يبدو أن روسيا دخلت حقًا نحو حقبة جديدة من سياستها الخارجية، يمكن تسميتها بنهج “التدمير البنّاء” لنموذج العلاقات السابق مع الغرب– شوهدت بوضوح أجزاء من طريقة التفكير الجديدة هذه على مدار الخمسة عشر عامًا الماضية، وذلك منذ خطاب فلاديمير بوتين الشهير في مؤتمر ميونيخ عام 2007 – لكنَّ كثيرًا من نمط التفكير هذا قد أصبح واضحًا الآن بالتزامن مع تلك الجهود الباهتة للاندماج في النظام الغربي، مع الاحتفاظ بالموقف الدفاعي الصلب عن مصالحنا، وهو ما مثل الاتجاه العام في الخطاب والسياسة الروسية.
عملية التدمير البناء الحالية ليست عدوانية؛ حيث تؤكد روسيا أنها لن تهاجم أو توجه ضرباتها إلى أي جهة: “هذه العملية ببساطة لا تحتاج إلى ذلك”. توفر الظروف الخارجية الحالية في العالم مزيدًا من الفرص الجيوسياسية لروسيا لتنمية مصالحها على المدى المتوسط، مع وجود استثناء واحد، وهو توسع حلف الناتو عبر إدماج أوكرانيا فيه، بشكل رسمي أو غير رسمي، مع ما يمثله ذلك من خطر كبير على أمن البلاد، وهو ما لن تقبله موسكو ببساطة.
في الوقت الحالي، يمضي الغرب في طريقه نحو الانهيار، وإن كان بشكل بطيء، ولكنه حتمي، سواء من حيث الشؤون الداخلية والخارجية، أو حتى الاقتصاد. وهذا الوضع تحديدًا هو سبب اندلاع هذه الحرب الباردة الجديدة بعد ما يقرب من (500) عام من الهيمنة العالمية للغرب على السياسة، والاقتصاد، والثقافة، وهو ما توّج بشكل خاص في التسعينيات، بعد انتصاره الحاسم الذي استمر حتى منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
ما أعتقده أن الغرب على الأرجح سيخسر هذه المعركة، وسيتنحى جانبًا عن مركز القيادة العالمي ليصبح شريكًا، وهو الشكل الأكثر منطقية. وفي لحظة ليست بالمبكرة: “ستحتاج روسيا إلى موازنة العلاقات مع الصين الصديقة، ولكنها الأكثر قوة أيضًا على نحوٍ متزايد”.
في الوقت الحاضر، يحاول الغرب يائسًا الدفاع عن هذه الهيمنة عبر خطابه العدواني الحالي الذي يهدف إلى توحيد معسكره، واللعب بما تبقى لديه من أوراق رابحة لعكس هذا الاتجاه. إحدى هذه الأوراق محاولة استخدام أوكرانيا لإلحاق الضرر بروسيا وتحييدها. من المهم في هذا الشأن منع هذه المحاولات المتشنجة الحالية للولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي من أن تتحول إلى مواجهة شاملة؛ لأن ذلك قد يأتي بنتائج عكسية وخطيرة، على الرغم من عدم إدراك الغرب نسبيًا لخطورة هذا النهج. لا يزال يتعين علينا إقناع الغربيين بأنهم فقط يضرون أنفسهم.
الورقة الرابحة الأخرى هي الدور المهيمن للغرب في نظام الأمن الأوروبي- الأطلسي الحالي الذي تأسس في وقت كانت فيه روسيا ضعيفة بشكل حاد في أعقاب الحرب الباردة. هناك ميزة تكمن في هدم هذا النظام تدريجيًا، ويعود ذلك- في المقام الأول- إلى رفض المشاركة فيه واللعب وفقًا لقواعده التي باتت بالية، وغير مواتية بطبيعتها لنا. بالنسبة إلى روسيا، يجب أن يصبح المسار الغربي ثانويًا بالنسبة إلى دبلوماسيتها الأوراسية- قد يؤدي الحفاظ على العلاقات البناءة مع الدول الواقعة في الجزء الغربي من القارة الأوروبية إلى تسهيل اندماج روسيا في منطقة أوراسيا الكبرى، ولكن النظام القديم يحول دون ذلك؛ ولذا لا بد من تفكيكه. سيكون من الرائع لو كان لدينا مزيد من الوقت للقيام بذلك، لكن التاريخ يُظهر أنه منذ انهيار الاتحاد السوفيتي قبل 30 عامًا، فقط قلة من دول ما بعد الاتحاد السوفيتي هي مَن تمكنت أن تصبح حقًا مستقلة. وبعضها قد لا يصل إلى هذه المرحلة، ولذلك أسباب مختلفة، وهو موضوع جدير بالبحث والتحليل، في ظروفٍ أخرى.
في الوقت الحالي، لا يمكنني إلا أن أشير إلى ما هو واضح بالفعل: “معظم النخب المحلية للبلدان المستقلة عن الاتحاد السوفيتي لا تملك الخبرة التاريخية أو الثقافية لبناء الدولة”. لقد أثبتوا أنهم غير قادرين على أن يشكلوا نواة أمة، ولم يكن لديهم الوقت الكافي لذلك. عندما اختفى الفضاء الفكري والثقافي السوفيتي المشترك، كانت الدول الصغيرة هي الأكثر تضررًا؛ حيث تبين لها أن الفرص الجديدة لبناء العلاقات مع الغرب ليست بديلًا. كما أن أولئك الذين وجدوا أنفسهم على رأس هذه الدول كانوا يبيعون بلادهم لمصلحتهم الشخصية؛ وذلك لعدم وجود فكرة وطنية يمكن لأحد أن يقاتل من أجلها. وليس أمام هذه الدول إلا أن تحذو حذو دول البلطيق، وذلك من خلال قبول السيطرة الخارجية، أو أن تتجه نحو الفوضى والخروج عن نطاق السيطرة، وهو الأمر الذي قد يكون في بعض الحالات خطيرًا جدًا.
دعونا الآن نترك النقاش عن “التوحيد” الذي يفرضه علينا التاريخ إلى يوم آخر. ولنتحدث هذه المرة عن الحاجة الموضوعية إلى اتخاذ قرار صارم نحو اعتماد سياسة “التدمير البناء”، والتركيز عليها.
اليوم نشهد بداية العصر الرابع لسياسة روسيا الخارجية: “بدأ العصر الأول في أواخر الثمانينيات، وكان يمثل وقت الضعف والأوهام”. لقد فقدت الأمة آنذاك إرادة القتال، وأراد الناس تصديق دعاية الديمقراطية، وأن الغرب سيأتي وينقذهم. انتهى كل هذا في عام 1999 بعد الموجات الأولى من توسع الناتو، وهو ما اعتبره الروس طعنةً في الظهر، وبخاصةٍ عندما مزق الغرب ما تبقى من يوغوسلافيا.
بعد ذلك، بدأت روسيا بالوقوف على ركبتيها، وإعادة بناء نفسها خلسةً وبشكل سري، في الوقت الذي بدت فيه- في الظاهر- ودودة ومتواضعة. إلا أن انسحاب الولايات المتحدة من معاهدة الصواريخ المضادة للباليستية (ABM) أشار إلى نيتها استعادة هيمنتها الإستراتيجية؛ لذلك اتخذت روسيا- التي كانت لا تزال مُنكسرة- قرارًا مصيريًا لتطوير أنظمة تسليح قادرة على تحدي التطلعات الأمريكية.
إن خطاب مؤتمر ميونيخ، والحرب الجورجية، وإطلاق عملية إصلاح الجيش التي أجريت وسط أزمة اقتصادية عالمية، أدت إلى نهاية الإمبريالية الليبرالية العالمية الغربية (المصطلح الذي صاغه الخبير البارز في الشؤون الدولية، ريتشارد ساكوا Richard Sakwa). بعد ذلك ظهر هدف جديد لروسيا في مجال السياسة الخارجية؛ وهو أن تصبح- مرة أخرى- قوة عالمية رائدة يمكنها الدفاع عن سيادتها ومصالحها. تبعت ذلك أحداث شبه جزيرة القرم وسوريا، وتبني سياسة الحشود، ومنع الغرب من التدخل في الشؤون الداخلية لروسيا، واستبعاد من دخلوا في شراكة مع الغرب على حساب وطنهم من الخدمة العامة، بما في ذلك من خلال الاستخدام البارع لرد الفعل الغربي على تلك التطورات. مع استمرار التوترات في التصاعد، أصبح التقييم العام للاحتفاظ بالعلاقات مع الغرب ينظر إليه على أنه أقل ربحًا بشكلٍ متزايد، وتزامن ذلك مع الصعود المذهل للصين، وتحول علاقتنا مع بكين نحو التحالف الفعلي بدءًا من العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وبناء محور يتجه نحو الشرق، وما رافقه من أزمة متعددة الأبعاد أحاطت بالغرب، وقد أدى هذا كله إلى تحول كبير في التوازن السياسي والجغرافي الاقتصادي لصالح روسيا. وقد بات هذا الأمر واضحًا بشكل خاص في أوروبا. قبل عقد واحد فقط، كان الاتحاد الأوروبي لا يرى في روسيا سوى ضواحٍ متخلفة، وبلد ضعيف يحاول مواجهة القوى الكبرى في القارة. أما الآن، فهو يحاول- بشكل يائس- التمسك بالاستقلال الجيوسياسي والجيواقتصادي الذي ينزلق من بين أصابعه.
انتهت فترة “العودة إلى العظمة” بين عامي 2017 و2018. بعد ذلك وصلت روسيا إلى مرحلة الاستقرار، مع استمرار عملية التحديث، لكن الاقتصاد الضعيف كان يهدد بفقدان كل هذه الإنجازات. كان الناس (ومنهم أنا) محبطين خوفًا من أن روسيا ستتعرض- مرة أخرى- لعملية “انتزاع الهزيمة من فكي النصر“، لكن تبين أنها كانت فترة أخرى من أجل مزيد من التعزيزات، خاصةً فيما يتعلق بالقدرات الدفاعية.
الإنذار الذي وجهته روسيا إلى الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي نهاية عام 2021، يمثل مطالبتهما بالتوقف عن تطوير البنية التحتية العسكرية بالقرب من الحدود الروسية، وإيقاف التوسع شرقًا، وهو ما يمثل بداية لعملية “التدمير البناء” لوضع الأساس لنوع جديد من العلاقات بين روسيا والغرب، يختلف عما استقرت عليه في التسعينيات.
قد تعني القدرات العسكرية الروسية، وعودة الشعور بالصلاح الأخلاقي، والدروس المستفادة من أخطاء الماضي، والتحالف الوثيق مع الصين، أن الغرب الذي اختار أداء دور الخصم، سيبدأ في إعادة حساباته بشكل عقلاني، حتى لو لم يكن طوال الوقت. بعد ذلك، في غضون عقد، أو ربما قبل ذلك، آمل أن يتم بناء نظام جديد للأمن والتعاون الدوليين، يشمل منطقة أوراسيا الكبرى بكاملها هذه المرة، وسوف يستند إلى مبادئ الأمم المتحدة، والقانون الدولي، وليس “القواعد” الأحادية الجانب التي كان الغرب يحاول أن يفرضها على العالم في العقود الأخيرة.
قبل أن أذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، اسمحوا لي أن أقول إنني أقدر كثيرًا الدبلوماسية الروسية؛ فلقد كانت أكثر من رائعة في السنوات الخمس والعشرين الماضية. كانت يد موسكو ما زالت ضعيفة، لكنها مع ذلك تمكنت من لعب مباراة رائعة. أولًا، لم تسمح للغرب “بإنهاء” الوضعية الرسمية لروسيا بوصفها دولة عظمى، واحتفظت بالعضوية الدائمة في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وكذلك بترساناتها النووية، ثم حسّنت تدريجيًا مكانتها العالمية من خلال الاستفادة من نقاط ضعف منافسيها، وقوة شركائها. لقد كان بناء صداقة قوية مع الصين إنجازًا كبيرًا. كما أن روسيا تتمتع ببعض المزايا الجيوسياسية التي لم تكن لدى الاتحاد السوفيتي.
مع ذلك، يجب ألا ننسى الأخطاء التي ارتكبناها حتى لا نكررها. لقد أدى كسلنا وضعفنا وجمودنا البيروقراطي في المساعدة، إلى خلق وإبقاء النظام الجائر وغير المستقر للأمن الأوروبي الذي نعيش فيه اليوم.
تضمن ميثاق باريس لأوروبا الجديدة المَصوغ صياغةً جميلة، الذي تم التوقيع عليه عام 1990، بندًا عن حرية تكوين التجمعات- يمكن للبلدان أن تختار حلفاءها، وهو أمر كان من الممكن أن يكون مستحيلًا بموجب إعلان هلسنكي عام 1975؛ نظرًا إلى أن حلف وارسو كان قائمًا في تلك المرحلة؛ لذا فإن هذا البند يعني أن الناتو سيكون حرًا في التوسع. هذه هي الوثيقة التي لا يزال الجميع يشير إليها حتى في روسيا. ومع ذلك، بالعودة إلى عام 1990 على الأقل، كان الناتو يُعد منظمة “دفاعية”، ولكن بعد ذلك شن معظم أعضائه عددًا من الحملات العسكرية العدوانية ضد ما تبقى من يوغوسلافيا، وكذلك في العراق وليبيا.
بعد محادثة من “القلب إلى القلب” مع ليخ فاليسا عام 1993، وقع بوريس يلتسين وثيقة تنص على أن روسيا “تتفهم خطة بولندا للانضمام إلى الناتو”. عندما علم أندريه كوزيريف، وزير خارجية روسيا آنذاك، بخطط توسع الناتو عام 1994، بدأ بعملية مساومة نيابةً عن روسيا، ودون استشارة الرئيس، وهو ما اعتبره الجانب الآخر علامة على أن روسيا موافقة على المفهوم العام، لأنها كانت تحاول التفاوض على شروط مقبولة. في عام 1995، ضغطت موسكو على “الفرامل”، لكن الأوان كان قد فات- انهار السد، وأزيلت أي تحفظات بشأن جهود التوسيع التي سعى إليها الغرب.
عام 1997، وقعت روسيا، التي كانت ضعيفة اقتصاديًا، وتعتمد كليًا على الغرب، على القانون التأسيسي للعلاقات المتبادلة والتعاون والأمن مع الناتو. كانت موسكو قادرة على إجبار الغرب على تقديم تنازلات معينة، مثل التعهد بعدم نشر وحدات عسكرية كبيرة في الدول التي نالت العضوية حديثًا، وهو التزام كثيرًا ما انتهكه الناتو.
اتفاقية أخرى تم توقيعها للحفاظ على هذه الأراضي خالية من الأسلحة النووية. كانت الولايات المتحدة تريد أن تنأى بنفسها عن أي صراع نووي محتمل في أوروبا قدر الإمكان (على الرغم من رغبات حلفائها)؛ لأنه سيسبب- بلا شك- ضربة نووية ضد أمريكا. في الواقع، أضفت الوثيقة الشرعية على توسع الناتو.
كانت هناك أخطاء أخرى، ليست كبيرة؛ ولكنها مؤلمة جدًا. شاركت روسيا في برنامج الشراكة من أجل السلام (PfP)، الذي كان الهدف الوحيد منه هو جعل الناتو يبدو وكأنه مستعد للاستماع إلى موسكو، لكن الحلف في الواقع كان يستخدم المشروع لتبرير وجوده، وزيادة توسعه المستمر. خطأ آخر مُحبط، ألا وهو مشاركتنا في “مجلس الناتو وروسيا” بعد عدوان يوغوسلافيا، حيث كانت الموضوعات التي نُوقشت على هذا المستوى من “المجالس المشتركة” تفتقر بشدة إلى المضمون. كان ينبغي أن تركز على القضية المهمة حقًا، وهي تقييد توسع الحلف، وتعزيز بنيته التحتية العسكرية بالقرب من الحدود الروسية. مع الأسف، لم يصل هذا النقاش إلى جدول الأعمال، واستمر المجلس في العمل حتى بعد أن بدأت غالبية أعضاء الناتو الحرب في العراق، ثم ليبيا عام 2011.
من المؤسف جدًا أننا لم نمتلك الجرأة قط لقول ذلك علانية- لقد أصبح الناتو معتديًا بشكل متزايد، حيث ارتكب كثيرًا من جرائم الحرب. قد تكون هذه حقيقة مفهومة لدى كثير من الدوائر السياسية في أوروبا، مثل فنلندا والسويد على سبيل المثال، عندما يفكرون في مزايا الانضمام إلى الحلف في ظل شعاره المعلن بأنه “تحالف دفاع”، ورادع يحتاج إلى مزيد من التعزيز حتى يتمكن من الوقوف في وجه أعداء وهميين. أستطيع أن فهم دوافع أولئك الشركاء الصغار في الغرب، الذين اعتادوا ذلك النظام الذي يسمح للأمريكيين بشراء طاعتهم، ليس فقط عبر الدعم العسكري؛ ولكن أيضًا من خلال توفيرهم بعض النفقات الأمنية من خلال بيع جزء من سيادتهم.. لكن ما الذي نستفيده نحن من هذا النظام؟ خاصةً بعد أن أصبح واضحًا أنه يسعى إلى تصعيد المواجهة على حدودنا الغربية، وفي العالم كله.
كما أن هذا الحلف “الناتو” أصبح يشكل تهديدًا لأعضائه أيضًا؛ ففي حين أنه يدفع نحو المواجهة، فإنه فعليًا لا يضمن الحماية. ليس صحيحًا أن المادة (الخامسة) من معاهدة حلف شمال الأطلسي تستدعي الدفاع الجماعي إذا تعرض أحد الحلفاء للهجوم. لا تذكر هذه المادة أن هذا الأمر مضمون تلقائيًا. إنني على دراية بتاريخ الحلف والمناقشات في أمريكا بشأن إنشائه. كما أعرف حقيقة أن الولايات المتحدة لن تنشر أبدًا أسلحة نووية “لحماية” حلفائها إذا كان هناك صراع مع دولة نووية أخرى. كذلك فإن منظمة الأمن والتعاون في أوروبا (OSCE) قد عفا عليها الزمن، وبات يسيطر عليها الناتو والاتحاد الأوروبي اللذان يستخدمان المنظمة لإطالة أمد المواجهة، وفرض القيم والمعايير السياسية للغرب على الجميع. لحسن الحظ، أصبحت هذه السياسة أقل فاعلية. في منتصف عام 2010، أتيحت لي الفرصة للعمل مع فريق من الشخصيات البارزة، تابع لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا (يا له من اسم جذاب!)، كان من المفترض أن يطور تفويضًا جديدًا لمهام عمل المنظمة. مع أنه كانت لديّ شكوك بشأن فاعلية منظمة الأمن والتعاون في أوروبا قبل ذلك، فإن هذه التجربة أقنعتني بأنها مؤسسة مدمرة إلى أبعد الحدود. إنها منظمة قديمة، مهمتها الحفاظ على الأشياء التي عفا عليها الزمن. في التسعينيات كانت أشبه بأداة لدفن أي محاولة قامت بها روسيا، أو غيرها من الدول، لإنشاء نظام أمني أوروبي مشترك. أما في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، فقد أعاقت ما يسمى بعملية كورفو (Corfu)، وهي مبادرة الأمن الروسية الجديدة.
عمليًا، تم إخراج جميع مؤسسات الأمم المتحدة من القارة، بما في ذلك لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية لأوروبا، ومجلس حقوق الإنسان، ومجلس الأمن. ذات مرة، كان يُنظر إلى منظمة الأمن والتعاون في أوروبا على أنها منظمة مفيدة، من شأنها تعزيز نظام الأمم المتحدة ومبادئها، وهذا ما لم يحدث. أما بالنسبة إلى حلف الناتو، فمن الواضح جدًا ما يجب أن نفعله. نحن بحاجة إلى تقويض الشرعية الأخلاقية والسياسية لهذا الحلف، ورفض أي شراكة مؤسسية معه؛ لأنها تأتي بنتائج عكسية واضحة.
يجب على الجيش فقط الاستمرار في التواصل، ولكن كقناة مساعدة، من شأنها أن تكمل الحوار مع وزارة الدفاع، ووزارات الدفاع في الدول الأوروبية الرائدة. بعد كل شيء، ليست بروكسل هي التي تتخذ قرارات مهمة من الناحية الإستراتيجية. يمكن اعتماد السياسة نفسها عندما يتعلق الأمر بمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا. نعم، هناك فرق بالتأكيد، لأنه مع أن هذه المنظمة مدمرة وعديمة الفائدة، فإنها لم تبدأ أي حروب، أو زعزعة استقرار، أو قتل؛ لذلك نحن بحاجة إلى الحفاظ على مشاركتنا عبر هذا الشكل إلى الحد الأدنى. يقول البعض إن هذا هو السياق الوحيد الذي يمنح وزير الخارجية الروسي فرصة لرؤية نظرائه الأوروبيين. ليس هذا صحيحًا؛ يمكن للأمم المتحدة أن تقدم سياقًا أفضل. تعد المحادثات الثنائية أكثر فاعلية على أي حال؛ لأنه من السهل على أي تحالف أو تكتل أن يفسد جدول الأعمال عندما تكون هناك عدة أطراف. سيكون إرسال مراقبين وقوات حفظ سلام عبر الأمم المتحدة أكثر منطقية.
لا يسمح لي موضوع المقال ومحدوديته بالتفكير في السياسات المحددة التي ينبغي لنا انتهاجها تجاه كل منظمة أوروبية، مثل “مجلس أوروبا”، لكنني سأحدد المبدأ العام بهذه الطريقة: “نشارك حيث نرى فوائد لأنفسنا، ونحافظ على مسافة بيننا”.
أثبتت ثلاثون عامًا في ظل النظام الحالي للمؤسسات الأوروبية أن الاستمرار فيها سيكون ضارًا، ولا تستفيد روسيا منه بأي شكل من الأشكال، خاصةً في ظل نزعة أوروبا نحو تصعيد المواجهة، أو حتى تشكيل تهديد عسكري لشبه القارة، والعالم بأسره. في الماضي، كان بإمكاننا أن نحلم بأن تساعدنا أوروبا على تعزيز الأمن، فضلًا عن التحديث السياسي والاقتصادي. بدلاً من ذلك، هم يقوضون الأمن، فلماذا إذن ننسخ النظام السياسي الغربي المختل وظيفيًا والمتدهور؟ وهل نحتاج حقًا إلى هذه القيم الجديدة التي اعتمدوها؟ يتعين علينا الحد من التوسع؛ من خلال رفض التعاون في إطار نظام متآكل. نأمل، من خلال اتخاذ موقف حازم كهذا، وترك جيراننا “المتحضرين” من الغرب إلى أنظمتهم الخاصة، أن نكون بذلك قد ساعدناهم بالفعل.
قد تعودت النخب الأوروبية ممارسة سياسة انتحارية أقل أمانًا للجميع. بالطبع، يجب أن نكون أذكياء من خلال إخراج أنفسنا من هذه المعادلة، مع التأكد من تقليل الأضرار الجانبية التي سيحدثها هذا النظام الفاشل حتمًا. مع مراعاة أن الحفاظ عليه في شكله الحالي هو- ببساطة- “أمر خطير”.
مع استمرار النظام العالمي القائم في الانهيار، يبدو أن المسار الأكثر حكمة لروسيا هو البقاء خارجه أطولَ فترةٍ ممكنة، “من خلال الاختباء داخل جدران حصنها الانعزالي الجديد”، والتعامل مع الأمور الداخلية، لكن التاريخ- هذه المرة- يتطلب منا أن نتحرك. إن كثيرًا من اقتراحاتي فيما يتعلق بنهج السياسة الخارجية الذي أسميته مؤقتًا “التدمير البنّاء”، ينبثق- بشكل طبيعي- من التحليل المقدم أعلاه.
ليست هناك حاجة إلى التدخل، أو محاولة التأثير في الديناميكيات الداخلية للغرب، الذي أصبحت نخبته يائسة بما يكفي، حتى إنها باتت مستعدة للدفع إلى بدء حرب باردة جديدة ضد روسيا. ما يجب أن نفعله- بدلًا من ذلك- هو استخدام أدوات السياسة الخارجية المختلفة، بما في ذلك الأدوات العسكرية، لوضع خطوط حمراء معينة. في هذه الأثناء، ومع استمرار النظام الغربي في التوجه نحو التدهور الأخلاقي والسياسي والاقتصادي، ستشهد القوى غير الغربية (مع روسيا كلاعب رئيسي) حتمًا تعزيزًا لمواقفها الجيوسياسية، والجيواقتصادية، والجيوأيديولوجية.
من المتوقع أن يحاول شركاؤنا الغربيون إسكات دعوات روسيا إلى الحصول على ضمانات أمنية، والاستفادة من العملية الدبلوماسية الجارية من أجل إطالة عمر مؤسساتهم. ليست هناك حاجة إلى التخلي عن الحوار، أو التعاون في مسائل التجارة، والسياسة، والثقافة، والتعليم، والرعاية الصحية، وما شابه، متى كان ذلك مفيدًا، لكن يجب علينا أيضًا أن نستغل الوقت المتاح لدينا لتكثيف الضغط العسكري- السياسي- النفسي، وحتى العسكري- التقني، ولكن دون أن يتوجه الضغط الأكبر نحو أوكرانيا التي تحول شعبها إلى وقود لمدافع الحرب الباردة الجديدة، ولكن نحو الغرب بشكل جماعي؛ لإجباره على تغيير رأيه، والتراجع عن السياسات التي اتبعها على مدى العقود الكثيرة الماضية. لا يوجد ما نخشاه من تصاعد المواجهة: “لقد رأينا التوترات تتصاعد حتى عندما كانت روسيا تحاول استرضاء العالم الغربي”. ما يجب أن نفعله هو الاستعداد للتصدي للسياسات الغربية بشكل أقوى، كما يجب على روسيا أيضًا أن تكون قادرة على تقديم بديل طويل الأجل للعالم عبر إطار سياسي جديد قائم على السلام والتعاون. بطبيعة الحال، من المفيد تذكير شركائنا الغربيين من وقتٍ إلى آخر، بوجود بديل مفيد لكلا الطرفين.
إذا نفذت روسيا سياسات معقولة، ولكنها حازمة (محليًا أيضًا)، فسوف تتغلب بنجاح (وبشكل سلمي نسبيًا) على أحدث موجة تتعرض لها من العداء الغربي. كما كتبت من قبل، لدينا فرصة جيدة للفوز في هذه الحرب الباردة الجديدة، وما يلهمنا إلى هذا التفاؤل أيضًا هو سجل روسيا السابق: “لقد تمكنا أكثر من مرة من ترويض الطموحات الإمبريالية للقوى الأجنبية لمصلحتنا، ولصالح الإنسانية كلها”. كانت روسيا قادرة على تحويل الإمبراطوريات المحتملة إلى جيران مُروضين وغير مؤذين نسبيًا: “السويد بعد معركة بولتافا (1709)، وفرنسا بعد معركة بورودينو (1812)، وألمانيا بعد معركة ستالينغراد (1943)، ومعركة برلين (1945)”.
يمكننا أن نجد شعارًا للسياسة الروسية الجديدة تجاه الغرب عبر مقطع من قصيدة ألكسندر بلوك “السكوثيون”، وهي قصيدة رائعة، تبدو ذات صلة خاصة بأحداث اليوم: “تعالوا وانضموا إلينا، ودعوا عنكم إنذارات الحرب والحرب المضادة، واستمسكوا بالسلام والصداقة؛ لا يزال هناك متسع من الوقت أيها الرفاق، مدّوا أياديكم إلينا لنتحد في أخوة حقيقية!”.
في أثناء محاولتنا معالجة علاقاتنا مع الغرب (حتى لو كان ذلك يتطلب بعض العلاج المر)، يجب أن نتذكر أنه على الرغم من قربنا ثقافيًا منه، فإن العالم الغربي يتلاشى من الوقت: “في الواقع، بدأت هذه العملية منذ عقدين من الزمن”.
يمكن القول إن العلاقات مع الغرب هدفها تقليل الضرر، والتعاون كلما كان ذلك ممكنًا. إن الآفاق والتحديات الحقيقية لحاضرنا ومستقبلنا تكمن في الشرق والجنوب. إن اتخاذ موقف أكثر تشددًا مع الدول الغربية يجب ألا يصرف انتباه روسيا عن الحفاظ على محورها في الشرق. وقد رأينا هذا المحور يتباطأ في العامين أو الثلاثة أعوام الماضية، خاصةً عندما يتعلق الأمر بتطوير مناطق خارج جبال الأورال. يجب ألا نسمح لأوكرانيا بأن تصبح تهديدًا أمنيًا لروسيا. بعد قولي هذا سيكون من غير المجدي إنفاق كثير من الموارد الإدارية والسياسية (فضلًا عن الاقتصادية) عليها. يجب أن تتعلم روسيا كيفية إدارة هذا الوضع المتقلب بفاعلية، وإبقائه ضمن حدود السيطرة.
سيكون الاستثمار في الشرق عبر الشروع في عملية تنمية سيبيريا أكثر فاعلية، وذلك من خلال خلق ظروف عمل ومعيشة مواتية. لن نجتذب فقط المواطنين الروس، ولكن أيضًا الأشخاص من الأجزاء الأخرى من الإمبراطورية الروسية السابقة، بمن في ذلك الأوكرانيون الذين أسهموا تاريخيًا، بقدر كبير، في تطوير سيبيريا.
أرجو أن يسمح لي القراء بتكرار نقطة سبق أن ذكرتها في مقالاتي الأخرى: “لقد كان اندماج سيبيريا تحت حكم إيفان الرهيب، هو وحده ما جعل روسيا قوة عظمى، وليس انضمام أوكرانيا تحت قيادة أليكسي ميخايلوفيتش رومانوف، المعروف باسم “تيشاتشي”، أي “الأكثر هدوءًا وسلمية”. لقد حان الوقت لأن نتوقف عن تكرار تأكيد ذلك البولندي المخادع زبيغنيو بريجنسكي: “بأن روسيا لا يمكن أن تكون قوة عظمى بدون أوكرانيا”. إن العكس هو الأقرب إلى الحقيقة: “لا يمكن لروسيا أن تكون قوة عظمى عندما تكون مثقلة بأعباء بلد مثل أوكرانيا”، وهي أعباء شديدة الصعوبة لإدارة هذا الكيان السياسي المصطنع الذي أنشأه لينين، والذي توسع لاحقًا غربًا في عهد ستالين.
يكمن المسار الواعد لروسيا في تنمية العلاقات مع الصين وتعزيزها: “من شأن الشراكة مع بكين أن تضاعف إمكانات كلا البلدين عدة مرات”. إذا استمر الغرب في سياساته العدائية المريرة فلن يكون من غير المعقول التفكير في تحالف دفاعي مؤقت لمدة خمس سنوات مع الصين.
بطبيعة الحال، يجب علينا أن نحرص على حماية الصين من “الشعور بالدوار من النجاح”، وذلك حتى لا تعود إلى نموذج الإمبراطورية الصينية في العصور الوسطى، التي نمت ثم حولت جيرانها إلى تابعين. يجب أن نساعد بكين حيثما أمكننا لمنعها من المعاناة حتى من هزيمة مؤقتة في الحرب الباردة الجديدة التي أطلقها الغرب ضدها، هذه الهزيمة ستضعفنا أيضًا. إضافة إلى ذلك، نحن نعلم جيدًا ما الذي يتحول إليه الغرب عندما يعتقد أنه يفوز. لقد تطلب الأمر بعض العلاجات القاسية لعلاج مخلفات أمريكا بعد نشوة النصر وسكرتها بالسلطة في التسعينيات.
من الواضح أن السياسة الموجهة نحو الشرق يجب ألا تركز فقط على الصين. يشهد كل من الشرق والجنوب تصاعدًا في السياسة، والاقتصاد، والثقافة العالمية، ويرجع ذلك جزئيًا إلى تقويضنا للتفوق العسكري للغرب “المصدر الأساسي لهيمنته على مدى 500 عام”.
عندما يحين الوقت لتأسيس نظام جديد للأمن الأوروبي ليحل محل النظام الحالي الذي عفا عليه الزمن بشكل خطير، يجب أن يتم ذلك في إطار مشروع أوراسيا الكبرى. لا شيء يستحق العناء يمكن أن يولّد هذا النظام الجديد من رحم النظام الأوروبي الأطلسي القديم. من البديهي أن النجاح يتطلب تطوير الإمكانات الاقتصادية والتكنولوجية والعلمية للبلاد وتحديثها، مع جميع ركائز القوة العسكرية التي تمثل لأي دولة العمود الفقري لسيادتها وأمنها. لا يمكن أن تنجح روسيا دون تحسين نوعية الحياة لغالبية شعبها، “يشمل هذا الازدهار العام، والرعاية الصحية، والتعليم، والبيئة”.
إن تقييد الحريات السياسية، وهو أمر حتمي عند مواجهة الغرب وهو متكتل بشكل جماعي ضدنا، يجب ألا يمتد- بأي حال من الأحوال- إلى المجال الفكري، خاصةً لدى الجزء الموهوب وذي العقلية الإبداعية من السكان المستعدين لخدمة وطنهم. يجب علينا الحفاظ على أكبر قدر ممكن من الحرية الفكرية. التطور العلمي من خلال “شاراشكا” على الطراز السوفيتي (مختبرات البحث والتطوير التي تعمل ضمن نظام معسكر العمل السوفيتي) ليس شيئًا من شأنه أن ينجح في العالم الحديث. تعزز الحرية مواهب الشعب الروسي، والابتكار يسري في دمائنا. حتى في السياسة الخارجية، فإن التحرر من القيود الأيديولوجية التي نتمتع بها يوفر لنا مزايا كبيرة مقارنة بجيراننا الأكثر انغلاقًا. يعلمنا التاريخ أن التقييد الوحشي لحرية الفكر، الذي فرضه النظام الشيوعي على شعبه، أدى إلى خراب الاتحاد السوفيتي. الحفاظ على الحرية الشخصية شرط أساسي لتنمية أي أمة.
إذا أردنا أن ننمو كمجتمع وننتصر، فمن الأهمية بمكان أن نطور العمود الفقري الروحي لبلادنا؛ “من خلال إطلاق فكرة وطنية أيديولوجية توحد وتضيء لنا الطريق إلى الأمام”. إنها حقيقة أساسية مفادها أن الدول العظيمة لا يمكن أن تكون عظيمة حقًا بدون وجود هذه الفكرة في صميمها. هذا جزء من المأساة التي حدثت لنا في السبعينيات والثمانينيات. نأمل أن تبدأ النخب الحاكمة بعدم معارضة تقديم أيديولوجيا جديدة، والتخلي عن الخوف من الأيديولوجيا المتجذرة بسبب آلام الحقبة الشيوعية. كان خطاب فلاديمير بوتين، في الاجتماع السنوي في أكتوبر (تشرين الأول) 2021 لنادي فالداي للحوار، إشارة مطمئنة في هذا الصدد. مثل العدد المتزايد باستمرار من الفلاسفة والمؤلفين الروس، طرحت رؤيتي الخاصة “لـلفكرة الروسية”، التي لا يتسع المقال لذكرها.
والآن دعونا نناقش جانبًا مهمًا، ولكن غالبًا ما يتم تجاهله من السياسة الجديدة، غير أنه يحتاج إلى معالجة. نحن بحاجة إلى رفض إصلاح الأساس الأيديولوجي المتقادم، الذي غالبًا ما يكون ضارًا لعلومنا الاجتماعية، والحياة العامة. ولكي يتم تنفيذ هذه السياسة الجديدة، فضلًا عن النجاح،
فإن هذا لا يعني أن علينا أن نرفض- مرة أخرى- التطورات في العلوم السياسية، والاقتصاد، والشؤون الخارجية لأسلافنا. حاول البلاشفة التخلص من الأفكار الاجتماعية لروسيا القيصرية، والجميع يعرف كيف حدث ذلك.
لقد رفضنا الماركسية، ولكن ما زال لدى ماركس وإنجلز ولينين أفكار سليمة في نظريتهم عن الإمبريالية التي يمكننا استخدامها. العلوم الاجتماعية التي تدرس طرق الحياة العامة والخاصة يجب أن تأخذ الحُسبان السياق الوطني، وأن يكون لديها منهج شامل ينبع من التاريخ الوطني، ويهدف- في النهاية- إلى مساعدة الأمة، وحكومتها، ونخبها. إن التطبيق الطائش للحلول الصالحة في بلد ما، في بلد آخر، أمر لا طائل من ورائه، ولا يؤدي إلا إلى الفظائع.
نحتاج أن نبدأ العمل نحو الاستقلال الفكري بعد أن نحقق الأمن العسكري، والسيادة السياسية والاقتصادية. في العالم الجديد، من الضروري تحقيق التنمية، وممارسة التأثير. كان ميخائيل ريميزوف (Mikhail Remizov)، وهو عالم سياسي روسي بارز، أول من أطلق- حسب علمي- مصطلح “إنهاء الاستعمار الفكري”. بعد أن أمضينا عقودًا في ظل الماركسية المستوردة، بدأنا بالانتقال إلى أيديولوجيا أجنبية أخرى، مثل الديمقراطية الليبرالية في الاقتصاد والعلوم السياسية، وإلى حد معين حتى في السياسة الخارجية، والدفاع. لم ينفعنا هذا السحر “الجديد”، فقد خسرنا الأرض، والتكنولوجيا، والمجتمع. في منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، بدأنا بممارسة سيادتنا، لكن كان علينا الاعتماد على غرائزنا بدلًا من المبادئ العلمية والأيديولوجية الواضحة (مرة أخرى، لا يمكن أن نتوقع- في ظل هذه الظروف- شيئًا آخر).
لتوضيح هذه النقطة، إليك بعض الأسئلة المختارة عشوائيًا من قائمتي الطويلة جدًا:
سأبدأ بقضايا وجودية فلسفية بحتة:
ما الذي يأتي أولاً ويؤثر في الإنسان؟ الروح أم المادة؟ وبمعنى سياسي أكثر دنيوية: ما الدافع الرئيسي للناس والدول في العالم الحديث؟ بالنسبة إلى عامة الماركسيين والليبراليين، الجواب هو الاقتصاد. فقط تذكر أنه حتى وقت قريب، كان يُعتقد أن عبارة “إنه الاقتصاد يا غبي”، الشهيرة لبيل كلينتون، كانت بديهية، لكن الناس يبحثون عن شيء أكبر عندما تُشبَع الحاجة الأساسية للطعام، حبهم لأسرهم ووطنهم، ورغبتهم في الكرامة الوطنية، والحريات الشخصية، والسلطة، والشهرة. لقد عرفنا التسلسل الهرمي للاحتياجات منذ أن قدمه ماسلو، في أربعينيات القرن الماضي وخمسينياته، في هرمه الشهير، غير أن الرأسمالية الحديثة أفسدته، وتم التسويق لثقافة الاستهلاك باستمرار، وبشكل متزايد، عبر الوسائط التقليدية في البداية، والشبكات الرقمية الشاملة لاحقًا الأثرياء والفقراء، كل حسب قدرته.
ماذا يمكننا أن نفعل عندما تحرض الرأسمالية الحديثة، المجردة من الأسس الأخلاقية أو الدينية، على الاستهلاك غير المحدود، وتكسر الحدود الأخلاقية والجغرافية، وتتعارض مع الطبيعة، وتهدد وجود جنسنا البشري ذاته؟
نحن الروس، نفهم أفضل من أي شخص آخر، أن التخلص من رواد الأعمال والرأسماليين الذين تحركهم الرغبة في بناء الثروة، ستكون له عواقب وخيمة على الناس، وبيئة المجتمع (لم يكن نموذج الاقتصاد الاشتراكي صديقًا للبيئة تمامًا).
ماذا نفعل بالقيم “الحديثة” التي تدعو إلى رفض تاريخك، ووطنك، وجنسك، ومعتقداتك، بالإضافة إلى الدعاية العدوانية لما يسمى مجتمع الميم (LGBT)، والحركات النسوية المتطرفة؟ أنا أحترم حق كل فرد في اتباع ما يريد، لكنني أعتقد أنهم ما بعد إنسانيين. هل يجب أن نتعامل مع هذا على أنه مجرد مرحلة أخرى من التطور الاجتماعي؟ لا أعتقد ذلك. هل يجب أن نحاول درء خطره، والحد من انتشاره، أم الانتظار حتى يعيش المجتمع داخل هذا الوباء الأخلاقي؟ أم يجب علينا محاربة تلك القيم “الحديثة” بنشاط، وقيادة غالبية البشرية التي تتمسك بما يسمى بالقيم “المحافظة”، أو ببساطة، القيم الإنسانية العادية؟ هل يجب أن ندخل في القتال لتصعيد المواجهة الخطيرة بالفعل مع النخب الغربية؟
ساعد التطور التكنولوجي وزيادة إنتاجية العمل على إطعام غالبية الناس، لكن العالم نفسه انزلق إلى الفوضى، وفقد كثيرًا من المبادئ التوجيهية على المستوى العالمي. ربما تسود المخاوف الأمنية على الاقتصاد مرة أخرى. قد تأخذ الأدوات العسكرية والإرادة السياسية زمام المبادرة من الآن فصاعدًا.
ما الردع العسكري في العالم الحديث؟ هل يتمثل التهديد في إلحاق الضرر بالأصول الوطنية والفردية، أو الأصول الأجنبية، والبنية التحتية للمعلومات التي ترتبط بها النخب الغربية اليوم ارتباطًا وثيقًا؟ ماذا سيحدث للعالم الغربي إذا انهارت هذه البنية التحتية؟
سؤال آخر ذو صلة: ما التكافؤ الإستراتيجي الذي ما زلنا نتحدث عنه اليوم؟ هل هو نوع من الهراء الفكري المستورد من الخارج الذي اختاره القادة السوفيت الذين أدخلوا شعبهم في سباق تسلح مرهق بسبب عقدة النقص لديهم، النابعة من متلازمة 22 يونيو (حزيران) 1941؟
يبدو أننا نجيب بالفعل عن هذا السؤال، مع أننا ما زلنا نطلق الخطب عن المساواة والمقاييس المتكافئة- ما الحد من التسلح الذي يعتقد الكثيرون أنه مفيد؟ هل هو محاولة لكبح سباق التسلح المكلف الذي يعود بالنفع على الاقتصاد الأكثر ثراءً للحد من أخطار الأعمال العدائية، أو شيء آخر، مثل أداة لإضفاء الشرعية على سباق الأسلحة وتطويرها، وعملية الإنفاق غير الضرورية على خصمك؟ لا توجد إجابة واضحة عن ذلك.
لكن دعونا نَعُد إلى الأسئلة الأكثر وجودية:
هل الديمقراطية حقًا هي قمة التطور السياسي؟ أم مجرد أداة أخرى تساعد النخب على السيطرة على المجتمع، إذا لم نتحدث عن ديمقراطية أرسطو النقية (التي لها أيضًا قيود معينة)؟
هناك كثير من الأدوات التي تأتي وتذهب مع تغير المجتمع والظروف. في بعض الأحيان نتخلى عنها فقط لاستعادتها عندما يحين الوقت، ويكون هناك طلب خارجي وداخلي عليها. أنا لا أدعو إلى سلطوية لا حدود لها أو ملكية. أعتقد أننا قد بالغنا بالفعل في المركزية، خاصةً على مستوى الحكومة المحلية. لكن إذا كانت هذه مجرد أداة، ألا يجب أن نتوقف عن التظاهر بأننا نسعى جاهدين من أجل الديمقراطية ونضعها في نصابها الصحيح؟ نريد الحريات الشخصية، ومجتمعًا مزدهرًا، وأمنًا، وكرامة وطنية؟ لكن كيف نبرر للناس استخدام القوة إذن؟
هل الدولة مقدر حقًا لها أن تموت كما اعتاد الماركسيون ودعاة العولمة الليبراليون الاعتقاد، أو كما كانوا يحلمون بتحالفات بين الشركات غير الوطنية والمنظمات غير الحكومية الدولية (كلتاهما كانت تمر بالتأميم والخصخصة)، والهيئات السياسية فوق الوطنية؟ سنرى إلى متى يمكن للاتحاد الأوروبي البقاء في شكله الحالي. هل نسعى إلى إزالة الحواجز الجمركية الباهظة الثمن، أو تقديم سياسات بيئية مشتركة، أم سيكون من الأفضل التركيز على تطوير دولتك، ودعم جيرانك، مع تجاهل المشكلات العالمية التي يخلقها الآخرون؟
ما دور الأراضي والمناطق؟ هل هي أصول متضائلة، فقط مجرد عبء كما اعتقد علماء السياسة مؤخرًا؟ أم أعظم ثروة وطنية، خاصة في مواجهة الأزمة البيئية، والتغير المناخي، وتزايد عجز المياه والغذاء في بعض المناطق، وغيابها التام في مناطق أخرى؟
ماذا يجب أن نفعل بعد ذلك بمئات الملايين من الباكستانيين والهنود والعرب، وغيرهم ممن قد تصبح أراضيهم غير صالحة للسكن قريبًا؟ هل يجب أن ندعوهم الآن كما بدأت الولايات المتحدة وأوروبا في الستينيات بجذب المهاجرين لخفض تكلفة العمالة المحلية، وتقويض النقابات العمالية؟ أم يجب أن نستعد للدفاع عن أراضينا من الغرباء؟ في هذه الحالة، يجب أن نتخلى عن كل أمل في تطوير الديمقراطية، كما تظهر تجربة إسرائيل مع سكانها العرب.
هل سيساعد تطوير “الروبوتات” على تعويض نقص القوى العاملة، وجعل تلك المناطق قابلة للعيش مرة أخرى؟ ما دور السكان الأصليين الروس في بلدنا، مع الأخذ في الحُسبان أن عددهم سيتقلص حتمًا؟ بالنظر إلى أن الروس كانوا تاريخيًا شعبًا منفتحًا، فقد تكون الآفاق متفائلة، لكن الأمر غير واضح حتى الآن.
يمكنني المضي قدمًا، خاصةً عندما يتعلق الأمر بالاقتصاد. يجب طرح هذه الأسئلة، ومن الضروري العثور على إجابات في أقرب وقت ممكن؛ من أجل النمو والظهور في المقدمة. تحتاج روسيا إلى اقتصاد سياسي جديد، خالٍ من العقائد الماركسية والليبرالية، ولكنه يملك أيضًا شيئًا أكثر من البراغماتية الحالية التي تستند إليها سياستنا الخارجية. يجب أن تتضمن المثالية الموجهة إلى الأمام أيديولوجيا روسية جديدة تدمج معها تاريخنا وتقاليدنا الفلسفية. هذا يعكس الأفكار التي طرحها الأكاديمي بافل تسيغانكوف (Pavel Tsygankov).
أعتقد أن هذا هو الهدف النهائي لجميع أبحاثنا في الشؤون الخارجية، والعلوم السياسية، والاقتصاد، والفلسفة. هذه المهمة كبيرة، وأكثر من كونها صعبة. لا يمكننا الاستمرار في المساهمة في مجتمعنا وبلدنا إلا من خلال كسر أنماط تفكيرنا القديمة. ولكن في الختام، بملاحظة متفائلة، إليك فكرة فكاهية: “ألم يحن الوقت للاعتراف بأن موضوع دراستنا- الشؤون الخارجية، والسياسات الداخلية، والاقتصاد- هو نتيجة عملية إبداعية يشارك فيها الجماهير والقادة على حدٍ سواء؟ أم إنه- بطريقةٍ ما- فن، إلى حد كبير، يتحدى التفسير، وينبع من الحدس والموهبة؟ ولذا فنحن مثل خبراء الفن: “نتحدث عنه، ونحدد الاتجاهات، ونعلم الفنانين، وهم في حالتنا الجماهير والقادة– التاريخ، وهو أمر مفيد لهم. غالبًا ما نغرق في الجانب النظري، ونخرج بأفكار منفصلة عن الواقع، أو نشوهها من خلال التركيز على أجزاء منفصلة، ولكننا أحيانًا نصنع التاريخ: “فكر في يفغيني بريماكوف، أو هنري كيسنجر”.
لكنني أزعم أنهم لم يهتموا بمقاربات تاريخ الفن الذي يمثلونه. لقد استندوا إلى معرفتهم، وخبرتهم الشخصية، ومبادئهم الأخلاقية، وحدسهم. تعجبني فكرة كوننا نوعًا من الخبراء في الفن، وأعتقد أنه يمكن أن يجعل تلك المهمة الشاقة لمراجعة بعض العقائد الراسخة أسهل قليلًا.[1]
ترجمة: وحدة الرصد والترجمة في مركز الدراسات العربية الأوراسية
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير