بالحديث عن المأساة التي تحدث في أوكرانيا هذه الأيام، لا يمكننا الهروب من كثير من الأسئلة الشائكة التي تزايد عددها منذ ليلة 24 فبراير (شباط) التي لم تغفل فيها العيون. إن تلك الأحداث التي تنبأ بحدوثها مرارًا وتكرارًا العالم أجمع، لم تكن مفاجئة فحسب؛ بل إنها شلت تفكير الكثيرين. لماذا قررت روسيا- التي حاولت طوال هذه السنوات أن تقاوم بقدر المستطاع الضغط العسكري، والاقتصادي، والإعلامي الغربي، والتي نالت تعاطف وتفهم كثير منا، بغض النظر عن مواقفنا الشخصية تجاه الرئيس بوتين- غزو أوكرانيا، منفذة بذلك كل تنبؤات وكالات المخابرات الأمريكية والبريطانية التي لم يكن لدينا شك في زيفها؟ بدا هذا الأمر مستحيلًا، ليس حتى من المنظور الأخلاقي؛ ولكن من منظور المنفعة؛ حيث كان من الممكن لهذا الحدث أن يكون- ويبدو أنه قد كان- هدية لجميع القوى التي تعد من أشد أنصار الرجعية والنزعة العسكرية في العالم، ويأتي تنفيذًا لخطتها. منذ الساعات الأولى للحرب، بدأت وسائل الإعلام، والحكومات، والسلطات فجأة في أوروبا وأمريكا- الذين ابتدعوا وشاركوا في عشرات الحروب الإجرامية التي شهدها التاريخ الحديث- بشن حملة عالمية غير مسبوقة ضد روسيا، طالت كلًا من تشايكوفسكي، وتورغينيف، والفودكا، والباليه، والعلم، والنجوم الأولمبيين، وكل شيء مرتبط بهذا البلد. تصور وسائل الإعلام الغربية روسيا في أذهان العامة، في جميع البلدان والشعوب، على أنها الوحش الأكبر على كوكب الأرض، وهي تفعل ذلك بشكل فعال وسريع، مجردة شعبها بتاريخه، وثقافته، وماضيه، وحاضره، من إنسانيته، مثلما عاندت قبل ذلك بقليل، ولسبب غير مفهوم، لم تعترف باللقاح الروسي (Sputnik V)، الذي أثبت فاعليته بجدارة، ثم انتشرت بعد ذلك بفترة قصيرة فضائح المنشطات التي طالت الرياضيين الروس في الأولمبياد، وكشفت- بكل وضوح- عن المعايير المزدوجة للمتهِمين، وسيطرة الصحافة الصفراء. والآن في هذا المجتمع العالمي، حيث يزداد دور وسائل الإعلام في توجيه الرأي العام ونظرة الملايين للعالم، تُرسم سريعًا صورة كاريكاتيرية جديدة لعدو الجنس البشري هذا بناءً على طلب من مراكز القوى الاقتصادية والسياسية.
لا يكاد يوجد أحد في روسيا والعالم أجمع سُرَّ بخبر غزو أوكرانيا؛ بل بالعكس، تعلو أصوات الاحتجاج مطالبة بالوقف الفوري للعملية العسكرية. لكن عندما تأتي هذه الأصوات من شعوب ودول نظمت ووافقت على قصف ونهب يوغوسلافيا، والعراق، وأفغانستان، وليبيا، واليمن، وغيرها من الدول التي تبعد عنها عشرات الآلاف من الكيلومترات، يكون لدينا كل الحق في التشكيك في صدق هذا الغضب. أي حرب هي عمل همجي، ولكن حتى الآن تشكل همجية أي من حروب الغرب الأخيرة أضعاف همجية العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا. إنني لا أبرر لأحد؛ بل أدعو إلى محاولة تحليل ما يحدث بشفافية، بدلًا من رفع الشعارات المعتادة. تنشر المصادر الأوكرانية والغربية كثيرًا من الأخبار الزائفة بهدف شيطنة روسيا. تنخرط وسائل الإعلام الرسمية في روسيا في دعاية رديئة أيضًا، وذلك بدءًا من إطلاق اسم “عملية خاصة”- كما يشار إليها في روسيا- على هذه الحرب الحقيقية. منذ زمن حرب الناتو في يوغوسلافيا، نتذكر مدى عدم دقة “الصواريخ الذكية” التي من المفترض أنها “تحدد الأهداف العسكرية بدقة”، ولكنها بدلًا من ذلك تضرب أهدافًا عشوائية. تكذب روسيا بشأن الخسائر المدنية، في حين أن الغرب محق في وجودها، ولكنه يكذب، مضاعفًا أعدادها عشرات ومئات المرات. أحد أكبر التحديات التي تواجهها الصحافة النزيهة (أو ما تبقى منها) هو العثور على مصادر موضوعية غير دعائية، وعدم الخوض في مقارنات بين أعداد الضحايا في حروب معينة تهين أولئك الذين يعانون اليوم.
مهما كانت الأسباب الحقيقية وراء قرار إطلاق العملية، فمن الواضح تمامًا أنها لا تسير “وفقًا للخطة”، كما صرحت السلطات الروسية مرارًا وتكرارًا؛ فقد اصطدم الجيش الروسي والقوات المسلحة لجمهوريات دونباس ليس فقط بمقاومة جدية من الوحدات الأوكرانية النظامية؛ ولكن أيضًا بمشاركة طوعية واسعة النطاق للمدنيين في الدفاع العسكري عن البلاد. وفقًا لكثير من التقارير الميدانية، فإنه حتى في الجزء الشرقي من أوكرانيا، الذي يشهد الآن أعمالًا عسكرية، والذي كان بالأمس هو الأكثر صداقة لروسيا، لا نرى تأييدًا للجيش الروسي بين المواطنين؛ بل نرى كثيرًا من الاحتجاجات اليومية على الغزو في المدن الرئيسية التي تحتلها روسيا. على عكس الدعاية الروسية، فإن الغالبية العظمى من الأوكرانيين لا تنظر إلى الجيش الروسي على أنه “محرّر للبلاد من القوميين”. ومن المنطقي الافتراض أن قرار التدخل العسكري، أو على الأقل بهذا الشكل، قد اتُخذ بناءً على حسابات وتصورات خاطئة للقيادة الروسية عن توجهات المجتمع الأوكراني، والقدرة القتالية للجيش الأوكراني. بلا شك سيُلقَى مزيد من الضوء على هذا الموضوع المهم مع الوقت، ولكن يبدو أن من بين الأشياء الرئيسية التي لم تؤخذ في الحسبان هو أن الجيش الأوكراني بعد تسليمه لشبه جزيرة القرم عام 2014 دون إطلاق طلقة واحدة، قد تم تحويله بالفعل من جانب الناتو خلال السنوات الثماني هذه إلى قوة جاهزة للقتال، وكان يتم تزويد البلاد بكميات ضخمة من الأسلحة الحديثة، ويتم تدريب الجيش الأوكراني على يد أفضل مدربي الناتو. لا يمكن تجاهل الدعاية القوية المعادية لروسيا التي تقوم بها جميع وسائل الإعلام الرائدة في أوكرانيا، مع فرض رقابة صارمة على أي آراء أخرى؛ نتيجة لذلك، فإنها قد تمكنت أن تصور روسيا لجزء كبير من الشعب، وخاصة للشباب الذين لم يعيشوا في الاتحاد السوفيتي متحدين مع روسيا، على أنها دولة مجاورة معتدية، “تكره أوكرانيا، وتسعى إلى تدميرها”، وهو ما يحتاج إليه العملاء الغربيون، ومن يتحكم في السلطة في كييف. يظهر هذا جليًّا في الدعاية الرسمية الحالية لأوكرانيا التي تصف القوات الروسية بقوات “الاحتلال” و”الفاشية”، مع أنه من الواضح أن احتلال أوكرانيا لا يدخل ضمن أهداف روسيا، والحديث عن “الفاشية” الروسية هو مئة بالمئة ديماغوجية هشة، لكننا نرى أن الجزء الأكبر من الشعب الأوكراني يشعر بالغضب حقًا- بعيدًا عن الدعاية- بسبب الغزو الروسي والقصف، وعزم على الدفاع عن بلده. إن الدافع وراء دخول الجيش الروسي إلى أوكرانيا ليس واضحًا بشكل كافٍ، لأنه بصرف النظر عن الفكرة العامة المتمثلة في “اقتلاع النازية” في هذا البلد المجاور، فإن مهمتهم ليست بسيطة من الناحية النفسية؛ حيث إن عليهم القتال وسط بيئة تكاد تكون لا تختلف عن البيئة الروسية، في معركة ليست فقط ضد فرق القوميين والنازيين (وهي موجودة أيضًا!) بقدر ما هى ضد قوات الجيش النظامي، الذي يقوم بواجبه في الدفاع عن وطنه- وكثير من ميليشيات المتطوعين، وذلك في ظل العداء الصريح لهم من جانب الشعب الذي يحمل اللغة والثقافة الروسية مثلهم.
في الوقت نفسه، فإن الغرب مستعد لمواصلة ضخ السلاح، والمال، والوعود لأوكرانيا حتى تستمر تلك الحرب المستنزفة لروسيا أطول فترة ممكنة، ويزداد انقسام هذين الشعبين المقربين اللذين كانا إخوة بالأمس أكثر وأكثر مع كل يوم يمر. قبل أيام قليلة، أعلنت الحكومة الأوكرانية استعداد 16 ألف “متطوع” أجنبي لدخول الحرب إلى جانب أوكرانيا، وقد وصل مئات منهم بالفعل إلى البلاد. وردًا على ذلك، أعلنت روسيا أمس وجود عدد مماثل من “المتطوعين من الشرق الأوسط الراغبين في دعم روسيا”. إن تحقيق هذه الخطط سيكون أسوأ سيناريو ممكن. المنطق وراء جلب المرتزقة الأجانب واضح؛ حيث إنه إذا لم يتوصل الطرفان إلى اتفاق في الأيام المقبلة، فإنه لن يتبقى لهما سوى الخيار العسكري. ولتحقيق النجاح العسكري في الأراضي ذات الكثافة السكانية العالية والمدن الكبرى- التي يحدد الاستيلاء السريع عليها النصر أو الهزيمة- يتطلب الأمر حربًا أشد قسوة، مع خسائر فادحة في الأرواح (على نحو ما حدث في العراق، أو أفغانستان، أو سوريا)، وهو أمر ليس لدى القوات العسكرية الروسية والأوكرانية النظامية القدرة النفسية على تنفيذه، وهنا يدخل الحرب المرتزقة الذين لا توجد لديهم مكابح أخلاقية. في هذه الحالة، يمكن لأوكرانيا أن تتوقع سيناريو يشبه السيناريو السوري. ولكن هناك بعض الآمال في تجنب ذلك، تبشر بها تقارير اليومين الماضيين؛ حيث تتحدث السلطات الروسية والأوكرانية عن وجود تقدم في محادثات السلام، وأنه من المحتمل عقد اجتماع بين بوتين وزيلينسكي لتوقيع اتفاق وقف إطلاق النار في الأيام المقبلة.
للرد على سؤال: لماذا دعم معظم الأوكرانيين، بما في ذلك الجزء الناطق بالروسية من البلاد، الحكومة الفاسدة التي لم تكن تحظى بشعبية منذ ثلاثة أسابيع فقط، ورأوا في روسيا العدو الرئيسي وليس فيها؟ علينا أن نأخد في الحسبان عدة عوامل: لم تبدأ الدعاية القومية والمعادية لروسيا في البلاد بعد انقلاب عام 2014؛ بل منذ أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، منذ السنوات الأولى للبيريسترويكا. في ذلك الوقت، ليس فقط في أوكرانيا، بل في جميع أنحاء فضاء ما بعد الاتحاد السوفيتي، بدأ الشحن الأيديولوجي المكثف للشعب، وهو ما زرع الفتنة القومية، ومشاعر المناهضة الشديدة للشيوعية، والازدراء لتاريخهم الخاص الذي سرعان ما كان الأيديولوجيون الجدد للحكومة يعيدون كتابته. من أجل إخضاع أراضي البلد الذي انهار ذاتيًّا لتوه للغرب، تم إعداد برنامج أيديولوجي جديد يعتمد على “القيم الإنسانية العامة” “الأوروبية” التي كانت في جوهرها تبريرًا للرأسمالية، وساوت هتلر بستالين، والشيوعية بالفاشية في الأجندة الجديدة. لم يكن هناك مجال للإنسانية، أو حتى لنظرة نقدية جادة للتاريخ في هذه البيئة الدعائية. كانت معاداة الشيوعية العامة في أوكرانيا مصحوبة دائمًا بالروسوفوبيا، وهو ما شكّل- إلى حد كبير- وجهات نظر الأجيال الحالية من رجال السلطة وقيمهم. فشلت حالة عدم اليقين الأيديولوجي الشديدة لحكومة بوتين- على الرغم من النجاحات الاقتصادية والإدارية الملحوظة لحكومته- في إنشاء مشروع اجتماعي جذاب أيديولوجيًّا، سواء في روسيا أو في أوكرانيا. توقف الفكر الاجتماعي للحكومة الروسية عند مستوى الأفكار الدولتية المحافظة بداية القرن الماضي، في حين أن محاولاتها التي تقوم بها، من حين إلى آخر، كي تصبح جزءًا حقيقيًّا من العالم الغربي كانت تقابَل كل مرة بعدم الفهم والاحتقار الصريح من جانب الغرب. سلكت روسيا بوتين مسار الرأسمالية، مع الحفاظ النسبي على بعض الإنجازات الاجتماعية للاتحاد السوفيتي، وفي الوقت نفسه ركزت أيديولوجيًّا على المواقف المحافظة الأكثر يمينية في المجتمع. إن الخطاب الأيديولوجي الذي نشأ نتيجة لذلك لم يكن من الممكن أن يصبح مقنعًا أو جذابًا للأجيال الجديدة في هذا العالم المعولم. كما أن المنهجية الاحترافية للتلاعبات الدعائية الغربية، التي يقوم عليها عمل وسائل الإعلام الرائدة في العالم، هي أكثر فاعلية- أضعاف المرات- مقارنة بدعاية الدولة الروسية التي تتبع- في أساسها- التقنيات السياسية السوفيتية التي عفا عليها الزمن، مع الاختلاف في أن الاتحاد السوفيتي كان لديه مشروع إنساني مبتكر رائع لمجتمع جديد، في حين أن روسيا الحالية لديها مزيج متناقض من الحنين التاريخي إلى الإمبراطورية القيصرية، والاعتزاز بالإنجازات السوفيتية، مع رفض أيديولوجيتها. في هذه الحالة الغريبة، من الصعب جدًّا كسب حروب المعلومات.
أصبح الحديث عن المستقبل اليوم أكثر صعوبة من أي وقت مضى. نرى عالمًا منقسمًا بفعل صراع أناني بين مصالح قوى الأمس ومصالح قوى أول أمس. يعد الغزو الروسي لأوكرانيا انتصارًا كبيرًا للغرب بكامله، والشركات عبر الوطنية، ورؤوس الأموال المضاربة التي تحكم الاقتصاد العالمي، التي يرتدي ممثلوها اليوم أقنعة حافظي السلام على وجوههم المبتسمة، ويحلمون بإضعاف روسيا وتدميرها ككيان سياسي وتاريخي عالمي. وفي أوكرانيا التي حولوها إلى رقعة شطرنج للصراع الجيوسياسي، هناك حرب تهدف إلى استنزاف روسيا، في حين تحول الشعب الأوكراني المخدوع الذي يظهر البطولة الصادقة والوطنية إلى رهائن لهذا القضاء الجماعي على جوهر تاريخنا. اليوم، يتهم كل من الروس والأوكرانيين بعضهم بعضًا بالفاشية، لكن الفاشية الحقيقية تتمثل في أولئك الذين عملوا- بوعي وعن قصد، طوال هذه السنوات والعقود- على إثارة هذه الحرب، رافعين اليوم رايات الروسوفوبيا العالمية، وداعين إلى تجريد كل ما هو مرتبط بروسيا من إنسانيته. إن الولايات المتحدة وبريطانيا اللتين لم تفوتا أيًّا من الحروب الاستعمارية، لا في التاريخ القديم، ولا الجديد، في بلاد تبعد عن حدودها آلاف الكيلومترات، واللتين دمرت جيوشهما المدن والبلدان، وحولت ثقافتهما العنصرية وازدراء الحضارات الأخرى إلى نهج طبيعي في العلاقات بين الدول، تتهم اليوم الثقافة والتاريخ الروسيين بالنقص، وتحول روسيا في نظر سكان العالم من العامة إلى أكبر معتدٍ في تاريخ البشرية. أعلم أنني أكرر كلامي، لكن يبدو لي أنه من المهم جدًا تأكيد هذه الفكرة.
إن الصحافة التي تعرض الأحداث المأساوية في أوكرانيا كالعادة من جانب واحد، وبشكل منحاز، وتنقلها مجتزأة من السياق، تصرفنا بذلك عن مأساة العالم الثالث برمته الذي أفقره الوباء، وعن التدمير المستمر لغابات الأمازون الذي سيكون له تداعيات كبيرة على الكوكب، منها آلاف الضحايا المجهولين الآخرين. يشاهد الجميع البرامج التليفزيونية الشائقة عن الحرب في أوكرانيا، مع العدو المناسب الذي لا يختلف عليه أحد، والضحايا ذوي البشرة البيضاء، والعيون الزرقاء من الأوروبيين من الدرجة الثانية، الذين أصبح الجميع فجأة متضامنًا معهم.
لن تخبر البرامج التليفزيونية الشهيرة التي تتناول الحرب في أوكرانيا المُشاهدَ أن هذه الحرب- بغض النظر عما ستنتهي إليه- لن تؤدي إلى استحالة استعادة الاتحاد السوفيتي فحسب؛ بل إلى القضاء على الشيوعية على مستوى العالم أيضًا. وقد بدأ هذا بالفعل. لا توجد وسيلة إعلام ديمقراطية واحدة في العالم- من بين هؤلاء الذين ظلوا صامتين طوال هذه السنوات بشأن جرائم القتل اليومية للقادة الاجتماعيين في كولومبيا- تتحدث اليوم عن مطاردة الساحرات التي تجري في أوكرانيا؛ فقد اختطف جهاز الأمن الأوكراني بالفعل عشرات الأشخاص؛ لانتقادهم الحكومة، أو تعاطفهم مع روسيا في وقت سابق، أو بسبب وصف أحد جيرانهم لهم بأنهم غير موثوق بهم. ربما هم ليس عشرات الآن؛ بل مئات. إن اختطافهم، وقتلهم، وتعذيبهم ليس خبرًا مهمًّا للصحافة؛ لأن الأخبار الوحيدة المطلوبة هي التي تخص الصواريخ الروسية.
ذات مرة، بعد وفاة هوغو شافيز، قال فيدل كاسترو: لفهم مَن هو شافيز؛ انظر إلى من يحزن عليه. اليوم، لفهم مَن المستفيد الرئيسي من حرب الأشقاء بين روسيا وأوكرانيا؛ علينا إيقاف تشغيل التليفزيون، وإلقاء نظرة على سلوك البورصات العالمية، والانتباه لموردي الأسلحة الرئيسيين لأوكرانيا، ومقارنة هذه المعلومات بأسماء السياسيين الذين يدعون- بأعلى صوتهم- إلى فرض عقوبات على روسيا.
أما الشعبان الروسي والأوكراني الشقيقان، فهما بالتأكيد- بغض النظر عن بايدن، وجونسون، وبوتين، وزيلينسكي، وأتباعهم- سيكون لديهما من الحكمة ما يعينهما على طي هذه الصفحة الرهيبة من التاريخ؛ فعُمر علميّ الدولتين اللذين يدور القتال تحت ظلالهما يزيد قليلًا على ثلاثين عامًا، في حين يبلغ تاريخهما المشترك بأحلامهما، وانتصاراتهما، وهزائمهما المشتركة دائمًا، قرونًا كثيرة. إن الاهتمام الخاص لمراكز القوى العالمية اليوم بأراضي دول الاتحاد السوفيتي سابقًا ليس اقتصاديًّا فقط؛ وإنما جيوسياسي أيضًا؛ حيث تحمل هذه الأراضي ذكرى ونواة المحاولة الأولى في تاريخ البشرية لبناء مجتمع غير رأسمالي. أعتقد أننا اليوم، في ظل الأزمة العالمية للنموذج النيوليبرالي، نقترب من نقطة يليها إما تدمير نووي شامل لنا كبشر غير أذكياء، وإما رد فعل جديد غير متوقع من شأنه أن يمهد الطريق لمستقبل جديد يضع نهاية للعصر التمهيدي الذي نعيشه. لا أستبعد أن يصدر رد الفعل هذا من الأراضي التي كانت تشكل الاتحاد السوفيتي سابقًا. أفهم كم يبدو هذا جنونيًّا اليوم، لكن احتمال نشوب حرب بين روسيا وأوكرانيا بدا جنونيًّا أيضًا قبل أيام قليلة. إنه وقت الاضطرابات والمفاجآت الكبرى. يقوم النظام بكل ما في وسعه لتجريدنا من إنسانيتنا، لكنه لن ينجح. لا للحرب.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير