في عام 2019، صدر كتاب (عالم بوتين: روسيا ضد الغرب ومع البقية) للمسؤولة السابقة عن ملف روسيا وأوراسيا في الاستخبارات الوطنية الأمريكية أنجيلا ستانت (Angela Stant). عندما أطلعت على هذا الكتاب شعرت بأنه ينطوي على بعض المبالغة المعتادة من مسؤولي الاستخبارات، لكني اليوم أرى أنه كان واقعيًا إلى حد كبير.
في هذا الكتاب، حذرت ستانت، من أن بوتين “لديه رؤيته الخاصة للعالم”، والقائمة على “خلق صدام مع الكتلة الغربية”، وتوقعت الكاتبة أن تكون “أوكرانيا مركزاً لهذا الصدام”، لأن بوتين حسب قولها يعتقد “أن اللحظة مناسبة لإعادة تقسيم العالم في ظل حالة الفراغ التي خلفها الغرب، بمشاكله وتناقضاته الداخلية، وهو ما جعله مجبراً في النهاية على التفاوض مع روسيا والجلوس إلى طاولتها على “قدم المساواة” لإعادة “تنظيم شؤون العالم الجديد” وفق “قواعد” حديثة ومختلفة عما أفضت إليها نتائج الحرب الباردة!
كذلك، توقعت ستانت آنذاك، أن المواجهة المقبلة ستؤدي لقيام بوتين بتقديم العديد من “الامتيازات لبقية العالم غير الغربي لخلق كتلة تمكنه من مواجهة الغرب و/أو تفكيك أي تحالف يمكن أن تشكله الدول الغربية خارج حدودها”.
المتابعون لفعاليات منتدى سانت بطرسبرغ الاقتصادي الدولي (SPIEF) الذي عُقد من 14 إلى 17 يونيو (حزيران) 2023، توقفوا عند زخم الحضور غير المسبوق، والذي بلغ أكثر من (17000) شخص، ممثلين لـ (130) دولة ومنطقة، وهو ما لم يحدث من قبل منذ انطلاق المنتدى عام 1997!
اللافت للنظر أن المنتدى شهد توقيع أكثر من توقيع (900) اتفاقية بإجمالي (4) تريليون روبل تقريبًا (أكثر من 52 مليار دولار أمريكي).. كما توقف المراقبون عند مستوى لافت للحضور العربي، بمشاركة الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة، وعبد المجيد تبون، رئيس جمهورية الجزائر.. وهو ما يمثل نصراً دبلوماسياً لقادة الكرملين، بالنظر إلى أن ذلك يحدث، في وقت تتعرض فيه روسيا لعقوبات غربية لم يسبق لها مثيل في التاريخ، من حيث الكم والنوع والفترة الزمنية.
ربما ينشغل كثيرون بالتفاصيل اليومية للمعارك العسكرية على الأرض، الأمر الذي يحجب رؤية الصورة الأكبر لهذا الصراع.. فالحديث يجري عن تحالفٍ مكونٍ من كل دول “الغرب الجماعي”، باقتصاده وموارده وقدراته التسليحية وعلاقاته السياسية والدبلوماسية، يساند منذ اللحظة الأولى أوكرانيا، بينما تقف روسيا -بمفردها- مثل “كاسحة الجليد” حسب وصف البروفيسور سيرغي كاراغانوف، لتواجه ذلك التحالف، الذي يضم أقوى الاقتصادات والقوى العسكرية في العالم!
رغم صعوبة التحدي الراهن، الذي لم تشهده الدولة الروسية منذ تأسيسها في القرن التاسع، إلا أنها مازالت قادرة على المواجهة العسكرية، فالهجوم الأوكراني المضاد الذي دفع ” الغرب الجماعي” القادة الأوكرانيين لشنه، لم يحقق أهدافه، على الأقل حتى الآن.. تماماً مثلما فشلت كل محاولات واشنطن وحلفائها في عزل روسيا دوليًا، وخنقها اقتصاديًا، إذ لم تحقق العقوبات ما راهن عليه الغرب من إثارة الشارع الروسي والخروج في مظاهرات عارمة ضد بوتين، فالكارثة الاقتصادية التي ظن بايدن وشولتز وماكرون أنها واقعة لا محالة. تبدو بعيدة المنال، فالواقع الروسي لم يتغير، كما لم يتبدل نمط حياة الروس العاديين، ولم يتعرض الروبل لتراجع حاد.. قد يجادل البعض في أن أثر العقوبات يحتاج إلى مزيد من الوقت، لكن السؤال: من لديه القدرة على الصبر والاحتمال أكثر من الآخر؟! حتى الآن يبدو أن الكفة تميل لصالح موسكو، مع الأخذ بالاعتبار أن الأمور قد تتبدل بشكل نسبي في غير صالحها، في حال تغيير القواعد الحالية للعبة.
أظهرت هذه الحرب حاجة روسيا لتطوير الكثير من تقنياتها العسكرية، وهو ما شدد عليه صراحة الرئيس بوتين بنفسه، كما كشفت عن قصور في بعض جوانب إدارات الدولة، لكنها في المقابل جعلت روسيا أكثر صلابة ووحدة داخلية، ورسخت قناعة بضرورة اعتمادها بشكل أكبر على قدراتها الذاتية، وأن التحديات كانت تاريخيًا تمثل الدافع خلف التقدم والتطور. لكن النقطة الأكثر أهمية في اعتقادي التي كشفت عنها الحرب هي حالة الضعف التي وصل إليها الغرب، ما تمثل في عدم اكتراث غالبية الدول غير الغربية بالعقوبات المفروضة على موسكو، وتجاهل التحذيرات لمن لا يلتزم بها.. وهنا يمكن أن نتساءل: هل كان من الممكن أن يحدث هذا قبل عقد واحد من الزمان؟!
نعم، تعرضت روسيا للكثير من الخسائر البشرية والمادية والتكنولوجية من جراء الصراع الحالي، لكنها مازالت قادرة على المواجهة بثبات، وتكسب أرضية جديدة يوماً بعد يوم، وإن كان بوتيرة بطيئة، فيما تبدو الصورة وكأن الشعب والدولة الروسية لديهما القدرة الأكبر على التحمل مقارنة بالغرب، وهو ما يراهن عليه بوتين. على أن الخسارة الأكبر للغرب التي فشل في تجنبها، تراجعُ بكين عن دعم موسكو، وهو ما برهن عليه الصراع الراهن.
في ظل هذه الأحداث العالمية الكبرى، وتزايد المخاوف من تصعيد الصراع ووصوله لاستخدام الأسلحة النووية، وهو ما لا يتمناه أحد، أصبح لدى العالم العربي فرصة لا تتكرر إلا كل قرن من الزمان، ليضمن مكاناً تحت الشمس في عالم الغد متعدد الأقطاب، وهو ما أدركته قيادات محور الاستقرار العربي منذ اليوم الأول لهذه الحرب، التي تبدو في الظاهر حرباً روسية-أوكرانية، إلا أنها في المضمون حرب العالم غير الغربي ضد هيمنة الغرب، وروسيا كعادتها رأس الحربة ، لذلك اتخذت القاهرة والرياض وأبوظبي ، الخيار الحكيم بعدم الانحياز للطرف الغربي، واتخاذ موقف الحياد الإيجابي تجاه روسيا، وهو ما يكشف لنا ملامح عالم عربي جديد، قد تساعد الظروف الحالية – رغم صعوبتها- على أن يرى النور.
ما ورد في المقالة يعبر عن رأي الكاتب ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير