بريكس بلسمختارات أوراسية

بعد مرور الشهر الأول

ماذا يقول الخبراء الروس عن مسار الصراع مع الغرب في أوكرانيا؟

يتناول هذا التقرير آراء لأبرز الخبراء الروس، عن مسار “العملية العسكرية الخاصة”، أو “الحرب”، في أوكرانيا، والمواجهة بين روسيا والتحالف الأطلسي، جمعتها «وحدة الدراسات الروسية» ليكون لدى القراء تصور عما يدور في الداخل الروسي من نقاشات، في هذا (التقرير الأول)، الذي سيتبعه تقرير أسبوعي مماثل.

روسيا والغرب.. تجربة ثلاثين عامًا – فيودور لوكيانوف

مدير الأبحاث في نادي فالداي الدولي، ورئيس تحرير مجلة روسيا في الشؤون العالمية فيودور لوكيانوف

تحت هذا العنوان، تحدث مدير الأبحاث في نادي فالداي الدولي، ورئيس تحرير مجلة روسيا في الشؤون العالمية فيودور لوكيانوف، بأن بدء الحرب بهذا الشكل “شكّل مفاجأة له وللكثيرين، رغم توقع حدوثها، ولكن لم يكن يتخيل أن تكون موسعة إلى هذا الحد”، وأن هذه الحرب بمنزلة “نهاية لتجربة ثلاثين عامًا من النضال الروسي في محاولة الاندماج مع النظام العالمي المتمركز حول الغرب، وأنها ستخلق تغييرًا لا رجعة فيه، وبشكل جذري في الداخل الروسي”[1].

العقوبات غير المتوقعة

فيما يخص العقوبات، يعتقد لوكيانوف “أنها فاقت جميع التوقعات لدى الكرملين، وتعد الأكبر في التاريخ، ووضحت مدى الاشتباك في المصالح بشأن الطاقة والمصارف بين روسيا والغرب”، وهو ما سيرتد بالسلب على العولمة، وفي ذلك يقول: “لن يعود العالم إلى العولمة التي اعتدناها جميعًا؛ ومن ثم علينا اختبار صحة الفرضية القائلة بأنه عندما ينقلب كل شيء رأسًا على عقب، لدينا فرصة لأخذ مكان أكثر فائدة في النظام السياسي العالمي؛ لأنه في النظام الذي كان من قبل، الذي أُنشِئ بدون مشاركتنا، فقدنا اللحظة”.

العلاقة مع الصين

العلاقات مع اللاعبين الآسيويين ستساعد روسيا إذا أمكن بناؤها بناءً صحيحًا، لكن هذه مهمة صعبة، ويعود ذلك إلى عدة أسباب؛ أولًا: لأن اللاعبين الآسيويين في حالة تنافس، وفي مواجهة مباشرة بعضهم مع بعض؛ لذلك تواجه روسيا تحديات جديدة تمامًا؛ لأننا كنا دائمًا أكثر قدرة على إدارة تناقضاتنا مع أوروبا والغرب أكثر من الشرق، ولدينا خبرة أقل بكثير في هذه المنطقة؛ لأنها لم تكن مركزية على الإطلاق للسياسة الروسية، والآن أصبحت في المقدمة. ثانيًا، وهو الأمر الأكثر خطورة، أن روسيا أصبحت تعتمد بشدة على الصين بشكل لا مفر منه. هذا يعني أنه في مسائل التفاعل مع الآسيويين الآخرين، ستكون أفعالنا مقيدة. ولأن الصين لا تحتاج إلى وجود منافس جديد في آسيا، فإن الصين مهتمة- على سبيل المثال- بألا نبيع أسلحة للهند، مع أن العلاقة بين موسكو ونيودلهي علاقة طويلة الأمد وموجودة منذ عقود كثيرة، وهذا تحدٍّ ومشكلة كبرى. ثالثًا: العلاقات مع آسيا يمكن أن تساعد بالطبع على تجاوز بعض العقوبات، لكنها لن تحل مشكلاتنا. يجب أن نعتمد على قوتنا الذاتية، ونجذب الجميع إلينا، ولكننا ندرك أيضًا أن قدرات روسيا في هذا الجذب محدودة، وهو ما يطرح سؤالًا عن: كيف سيتم بناء السياسة الاقتصادية والنظام السياسي الجديد في روسيا؟ هناك كثير من الأسئلة هنا بلا إجابة واضحة حتى الآن.

ويظل الغرب متفوقًا

يتمتع الغرب بميزة تكنولوجية كبيرة على كلٍ من الهند والصين؛ ولذلك لا يمكن استبدال كل شيء، كما أن الصين، وكذلك الهند، لن تنقلبا على الأمريكيين إذا قررت واشنطن اتخاذ إجراءات ضدهما إذا خرقتا العقوبات؛ لأنهما- ببساطة- لن يكون بمقدورهما الدخول في مواجهة مع أمريكا. وعلينا ألا نهون من شأن العقوبات، وننظر إلى أوضاع فنزويلا وإيران؛ الوضع صعب، وليس سهلاً.

التوقعات لا معنى لها

التوقعات ورسم السيناريوهات لا معنى لها في الوقت الحاضر، لكن الأكيد أن روسيا ستتغير، ويكاد يكون من المستحيل التنبؤ بما ستؤول إليه أوضاعها، لكن على الأقل يمكن للمرء أن يحاول. يبدو أن الثنائية القطبية لن تتحقق، ولا مجال لها؛ لأن كل شيء لم يعد متماثلًا كما كان في الحرب الباردة. سيكون هناك كثير من اللاعبين الدوليين الذين يتصرفون بطريقة ما، ويؤثرون على الوضع العالمي، لكن في المقابل، من المنطقي افتراض وجود قطبية ثنائية؛ لأن الأمريكيين يجمعون حلفاءهم معًا، بما في ذلك إعادة إنشاء آليات الحرب الباردة، بما في ذلك العسكرة، ونشر القوات في أوروبا، وما إلى ذلك. من ناحية أخرى، تُظهر الصين مزيدًا من الدلائل على أنها لن تعقد أي صفقات مع الأمريكيين. إضافة إلى ذلك، فإن الأمريكيين لا يعرضون صفقات على بكين؛ بل فقط عدم اتخاذ إجراءات عقابية ضدها في صيغة أوامر، وهذا يعني أن الصين ستستمر في الوجود بشكل منفصل، وفي ظل حقيقة أن روسيا الآن- بصراحة- ضعيفة، فإن دولًا أخرى سوف تتقارب وتقترن بالصين.

الحكمة السعودية

لقد أظهر سلوك السعودية كثيرًا من الحكمة، وأنه من المستحيل، بل من الخطير الانفصال عن الولايات المتحدة انفصالًا كاملًا، لكنها- في الوقت نفسه- تدرك جيدًا ألا جدوى من المضي قدمًا خلف الأمريكي في كل ما يريده، ويجيبون: “ليس لدينا وقت للدخول في صراعات لأجل الآخرين”؛ لأنهم منشغلون في بناء منظومة جديدة، ويناقشون تجارة النفط مع الصين مقابل اليوان لخلق توازن، بشكل تدريجي. لقد مارست الولايات المتحدة ضغوطًا متزايدة على السعودية، والأمر غير مرتبط بولي العهد السعودي وحسب، فقد بدأ هذا الضغط منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وابتزازها المستمر عبر هذا الملف، وقد حاول ترمب تصحيح مسار العلاقة بين واشنطن والرياض، لكن مع عودة الديمقراطيين وبايدن ساءت العلاقات، إلى جانب استياء الرياض من هجمات الحوثيين، وعدم تقديم واشنطن أي دعم حقيقي سوى الإدانات. ونتيجة لذلك، فإن التوجه التقليدي للسعودية نحو الولايات المتحدة بعيد الآن عما كان عليه قبل خمسة عشر أو عشرين عامًا. بالإضافة إلى ذلك، أصبحت روسيا لاعبًا مهمًا في منطقة الشرق الأوسط بفضل سوريا؛ لذلك لن تستمع السعودية ودول الخليج الآن ببساطة إلى طلبات واشنطن، أو حتى تهديداتها؛ لأنها تعتقد أنها في موقع قوة، والغرب مجبر على اللجوء إليها. الغرض من هذه السياسة برمتها هو إجبار واشنطن على التعامل معهم تعاملًا مختلفًا، وبشروط أكثر ملاءمة لممالك الخليج، ولا يعني هذا بالضرورة الانفصال التام عن الولايات المتحدة[2].

ماذا لو فازت روسيا أو هُزمت؟

من غير المجدي عمل تنبؤ طويل المدى، ورهان البعض على أن العالم سيتغير، وفي هذه الحالة، سيكون من الممكن التصرف بشكل صحيح من أجل اتخاذ أفضل المواقف، هو رهان لا يمكن الاعتماد عليه– نحن أمام سيناريو متفائل، وتحقيق روسيا لأهدافها في أوكرانيا، على الرغم من كل التكاليف؛ ومن ثم، ستزداد الشكوك بشأن القدرة الأمريكية، لكن من غير المحتمل أن يؤثر هذا الوضع في موقف أوروبا؛ لعدم وجود مكان آخر غير الولايات المتحدة يمكن أن تذهب إليه، لكن بقية العالم، تحديدًا في فضاء ما بعد الاتحاد السوفيتي، وآسيا، والشرق الأوسط، سيكون هناك رد فعل قوي سيتطلب إعادة هيكلة كبيرة في العلاقات الدولية التي ما زالت متمحورة حول الغرب، وهو ما سيتيح لروسيا هامشًا واسعًا للمناورة. أما السيناريو المتشائم، فهو عدم تحقيق الأهداف المحددة في أوكرانيا بعد أن تعرضت روسيا لكل هذه الأضرار الكبرى في الاقتصاد والسمعة، وهو ما يهدد بحدوث تغييرات داخلية وخارجية، ربما بشكل عفوي، غير قابلة للسيطرة.

إنه الجيوبوليتيك يا غبي!- ديمتري ترينين

أستاذ العلوم السياسية ديمتري ترينين، مدير مركز كارنيغي موسكو، وعضو مجلس السياسة الخارجية والدفاعية الروسي

كتب أستاذ العلوم السياسية ديمتري ترينين، مدير مركز كارنيغي موسكو، وعضو مجلس السياسة الخارجية والدفاعية الروسي، عن النسخة الجديدة من سياسات الاتحاد الروسي، وأن المقولة الشهيرة التي صدرت عندما كانت السياسة تهيمن على الاقتصاد، والتي كانت صيغة معروفة منذ ثلاثين عامًا، تحت عنوان “إنه الاقتصاد يا غبي”؛ انقلبت رأسًا على عقب، لتصبح: “إنه الجيوبوليتيك يا غبي!”، وأن الأحداث الحالية في ظل هذا الوضع تؤكد أن “إعادة إصدار نسخة جديدة من سياسات الاتحاد الروسي” أمر لا مفر منه[3].

التدمير الكامل للعلاقات الروسية- الغربية

شكل يوم 24 فبراير (شباط) 2022– عند بدء العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا- مرحلة جديدة في التاريخ الروسي، وأصبح نقطة تحول في السياسة الدولية الحديثة. إن علاقات روسيا مع الغرب، التي كانت تتدهور- باطّراد- على مدى العقد الماضي، قد دُمرت بالكامل الآن. ردًا على الإجراءات في أوكرانيا، يهدد الغرب بتحويل روسيا إلى دولة منبوذة دوليًّا، ويحظر- باستمرار- علاقاتها الاقتصادية الخارجية، ويحاول التأثير في المجتمع الروسي من خلال عزله عن العالم الخارجي، وهو أمر سيستمر مدة طويلة، حتى لو تم التوصل إلى حل بين الطرفين.

استبدال الأقلمة بالعولمة

الآن، تقترب روسيا والصين، إحداهما من الأخرى، لتشكيل تحالفات قوى عظمى جديدة في العالم، تتعارض بعضها مع بعض بشأن أهم قضايا النظام العالمي، والقيم الأساسية، ويتم استبدال الأقلمة بالعولمة، وينقسم العالم إلى تكتلات عسكرية سياسية، ومالية، واقتصادية، وتكنولوجية متعارضة. الصيغة المعروفة منذ ثلاثين عاما انقلبت رأسًا على عقب، وباتت “الجيوبوليتيك يا غبي!”؛ أي لم يعد الاقتصاد وحده هو من يحرك السياسة؛ بل الجيوبوليتيك.

التغيير الذي لا مفر منه في داخل روسيا

في هذا الوضع الحالي، فإن “إعادة إصدار” نسخة جديدة من سياسات الاتحاد الروسي أمر لا مفر منه. يتمثل الاتجاه الرئيسي للتدابير الحكومية في تعبئة جميع الموارد المتاحة، والتوسع الأقصى للحريات الاقتصادية داخل البلاد، مع دعم الشرائح الضعيفة اجتماعيًّا من السكان في الوقت نفسه، لكن هذه ليست سوى الإجراءات العاجلة الأولية. البلد بحاجة إلى تغييرات جوهرية: “سد القنوات التي تغذي الفساد؛ إعادة توجيه الشركات الكبرى نحو المصالح الوطنية؛ انتهاج سياسة وظيفية جديدة لتحسين جودة الإدارة العامة بشكل كبير على جميع المستويات؛ تبني سياسة تكافل اجتماعي حقيقية؛ عودة القيم الأساسية- وليس النقدية- كأساس للحياة”. هذه التغييرات من المتعذر حدوثها دون التغلب على العناصر المتبقية من رأسمالية الأوليغارشية في الخارج، والتناوب الواسع النطاق في المراكز القيادية للدولة، وتحسين النخبة الحاكمة. إن أهم جبهة للمواجهة هي في الأساس داخل روسيا، أي داخل المجتمع الروسي. من الممكن التعامل مع التحديات الخارجية؛ بل التغلب عليها، لكن شرط حدوث ذلك فقط عبر تطهير الذات، وتقرير المصير. من الضروري التغلب ليس فقط على السرقة والاختلاس، ولكن أيضًا على اللامبالاة، والمادية البدائية، وعدم الإيمان، وأن تتعامل الدولة مع المواطنين تعاملًا مختلفًا ليصبحوا مواطنين بالمعنى الكامل للكلمة، وتحديد كيفية حصول كل إنسان روسي على أهدافه وطموحاته، وما الذي تمثله البلد بالنسبة إليه– بدون هذه الأطروحة التي تحتاج إلى مزيد من التوسع والنقاش، تصبح الحياة والوجود بلا معنى؛ وإلا فنحن نكذب على الآخرين، وعلى أنفسنا. برزت الآمال في هذا التحول خلال “الربيع الروسي” عام 2014، لكنها لم تتحقق؛ مما أدى إلى خيبة أمل كبيرة. الآن، هناك فرصة ثانية، يجب أن نتعلم من درس التاريخ: “الدولة الروسية لا يمكن قهرها عمليًّا من الخارج؛ لكنها تنهار على الأرض من الداخل عندما يصاب عدد كبير من الشعب بخيبة أمل في حكامهم، والنظام الاجتماعي الظالم، أو المختل وظيفيًّا”.

الانتقال من المواجهة إلى الحرب الهجينة

في السياسة الخارجية لروسيا، حدث انتقال من (المواجهة) مع الغرب الجماعي، التي بدأت عام 2014، إلى حرب هجينة نشطة معه. هذه الحرب الهجينة اتخذت طابعًا حادًا، بما في ذلك النزاعات المسلحة (غير المباشرة حتى الآن) بدرجات متفاوتة من الشدة، وقد وصلت إلى أبعد مدى لها باستثناء الحرب النووية؛ حيث الحصار الاقتصادي، والمالي، والتكنولوجي، وحرب المعلومات، والتخريب، وربما استخدام الإرهاب. إن الحرب الهجينة ليست حربًا باردة ثانية؛ لأن الاتحاد الروسي ليس الاتحاد السوفيتي، والعالم كذلك قد تغير كثيرًا على مدار العقود الماضية، ولكن مثل الحرب الباردة، فإن الحرب الهجينة هي شكل حاد من أشكال النضال من أجل نظام عالمي جديد.

الانتقال من المواجهة إلى الحرب الهجينة يعني أن زمن المناورات ومحاولات إقناع “الشركاء” أو “الزملاء” قد انتهى، واستبدلت بالمواجهة اللزجة معهم مواجهة حادة. انتقل تدهور العلاقات على مدى العقدين الماضيين من فجوة القيمة المزعومة في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين إلى فقدان في الثقة في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وعداء مفتوح في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. الولايات المتحدة وحلفاؤها ليسوا الآن خصومًا لروسيا، لكنهم معادون لروسيا. يقطع الغرب العلاقات مع روسيا- مع الدولة والمجتمع- في جميع المجالات، وقد تصبح هذه الفجوة دائمة. الغرب لن “يفهم”، ولن “يلين”، ولن “يكون أكثر لطفًا” مع روسيا. بالنسبة إلى الدول الغربية، أصبحت روسيا التي وصفت بأنها تمثل تهديدًا “عالميًا”، وأُعلنت دولةً منبوذةً دوليًا، أهم عامل في الالتفاف حول الولايات المتحدة؛ وعلى هذا النحو، فإن الصراع لا غنى عنه في المستقبل المنظور لواشنطن. على أي حال، عودة العلاقات بين الاتحاد الروسي والغرب إلى الماضي (سواء قبل فبراير/ شباط 2022 أو قبل فبراير/ شباط 2014) تكاد تكون أمرًا مستحيلًا.

الأهداف المتعارضة بين روسيا والغرب

أهداف الطرفين المتعارضين هي الأكثر حسمًا الآن من العلاقة فيما بينهما. بالنسبة إلى الغرب بقيادة واشنطن، فإن الهدف الرئيسي ليس فقط تغيير النظام السياسي في روسيا، ولكن أيضًا القضاء على روسيا ككيان مستقل كبير على المسرح العالمي، ومن الناحية المثالية، حبس روسيا في صراعات وتناقضات داخلية. بالنسبة إلى روسيا، الهدف الرئيسي هو أن تصبح مكتفية ذاتيًّا ومستقلة عن الغرب من الناحية الاقتصادية، والمالية، والتكنولوجية، وتتحول إلى قوة عظمى، وأحد مراكز وقادة النظام العالمي الجديد المتعدد الأقطاب. هذه الأهداف لا تترك مجالًا للتسوية الإستراتيجية.

نظرية التحالف المضاد للغرب

من الناحية الموضوعية، تتوافق كثير من أهداف روسيا مع تطلعات عدد من الدول غير الغربية- ليس فقط الصين، ولكن الهند جزئيًّا، وبعض الأعضاء في مجموعة البريكس (البرازيل– جنوب إفريقيا). في الوقت نفسه، فإن العالم “غير الغربي”، على عكس الغرب، لا يشكل تحالفًا توحده المصالح والقيم المشتركة؛ تختلف مصالح الدول المختلفة في هذا الجزء من النظام العالمي اختلافًا كبيرًا، والتناقضات بينها- على سبيل المثال، بين الهند والصين، والهند وباكستان، وإيران والدول العربية- قوية، وتؤدي إلى صراعات. وأهم من ذلك، على عكس روسيا (وإيران)، بقية الدول الرائدة في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية لا تزال مندمجة بعمق في النظام المالي والاقتصادي المتمحور حول أمريكا، وكثير منها يعتمد سياسيًّا وأيديولوجيًّا على الولايات المتحدة.

العلاقات الروسية المعقدة مع آسيا

علاقات روسيا مع أكبر قوتين في آسيا، وهما الصين والهند، لها أهمية إستراتيجية كبرى. أدى صعود جمهورية الصين الشعبية إلى مواجهتها- بطبيعة الحال- مع الولايات المتحدة، التي تسعى إلى الحفاظ، إن لم يكن الهيمنة على النظام العالمي. في الوقت نفسه، بفضل التطور التدريجي للعلاقات الروسية- الصينية على مدى العقود الثلاثة الماضية، أصبحت الشراكة بين موسكو وبكين عالية بشكل غير مسبوق. تؤدي المواجهة الحادة بين الولايات المتحدة وروسيا، فضلًا عن المواجهة المتزايدة بين أمريكا والصين، بشكل موضوعي، إلى نوع جديد من التحالف الذي يمكن تسميته تحالفًا “بلا حدود”، أي بدون التزامات صارمة، بين روسيا والصين. في سياق الحرب الاقتصادية مع الغرب، تعد بكين بالنسبة إلى موسكو الشريك الأهم- في المستقبل المنظور- في مجال التمويل، والتكنولوجيا، والاقتصاد.

العلاقات الروسية- الهندية قائمة على تقاليد قديمة من الصداقة والتعاطف المتبادل. إن نمو أهمية ودور الهند في العالم يصب في مصلحة روسيا، وزيادة القوة الاقتصادية للهند، وتطورها التكنولوجي يوسع من إمكانات التفاعل مع روسيا. في الوقت نفسه، فإن التناقضات بين نيودلهي وبكين، وكذلك التقارب السياسي والاقتصادي بين الهند والولايات المتحدة، والتعاون الوثيق بين الاتحاد الروسي والصين، تشكل تحديًا خطيرًا للعلاقات الروسية الهندية. تتمثل المهمة الملحة في تعزيز الشراكة الإستراتيجية بين موسكو ونيودلهي من أجل الارتقاء بها إلى مستوى التعاون الروسي الصيني.

الاتجاه نحو المنظمات الغير غربية

تهيمن الولايات المتحدة وحلفاؤها على معظم المنظمات الدولية التي تشارك فيها روسيا. ومن الأمثلة النموذجية منظمة حظر الأسلحة الكيميائية، ومجلس أوروبا. إن خروج الاتحاد الروسي من مجلس أوروبا خطوة طال انتظارها. حتى منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، التي نشأت في زمن الاتحاد السوفيتي، تخضع للتأثير الحاسم للدول الغربية. الاستثناء هو الأمم المتحدة، حيث تتمتع روسيا بعضوية دائمة في مجلس الأمن الدولي، وحق النقض. من خلال اتخاذ موقف نشط في الأمم المتحدة ومؤسساتها، من المنطقي لموسكو التركيز أكثر على منظمات الدول غير الغربية- البريكس، ومنظمة شنغهاي للتعاون، فضلًا عن المنظمات التي تؤدي فيها روسيا دورًا رائدًا- الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، ومنظمة معاهدة الأمن الجماعي. على كل هذه المنصات، من الضروري تطوير وتعزيز الأجندة العالمية، التي تم تحديد الخطوط العريضة لها في البيان الروسي- الصيني المشترك، الصادر في 4 فبراير (شباط) 2022. يجب تحويل هذه الأطروحات إلى منصة عالمية للتفاعل مع الدول المهتمة.

أولوية السياسة الخارجية الروسية

تبدو المهام ذات الأولوية لسياسة روسيا الخارجية في الظروف الجديدة واضحة تمامًا؛ أولًا: الردع الإستراتيجي للخصم، أي للولايات المتحدة وحلفائها في الناتو، وتجنب الانزلاق إلى حرب نووية. ثانيًا: خلق ظروف مواتية للتنمية الذاتية لروسيا بالاعتماد- بشكل أساسي- على الموارد الداخلية والحفاظ/ إعادة توجيه علاقاتها الاقتصادية الخارجية في أثناء اندلاع الحرب الاقتصادية مع الغرب؛ لتحقيق أقصى قدر من المساعدة للأعمال التجارية الروسية داخل البلاد، وفي النشاط الاقتصادي الأجنبي. ثالثًا: تطوير التنسيق والتفاعل الوثيقين مع الحليف الرئيسي للاتحاد الروسي– دولة بيلاروس، وتطوير التكامل الاقتصادي وتعزيز التعاون العسكري مع دول الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، ودول منظمة معاهدة الأمن الجماعي. رابعًا: زيادة توسيع مجالات التفاعل العملي، وتعزيز التفاهم المتبادل مع الشريكين الإستراتيجيين الرئيسيين للاتحاد الروسي- الصين والهند. خامسًا: التطوير الفعال للعلاقات مع تركيا وإيران، ودول أخرى في آسيا، وأمريكا اللاتينية، وإفريقيا لم تنضم بعد إلى نظام العقوبات على روسيا، وتشكيل هيكل مالي دولي جديد لا يعتمد على الدولار الأمريكي، ولكن بشكل هادئ وتدريجي مع الدول الأعضاء في منظمة شنغهاي للتعاون، ودول البريكس، والدول المهتمة الأخرى.

ما الذي تبقى من أوجه التعاون الأمريكي – الروسي؟

رغم التدهور الذي يبدو أنه لا رجعة فيه في العلاقات مع الولايات المتحدة، فإن أمر الحفاظ على حالة من الاستقرار الإستراتيجي مع الولايات المتحدة، ومنع وقوع حوادث عسكرية خطيرة مع الولايات المتحدة ودول الناتو أمر يستحق الحفاظ عليه، وهذا يتطلب عملًا موثوقًا به لقنوات الاتصال مع الولايات المتحدة، وسلطات الناتو المسؤولة عن الدفاع والأمن في حل المشكلات العالمية الأخرى- مثل تغير المناخ، ومكافحة الأوبئة، أو الحفاظ على الطبيعة في القطب الشمالي– كما يجب التركيز على البرامج الوطنية، والتعاون مع الدول الصديقة.

العلاقة الروسية- الأوكرانية ما بعد الحرب

تتمثل مهمة السياسة الخارجية لروسيا بعد انتهاء الصراع العسكري في تكوين علاقات جديدة بين الاتحاد الروسي وأوكرانيا، مع استبعاد تحول أوكرانيا إلى تهديد لأمن روسيـا، واعتراف كييف بوضع شبه جزيرة القرم كجزء من الاتحاد الروسي، واستقلال جمهوريات دونباس. الهدف الواعد هو تشكيل واقع جيوسياسي جديد في شرق أوروبا على أساس العلاقات الودية بين روسيا وبيلاروس وجمهوريات الدونباس، فضلًا عن العلاقات المقبولة لدى الاتحاد الروسي مع أوكرانيا.

تصحيح أخطاء السياسة الخارجية الروسية

في سياق الانخفاض الحاد في الاتصالات مع الدول الغربية (أمريكا الشمالية، وأوروبا، والمحيط البريطاني) من الضروري إعادة توزيع الموارد الدبلوماسية لروسيا من الغرب إلى الشرق والجنوب، بدءًا من دول رابطة الدول المستقلة المجاورة، حيث من الواضح أن نشاط السياسة الخارجية لروسيا وفاعليتها غير كافيين.

حان الوقت للبدء بتعزيز قاعدة الخبراء التحليلية للسياسة الخارجية الروسية، لا سيما في دول الاتحاد السوفيتي السابق، وكذلك جيران روسيا في أوراسيا. كثير من الإخفاقات وسوء التقدير، وإخفاقات السياسة الخارجية لموسكو في الاتجاه الأوكراني منذ التسعينيات متجذرة في الأفكار السطحية، وحتى القمة، بشأن الحقائق السياسية، والاجتماعية، والأيديولوجية لأوكرانيا الحديثة. يتطلب تصحيح الوضع إنشاء مراكز على مستوى عالمي لدراسة العمليات التي تجري في أوروبا الشرقية، وآسيا الوسطى، وكازاخستان، وكذلك في منطقة القوقاز.

العودة إلى الفكرة الروسية

من الضروري تحويل مركزية المعلومات والدعاية السياسة الخارجية من الدول الغربية، حيث تم تشكيل إجماع قوي مناهض لروسيا في المجتمعات، إلى الدول غير الغربية، وتطوير حوارات هادفة ومحترمة في المقام الأول مع مجتمعات الدول التي اتخذت موقفًا محايدًا في الحرب العالمية الهجينة على روسيا. ينطبق هذا- بشكل أساسي- على الدول الرائدة في آسيا، وأمريكا اللاتينية، وإفريقيا (الصين، والهند، وإيران، وتركيا، وباكستان، وفيتنام، وإندونيسيا، وماليزيا، والأرجنتين، والبرازيل، والمكسيك، وجنوب إفريقيا، ونيجيريا، والإمارات العربية المتحدة، ومصر، والجزائر). بالإضافة إلى موارد المناصرة، يجب أن تتلقى مراكز الأبحاث الروسية التي تتعامل مع هذه المناطق دعمًا قويًّا من الدولة.

مع التغيير في الوضع الحالي، أصبحت الحاجة إلى صياغة فكرة إرشادية جديدة للسياسة الخارجية لروسيا في القرن الحادي والعشرين أكثر وضوحًا- بشكل أساسي بالنسبة إلى الاتحاد الروسي نفسه، وأصدقائه المقربين، وللعالم الخارجي: “المحايدون والحلفاء”. البراغماتية كإستراتيجية في الظروف الحالية لم تعد مقبولة؛ نحن بحاجة إلى “فكرة روسية” حديثة المظهر، تستند إلى مجموعة من القيم العضوية لشعب روسيا، وتتضمن عددًا من الأهداف والمبادئ: “سيادة الدول؛ عدم قابلية الأمن الدولي للتجزئة؛ العدالة على أساس القانون؛ التنمية المشتركة؛ الحفاظ على التنوع الثقافي؛ حوار الحضارات”. المهمة الرئيسية في الاتجاه الأيديولوجي هي تنفيذ القيم والأهداف المعلنة في السياسة العملية للدولة الروسية داخل البلاد، وكذلك على الساحة الدولية.

ما ورد في التقرير يعبر عن رأي الكاتب ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير


شارك الموضوع