مقالات المركز

العلاقات الروسية – الهندية.. ماض من التعاون ومستقبل من الخلافات


  • 25 ديسمبر 2021

شارك الموضوع

لطالما نظرت روسيا، مثل الاتحاد السوفيتي، إلى الهند مِن منظور السياسة الواقعية. خلال الحرب الباردة كانت الهند دولة بالغة الأهمية؛ لأنها أحد مؤسسي حركة عدم الانحياز عام (1955)، التي أدّت دورًا محوريًّا على مدار خمسين عامًا في القضاء على الاستعمار الغربي، وإنشاء دول جديدة ذات سيادة واستقلالية، وقد بلغ عدد الدول الأعضاء في الحركة (116) دولة.

نشأت الهند كدولة في مرحلة (ما بعد الاستعمار)، ورغبت في أن تكون لديها سياسة خارجية تتميز بالحكم الذاتي، وترفض سياسة الأحلاف بوصفها انتهاكًا لقرارها المُستقل. ونظريًّا، أرادت علاقات جيدة مع كل من الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة، لكن عمليًّا، كان لأول رئيس وزراء للهند جواهر لال نهرو فكرة رومانسية عن الاتحاد السوفيتي، وتفضيل لأفكار الاشتراكية الفابية (الاشتراكية البريطانية التي تهدف إلى تعزيز مبادئ الاشتراكية الديمقراطية عبر التدريج والإصلاح، وليس عن طريق الثورة)، وأدى هذا إلى توثيق العلاقات بين الهند والاتحاد السوفيتي، في حين انخرطت باكستان كشريك للولايات المُتحدة.

تاريخ العلاقات الروسية – الهندية

خلال الحقبة السوفيتية عززت المساعدات في المجالات الاقتصادية والعسكرية ثقة القادة الهنود، ولم يُنظر إلى مبيعات الأسلحة السوفيتية (والروسية لاحقًا) على أنها وسيلة لموسكو للاحتفاظ بالسوق الهندية، لكن غالبًا ما استُقبلت بترحاب، فالقرار الروسي (الفيتو) في مجلس الأمن بشأن كشمير، جعل نيودلهي تنظر إلى موسكو بوصفها حليفًا إستراتيجيًّا. ولقد أثبتت موسكو باستمرار أنها شريك موثوق به لنيودلهي في أوقات الحاجة، وأقامت مقارنات مع علاقة الصين “الصديقة في لطالما نظرت روسيا، مثل الاتحاد السوفيتي، إلى الهند مِن منظور السياسة الواقعية. خلال الحرب الباردة كانت الهند دولة جميع الأحوال” مع باكستان، فمنذ منع الولايات المتحدة تصدير الأسلحة إلى شبه القارة الهندية خلال حرب كشمير عام (1965)، كان الاتحاد السوفيتي آنذاك هو المورد الأول للأسلحة إلى الهند. وبينما دعمت الولايات المتحدة باكستان خلال حرب تحرير بنغلاديش عام (1971) عبر إرسال حاملة طائرات إلى خليج البنغال، دعمت موسكو الهند، خاصةً عندما أجرت نيودلهي تجاربها النووية في أواخر التسعينات؛ بل ساعدتها بالفعل في برنامجها النووي. وخلال المواجهة العسكرية بين الهند والصين في جبال الهيمالايا عام (2020)، أوقفت روسيا تسليمها صواريخ الدفاع (S-400) إلى بكين. ودائمًا ما ترد الهند على كرم موسكو بأسلوبها الخاص، فعلى سبيل المثال، ظهرت بأنها تؤيد ضمنيًّا ضم روسيا لشبه جزيرة القرم عام (2014)، بالإضافة إلى قرار شراء نظام صواريخ الدفاع الروسي (S-400).

العلاقات العسكرية الروسية الهندية

قديمًا، كانت مبيعات الأسلحة الروسية إلى الهند تمثل الدعامة الأساسية للعلاقات الثنائية منذ أن وقع الاتحاد السوفيتي السابق والهند اتفاقية عام (1971). واليوم، أكثر من (60٪) من قوات الدفاع الهندية مجهزة بأسلحة روسية، لكنَّ هُناك تعاونًا متزايدًا في عملية تصنيع الأسلحة الروسية بواسطة الهند، حيث يتعاون البلدان في إنتاج صواريخ (براهموس)؛ أحد أسرع الصواريخ في العالم، بالإضافة إلى تصنيع طائرات (SU-30) ودبابات (T-90)، بالإضافة إلى خطط طموحة للبدء في تصنيع بنادق (AK-203).

بلغت التجارة بين روسيا والهند (10.11) مليار دولار أمريكي في (2019-2020)، واستثمر البلدان في قطاعي النفط والغاز. وحدّدا هدفًا تجاريًا ثنائيًّا برفع التبادل التجاري إلى (30) مليار دولار عام (2025). وشهد عام (2019) إعلان خطة ممر بحري بين تشيناي في الهند وفلاديفوستوك في روسيا، ومن المتوقع أن يمر الطريق عبر بحر الصين الجنوبي المتنازع عليه، ويزيد من مشاركة الهند الاقتصادية في الشرق الأقصى الروسي. وقدمت الهند ائتمانًا بقيمة مليار دولار للشرق الأقصى الروسي، تلك المنطقة التي تضم ثلث مساحة روسيا، والغنية بالمعادن، والهيدروكربونات، والأخشاب، والأسماك، وأعربت موسكو مؤخرًا عن اهتمامها بالاستثمار الهندي في المنطقة.

الشرق الأقصى الروسي والمصالح الجيوسياسية الهندية

كان التخلف في الشرق الأقصى الروسي مصدر قلق لموسكو، حيث تتمتع المنطقة النائية بتاريخ انفصالي قد يُعيد نفسه، أو تستغله قوى عالمية، مثل الصين، أو الولايات المتحدة؛ لذا منذ عام (2006) أعطت أولوية لتنمية الشرق الأقصى. وفي أعقاب الأزمة الأوكرانية عام (2014)، اكتسبت حملة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لعزل روسيا زخمًا، وفُرضت عقوبات على موسكو، وكان عليها أن تبحث في أماكن أخرى عن الأسواق، والاستثمار، والتكنولوجيا، وأدت هذه الظروف إلى تحول روسيا نحو آسيا، وأصبحت سياستها نحو الشرق الأقصى أكثر وضوحًا.

في عام 2015، أنشأ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين المنتدى الاقتصادي الشرقي (Eastern Economic Forum  – EEF) لجذب الاستثمار إلى الشرق الأقصى، ودمج المنطقة مع اقتصادات شرق آسيا. وفي السنوات التي تلت ذلك شهد المنتدى الاقتصادي مُشاركة قادة مِن عدة دول، مثل اليابان، والصين، ومنغوليا، وكوريا الجنوبية. وشاركت الهند عام (2019) لأول مرة في المنتدى، لكنها ليست غريبة عن الشرق الأقصى الروسي، فقد افتتحت قنصلية لها في فلاديفوستوك عام (1992)، وهي أول دولة في العالم تفعل ذلك. 

في العقود التي تلت ذلك، نما اهتمام الهند بمنطقة الشرق الأقصى الروسي، وخاصة باحتياطي النفط والغاز. عام (2001) استحوذت مؤسسة النفط والغاز الطبيعي الهندية على حصة (20%) من احتياطيات سخالين الروسية، وعام (2017)، على سبيل المثال، أعلنت شركة (Tata Power) أنها حصلت على رخصة تعدين بقيمة (4.7) مليون دولار لمنجم فحم حراري في شبه جزيرة كامتشاتكا، وعلى مدى العامين الماضيين (2019-2020) بدأت الشركات الهندية بإعلان استثمارات في الشرق الأقصى الروسي. 

يعزز وجود الهند في الشرق الأقصى الروسي نفوذها في الجوار المباشر للصين، وسيؤدي استخدامها طريق تشيناي- فلاديفوستوك البحري إلى زيادة وجودها في بحر الصين الجنوبي الذي تهيمن عليه الصين كما أشرنا أعلاه، “بل قد تنافس به مبادرة الحزام والطريق الصينية (BRI)، التي عمقت نفوذ الصين إلى جوار الهند”. أما بالنسبة إلى روسيا، فإن ضم نيودلهي إلى المنتدى الاقتصادي الشرقي يكمن في الدور الذي قد تؤديه الهند كمواطن مُحتمل ضد الوجود الساحق للصين في الشرق الأقصى الروسي.

إشكاليات العلاقة الروسية – الهندية

على الرغم من التاريخ الطويل للعلاقات الوثيقة بين روسيا والهند، فإن الاختلافات تتزايد في هذه العلاقة الثنائية، خاصةً في ضوء التغييرات الهيكلية الأساسية في البيئة الدولية. بالنسبة إلى روسيا، يمثل الغرب الذي تقوده الولايات المتحدة أكبر تحدٍ لها، وتدور أولويات سياستها الخارجية بشكل متزايد حول صد الغرب على كل المستويات، في حين تنظر الهند بتخوف مِن التقارب الروسي- الصيني، والروسي- الباكستاني، وتواجه نيودلهي عوامل خارجية سلبية ناشئة عن صعود الصين في جوارها، بل بدأت بكين تحتل مجال نفوذ الهند التقليدي في جنوب آسيا، ومنطقة المحيط الهندي، وبدا واضحًا الفرق في ميزان القوة بين الهند والصين، وفي ظل التزام روسيا الحياد في هذا الصراع سيتعين على نيودلهي أن تواجه وحيدة على جبهتين في آن.

وسيتمثل التحدي الأهم لسياسة روسيا نحو آسيا في الحاجة إلى تحقيق التوازن بين الصين والهند، خاصة أن الاختلافات بين الاثنين تلوح في الأفق بشكل كبير. ويتمثل أحد عناصر مشروع “أوراسيا الكبرى” في فكرة مواءمة طموحات روسيا في أوراسيا مع مبادرة الحزام والطريق الصينية (BRI). ومع ذلك، قد تتحول خطوة الشراكة الروسية للتكامل الإقليمي دون قصد إلى معضلة بين موسكو ونيودلهي. وتُظهر الاجتماعات الأخيرة بين مسؤولي الدولتين أن موسكو تحاول إقناع نيودلهي بإعادة تقييم موقفها من مبادرة الحزام والطريق، والانضمام إلى المشروع، لكن هذه المحاولات تفشل نتيجة رفض الهند الصامت، ومزاعم ممارسة روسيا الضغط من أجل المصالح الصينية. وفي ظل الحقائق الجيوسياسية الحالية، لن تتصالح الهند أبدًا مع الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني (CPEC) الذي يعبر أراضي كشمير،  وإن كان جزء منه يمكن أن يكون مفيدًا اقتصاديًّا. وبصرف النظر عن مبادرة الحزام والطريق، ستتطلب كل خطوة روسية تقريبًا في آسيا لتقييم مصالح بكين ونيودلهي، وستؤدي الاختلافات في هذه المصالح إلى اتخاذ قرارات صعبة، وعدم الرضا لاحقًا من أحد الطرفين.

فالتنامي المُطرد في حجم العلاقات التجارية بين موسكو وبكين يقلق نيودلهي، فقد بلغ (110) مليار دولار في عام (2019)، ومنذ عام (2015)، شكلت الاستثمارات الصينية (85٪) من الاستثمار الأجنبي في الشرق الأقصى الروسي، وتعد الصين أيضًا الشريك التجاري الأول للاتحاد الاقتصادي الأوراسي (EAEU) الذي تديره روسيا، والذي يضم جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابقة.  وبلغ حجم التبادل التجاري عام (2019) بين دول (EAEU) والهند (13.8) مليار دولار، في حين تجاوزت تجارة الصين مع الاتحاد الاقتصادي الأوراسي في ذلك العام (133) مليار دولار، وانضمت روسيا إلى مبادرة الحزام والطريق الصينية، وتناقش موسكو وبكين الآن اقتران الاتحاد الاقتصادي الأوراسي مع الصين، وإنشاء شراكة كبرى.

تفاصيل الخلاف الروسي الهندي حول أزمة أفغانستان

كما يحتدم الخلاف بين روسيا والهند في حل الأزمة الأفغانية، حيث يرى المسؤولين الروس أن التعاون مع حركة طالبان “دعاية” إعلامية، في حين تشعر نيودلهي بالقلق من إمكانية استغلال باكستان لحركة طالبان، والبدء بتسرب المقاتلين والسلاح إلى أراضيها،  وتدفع ثمن التنافس بين روسيا والولايات المتحدة، خاصةً أن روسيا تحاول سحب باكستان لمدارها، وقد تزامن كل هذا مع ارتفاع ملحوظ في عدد من الزيارات الثنائية بين روسيا وباكستان منذ عام (2012)، وبدء سلسلة من التدريبات العسكرية المشتركة، ثم عام (2014) وُقِّعَت اتفاقية للتعاون في مجال الدفاع بين البلدين، ومهد ما سبق لإتمام أول صفقة شراء لباكستان لمعدات عسكرية روسية عام (2015)، عندما اتفق الطرفان على أن إسلام أباد ستشتري طائرات هليكوبتر هجومية من طراز (Mi-35M)، بالإضافة إلى طائرات هليكوبتر روسية من طراز (Mi-171E) تستخدم في مهام الرؤية الليلية في أثناء عمليات مكافحة الإرهاب، والآن تتوارد أنباء عن رغبة إسلام أباد في شراء صفقة سلاح تتضمن نظام صواريخ (Pantsir-S)، ودبابات (T-90) الروسية، وتعد الصفقة الأضخم في تاريخ البلدين، وهذا من شأنه أن يدخل منطقة جنوب آسيا في سباق تسليح.

أخيرًا، وفي غضون ذلك، تراقب موسكو- عن كثب- تطور الحلف الرباعي الذي يضم الهند واليابان والولايات المتحدة وأستراليا في المُحيطين الهندي والهادئ؛ وذلك بسبب مشاركة الهند النشطة، “ولا يعني هذا تهديدًا للأمن القومي الروسي، أو تحديًا للمصالح الإقليمية لموسكو بالضرورة بسبب الوجود المنخفض لها في المحيطين”، لكن القلق يزداد نظرًا إلى أن منطقة المحيطين الهندي والهادئ أصبحت محورًا رئيسيًّا للشؤون العالمية، وستتطلب تفكيرًا إستراتيجيًّا روسيًّا جديدًا، وإعادة النظر بجدية في السياسة الإقليمية. خاصةً أن موسكو على موعد مع أزمات أفغانستان، وشبه الجزيرة الكورية، والنزاع في بحر الصين الجنوبي، وتصاعد المنافسة في المحيط الهندي؛ ما سيجعل سياسة التعامل بتوازن مع الشركاء الإستراتيجيين والإقليميين والأعداء مستحيلًا بدون خطة سياسية متماسكة، ومشاركة شاملة في المنطقة، وكلتاهما تبدو رفاهية لا تملكها موسكو في الوقت الحالي.

ما ورد في المقالة يعبر عن رأي الباحث ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير


شارك الموضوع