تراهن الولايات المتحدة الأمريكية، ومن خلفها حلف دول شمال الأطلسي “الناتو”، على تغيير الوضع الجيوسياسي بالقرب من الأراضي الروسية، ليس فقط في شرق أوروبا وشمالها، بل في آسيا الوسطى وجنوب القوقاز، ومن يحلل الخطاب السياسي الأمريكي يتأكد له أن الولايات المتحدة غير جادة على الإطلاق في وقف الحرب الروسية الأوكرانية، وترسل هي وحلفاؤها- على مدار الساعة- الأسلحة والذخائر إلى أوكرانيا لضمان استمرار الحرب؛ حتى تتحقق أهداف البيت الأبيض والمتطرفين في “الناتو” وغاياتهم، وهي- من وجهة نظرهم- “الهزيمة الإستراتيجية” لروسيا والكرملين. ورغم عدم قناعة الكثيرين في أوروبا، وحتى داخل الولايات المتحدة، بقدرة واشنطن على تحقيق هذا الهدف، ويعدونه وهمًا وهراء، فإن مخططي السياسة الأمريكية ينظرون إلى استمرار الحرب الروسية الأوكرانية باعتبارها “فرصة تاريخية” لن تتكرر لإضعاف روسيا في محيطها الحيوي، وخلق الفتن والخلافات والصرعات بينها وبين دول كانت- إلى وقت قريب- تشكل المجال الحيوي لموسكو.
وفي إطار هذه الإستراتيجية، تعتقد واشنطن أن إطالة الحرب في أوكرانيا سوف توفر لها فرصة لإخراج روسيا من جنوب القوقاز وآسيا الوسطى، على غرار سيناريو انهيار “حلف وارسو”، وتخلي دوله عن روسيا، والانضمام بعد ذلك إلى الاتحاد الأوروبي، أو حلف الناتو.
وبعد 19 شهرًا من الحرب الروسية الأوكرانية، بدأت الولايات المتحدة بإعلان أولى الخطوات في هذا المخطط؛ وهي إجراء مناورات عسكرية مشتركة في أرمينيا تحت اسم “إيجيل بارتنر 2023 “، في الفترة من 11 إلى 20 سبتمبر الجاري، ورسالة الولايات المتحدة و”الناتو” من هذه التدريبات العسكرية واضحة، وهي أن واشنطن ترى فرصة سانحة لمزاحمة موسكو في جنوب القوقاز، وخاصة في أرمينيا، التي كانت ترتبط بعلاقات خاصة مع موسكو، تترجمها القاعدة العسكرية الروسية في أرمينيا، التي تضم 1960 جنديًّا، ونحو 90 مدرعة، وقوات حفظ السلام الروسية في منطقة ناغورنو كارباخ، وعضوية أرمينيا منذ 25 مايو 1992 في التحالف العسكري لمنظمة الأمن الجماعي التي تضم 4 دول أخرى مع أرمينيا وروسيا، وهي كازاخستان، وأوزباكستان، وقيرغستان، وطاجاكستان، فما المتغيرات الجديدة في العلاقات الأرمينية الروسية؟ وما الدوافع وراء قرار أرمينيا لتقبل بإجراء مناورات “إيجل بارتنر 2023” مع الولايات المتحدة، وترفض في الوقت نفسه إجراء مناورات مع الجيش الروسي؟ وكيف تستغل الولايات المتحدة “الانشغال الروسي” بالعملية الروسية في أوكرانيا من أجل بناء “حلقة من النار” حول روسيا في جنوب القوقاز وآسيا الوسطى؟
تعتقد الولايات المتحدة أن الفرصة مناسبة لاحتواء روسيا من خلال تطبيق “نظرية الأناكوندا” على روسيا، وخاصة في منطقة آسيا الوسطى وجنوب القوقاز، وتسعى الولايات المتحدة من خلال “الأناكوندا” إلى استكمال بناء “حلقة من العداء والخوف” بين روسيا وجيرانها في الجانب الآسيوي بعد أن نجحت من قبل في ضم غالبية الدول في شرق أوروبا ووسطها إلى “حلف الناتو”، وحتى الدول التي لم تدخل الناتو، مثل أوكرانيا وجورجيا، زرعت واشنطن الخلافات بينها وبين روسيا، فالمعروف أن الأناكوندا “ثعبان ضخم وغير سام، لكنه يلتف حول الضحية ويخنقها”، وطبقها لأول مرة الجنرال وينفيلد سكوت، قائد الجيش الشمالي في أثناء الحرب الأهلية الأمريكية، وكانت تقوم على منع وصول المساعدات من البحر إلى قوات الجنوب، وإرهاقهم دون الدخول في صراع مباشر معهم، وتسعى الولايات المتحدة- منذ فترة طويلة- إلى تطويق روسيا بالقواعد العسكرية، ونقل مجموعات ضخمة من الدبابات والقاذفات الإستراتيجية بالقرب من الأراضي الروسية، وما تشهده منطقة البحر الأسود، وشرق أوروبا، وبحر البلطيق، بالإضافة إلى ما يجرى في جنوب القوقاز وآسيا الوسطى، خير شاهد على المساعي الأمريكية وحلف الناتو إلى بناء “حلقة من العداء والنار” حول روسيا.
تعمل الولايات المتحدة على زرع مزيد من الخلافات بين دول جنوب القوقاز وآسيا الوسطى من جانب وروسيا من جانب آخر، من خلال 5 مسارات رئيسة، وهي:
أولًا: “تسويق الحرب”
تدعي الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون في حلف الناتو والاتحاد الأوروبي أن ما تسميه بسيناريو الحرب الروسية على أوكرانيا قد يتكرر مع دول آسيا الوسطى وجنوب القوقاز، وتدعي واشنطن أن سيناريو أوكرانيا جرى من قبل مع جورجيا خلال الحرب الروسية الجورجية عام 2008، وفقدت فيه جورجيا جمهوريتي أوسيتيا الجنوبية، وأبخازيا، وأن أفضل طريق لتلك الدول أن تأخذ خطوة بعيدًا عن روسيا، وأن الولايات المتحدة وحلف الناتو وحدهما قادران على حماية تلك الدول من أي هجوم روسي.
ثانيًا: الانسحاب الروسي
تستغل واشنطن بعض التفاعلات السياسية أو العسكرية للترويج بأن الحرب الروسية الأوكرانية جعلت موسكو غير قادرة على القيام بواجباتها تجاه دول جنوب القوقاز وآسيا الوسطى، وهو ما بدا في حديث رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشنيان بأن صواريخ إسكندر الروسية لم تكن فعالة في الحرب مع أذربيجان عام 2020، وأن موسكو لم تمنع أذربيجان من السيطرة على بعض المناطق في منطقة ناغورنو كارباخ، وهو ما أدى إلى نتيجة- من وجهة نظر باشنيان- بأن روسيا باتت غير مهتمة بالمنطقة، وفي طريقها إلى الانسحاب من جنوب القوقاز، وتجلى هذا الموقف الأرميني في اتهام روسيا بالعجر عن حماية اتفاقية السلام الموقعة في 25 نوفمبر 2020، وأن روسيا لم تفعل شيئًا أمام خطوات أذربيجان بإغلاق طريق “ستيباناكيرت- غوريس”، وهو الممر البري الوحيد الذي يربط أرمينيا بكاراباخ، والمعروف بـ”ممر لاتشين”، لكن الكرملين رفض هذا التقييم جملة وتفصيلا، وتكشف هذا الخلافات بين أصدقاء الأمس أن ما كانت تروج له الدعاية الأمريكية وجد صدى لدى بعض المسؤولين الأرمن بعد أن أقنعت الولايات المتحدة أرمينيا “بتدويل الخلاف” مع أذربيجان بدلًا من البقاء حصريًّا تحت العباءة الروسية؛ ولهذا قدمت أرمينيا شكوى إلى مجلس الأمن بحجة أن روسيا لم تدن تصرفات أذربيجان، ولم تضطلع بدورها كضامن لاتفاقية السلام.
ثالثًا:ورقة الاتحاد الأوروبي والناتو
مع أن مناورات “إيجل بارتنر 2023″ ضمت 85 جنديًّا أمريكيًّا،و175 من أرمينيا فقط، غالبيتهم أعضاء في الحرس الوطني في ولاية كانساس، ومسلحون ببنادق وليس أسلحة ثقيلة، ورغم إجراء أرمينيا، في 10 يناير 2023، مناورات مع منظمة الأمن الجماعي التي تضم روسيا، وفي الوقت نفسه قبلت المناورات مع الجيش الأمريكي، فإن ذلك مثّل تحولًا كبيرًا تسبب في قلق الكرملين ومتابعته، ولا يمكن تجاهل تصريحات عدد آخر من المسؤولين الأرمن الذين حملوا روسيا مسؤولية هزيمة أرمينيا في حرب 2020 مع أذربيجان، ودعوتهم الصريحة إلى الانضمام إلى حلف الناتو والاتحاد الأوروبي ، وتروج الدائرة القريبة من رئيس الوزراء الأرميني باشنيان بأن الحفاظ على الدولة الأرمينية مرهون فقط بمساعدة الولايات المتحدة وحلف الناتو، الذي يستطيع- من وجهة نظرهم- الضغط على تركيا؛ العدو الأول للأرمن، والعضو في حلف الناتو منذ عام 1952.
ليس هذا فقط، فقد وافقت أرمينيا على قيام الاتحاد الأوروبي بـ”مهمة” على الحدود مع أذربيجان بغرض بناء الثقة وترسيم الحدود بين طرفي الحرب، وقد فشل الاتحاد الأوروبي في تحقيق أي تقدم بين أرمينيا وأذربيجان، ولم يكن راغبًا في استفزاز تركيا أو أذربيجان، التي يراها أحد “المسارات البديلة ” للغاز الروسي.
رابعًا: تعميق الخلافات الحدودية
استثمرت الولايات المتحدة بقوة في الخلافات بين الدول القوقازية، خاصة الدول الحليفة لروسيا؛ بهدف إضعاف الحضور والزخم الروسي في تلك المناطق التي تشهد أيضًا خلافًا حدوديًّا بين طاجاكستان وقيرغستان، وتدعي الولايات المتحدة أن روسيا عاجزة عن حل تلك الصراعات، في حين تقوم حسابات موسكو على تشجيع تلك الدول على حل خلافاتها، دون تدخل من موسكو في شؤونها الداخلية.
خامسًا: المرونة الاقتصادية
تراقب الولايات المتحدة الامريكية الموارد الضخمة التي تتمتع بها دول آسيا الوسطى وجنوب القوقاز، مثل النفط، والغاز، واليورانيوم؛ ولهذا تشجع الولايات المتحدة، بالتعاون مع الاتحاد الأوروبي، على ربط حقول الغاز والنفط بأوروبا مباشرة، وليس من خلال الأراضي الروسية، وفي سبيل ذلك ضخ الاتحاد الأوربي أكثر من 110 مليارات دولار استثمارات في المنطقة خلال العقد الماضي، وحتى في ملف العقوبات على روسيا، كانت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي أكثر تفهمًا ومرونة في التغاضي عن عدم “الالتزام الكامل” من جانب دول تلك المنطقة بالعقوبات على روسيا؛ لأن واشنطن وبروكسل يدركان حجم الارتباط التاريخي بين اقتصادات روسيا وتلك الدول.
المؤكد أن روسيا تراقب كل تلك التحركات الغربية والأمريكية، وتدرك أن عدم اعتراف دول المنطقة بضم روسيا للمناطق الخمس من أوكرانيا تقف وراءه واشنطن، لكن روسيا لديها كثير من الأوراق التي لا يمكن إغفالها، ومن تلك الأوراق:
1- الأقليات الروسية
يزيد عدد الروس في تلك الدول على 7 ملايين روسي، بالإضافة إلى أعداد أخرى في جنوب القوقاز، ويدرك الساسة في تلك الدول أن أي محاولة للتأثير السلبي في تلك الأقليات سوف تقابل برد صارم من روسيا؛ ومن ثم فإن هذه الدول تختلف عن بولندا، أو دول بحر البلطيق الثلاث التي لحقت بالناتو فور الانسلاخ من الاتحاد السوفيتي.
2- العلاقات الاقتصادية
لا تمانع روسيا من تعاون دول المنطقة اقتصاديًّا مع الاتحاد الأوروبي وتركيا وإيران والصين، لكن لا يزال هناك كثير من الأوراق الاقتصادية الروسية، فكثير من خطوط نقل الغاز والنفط تمر بالأراضي الروسية حتى اليوم، كما أن أسواق الطاقة تشتري اليورانيوم الكازاخي من روسيا التي تعالجه وتسوّقه في أوروبا، بل في الولايات المتحدة نفسها، كما يعيش الملايين من أبناء تلك المنطقة في روسيا، بالإضافة إلى الملايين الآخرين الذين اكتسبوا الجنسية الروسية وما زال لهم صوت وتأثير في بلادهم، فضلًا عن المكاسب الاقتصادية التي يوفرها الاتحاد الأوراسي لدول تلك المنطقة.
3- الضمانات السياسية والعسكرية
رغم تصاعد التوتر والخلاف بين روسيا، ودول جنوب القوقاز وآسيا الوسطى، بفعل الخلاف في تقديرات العملية الروسية في أوكرانيا، فإن لروسيا قواعد عسكرية مهمة، ويشكل وجود تلك القواعد ضمانة إستراتيجية لسلام تلك الدول واستقرارها، ولعل تدخل روسيا لحماية كازاخستان من الفوضى والتخريب في أواخر عام 2021 ما زال حاضرًا في ذاكرة الجميع، فضلًا عن أن غالبية النخب السياسية الحاكمة في تلك البلاد تخشى “الثورات الوردية والبرتقالية” التي اندلعت من قبل في جورجيا عام 2003، وفي أوكرانيا عام 2005 ، وتخشى تلك الدول من أن الابتعاد عن روسيا سوف يكون الشرارة الأولى التي تطلق هذه “الثورات الملونة” في المنطقة، وهو ما يجعل تلك الدول تفكر ألف مرة قبل الانسياق وراء المقاربة الأمريكية والغربية.
4- الحلفاء الأوفياء
إذا كانت الولايات المتحدة تنسق مع الناتو والاتحاد الأوروبي لتعميق نفوذها في تلك المنطقة، فإن لروسيا أصدقاء في المنطقة تتفق مصالحهم مع موسكو في عدم الحضور الأمريكي والغربي بعد الانسحاب الأمريكي من أفغانستان في نهاية أغسطس 2021؛ ولهذا لا تعمل روسيا وحدها في تلك المنطقة؛ بل تنسق- تنسيقًا كبيرًا- مع كل من الصين وإيران، فلدى بيجين وطهران المخاوف الروسية نفسها.
الثابت أن الولايات المتحدة ومعها حلف الناتو يعتقدان أن آسيا الوسطى وجنوب القوقاز باتت منطقة “رخوة ” من القوة الروسية، في حين لا تزال روسيا تتمتع بأوراق وازنة وقوية، وهو ما يقول إننا أمام فصل جديد من التنافس والصراع بين روسيا والغرب.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير