا، اكتسبت الروايات عن تخلف روسيا، وعدم توافقها المتأصل مع الديمقراطية والمعايير الغربية زخمًا في وسائل الإعلام الغربية، حيث أُعيد إبراز كتابات آن إليزابيث أبلباوم، وهي صحفية ومؤرخة أمريكية، وحاملة للجنسية البولندية، وحصلت على جائزة بوليتزر، وقد جاءت كتاباتها كلها في إطار أن “روسيا لن تكون مثلنا أبدًا”، وتضيف أبلباوم أن “روسيا هي قوة معادية للغرب برؤية مختلفة، وأكثر قتامة للسياسة العالمية، وفي العادة، تفضل أن تكون المخرب العظيم والدخيل”. بالإضافة إلى ظهور كتابات في صحف ومجلات غربية عريقة، مثل: (New York Times – Foreign Policy – The New Yorker – The Washington Post)، تصف روسيا بأنها دولة “بحاجة إلى حل بعض مشكلاتها النفسية، بما في ذلك جنون العظمة الناتج عن عقدة النقص، والمراهقة المتأخرة”، وبأن “روسيا سلطة قديمة تعمل كقوة في القرن التاسع عشر، في حين أن الغرب، وبخاصةٍ الاتحاد الأوروبي، هو كيان ما بعد حداثي، أكثر تقدمًا بكثير منها”.

ومن المثير للاهتمام أن التصريحات السياسية الصادرة عن القادة الغربيين، التي تنتقد- بطريقة أو بأخرى- النظام الحالي لروسيا، تبدو أحد تجليات الروسوفوبيا. وفي ظل هذه الظروف، فإن كراهية الروس لم تعد موجهة نحو الحكومة في موسكو؛ ولكن أيضًا تجاه الشعب الروسي؛ فمن الناحية الثقافية والسياسية، تعمل رواية إعادة إحياء الاتحاد السوفيتي من جديد على إضفاء الشرعية على هوية الولايات المتحدة وحلفائها مما تُطلق عليه العالم الحر، مقارنة بهوية روسيا “القمعية”، حيث تشكل موسكو بالنسبة إلى النخب الأمريكية عدوًا مهمًّا؛ لأنه لم يقم أي بلد آخر بتحدي قيم الولايات المتحدة ومصالحها بقوة وإصرار مثل روسيا. وتعكس وسائل الإعلام الأطلسية الخوف من نظام دولة روسي قوي، وذلك من خلال تقديمها للروس كصورة معكوسة للنظام الأمريكي، وتبسيط التحول المعقد لروسيا بشكل كبير.

أدت السياسة الغربية القائمة على “الروسوفوبيا” إلى دفع أغلب الساسة الروس إلى الظن أن النظرة الغربية الإيجابية لموسكو إبان انهيار الاتحاد السوفيتي مطلع التسعينيات كانت لأنها دولة ضعيفة ومنهكة؛ لذا عندما بدأت روسيا بالنهوض، رد الغرب بالروسوفوبيا، حيث تُحاول القوى الأطلسية تطويق الشعب الروسي بـ “سياج” جديد، من خلال نشر الناتو منظوماته العسكرية بطول الحدود الروسية؛ ما جعل الكرملين يلجأ إلى سياسة يُمكن تلخيصها في عبارة: “إذا أراد الغرب إذلال روسيا، فيمكننا إيجاد طرق للرد، مثلما فعلنا في حالة أوكرانيا”.

يعيد الكرملين تنشيط دعايته باستمرار، وتحليله للروايات المعادية لروسيا؛ ما يؤدي إلى حشد الروس ضد التهديدات الغربية. ومن خلال موجات التصريحات المتشددة المعادية لروسيا في الغرب، تتأكد موسكو أن الغرب ينظر إلى روسيا- بشكل لا لبس فيه- على أنها خطر. وهكذا، فالاستنتاج المنطقي من هذه الرواية هو أن الغرب ينوي تدمير روسيا، في محاولة للقضاء على هذا التهديد.

دراسة “الروسوفوبيا” في مراكز البحوث

وقد ازدادت دراسة “الروسوفوبيا” في مراكز البحوث والفكر الروسية، وخاصةً فيما يتعلق بكراهية الروس في: أوكرانيا، وبيلاروس، ودول البلطيق، وبولندا، بالإضافة إلى ألمانيا، والولايات المتحدة الأمريكية[5]. وقد شهد عام 2015 إطلاق مؤتمر (الروسوفوبيا وحرب المعلومات ضد روسيا) من أجل تقديم نهج تفصيلي لحل مشكلة الخوف من روسيا التي قد تمثل مشكلة عالمية يتعين على روسيا مواجهتها مستقبلًا، مثل:

  1. الروسوفوبيا تهديد خارجي للأمن القومي الروسي من خلال المساعدة على تشكيل جو من التعصب العرقي، يمكن مقارنته بمعاداة السامية، والعدوان على روسيا كدولة، وكراهية المجموعة العرقية الروسية، والتراث الثقافي الروسي،
  2. الروسوفوبيا شكل من أشكال العداء والكراهية تجاه روسيا، يُستخدم لزعزعة استقرار الوضع في فضاء ما بعد الاتحاد السوفيتي، وكسلاح في حرب المعلومات التي يشنها الغرب على روسيا، والتي يمكن أن تقوض نظام الأمن العالمي،
  3. الروسوفوبيا مشكلة داخلية لروسيا، تنتشر بين جزء من المجتمع (خاصة الشباب) يخضع للأيديولوجية الليبرالية، ويتعاطف مع سياسات الدول الغربية.

وقد وضع المشاركون في المؤتمر بعض التوصيات العامة بشأن كيفية محاربة “الروسوفوبيا”، جاءت على النحو التالي:

تعديل القوانين المتعلقة بمكافحة النشاط المتطرف والقانون الجنائي، وتجريم مظاهر رهاب روسيا بوصفها تحريضًا على الخلافات العرقية،

  1. إنشاء منظمات تراقب النشاط المناهض للروس، وتمنعه في المجالات الإعلامية والقانونية.
  2. إنشاء شبكة من المراكز لمواجهة الخطاب المعادي لروسيا في أوروبا،
  3. تكثيف المعلومات الدقيقة عن روسيا؛ من خلال إنشاء مواقع وصحف وقنوات باللغات الأجنبية،
  4. زيادة العمل مع منظمات حقوق الإنسان، والمؤسسات الأوروبية المعنية بحماية الحقوق الفردية والنخب الفكرية؛ من أجل نشر الرأي القائل بأن رهاب روسيا هو نوع محدد من العنصرية.

يمكن اعتبار “الروسوفوبيا” شكلًا من أشكال العنصرية الثقافية، التي بموجبها يكون الروس أدنى فكريًّا وثقافيًّا من بعض الكيانات العرقية الثقافية الأخرى (مثل الأوروبيين، والأنجلو ساكسونيين)، فالثقافة الروسية فكر مُنحرف، وتشكل خطرًا جسيمًا على الأعراف الاجتماعية الغربية الراسخة، وحتى على الحضارة الغربية نفسها. ويمكن فهم العنصرية الثقافية في هذا السياق على أنها تأكيد لتفوق أوروبا على الشعوب غير الأوروبية.

قد تؤدي التصريحات القاسية وغير العقلانية المعادية لروسيا في الغرب إلى نتائج عكسية، خاصةً أن فهم رهاب الروس داخليًّا يمكن إعادته إلى تصور السوفيتي المُعارض إيغور شافاريفيتش، الذي كان يرى نفسه وطنيًّا وقوميًّا روسيًّا ينقد الشيوعية ليس بدافع الخيانة؛ بل لأن الشيوعية غريبة عن روسيا، وأن الحكومة السوفيتية هي احتلال أجنبي، فالسوفيت معادون للروس؛ لأنهم تعاملوا بـغطرسة ضد كل شيء روسي، حتى الأسماء الروسية، في حين أن روسيا هي بلد كان دائمًا يعبر عن هوية فريدة لا ينبغي أبدًا أن تتخلى عنها[6].

أخيرًا، تعود روسيا إلى تجربتها السياسية التي امتدت إلى قرون قبل الشيوعية. بعد عقود من الضعف يُعاد إحياء التفكير التاريخي داخل البلاد. وبدلًا من الإشارة إلى الماضي السوفيتي، يلجأ الساسة الروس- بشكل أكثر شيوعًا- إلى المصطلحات ذات المغزى التاريخي. ومع أن وسائل الإعلام الأطلسية تشير- من حين إلى آخر- إلى الممارسات “القيصرية”، فإنها تشعر براحة أكبر مع أوجه التشابه السوفيتية- ربما لأنها تعرف القليل جدًا من تاريخ روسيا قبل الاتحاد السوفيتي، واختلافاتها عن الحقبة السوفيتية[7].

إن نظام الدولة القوي الذي تهدف روسيا إلى إحيائه ليس هو ما يدور في أذهان محرري وسائل الإعلام الأطلسية عندما يناقشون الاستبداد في روسيا، ولا يجب الخلط بين الدولة القوية والشمولية، أو السيطرة غير المحدودة على الحياة الخاصة والعامة؛ لأن حتى الأوتوقراطية القيصرية كانت تحترم- إلى حد كبير- (مقارنة بالطُغيان الليبرالي الغربي) الحدود الاجتماعية والسياسية الراسخة، حيث كانت الكنيسة ومؤسسات الحكم الذاتي أشبه بقيود غير رسمية على سلطة القيصر.

كما أن وسائل الإعلام الغربية مخطئة في افتراضها أن المستويات العالية من الدعم الشعبي لبوتين ناتجة في الغالب عن “دعاية الكرملين التي لا هوادة فيها”، وأنه “عندما يُمنحون خيارًا ديمقراطيًّا حقيقيًّا، سيرفض ملايين الروس البوتينية”. كان تصور حكم الدولة القوي على أنه حكم غير شرعي ومدعوم بالدعاية والقوة في المقام الأول خطأً غربيًا شائعًا في الحكم على أسس الاستقرار السياسي في روسيا؛ فعمليًّا، دعم كثير من الروس تاريخيًّا دولة قوية، ولم يروا أنها دولة قمعية داخليًّا.

لقد برر الروس نظامهم في الحُكم باحتياجات التنمية الداخلية، والأمن من التهديدات الخارجية. خاصةً أن الحجم الضخم لروسيا، وضعفها الجيوسياسي، وتخلفها الاقتصادي، هي عوامل تدفع الروس إلى اختيار نظام شديد المركزية. وبالطبع، اختلف الحكام الروس؛ فقد أهمل بعضهم الحاجة إلى التنمية الداخلية، وانخرطوا في مغامرات دولية محفوفة بالمخاطر، في حين نجح آخرون في صياغة أهداف طويلة الأجل لتعبئة الموارد المطلوبة. وتنوع الدعم الشعبي للحكام أيضًا، لكنه كان- إلى حد كبير- داعمًا للدولة القوية “الجيدة”، أو “السيئة”، بدلًا من الديمقراطية على النمط الغربي.

لذا، من غير الدقيق النظر إلى بوتين على أنه حاكم يتمتع بقوة ديكتاتورية، ومسؤول عن جميع إنجازات النظام السياسي الروسي وإخفاقاته. وتعد المقارنات بين بوتين وستالين/ هتلر شائعة في وسائل الإعلام الأطلسية اليوم، لكنَّ هناك قليلًا من التقدير لدور بوتين الحقيقي في الحكم، حيث يتم تجاهل الدولة الروسية ككل، والتركيز على بوتين فقط، ويُقدم بوتين بوصفه رمزًا لعودة روسيا الهمجية، وبأنه الجاني الرئيسي في الخلاف بين روسيا والغرب. ويمكن رؤية صورته على أغلفة الغالبية العظمى من المجلات الغربية السائدة التي تصف شخصيته بالسيئة والخطيرة. ومع ذلك، من خلال التركيز المفرط على دور القادة السياسيين، يتجاهل الساسة الغربيون- بشكل مضلل- عامل الاستمرارية في السياسة الخارجية لروسيا. وبغض النظر عن هذه المساعي الحثيثة لدراسة شخصية بوتين وفك رموزه، بدعوى توقع التحركات الروسية اللاحقة، لا تزال روسيا تحتفظ بقدرة كبيرة على المناورة، وعدم تنبؤ الغرب بسياستها في معظم الحالات.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير


شارك الموضوع