ارتبط شهر ديسمبر (كانون الأول) في العالم بنهاية العام، والاستعداد للعطلة، والاحتفال بقدوم العام الجديد، وسط تمنيات وآمال بأن يكون أفضل مما سبقه، لكن لهذا الشهر خصوصيته في المخيلة السياسية الروسية التي جعلته أشبه ما يكون بقدر روسيا مع الأحداث الجسام عبر تاريخها.
لم يكن شهر ديسمبر شهرًا عاديًّا بالنسبة إلى روسيا، وتكررت فيه أبرز الأحداث المفصلية التي أثرت في مستقبل هذا البلد، وهو ما يجعله الشهر الأكثر شؤمًا في التاريخ السياسي الروسي بلا منازع.
في الحادي عشر في ديسمبر (كانون الأول) 1761، تولى عرش الإمبراطورية الروسية ابن دوق هولشتاين-غوتورب، الألماني اللغة والثقافة والمولد، واللوثري المذهب، الذي تم تعميده أرثوذكسيًّا، وحمل اسم «بيوتر الثالث»؛ لكي يتمكن من تولى عرش روسيا، في حين أنه لم يكن يتقن لغتها، ويحتقر كنيستها وثقافتها وشعبها، وكان متيمًا بثقافته الألمانية، ويراها الأكثر رقيًّا من ثقافة الروس “البربرية”، وهو ما دفعه إلى توقيع «معاهدة بطرسبرج للسلام» عام 1762[1]، التي بموجبها تخلى عن جميع الأراضي التي حازتها الإمبراطورية الروسية لتعود إلى مملكة بروسيا الألمانية، حيث كان معجبًا بملكها فريدريش الثاني، وقد عدّت هذه الاتفاقية بمنزلة “خيانة عظمى” بعد تضحيات الجيش في «الحرب السيليزية الثالثة»، أو “حرب السنوات السبع”، كما شكلت إضعافًا لموقف روسيا؛ لأنها وقعت سلامًا منفردًا دون العودة إلى حلفائها، وهو ما دفع الجيش الإمبراطوري إلى تنظيم انقلاب عسكري بعد أربعة أشهر من توقيعها، وعزله من السلطة.[2]
في السادس والعشرين من ديسمبر 1825، اندلعت «ثورة الديسمبريين»، التي مثلت أعلى مراحل تمرد النبلاء في تاريخ روسيا. وكان هدفها الرئيسي الإطاحة بالحكم المطلق، واعتماد دستور ليبرالي للبلاد تنبثق منه حكومة تمثيلية منتخبة. سحق القيصر نيقولاي الأول (1796- 1855) الثورة بلا رحمة، وقمع جميع قادتها، وقد عدّ كثير من المؤرخين هذه الثورة أنها كانت البداية لدخول روسيا في مرحلة الصراعات السياسية الطاحنة، وصولًا إلى ثورة فبراير (شباط) 1917.[3]
في التاسع من ديسمبر 1905، وصلت الاحتجاجات في روسيا إلى ذروتها بعد انطلاق ما تسمى «انتفاضة ديسمبر 1905 في موسكو»، لتنتقل إلى مدينة نيجني نوفغورود، والعاصمة سانت بطرسبورغ، وباقي المدن الروسية، وسميت فيما بعد بأحداث «ثورة 1905»، التي مثلت المرحلة ما قبل الأخيرة لثورة 1917، التي أدت إلى زوال الإمبراطورية الروسية.[4]
في الحادي والعشرين من ديسمبر 1917، اندلعت أولى المواجهات العسكرية في مدينة إيركوتسك[5]، لتنتقل في الثلاثين من الشهر نفسه إلى موسكو، لتبدأ الحرب الأهلية الروسية (1917- 1922) بشكلها الأكثر دموية، التي خلّفت نحو مليوني قتيل، وأدّت إلى فقدان بلدان البلطيق، وبولندا، وغرب أوكرانيا، وفنلندا.[6]
في 18 ديسمبر 1940، أقر أدولف هتلر خطة غزو الاتحاد السوفيتي، التي سميت فيما بعد باسم «العملية بارباروسا»، والتي خلفت ملايين الضحايا، ومئات المدن المدمرة.[7]
أخيرًا، في السادس والعشرين من ديسمبر 1991، أي منذ ثلاثين عامًا بالضبط، تفكك الاتحاد السوفيتي بين ليلة وضحاها، بشكل فاجأ حتى خصومه، ودخلت روسيا وغالبية البلدان التي نالت استقلالها مرحلة من الصراع والفوضى، تمثل أوكرانيا والحرب الدائرة في شرقها حاليًا أحد فصولها.[8]
ارتبط مذهب الجَبْرية في الثقافة العربية بالإمبراطورية الأموية، حيث يعتقد كثير من المؤرخين أنهم أشاعوا هذا المذهب في الشام ودعموه كوسيلة براغماتية للتصدي للثورات التي كانت تشتعل بين الحين والآخر وتهدد استقرار حكمهم. لروسيا قصتها الخاصة مع هذا المذهب، وإذا كان الأمويون- حسب اعتقاد البعض- قد أشاعوه لهدف سياسي محض، فإن الروس يبدو أنهم مؤمنون به حقًّا.
على الرغم من تعاقب الأنظمة والحكام المختلفين في خلفياتهم وأيديولوجياتهم على حكم روسيا، فإن النظرة التقييمية لهذا التاريخ بالعقل الجمعي الروسي تكاد تكون متطابقة فيما يخص دور القدر، وفقدان القدرة البشرية على الاختيار وتقرير المصير. قد يكون الاختلاف فقط في تحديد مَن تلك القوة التي تحرك الأحداث لصنع هذا القدر (الله- المهندس الأعظم– العقل الأسمى– الحتمية التاريخية– حتمية القدر، إلخ)؟ (ينبغي عدم إغفال الفهم الروسي “الخاص” حتى للنظريات التي تبدو عقلانية وشديدة المادية، وربطها- بشكل أو بآخر- مع الميتافيزيقا).
القيصر بطرس الأكبر (1672- 1725) أول أباطرة روسيا، والوحيد الذي قام بجولة طاف فيها بكثير من البلدان الأوربية في أثناء تولي أخته صوفيا ألكسيفنا الوصاية على العرش، ثم قاد بعد عودته منها “انقلاب قصر” ليتولى سلطاته كاملة، أعقبه بانقلاب ثانٍ على كل قيم روسيا ومُثلها ليخرجها من عزلتها بعد ما يقارب القرنين من الجمود والصراع على السلطة منذ وفاة القيصر إيفان الرابع (1530- 1584). نقل بطرس الأكبر العاصمة من موسكو، بما تمثله من ثقافة تقليدية “قديمة متحجرة”- حسب اعتقاده- إلى مدينة سانت بطرسبورغ التي بناها على الطراز الأوروبي معماريًّا، وأراد أن تكون كذلك أوروبية بعقلية سكانها وقيمهم، كما جعل من روسيا أكبر دولة في العالم من حيث المساحة، وحوّلها إلى إمبراطورية حقيقية تمتد من بحر البلطيق حتى المحيط الهادئ.
يوجد شبه اتفاق بين المؤرخين الروس أن بطرس الأكبر باعث النهضة الحديثة في روسيا، واتفاق بين المؤيدين والناقدين بشأن دور القدر فيما قام به. يعتقد الليبراليون الداعمون لسياساته أن القدر أرسله لينقذ البلاد من تخلفها، ويرى الماديون فيما صنعه ضرورة حتمية لاستحالة بقاء روسيا في جمودها، في حين يعتقد الناقدون المحافظون أنه تجسيد لقوى الشر التي يمثلها «أنتي خريست»، أي “ضد المسيح”، الذي أنهى وجود “روسيا المقدسة” ليحل محلها “روسيا المسيح الدجال”، التي يعاقبها الرب منذ تلك اللحظة، وبشكل دوري، بالثورات والفتن؛ نتيجة لتخليها عن قداستها.[9] أما “القوميون” فيعتقدون أن “لعنة” القدر عبر بطرس الأكبر، فوّتت على روسيا فرصة التطور الطبيعي لصنع ثقافة محلية عصرية، وأنه بدلًا من ذلك، استورد بطرس الأكبر ثقافة مغايرة خلقت تشوهات ما زالت آثارها السلبية حتى الآن حاضرة في الشخصية الروسية.
فلاديمير بوتين هو ابنٌ لتلك الثقافة الروسية، وليس بمعزل عنها. ورغم تمسكه بالقيم الدينية المحافظة، وحرصه على أن يظهر في صورة الرئيس الأرثوذكسي المؤمن، فإن ما يبدو من ممارساته السياسية الفعلية أنه يرى في هذه القيم ضرورة سياسية، وجزءًا من الثقافة والتقاليد الروسية، التي بحاجة إلى دعمها عبر رأس الدولة لخلق تماسك مجتمعي ما، يعوض حالة الفراغ الأيديولوجي التي خلّفها تفكك الاتحاد السوفيتي، ومع ذلك فهو أيضًا، كجزء من اتساقه مع العقلية الروسية، يؤمن- بشكل أو بآخر- بالقدر ودوره في صنع الحدث. عزز من هذا الإيمان بالقدر لدى بوتين، ذلك التشابه الذي يبدو كبيرًا بينه وبين شخصية بطرس الأكبر.
كلاهما، أي فلاديمير بوتين وبطرس الأكبر، عاش فترة شبابه الأولى في أوروبا، وتشكل وعيه السياسي في ظل أزمة شاملة تعيشها البلاد، وعاد إلى روسيا وهو ناقم على أوضاعها مقارنة بما شاهده في الخارج، وتأثر- بشكل أو بآخر- بالثقافة الأوروبية (يتحدث بوتين الألمانية بطلاقة، وقد ألقى خطابًا لما يقارب نصف الساعة أمام أعضاء البوندستاغ الألماني “البرلمان الاتحادي” بالألمانية عام 2001)[10]. كلاهما تولى حكم روسيا في ظل تعرضها لهزيمة جيوسياسية على يد الغرب. كلاهما تمتع بسلطات مطلقة في ظل توزيع- بشكل أو بآخر- للسلطة قبله، وناضل لانتزاع هذه السلطة. وصل كلاهما إلى حكم روسيا ولديهما أحلام بإمكانية عقد تحالف روسي- غربي، وفي كلتا الحالتين انهار هذا الحلم بسرعة؛ في شمال روسيا بنى بطرس الأكبر عاصمته الجديدة بطرسبورغ، وهي المدينة التي ولد فيها بوتين، والتي احتفلت عام 2003 بمرور ثلاثة قرون على تأسيسها، بعد أقل من ثلاث سنوات فقط من تولي بوتين السلطة. أمر آخر مشترك بينهما؛ هو التأييد المطلق مقابل الرفض المطلق، بلا وسط بينهما، بين المؤيدين والمعارضين لسياسة كلا الرجلين، وربما هذا الأمر، وأعني “التطرف” في إصدار الأحكام، إحدى سمات الشخصية الروسية.
في يوم الثلاثين من نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1700، تعرض بطرس الأكبر لهزيمة ساحقة على يد الجيش السويدي في «معركة نارفا»، التي تقع في أقصى شرق إستونيا، وأصبح هو والجيش الروسي مثارًا للسخرية في كل أنحاء أوروبا، ولكن بعد (21) عامًا، وبالتحديد عام 1721، تمكن بطرس الأكبر من تحويل روسيا القيصرية إلى «روسيا الإمبراطورية»، قبل أن يتوفى بأربعة أعوام، لتصبح أكبر دولة في العالم بعدما رد إليها كرامتها. بوتين الذي أكمل (21) عامًا في الحكم، يعتقد أنه حقق كل ما تعهد به عندما تولى السلطة عام 2000، ولم يتبقَ أمامه سوى مهمة أخيرة واحدة؛ هي تحويل الاتحاد الروسي من جديد إلى قوة عظمى عالمية بحق، وإنهاء الوضع الذي تشكل على إثر هزيمتها الجيوسياسية المذلة عام 1991، بعدما تفكك الاتحاد السوفيتي، وسبقه حلف وارسو العسكري، وسخرية الغرب من روسيا، وعدم التزامه بالتعهدات الشفهية بعدم توسيع حلف الناتو شرقًا، وقد وجد جميع الظروف التاريخية والموضوعية- كما يعتقد- تعمل لصالحه، وأراد أن يستغل شهر ديسمبر عبر بوابة أوكرانيا ليغير قدر روسيا مع هذا الشهر المشؤوم، بعد مرور 30 عامًا بالضبط على تلك الهزيمة الروسية، في إشارة لا تخطئها العين، حتى إن بعض “النشطاء” الروس صوّروا فيديو أمام مبنى السفارة الأمريكية في موسكو، ليلة الخامس والعشرين من ديسمبر 2021، بمناسبة مرور ثلاثة عقود على تفكك الاتحاد السوفيتي، وعليه إشارات بأشعة الليزر: «أصدقاءنا الأعزاء، عامًا سعيدًا. ما حدث قبل 30 عامًا لا يمكن أن يتكرر. 25 ديسمبر 1991 لن يعود. روسيا الكبرى تولد من جديد، وتدافع الآن عن مصالحها».[11]
تعتمد حسابات بوتين على عدة عوامل تبدو منطقية، وترجح من قدرته على الفوز في هذه المعركة، التي يمكن إجمالها في النقاط التالية:
التهديدات الأمريكية بفرض مزيد من العقوبات على روسيا، لم تعد تفعل فعلها، ولا يمكنها تغيير سياسة موسكو التي تعرضت بالفعل لسلسلة متتالية من العقوبات، تمكنت بفضلها من إيجاد بدائل للمنتجات الأوروبية من الصين بالدرجة الأولى، وهو ما عمّق من “التحالف” المفترض بين كلا البلدين. كما أسهمت العقوبات الغربية أيضًا في تنمية قطاع الزراعة والتصنيع الغذائي في روسيا، بعد اعتمادها- سنوات طويلة- على الواردات الأوروبية، ومن ألمانيا على وجه الخصوص. منذ عام 2014، تعرضت روسيا لعقوبات اقتصادية من (37) دولة، وقد خسرت دول الاتحاد الأوروبي ما يقارب الـ (250) مليار دولار من صادرتها إلى روسيا، حيث بلغ إجمالي الأضرار الشهرية الناجمة عن العقوبات 4 مليارات دولار، كان نصيب ألمانيا منها 38٪، وقد خرج الغرب فعليًّا متضررًا منها بحسب دراسة أعدها الاقتصاديان ماتيو كروزيت (Matthieu Crozet) من جامعة لينجنان في هونغ كونغ، وجوليان هينز (Julián Hinz) من معهد كيل الألماني للاقتصاد العالمي، بعنوان (نيران صديقة: الأثر التجاري للعقوبات على روسيا والعقوبات المضادة)[12]، كما كتب الصحفي الأمريكي أندرو كرامر (Andrew Kramer) في النيويورك تايمز (The New York Times)، أنه “بفضل العقوبات الغربية على روسيا، حققت اكتفاءً ذاتيًّا، وتحولت من مستورد إلى مُصدر للمنتجات الزراعية بقيمة 25 مليار دولار مقابل مبيعات سلاح بقيمة 15 مليارًا في 5 سنوات، وهو ما مكّنها من تجنب الصدمات التي خلفها كوفيد- 19”[13]. وبحسب الفاينانشيال تايمز (The Financial Times)، فإن روسيا التي كانت “تستورد 50٪ من غذائها عندما تولى بوتين رئاستها، مكتفية الآن ذاتيًّا من أغلب تلك السلع، وأكبر مصدر للقمح في العالم”، الذي تستخدمه- حسب وصف الصحيفة- في “دبلوماسية القمح” لتعزيز نفوذها.[14]
فعليًّا، وعبر التجارب التاريخية، لم تغير العقوبات الاقتصادية من سياسات الدول، ولم تتمكن من ذلك مع دول أصغر وأضعف بكثير من روسيا، مثل كوريا الشمالية، وإيران. كما أن نفسية المجتمع الروسي، وهذا ربما ما لا يدركه الكثيرون في الغرب، تجعل من هذه العقوبات عامل دعم لسلطة الكرملين بدلًا من زعزعته، حيث يتم تسويقها على أنها شهادة غربية أن “الرئيس بوتين يمضي في الطريق الصحيح لتعزيز مصالح روسيا وعزّتها، ولأجل ذلك يريد الغرب إيقاف مسيرتنا عبر هذه العقوبات”. الروس كذلك تعودوا نمط الحياة الاقتصادية “الرديئة”، والمرفهون لا يعدمون الوسائل للحفاظ على رفاهيتهم في ظل توافر الأموال الطائلة لديهم. أمر آخر أسهم في تعزيز سلطة الرئيس بوتين بفضل هذه العقوبات؛ هو خشية الأوليغارشية الروسية من وضع أموالها- كما اعتادت- في البنوك الغربية، وتعرضها للتجميد نتيجة العقوبات، وباتت ترى في بقائها داخل روسيا أكثر أمانًا من الغرب، وهو ما يمكن بوتين من السيطرة عليهم بشكل أكبر.
الخشية الإضافية لدى المحللين الغربين، هي أن العقوبات تدفع نحو تحول “العلاقة الخاصة” بين روسيا والصين إلى علاقة تحالف؛ إذ قدمت بكين الدعم لموسكو عندما بدأ الغرب بتطبيق هذه العقوبات، وشي جين بينغ حريص على دعم بوتين في هذه المعركة التي يرقبها وينتظر نتائجها، والتي قد تشكل إلهامًا له في معركته القادمة من أجل توحيد الصين عبر ضم تايوان، بعدما تمكن من إدماج هونغ كونغ داخل النظام الصيني، وتعهده في التاسع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، بذلك عبر القول: “يجب ألا يستخف أحد بالعزيمة الصلبة للشعب الصيني، وإرادته الراسخة، وقدرته القوية على الدفاع عن السيادة الوطنية ووحدة أراضيه… يجب تحقيق الواجب التاريخي بإعادة التوحيد الكامل للوطن الأم، وسيتحقق ذلك بالتأكيد”.[15]
إن العقوبات الأمريكية على روسيا أدّت مزيد من الوحدة في المواقف بين موسكو وبكين، وإلى تذمر الشركات التجارية الغربية من الخسائر الاقتصادية في تجارتها مع روسيا، وجمود النظم الديمقراطية الغربية حسب الادعاء الروسي، واستغلالها لهذا الوضع جيدًا عبر سلسلة قنوات «روسيا اليوم» بلغاتها المختلفة، التي تمكنت من كسب شعبية واسعة في أوروبا لا لكفاءتها بقدر تعبيرها عن رجل الشارع بلغة سهلة وبسيطة يصفها ناقدوها بـ “الشعبوية”، وبلا التزام باللغة الخشبية المعتمدة على “الصوابية السياسية” حسب مؤيديها، وفتحها المجال لكل الأصوات “غير المرغوب فيها” في الإعلام الغربي، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وهو ما جعل لها تأثيرًا عجزت عن مجاراته المنظومة الإعلامية الغربية، فلجأت إلى سلاح المنع والحجب، وهو ما يزيد من شعبيتها.
أخيرًا، نتيجة للاستقطاب السياسي الغربي، وعدم حدوث تجديد في العملية الديمقراطية ومنظومتها الليبرالية التي وصفها بوتين بأنها “بالية”، وقد “عفى عليها الزمن”[16]، مقابل “الديناميكية” التي يتمتع بها عبر سلطة مطلقة دون بيروقراطية ديمقراطية “معطلة”، وإمساك روسيا بملفات مهمة تشكل أخطارًا على الغرب، قضية اللاجئين على سبيل المثال، التي حلها يكمن في عودة الاستقرار إلى سوريا وليبيا، وكلتاهما تحت النفوذ أو التأثير الروسي، إلى جانب استخدام حليفه لوكاشينكو لهذه الورقة في بيلاروس، وإمدادات الغاز الطبيعي، وقدرة روسيا على الحديث مع جميع الأطراف المتنازعة في الشرق الأوسط؛ فلديها علاقة مميزة مع بلدان الخليج العربية وإيران، وسوريا وإسرائيل، وباكستان والهند وطالبان، وتركيا ومصر؛ وعليه فإن بوتين يعتقد أن مهمته الأخيرة هي الحصول على التزام رسمي أمريكي بعدم توسيع حلف الناتو، وإطلاق يده فيما يسمى روسيًّا «المجال ما بعد السوفيتي»، أو “الجوار القريب”، ليصبح تحت النفوذ الروسي الكامل؛ ومن ثم إعلان عودة روسيا دولة عظمى بحق، وبدء التفاهم مع أمريكا وأوروبا على ترتيبات الأمن والتعاون، وتقاسم النفوذ حول العالم.
بناءً على ما سبق، تبدو حظوظ بوتين أكبر في تحقيق جزء كبير من أهدافه؛ ألا وهو أخذ أمريكا مصالح روسيا الجيوسياسية على محمل الجد، والتوصل إلى اتفاق ما بشأن توسيع حلف الناتو، والتفاهم على الملفات المشتركة العالقة، وهو ما بدا واضحًا في مسارعة الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى عقد محادثة افتراضية ومكالمة تليفونية مطولة مع بوتين في أقل من شهر؛ وذلك بهدف التوصل إلى خفض التوتر.
لم تعد العقوبات الاقتصادية تشكل عامل ردع للسياسة الروسية، وفعليًّا أصبحت إيجابياتها أكثر من سلبياتها على مستوى زيادة معدلات الاعتماد على الذات روسيًّا، وتعميق العلاقات مع الصين، وحصول بوتين على دعم داخلي أكبر من جرّائها، ومنحها فرصة مثالية للكرملين للادعاء بأن “أزمات” الاقتصاد الروسي نتيجة للعقوبات الغربية، لا بسبب الفساد، وقلة الكفاءة الإدارية.
أبرز استعراض القوة الروسي الأخير لحلفاء الغرب في «المجال ما بعد السوفيتي»، أن الحماية الأمريكية المفترضة مجرد “شعار” بلا مضمون حقيقي، وهو ما يروج له الكرملين ترويجًا مكثفًا إعلاميًّا لشعوب تلك البلدان؛ على أمل أن يدفع ذلك قادتها إلى مزيد من التقرب إلى موسكو.
عوّل بوتين على الرئيس الأوكراني الجديد فولوديمير زيلينسكي؛ نظرًا إلى خلفيته اليهودية التي كان يعتقد أنها لن تتوافق مع أجندة القوميين الأوكرانيين الذين يمجدون القادة التاريخيين الذين ناهضوا موسكو، وتعاونوا مع النازيين، وارتكبوا مجازر بشعة تجاه اليهود، إلى جانب كونه ممثلاً كوميديًّا نال شهرته من المسلسل الكوميدي «سلوها نارودو»، أو “خادم الشعب”، الذي تخلص فيه من كل النخبة السياسية في البلاد عبر إطلاق الرصاص عليها؛ نتيجة فسادها، وعدم إمكانية إصلاحها؛ ولذلك- إلى حد كبير- انتخبه الشعب الأوكراني؛ لأنه من خارج النخبة السياسية التي أرهقت البلاد بصراعاتها. يضاف إلى ذلك أن أعمال زيلينسكي “الممثل” قد حققت له الثراء المالي عبر تسويقها في روسيا، ولكنه فضل الرهان على الغرب، وتحالف مع القوميين المناهضين لموسكو، ولم يعد الكرملين يعول عليه، وقد تُسهم هذه التوترات الأخيرة على الحدود في كشف ضعفه وقلة حيلته أمام من انتخبوه، وهو ما يؤدي إلى خسارته الانتخابات المقبلة، أو قيام انتفاضة شعبية ضده.
تحتفظ روسيا بنخبة سياسية مؤثرة، ولها شعبية عريضة في داخل أوكرانيا، ولكنها توارت عن الأنظار منذ قيام ما تسمى “ثورة الميدان الأوروبي” عام 2014، في ظل حالة الهياج القومي الذي اجتاح أوكرانيا، وربما توفر هذه الجولة من التوترات الفرصة لها لتخرج وتعلن عن نفسها من جديد كمخلص للشعب الذي تعرض “للخداع” من النخبة الموالية للغرب، ولم يجنِ من جراء سياساتها سوى تقسيم البلاد، وضياع الاقتصاد، وفقدان نحو 15 ألف قتيل، وعدم تقديم الغرب مساعدات حقيقية، ونهاية حلم الانضمام للاتحاد الأوروبي أو الناتو كما وعدوا؛ ومن ثم فإن هذه النخب السياسية الموالية لروسيا ترى أن على الشعب الأوكراني أن يعود إلى العلاقة التاريخية مع “الشقيقة الكبرى” روسيا- حسب وصفهم- التي تجمعه معها مصالح مشتركة، وقد بدأت هذه الدعايات تتردد- بكثافة- في الآونة الأخيرة، وهو ما سيؤدي- وفق اعتقاد الكرملين- بعد هذه الجولة من شد الأعصاب، إلى حصول تلك النخب على الأغلبية الحاكمة، وإغلاق ملف أوكرانيا بضمها إلى النفوذ الروسي.
نجاح المعادلة السابقة في أوكرانيا يتوقع أن يؤدي- تلقائيًّا- إلى تكرارها في جورجيا، وعودة حلفاء روسيا إلى السلطة في تبليسي لتنضوي تحت لواء موسكو، التي هي في المقابل مستعدة لتقديم المساعدات الاقتصادية لها، وإعادة توحيدها مع الأقاليم المتمردة في أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، والشيء نفسه مع مولدوفا، وإقليم ترانسنيستريا/ بريدنيستروفيا، المتمرد.
إذا حقق بوتين هدفه بالتوصل إلى اتفاق ملزم للناتو بعدم التوسع، أو حتى تراجعه عن ضم أوكرانيا وجورجيا بلا اتفاقية، فقد وصل إلى النتيجة نفسها التي يريدها؛ وهي إرسال رسالة إلى هذه البلدان بأن الغرب لا يمكنه أن يكون “بديلًا عن روسيا”، وفي هذه الحالة سيكون قد أكمل وجه الشبه الأخير بينه وبين بطرس الأكبر؛ باستعادة روسيا مكانتها العالمية كقوة عظمى حقيقية بعد مرور 21 عامًا على توليه السلطة، ثم يترك الرئاسة عام 2024، ليدخل التاريخ من أوسع أبوابه بعدما أدى مهمته “المقدسة” كما يعتقد البعض، أو يكون هذا النجاح مبررًا مقنعًا لحصوله على فترة رئاسية ثالثة على التوالي، وخامسة منذ وصوله إلى السلطة، وفقًا للبعض الآخر.
ما ورد في التقرير يعبر عن آراء الباحثين ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير