تقدير موقف

كازاخستان.. مفاجأة بداية العام

لعل السؤال الأكثر تداولًا في اليومين الماضيين، هو: «كيف وصلت كازاخستان إلى المأزق الحالي؟» في ظل تمتعها بفترة سلام منذ استقلالها عام 1991، وعدم دخولها في أي حروب، أو صراعات حدودية أو عرقية، أو “ثورات ملونة” خلافًا لكل البلدان السوفيتية السابقة، بما فيها روسيا نفسها، مع امتلاكها ثروات طبيعية كبرى (كازاخستان لديها ثاني أكبر احتياطي من اليورانيوم، والكروم، والرصاص، والزنك، وثالث أكبر احتياطي من المنغنيز، وخامس أكبر احتياطي نحاس، ومن ضمن الدول العشر الأولى في تصدير الفحم، والحديد، والذهب)، كما أنها أيضًا مصدر للألماس، وتحتل المرتبة الحادية عشرة كأكبر احتياطي مؤكد للنفط والغاز، وثاني أكبر احتياطي لصخر الفوسفوريت، في حين تبلغ مساحتها (2,725,000) كم²، وعدد سكان أقل من 20 مليون (19,124,471) نسمة.

كيف بدأت الأحداث في كازاخستان؟

بدأت الشرارة الأولى للتظاهرات في ليلة رأس السنة من مدينة «تاراز» في جنوب البلاد، عبر تصرف احتجاجي على قرار الحكومة رفع أسعار الغاز بما يقارب الثلاثة أضعاف، وذلك بإشعال النيران في شجرة عيد الميلاد الضخمة في الميدان الرئيسي للمدينة التي تعاني أزمات اقتصادية رغم قربها من مكامن الغاز الطبيعي في البلاد، ثم انطلقت أمس الأول، في الرابع من يناير (كانون الثاني) صباحًا، في العاصمة التاريخية «ألماتي»، كبرى مدن كازاخستان، وعمت باقي مدن البلاد، حيث شملت (12) مدينة كازاخية رئيسية.

في السادسة من مساء ذلك اليوم، فقدت قوات الشرطة السيطرة تمامًا على مدينة «ألماتي»، وتمكن المتظاهرون من السيطرة على «ميدان الجمهورية»، وهو الميدان الرئيسي في المدينة، وحدث انهيار أمني متسلسل في باقي المدن الكبرى، وسيطرة للمحتجين على المطار والمرافق العامة للدولة، واستيلاء بعض “المتظاهرين” الذين وصفتهم الحكومة بـ “الإرهابيين” على مخازن الأسلحة والعتاد، وحرق سيارات الشرطة، ومواجهة القوات الحكومية بالرصاص الحي.

حاول الرئيس قاسم جومارت توكاييف احتواء الأزمة عبر الدعوة إلى الهدوء، وعدم الانجرار خلف ما أسماها “الجماعات التخريبية”، ووعد بإعادة النظر في قرار رفع أسعار الغاز، وأعلن حالة الطوارئ الوطنية في «ألماتي» وبعض المدن الكبرى، مع انقطاع للإنترنت، ووسائل الإعلام.

نتائج اجتماع الحكومة في كازاخستان

صباح أمس الأربعاء، الخامس من يناير (كانون الثاني)، عقد الرئيس اجتماعًا بأعضاء حكومته، وقرر إقالة الحكومة، والتراجع عن رفع أسعار الغاز، وإقالة الرئيس السابق نور سلطان نزارباييف من رئاسة جهاز الأمن القومي، وتولي رئاسته بنفسه، إلى جانب إقالات واسعة النطاق للقادة الأمنيين، وعلى رأسهم رئيس جهاز أمن الدولة، وتعيين الجنرال توكتار أوباكيروف رئيسًا جديدًا للجهاز، وقد وعد الأخير بعملية عسكرية دقيقة للتخلص من “العصابات الإرهابية”- حسب وصفه- التي سيطرت على مرافق الدولة، ودعا السكان إلى التعاون مع أجهزة الأمن.

حل المساء ولم تهدأ التظاهرات؛ بل زادت حدتها، ودمّر المتظاهرون تماثيل الرئيس السابق نزارباييف، وقررت الحكومة الأمريكية اغلاق قنصليتها العامة في ألماتي، وسحب موظفيها، كما سقطت مدينة أكاتو في غرب البلاد، التي يقع فيها ميناء كزاخستان الوحيد، وسط حالة من الذعر عمت العاصمة نور سلطان، وتكالب من المواطنين على البنوك لسحب مدخراتهم، وتشديد الحراسة على القصر الرئاسي.

نهاية يوم أمس الأربعاء، ألمح أول رائد فضاء كازاخي؛ الجنرال طيار توكتار أوباكيروف، إلى إمكانية دعوة جيوش بلدان منظمة معاهدة الأمن الجماعي (CSTO) لحفظ النظام، وتضم المنظمة- إلى جانب الأخيرة- كلاً من: (روسيا، وأرمينيا، وقيرغيزستان، وطاجيكستان، وبيلاروس). سبق ذلك محادثة هاتفية جمعت الرئيس الروسي بوتين، والبيلاروسي لوكاشينكو، والكازاخي توكاييف، حتى خرج الأخير في بيان للشعب أعلن طلبه رسميًا تفعيل المعاهدة بتدخل قواتها لحماية مرافق الدولة، وبعد خطابه علق أعضاء في حكومته بأن الطلب يشمل بلدان المنظمة كافة، ولا يقتصر فقط على روسيا، فيما يبدو إشارة طمأنة للقوميين والمتخوفين من وجود عسكري روسي في البلاد، كما شدد المسؤول الحكومي على أن هذا الوجود العسكري “مؤقت” إلى حين انتهاء الأزمة.

تدخل الجيش في أزمة كازاخستان

سيطرت قوات الجيش صباح اليوم الخميس على «ميدان الجمهورية»، ولكن سرعان من انسحبت منه إثر تبادل لإطلاق النار مع من تصفهم الحكومة بالجماعات “الإرهابية”، وبحسب الشرطة، قتل 13 شرطيًا، وأصيب 353 آخرون في مدينة ألماتي وحدها، في حين نقلت الصحفية الكازاخية آسيم زابيشيفا عن شهود عيان في عدة مدن من المتظاهرين أن خروجهم للشوارع أتى بشكل سلمي، وأن هناك جماعات “تجريبية” تندس في وسطهم وتقوم بأعمال عنف، وأنهم يتصدون لها في محاولة لمنعها.

أخيرًا، وصلت قوات من بلدان معاهدة الأمن الجماعي (CSTO) بالفعل إلى كازاخستان، وكانت قرغيزستان أول من أرسل قوات عسكرية، وقد أكد الرئيس القرغيزي صدير جاباروف أن بلاده تقف بقوة مع كازاخستان، وأنها أرسلت بالفعل قوات من جيشها لحماية مرافق الدولة، واصفًا إياها بـ “الدولة الشقيقة”، ومعربًا عن تخوفه من شيوع الفوضى فيها، وتأثيرها في جميع بلدان آسيا الوسطى وأفغانستان، في حين وصلت قوات روسية خاصة إلى ميناء بايكونور الفضائي، وهو المركز الرئيسي لإطلاق الأقمار الصناعية لروسيا وعدة بلدان في المنطقة والعالم، وقال البيان الروسي إن محيط المحطة الفضائية آمن. واليوم في الساعة الخامسة مساءً بتوقيت كازاخستان، بحسب وزارة الدفاع الروسية، وصلت أولى الوحدات الروسية من قوات حفظ السلام التابعة لمنظمة معاهدة الأمن الجماعي.

أبرز أسباب التوترات في كازاخستان

بعيدًا عن نظريات الدور الخارجي، الذي لا يمكن استبعاده، فإن هناك أسبابًا تبدو منطقية لما وصلت إليه الأوضاع في كازاخستان، ربما المفاجأة كانت في الانهيار السريع لقوات الجيش والشرطة، وعدم قدرة النظام على الصمود، وفقدانه السيطرة في أقل من 72 ساعة. ويمكن إجمال أهم أسباب التوترات الداخلية، في النقاط التالية:

  • سعت الحكومة الكازاخية منذ تولي نور سلطان نزارباييف، العضو السابق في الحزب الشيوعي السوفيتي، إلى بناء هوية قومية لبلد لم يكن له وجود قبل عام 1936، عندما قرر يوسف ستالين ترسيم حدودها بالشكل الحالي، وقد سبق ذلك اقتطاع لينين منطقة شرق البلاد الحالية من أراضي روسيا، التي تسمى «رودني ألطاي»، مع بعض الأجزاء الشمالية؛ لبناء دولة سوفيتية كبرى، فيها جزء صناعي؛ لخلق توازن مع الجزء الزراعي، الذي كان الشيوعيون يرتابون فيه، معتبرين إياه “برجوازية” صغيرة مناهضة للسلطة السوفيتية، ولعلاج هذا “الخطأ”- كما كان يوسف ستالين يعتقد- تم تهجير كثير من الروس إلى جمهورية كازاخستان الاشتراكية السوفيتية، ليصبح عددهم الآن نحو (20) في المئة من السكان. وخشية ابتلاع روسيا لهذا البلد، ولبناء هوية وطنية؛ تمت المبالغة في صنع تاريخ موغل في القدم لكازاخستان، والاحتفاء بقادة حركة «باسماتشيستفا» وفق التسمية الروسية، المشتقة من الكلمة الأوزبكية «باسماتشي»، أي «قطاع الطرق»، الذين قاموا بثورة ضد البلاشفة عام 1919، واعتبارهم قادة “تحرر وطني”، واستخدام الأبجدية اللاتينية بدلًا من الكيرلية الروسية، ودعم استخدام اللغة الكازاخية، وهي إحدى اللغات التركية البدائية، وهو ما خلق شعورًا قوميًّا مبالغًا فيه داخليًّا، ونتج عنه دعم للحركات القومية التي دمجت بين الإسلام والقومية التركية الأوسع بفضل الدعاية التركية النشطة في بلدان آسيا الوسطى. ونتيجة لتنامي هذه المشاعر؛ انضمت كازاخستان إلى مجلس التعاون للدول الناطقة بالتركية (CCTS).
  • اعتقد النظام الحاكم أن وجود رفاهية اقتصادية سيشكل بديلًا عن الحريات السياسية، ووسعت الحكومة من ابتعاث الطلاب الكازاخيين إلى الغرب لتلقي التعليم في جامعات أوروبا وأمريكا، وهناك تأثر هذا الجيل بالثقافة الغربية الليبرالية، ومع شيوع استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، نشروا- بشكل كبير- أفكارهم، وتشكل جيل جديد شاب لا يرضى عن وضع البلاد، ويرى السلام والوضع الاقتصادي والسياسي المستقر أمورًا مسلمًا بها، ويريد المزيد، وهو ما خلق “كتلة حرجة” مستعدة للثورة مع أول هزة تعرض لها النظام.
  • انتهج النظام الحاكم في كازاخستان سياسة هجينة من التحالفات؛ إذ فُتِحَت البلاد على مصراعيها للسياحة والاستثمار الغربي، وبناء علاقات اقتصادية قوية مع الصين، وعلاقات عسكرية وسياسية مع روسيا، وعلاقات ثقافية مع تركيا، ومحاولة استنساخ نماذج غربية، وقد خلقت هذه السياسة وضعًا داخليًّا مشوهًا، أسهم في تراجع القيم التقليدية المحافظة، وشيوع الأفكار الوافدة من الخارج من الطورانية التركية حتى الشيوعية الصينية.
  • ارتكب النظام- وفق الباحثين الكازاخيين- “خطأ” كبيرًا تمثّل في غلق المجال السياسي بشكل نهائي، بلا أي وسائل للتنفيس عن الرأي العام، واستقرار المعارضين في المهجر، واستخدام عدة جهات دولية لهم، وغياب أي جهة في الداخل يمكن للشعب التفاعل معها، أو يتفاوض معها النظام إذا حدثت اضطرابات، كما هو الوضع الآن.
  • رغم تمتع البلاد بثروات اقتصادية ضخمة، فإن غالبية المواطنين أصبحوا غير قادرين على مواكبة ارتفاع مستوى المعيشة، وأصبح أغلبهم مثقلًا بالديون، وصار الشباب الذي تلقى تعليمه في الخارج محبطًا من عدم توافر فرص عمل تتناسب مع مستوياتهم التعليمية العليا، وانفراد فئة محدودة بالثروة، وأغلبهم من المرتبطين بالغرب، أو روسيا، والصين، وهو ما عزز من دعايات القوميين؛ بضرورة إزاحة هذا النظام بكامله، وبناء نظام “وطني” ينتمي فقط إلى الشعب ومصالحه، لا سيما أن النخبة الحاكمة اختطت لنفسها، منذ عام 1998، عاصمة جديدة (أستانا التي تم تغييرها إلى نور سلطان)، والتي لا يزيد عدد سكانها على 800 ألف نسمة، وتم هجر المدن التاريخية وإهمالها، وعلى رأسها ألماتي.
  • أخيرًا، استبشر الشباب، وكثير من المعارضين، بالرئيس الجديد، وإمكانية قيامه بعقد مصالحة وطنية، وإصلاحات حقيقية في البلاد، ولكن هذا الأمل تراجع بعد عام من توليه السلطة، وتبخرت آخر الآمال- وفقًا لكثير من المراقبين في الداخل- بعد الانتخابات البرلمانية الأخيرة، التي لم يسمح فيها للمعارضة بالتمثيل، وهو ما رأوا فيه تراجعًا من الرئيس الجديد عن وعوده بالحرية، والتنمية الاقتصادية وفقًا لما تسمى (رؤية كازاخستان 2050)، وظهور الرئيس السابق وحاشيته في مناسبات دولية كثيرة، وهو ما خلق شعورًا بأن الرئيس الجديد مجرد صورة.

نظرية التدخل الأمريكي

تبدو نظريات “الأيادي الخفية” الخارجية لها ما يبررها في ظل الصراع الحالي المتفجر في شرق أوكرانيا، بين روسيا وحلف الناتو، وهو ما أسهم في الترويج لنظرية مفادها أن الولايات المتحدة تسعى إلى وضع روسيا بين فكي كماشة غربًا، والآن شرقًا على حدودها مع كازاخستان، ووجود زعماء حزب آلاش القومي، المحظور من السلطات، الذي تتهمه موسكو بأنه حزب “فاشي”، في العاصمة كييف، وهو ما دعا الخارجية الروسية إلى القول: “الأحداث في كازاخستان محاولة مستوحاة من الخارج من أجل زعزعة استقرار البلد بالقوة”، في تلميح إلى دور أمريكي، وهو ما دفع المتحدثة باسم البيت الأبيض، جين بساكي، إلى نفي الاتهامات الموجهة إلى واشنطن بالتواطؤ في تفاقم الوضع في كازاخستان.

الخلاصة

بدأت الأحداث في كازاخستان ردًا على قرار الحكومة زيادة أسعار الغاز، ولكنها توسعت وتحولت إلى حالة تمرد على السلطة، بدون قيادة واضحة، ولا أهداف محددة حتى الآن.

يعتقد البعض أن ازدواجية السلطة بين الرئيس الحالي قاسم جومارت توكاييف، والرئيس السابق نور سلطان نزارباييف، ربما كانت السبب وراء حالة الانهيار السريع لقوات الأمن الكازاخية، التي كانت تحت رئاسة الأخير حتى إقالته أمس، وأن صراعًا للأجنحة داخل النظام هو ما أدى إلى تفاقم الأوضاع وخروجها عن السيطرة.

تبدو أحاديث بعض الجهات عن التدخل الخارجي منطقية نظريًّا، ولكن عمليًّا لا يوجد ما يؤكدها، أو يشير إليها، كما أن الأسباب الداخلية التي سبق ذكرها من الواضح أنها المسؤول الأول عما وصلت إليه الأوضاع، أو على أقل تقدير فتحت المجال لتدخلات خارجية إن صحت هذه النظرية.

كازاخستان هي أكبر بلدان آسيا الوسطى وأقواها، وحتى أسبوع مضى كانت أكثرها استقرارًا، ولم تشهد سوى مظاهرات طفيفة متأثرة بأحداث ما يسمى “الربيع العربي” عام 2011، وفي حال شيوع الفوضى فيها، مع ما تتمتع به من موارد ضخمة، ومساحة شاسعة، وحدود واسعة مع جيرانها، يتوقع أن تشهد المنطقة انهيارًا أمنيًّا لن يتوقف عند حدودها، ويزيد من خطورة الوضع سيطرة حركة طالبان على أفغانستان، وهو عامل آخر يضعف من نظرية التدخل الخارجي.

وعد الرئيس الكازاخي بإجراء انتقال منظّم للسلطة، وإصلاح سياسي شامل، حيث لم تشهد البلاد أي إصلاح سياسي منذ استقلالها عام 1991، ولكنه في الوقت نفسه أكد قوة النظام وعدم سقوطه، واستحالة تركه البلاد. وحسب المحللين السياسيين في كازاخستان، فلا حل جذريًّا لهذه الأزمة إلا من خلال برنامج عمل واضح للإصلاح السياسي، وهو ما اتفق معهم فيه كثير من الخبراء الروس.

إذا تمكنت روسيا، عبر منظمة الأمن الجماعي، من حفظ الأمن في كازاخستان، التي ما زالت حكوماتها حتى كتابة هذا التقرير غير قادرة على فرض النظام، والتوصل إلى حل سياسي يرضي جميع الأطراف، سيعد ذلك الأمر نصرًا سياسيًّا جديدًا لروسيا بعد عام بقليل من توسطها في اتفاقية السلام بين أرمينيا وأذربيجان، واتفاق الطرفين على بقاء قواتها في المنطقة، وهو ما قد يتكرر في الحالة الكازاخية، ويمكن بعدها أن تؤكد موسكو أنها الضامن للأمن والاستقرار في المنطقة، والحليف الموثوق به لشعوب بلدان الاتحاد السوفيتي السابقة وحكوماتها. كما أنه في حال الفشل، سيشكل ذلك ضربة قوية لجهودها في فرض شروطها الأمنية على الغرب وحلف الناتو، فيما يسمى “الجوار القريب” لروسيا.

 


شارك الموضوع