مقالات المركز

آفاق التعاون رغم ثقل تاريخ العداء

العلاقات الروسية – اليابانية


  • 26 أكتوبر 2021

شارك الموضوع

تعتمد أهمية دراسة العلاقات الروسية – اليابانية على دور كلا البلدين في المحيط الإقليمي والدولي، حيث يسعى البلدان إلى أداء دور أكبر على الساحة السياسية الدولية، بالإضافة إلى أن العلاقات الروسية- اليابانية واحدة من العلاقات الدولية التي تجمع بين الأهمية والتعقيد في الوقت نفسه، حيث مرت بمسار تاريخي شكلته الحروب والأزمات، خاصة فيما يتعلق بموضوع “جزر الكوريل”، التي كانت ولا تزال تُلقي بظلالها على علاقات البلدين؛ لذلك فإن تحليل الدوافع الحالية للتعاون والأسباب الموضوعية التي قد تحول دونه يُمكن أن يعطينا صورة واضحة لمسار العلاقات بين البلدين.

تاريخ الصراع في العلاقات الروسية- اليابانية

تمثل جزر الكوريل أهمية اقتصادية وعسكرية وجيوسياسية لكل من روسيا واليابان، فأولًا تاريخيًّا، في النصف الأول من القرن الثامن عشر، عام 1786، صدر مرسوم بضم جزر الكوريل إلى الإمبراطورية الروسية. وفي عام 1798، أعلن اليابانيون أن الجزر مِلك للإمبراطورية اليابانية، وبحلول عام 1804، سيطرت روسيا واليابان بشكل مشترك على الجزر، وعام 1855 وقعت روسيا واليابان على أول اتفاقية تجارية ثنائية، ورسّما الحدود، وتم على أساس تلك الاتفاقية إعلان السلام والصداقة بينهما، وفتحت ثلاثة موانٍ يابانية أمام السفن الروسية. لكنَّ الجانبين وقّعا، عام 1875، معاهدة تتنازل بموجبها روسيا عن إحدى جُزر الكوريل لليابان، وفي المقابل، اعترفت اليابان بالولاية القضائية الروسية الكاملة على سخالين، وبقيت المعاهدة سارية حتى عام 1905، عندما وقعت روسيا واليابان على معاهدة بورتسموث للسلام، وتخلت روسيا عن جزر الكوريل بكاملها، وبعض الأراضي في جنوب جزيرة سخالين.

خريطة جغرافية لروسيا واليابان موضح فيه جزء الكوريل وساخلين بلون مميز

غيرت هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية الوضع على الأرض لصالح روسيا، التي استعادت السيطرة على جزر الكوريل. عام 1956، وقع الاتحاد السوفيتي واليابان إعلانًا مشتركًا لإنهاء حالة الحرب واستعادة العلاقات الدبلوماسية، ووافق السوفيت مؤقتًا على التخلي عن جزيرتي هابوماي وشيكوتان لليابان في حالة إبرام معاهدة سلام. ومع ذلك، لم يتم التوقيع على معاهدة السلام، وقدمت اليابان مطالب لاستعادة جزر الكوريل الأربع (هابوماي، وتشيكوتان، وكوناشير، وإيتروب) التي تعدّها مناطقها الشمالية. وفي أثناء الحرب الباردة، دعمت الولايات المتحدة اليابان في صراعها مع روسيا بشأن الجزر، وبذلت جهودًا لمنع تهدئة الموقف بين البلدين وحل الأزمة، في حين اعتبر الاتحاد السوفيتي أن قضية الأراضي مع اليابان تم حلها في الحرب العالمية الثانية.

أهمية جُزر الكوريل

وتتمثل أهمية جُزر الكوريل الاقتصادية والعسكرية والجيوسياسية كالتالي:

  • اقتصاديًّا: تحتوي على موارد طبيعية مهمة توفر عوائد اقتصادية كبيرة؛ فالجزر مُحاطة بمناطق صيد غنية تمثل ثلث كمية الأسماك في بحار الشرق الأقصى، أي نحو (1.6) مليون طن من الأسماك سنويًّا. بالإضافة إلى الموارد المعدنية، مثل التيتانيوم، والمغنيسيوم، والكوبالت، والنحاس، والرصاص، والزنك، والبلاتين، والذهب، والكبريت. كما يوجد في جزيرة (إيتوروب) حقل لمادة الرينيوم النادرة، إلى جانب رواسب الغاز والنفط.
  • عسكريَّا وجيوسياسيًّا، توفر الجُزر طرقًا بحرية للمياه الدافئة؛ لذلك تتحكم في تحركات الأسطول الروسي في المحيط الهادئ الواقع في فلاديفوستوك، وتوفر إمكانية لانطلاق القوات البحرية اليابانية نحو بيرل هاربر في جزر هاواي.

لذا فالخلاف على جزر الكوريل ليس مجرد صراع ترسيم حدود أو تقسيم أراضٍ، ولكنه يرتبط أيضًا بالتحولات الجيوسياسية العالمية في القرن الحادي والعشرين، حيث يطمح كلا البلدين إلى الحصول على أكبر درجة ممكنة من المكانة والسلطة والسيطرة على الخريطة الدولية.

دوافع العلاقات الروسية- اليابانية

تستند دوافع التعاون “المُحتمل” بين روسيا واليابان إلى النظرة المتبادلة بين البلدين، التي تنطلق من فرضيات مثل: “الاجتماعات المتزايدة على مستوى القمة بين الرئيس الروسي (فلاديمير بوتين)  ورئيس الوزراء الياباني السابق (شينزو آبي)، وإنشاء اليابان وزارة خاصة للتعاون الاقتصادي مع روسيا، والاتفاق على إنشاء آلية لتوسيع الأنشطة الاقتصادية المشتركة في جُزر الكوريل وتقويتها، وبدء الحديث وإن كان لا يخلو من خلافات بشأن توقيع معاهدة سلام دائم. ويمكن تلخيص النظرة المتبادلة كالتالي:

  • أولًا: اليابان تنظر إلى روسيا نظرة مختلفة نسبيًّا عن النظرة الأمريكية المبالغة في العداء فيما يتعلق بالوجود الروسي في شبه جزيرة القرم، وأوكرانيا، وسوريا، حيث ترى طوكيو أن موسكو لا تمثل تهديدًا كبيرًا لمصالحها مقارنة بالصين، وذلك بالرغم من الوجود العسكري الروسي في جزر الكوريل، الذي تعزز عام 2016، عبر إنشاء أرصفة سفن حربية جديدة، وتأهيل المطارات العسكرية، ونشر أنظمة صواريخ متطورة، بالإضافة إلى نشر فرق مدفعية مدعومة بطائرات بدون طيار عام 2017، وإجراء تدريبات عسكرية دورية للأسطول الروسي في المحيط الهادئ، إلا أن اليابان تُبقي على روسيا كمصدر مُحتمل للطاقة في وقت لم تعد محطات الطاقة النووية اليابانية تمثل المصدر الأمثل.
  • ثانيًا: روسيا تنظر إلى اليابان أيضًا بوصفها شريكًا مُحتملًا للتعاون في مجالات الطاقة، وتوطين التكنولوجيا المتقدمة، وتطوير القطاعات الروسية الشرقية، بالإضافة إلى القلق الروسي من أن تصبح شريكًا صغيرًا للصين في ضوء النفوذ الجيوسياسي والاقتصادي المتزايد لبكين، التي رفضت دفع أسعار أعلى للغاز الطبيعي المستورد الروسي، وذلك في الوقت الذي تضغط فيه واشنطن لتقليص حصص سوق الطاقة الأوروبية من الموارد الطبيعية الروسية، وهذا أضعف قدرات موسكو على توفير بنية تحتية لتطوير اقتصادها؛ ما يجعل اليابان سوقًا مهمة لتصدير الطاقة الروسية.

لكن كما أن هناك فرضيات تؤيد هذه الرؤية المتفائلة، هناك حقائق أخرى تميل إلى أن العلاقات الروسية- اليابانية ستبقى في حالة من الجمود لعدة اعتبارات، أبرزها:

  • اليابان ليست كيانًا دبلوماسيًّا مستقلًا نتيجة تحالفها الأمني والعسكري مع الولايات المتحدة، حسب الرؤية الروسية، وهذا ما يبقى على مخاوف موسكو من أن واشنطن تُحرض طوكيو على استعادة جزر الكوريل أو احتلالها؛ للانتشار العسكري فيها بقوات أمريكية مباشرة، أو بإرسال قوات حلف شمال الأطلسي (الناتو) للتمركز في تلك الجزر؛ ما يعني تقويضًا للأمن القومي الروسي، فالمنطقة ذات أهمية إستراتيجية وعسكرية، وهي إحدى القواعد العسكرية الإستراتيجية للغواصات والأسطول الروسي.
  • الضغط الأطلسي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية على طوكيو من أجل الحفاظ على جبهة موحدة ضد موسكو دوليًّا فيما يتعلق بـ (شبه جزيرة القرم، وأوكرانيا، وسوريا)، وضرورة أن تفرض اليابان عقوبات مع مجموعة السبع على روسيا لكي تدرك أن “سلوكها غير مقبول، وسيواجه عواقب وخيمة”، وعلى الرغم من تردد اليابان وإرسالها رسالة مفادها أن عقوباتها على موسكو مفروضة بسبب الضغط الأطلسي، وأنها محدودة جدًّا، فإنها لم تقوَ على مخالفة مجموعة السبع.
  • الوزن الجيوسياسي لليابان المبالغ فيه أحيانًا يفسر التوقعات التي تم التعبير عنها بشأن تأثير العلاقات مع روسيا، حيث ستُدفَع الأخيرة بعيدًا عن الصين، وستُدفَع موسكو إلى القبول بوجود عسكري ياباني نشط، بما في ذلك الدفاع الصاروخي الموسع مع الولايات المتحدة، وكوريا الجنوبية.
  • بعد أكثر من سبعين عامًا من نهاية الحرب العالمية الثانية، يقف الرأي العام في اليابان وروسيا في طريق توقيع معاهدة سلام وتطبيع العلاقات تطبيعًا كاملًا فيما يتعلق بالقضايا الخلافية، وعلى رأسها جزر الكوريل. وكلتا الحكومتين أثارت الجمهور ضد الأخرى لأغراض سياسية؛ ففي عامي 2001 و2002، رفضت اليابان المفاوضات على أساس اتفاقية إيركوتسك (2001). اليوم، يقول الجانب الروسي إنه لا توجد دبلوماسية عامة بشأن مسألة الجزر، وفشل القوميون من كل جانب في التوافق بعضهم مع بعض لجعل المفاوضات جادة.

ما سبق من فرضيات يعني أننا قد نشهد تقاربًا يابانيًّا – روسيًّا في المواقف السياسية تجاه قضية دولية أو إقليمية، مثل: الصراع في شبه الجزيرة الكورية، والملف النووي الإيراني الذي شكل عاملًا من عوامل التقارب بين البلدين، وفي الوقت نفسه قد نشهد خلافًا ونزاعًا، بسبب التوترات والضغوط التي ألقت بظلالها على العلاقات بين البلدين، مثل “النزاع على شبه جزيرة القرم”.

سيناريوهات تطور العلاقات الروسية- اليابانية

حتى الآن، ليس هناك احتمال أن يحل البلدان النزاع الإقليمي بينهما حلًا نهائيًّا، لكن في وضع لا تغير فيه كل من روسيا والولايات المتحدة نظرتهما المتبادلة، تغير اليابان نظرتها. وقد تضع طوكيو في الوقت الحالي أي تطلعات لحل النزاع على الأرض جانبًا، وتبدأ بالتحرك فقط من منظور جيوسياسي يخدم المصالح الوطنية اليابانية، سيركز نسبيًّا على التالي:

  • التهديد الأكبر الوحيد هو الصين وليس روسيا؛ ومن ثم فإن الاهتمام الياباني الأساسي في السياسة الدفاعية سيكون ضد بكين، وستحتاج اليابان إلى بذل كل الجهد لمواجهة الصين بسياسة الردع والحوار.
  • الإبقاء على روسيا ضمن دائرتها الصديقة، ومعاملة موسكو باحترام كقوة عُظمى على الساحة الدولية؛ ولهذا، وكمثال، لم تتطرف طوكيو في نفي الرابطة التاريخية بين روسيا وشبه جزيرة القرم، وفي الوقت نفسه تؤكد الضرورة الجيوسياسية لأوكرانيا كدولة عازلة بين روسيا وأوروبا.
  • إعادة التقييم للتهديد الجيوسياسي في نظر الحزب الديمقراطي الحاكم في واشنطن منذ عهد أوباما، والآن جو بايدن يشير إلى أن “التهديد صيني”؛ ولهذا فإن هناك ضرورة لإعادة إحياء المقاربة الأطلسية والتحالف العسكري الكبير في منطقة المحيطين الهندي والهادئ لمواجهة تمدد بكين، وتحمل الشركاء أعباء الدفاع التي أثقلت كاهل الخزانة الأمريكية، وهذا قد يمنح اليابان مجالًا أكبر لعلاقات أكثر هدوءًا مع روسيا.

روسيا- من جانبها- تواجه موقفًا اقتصاديًّا وسياسيًّا صعبًا نسبيًّا، خاصةً بعد تحولها نحو الصين عام 2014، لكن تصديرها النفط والغاز الطبيعي لم يجلب الفوائد التي كانت متوقعة، بالإضافة إلى التأثير السلبي لجائحة (كوفيد- 19) في الاقتصاد، الذي انعكس في زيادة عدد الشركات الروسية التي بدأت تعاني نقص السيولة، وتعليق الأجور. وقد يؤدي تغيير موقف روسيا في الغرب إلى إعادة تحديد إطار عمل مشترك للمفاوضات مع اليابان، وهذا من شأنه أن يخلق ظروفًا أكثر ملاءمة لتحقيق انفراج في العلاقات الروسية- اليابانية. ومع ذلك، في هذا الوقت، لا يبدو أي شيء مرجحًا.

أخيرًا، هناك أسباب عدة  للقادة اليابانيين والروس للتوصل إلى اتفاق لتطبيع علاقتهم بترسيم الحدود الإقليمية، وإعلان معاهدة سلام، والشعور بالمصالح المشتركة؛ فالبلدان في وضع غير مؤاتٍ نسبيًّا لمناورة القوى العظمى الحالية، وقد يفقدان نفوذهما في توازنات السياسة. وبالنظر إلى أن روسيا تؤيد التعددية القطبية، وأن اليابان حريصة على سياسة خارجية آسيوية أكثر قوة، فإن المنطق السياسي المستقل للبلدين، بعيدًا عن نظرة الولايات المتحدة، قد يضمن مصالح البلدين.

وهناك سبب آخر لضرورة دفع العلاقات الروسية- اليابانية قُدمًا، وهو أن التكامل الاقتصادي لم يتحقق بشكل كافٍ بين البلدين، حيث تشعر الشركات اليابانية بالقلق من إمكانية إدراج تقنيات النفط والغاز في قائمة العقوبات الأمريكية، وتخشى أن تفرض وزارة الخزانة الأمريكية عقوبات على الشركات اليابانية بسبب مشروعاتها في روسيا، وتتذكر الشركات اليابانية العقوبة القاسية التي تعرضت لها شركة توشيبا عام 1987؛ لتعاملاتها مع الاتحاد السوفيتي، وهذا ما لا تريد تكراره.

وعلى الرغم من العقوبات الاقتصادية فإن هناك فرصًا جديدة لزيادة الروابط الاقتصادية اليابانية- الروسية في قطاعي الطاقة والزراعة، فقد زادت اليابان من اعتمادها على مصادر طاقة الوقود الأحفوري في أعقاب الانهيار النووي في فوكوشيما عام 2011؛ مما أدى إلى زيادة التعاون في مجال الطاقة، كما طورت الحكومة اليابانية مشروع استثمار زراعي شامل في الشرق الأقصى الروسي، ويهدف هذا المشروع إلى تحسين الإنتاجية الزراعية في روسيا من خلال اعتماد الآلات الزراعية اليابانية، والأسمدة والكيماويات الزراعية، وتقنيات معالجة الأغذية، وسيزيد العائد من إمكانات تصدير فول الصويا، والذرة، والقمح، ومنتجات الماشية، والتوت البري، والمنتجات المصنعة إلى اليابان، كما يستثمر هذا المشروع في تحسين الصوبات الزراعية الموجودة، وبناء صوبات زراعية جديدة لزراعة الخضراوات الطازجة والآمنة على مدار العام باستخدام التقنيات اليابانية.

استنتاجات

  1. العلاقات الروسية- اليابانية معقدة، وتحكمها رواسب تاريخية من الصعب تجاهلها.
  2. الولايات المتحدة الأمريكية ما زلت تحكم الدفة الرئيسية للدبلوماسية اليابانية؛ ما يصعب التقارب الياباني- الروسي.
  3. النفوذ الصيني يتحول إلى حافز مشترك بين روسيا واليابان للتعاون من أجل الحفاظ على توازنات القوى في آسيا.
  4. الصراع الأمريكي- الصيني يضغط على القرارات الدبلوماسية لروسيا واليابان من أجل تحديد إلى أي معسكر سينحاز البلدان.
  5. إمكانية التكامل بين اليابان بوصفها عملاقًا اقتصاديًّا، وروسيا بوصفها عملاقًا عسكريًّا تبقى على آمال التعاون، وتطبيع العلاقات، عبر بوابة الدفاع والأمن القومي.
  6. اليابان تمثل لروسيا عنصر تحديث وخلق لرأس المال لتطوير البنية التحتية، وزيادة الإنتاجية، والتحول إلى اقتصاد متكامل، وليس ريعيًّا يعتمد فقط على تصدير الموارد الطبيعية.
  7. روسيا تمثل لليابان احتياطيًّا ضخمًا من الموارد الطبيعية والطاقة قد يضمن لها تفوقها الاقتصادي الذي يُسهم في الحفاظ على قوة تأثيرها في محيطها الآسيوي.

ما ورد في المقالة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع