أبحاث ودراساتإستراتيجيات عسكرية

الأبعاد العسكرية للاتفاقية الصينية الإيرانية


  • 19 يناير 2022

شارك الموضوع

بُعيد إعلان توقيع الاتفاق الإستراتيجي الشامل الطويل الأمد بين الصين وإيران، وبالتوازي مع مساعي تعميق التعاون الودّي الصيني الإيراني، تسارعت الأحداث على الساحة الدولية مع حركة المد والجزر في موقف الولايات المتحدة الأمريكية من الاتفاق النووي الإيراني، والانعطافات المفاجئة في السياسة الخارجية الأميركية لجهة الانسحاب الأمريكي “الإستراتيجي” من أفغانستان، وتسلّم طالبان سلطة الحكم في البلاد بعتاد عسكري ضخم. يضاف إلى ذلك واقعة استنفار سلاح الجو التايواني في بحر الصين الجنوبي، بالتزامن مع التحركات “الروتينية” للسفن الحربية الأمريكية عند مضيق تايوان، والقلق الذي أبدته الصين حيال هدف زيارة نائب الرئيس الأمريكي كاميلا هاريس “التحريضية” إلى فيتنام والفلبين، من خلال وسائل الإعلام التابعة للدولة بالسؤال: ”هل أصبحت مواجهة الصين الشغل الشاغل لأمريكا بعد خروجها من “مستنقع أفغانستان”؟“[1].

بموازاة ذلك، سارعت الصين إلى دحض ردود الفعل الخارجية التي اتّهمتها بأنها تسعى إلى سد الفراغ الأمني الذي خلّفته الولايات المتحدة في أفغانستان ومنطقة الشرق الأوسط، مؤكّدة احترامها لسيادة الدول بوجه الهيمنة، ودعمها للاستقرار في المنطقة. في المقابل، تنطوي الاتفاقية الصينية الإيرانية على تهديد عسكري حقيقي لمصالح الولايات المتحدة الأمريكية، لجهة احتمال إقامة قواعد عسكرية صينية في الجزر الإيرانية، والسماح للصين بنشر قوات مسلحة شبه دائمة لحماية استثماراتها في إيران والمنطقة. وأمام التحديات الطارئة التي طرحتها الاتفاقية الصينية الإيرانية، أعيد استئناف المفاوضات في ڨيينا بين إيران والدول الست؛ لإقناع إيران بالعودة إلى الاتفاق النووي، فيما لم تزل العلاقة تتأرجح مع الولايات المتحدة الأمريكية بنتيجة العقوبات.

في ظل ما تقدّم ذكره من أحداث عاصفة، وما شهدناه مؤخرًا من مناورات عسكرية مشتركة بين الصين، وروسيا، وإيران؛ نسعى فيما يلي إلى دراسة آثار الاتفاقية الصينية- الإيرانية في أبعادها العسكرية، آخذين في الحسبان الغايات والمصالح العسكرية للبلدين، والصلاحيات الممنوحة لها في ضوء ما تنص عليه الاتفاقية من مساعٍ فعلية لتطوير التعاون الدفاعي، والعسكري، والاستخباراتي بين الصين وإيران.

مصالح الصين العسكرية في الشراكة

تمثّل اتفاقية الشراكة الإستراتيجية الشاملة بين الصين وإيران، الركيزة الأساسية التي تنطلق منها الصين في تنفيذ مبادرة «الحزام والطريق»، التي تحقق بها الصين التفوق الاقتصادي، وتعيد تشكيل التجارة العالمية والارتباط الجيوسياسي بالعالم على نحو إستراتيجي كامل. وتوفّر الشراكة الصينية- الإيرانية القوة الاقتصادية التنافسية للصين، التي بالرغم من استخدامها كأداة للسياسة الخارجية، فإنّها ترتكز- بدورها- على المنظور العسكري من حيث إنّها تمثل أفضل توظيف لأدوات الحرب النفسية ضد الولايات المتحدة الأمريكية.

ويمكننا تأطير مصالح الصين العسكرية في اتفاقيتها مع إيران، ضمن مستويات ثلاثة: على المستوى التنظيمي، تهدف الصين إلى تعزيز السيادة الإيرانية في وجه الهيمنة الأمريكية، فيما تعمل في الوقت نفسه على ضبط ممارسات السلطة السياسية الإيرانية فيما يتعلق ببعض سياسات إيران العسكرية إقليميًّا. في المقابل، تتوخى الصين تقويض السياسة الأمريكية من حيث تشتيت إستراتيجيتها، والترتيبات الجغرافية لمهامها السياسية والعسكرية في المنطقة.

أمّا على المستوى التكتيكي، فحرصت الصين على تحديد الآليات والتدابير التنفيذية اللازمة لتعزيز التعاون في المجال العسكري والدفاعي والأمني الثنائي بين الصين وإيران. فإنّه بالإضافة إلى مصلحة الصين الرئيسية بحماية مصالحها ومواقع استثماراتها داخل إيران، وهو ما يتطلب وجودًا عسكريًّا واسعًا؛ وجب على الصين عمومًا أن تسعى إلى تحديد المشروعات المشتركة في مجال تطوير التقنيات العسكرية الحديثة، وكذلك تطوير وتقوية البنى التحتية لشبكات الاتصال والمعلومات الضرورية للحماية من أي خرق أمني في الفضاء السيبراني.

لهذه الغاية، عملت الصين على إدراج إجراءات التنفيذ القصيرة المدى في متن وثيقة الشراكة، التي تشتمل على عدة بنود، أهمها عسكريًّا: تشجيع فريق الطوارئ لشبكة الكمبيوتر الوطنية في البلدين على توقيع مذكرة التفاهم بشأن الأمن السيبراني، وقيادة التعاون للاستجابة لحوادث الأمن السيبراني في الخارج، وتبادل المعلومات بشأن التهديدات. ثانيًا، دعم الانعقاد المنتظم لاجتماع اللجنة المشتركة للتعاون في صناعات الدفاع الوطني، ومحادثات التعاون التجاري والصناعي العسكري. أمّا ثالثًا، فتوسيع التعاون التعليمي والبحثي بين المنظمات العسكرية والدفاعية والأمنية، وتبادل الخبرات، بما في ذلك في مجال الحرب غير المتكافئة، ومكافحة الإرهاب، والجرائم العابرة للحدود، والاتجار بالبشر، وتجارة المخدرات. ورابعًا، تتوخى الصين توسيع التعاون في مجال التكنولوجيا والصناعة الدفاعية، مع التركيز على تنفيذ المشروعات الاستثمارية، والتصميم والتطوير، والإنتاج المشترك، وتطوير المعدات. ومن منحى مختلف، نصت الاتفاقية على التحضير لإجراء مناورات بحرية وجوية مشتركة وفق أساس منتظم، وكذلك تدعيم المصالح العسكرية من خلال تعزيز التعاون السياسي الثنائي والاقليمي والدولي، من خلال المحادثات لوضع آلية التخطيط والتشاور، واستمرار تبادل الدعم المتبادل.

وعلى المستوى التشبيكي، كان من مصلحة الصين إنشاء “شبكة من التحالفات” تواجه بها خطر زعزعة الاستقرار الإقليمي (مع أنّ الصين تتجنب الاعتراف علنًا بدخولها التحالفات العسكرية)؛ ومن ثم كان من مصلحة الصين الشراكة مع إيران بوصفها “دولة محورية” ذات نفوذ إقليمي، وموقع إستراتيجي مركزي بالنسبة إلى المشروع الصيني. ومن ناحية أخرى، يتضح لنا مصلحة الصين  في التقارب مع روسيا بوصفها قوة عظمى أخرى داعمة لها، كما تشترك معها في مصلحتها الإستراتيجية بإنهاء الهيمنة الغربية.

وكان من مصلحة الصين أيضًا، تطوير “شبكة من نقاط القوة الإستراتيجية” تنتشر فيها قوات عسكرية صينية خاصة للدفاع عن المصالح الإستراتيجية للصين، وهو ما أكّده أحد ضباط البحرية الصينية بالتصريح أنّه “أينما كان هناك عمل صيني، سيكون للسفن الحربية نقطة دعم للنقل”. وفي حين تُسهم هذه الشبكة العسكرية في رفع تكاليف أي تدخل عسكري أمريكي أو أجنبي في المنطقة، فإنّها تحقق الغرض العسكري المزدوج بالنسبة إلى الصين، لجهة تكاملها مع مشروع “سلسلة اللؤلؤ” الصينية، الذي يعنى بالانتشار العسكري الصيني على طول المشروعات البحرية ذات الموقع الإستراتيجي لمبادرة «الحزام والطريق»، والذي قد يمكّن الصين من إقصاء التدخلات العسكرية الأمريكية عن طريق تطويق المنطقة عسكريًّا عن طريق البحر والبر.

دور الصين في حفظ الأمن القومي والإقليمي

تتخذ الصين قاعدة “الاستعداد للحرب” مفهومًا للقوة، فقد امتثلت الصين لبناء دفاعها الوطني من خلال الإصلاح الإستراتيجي لهيكل جيش التحرير الشعبي الصيني، ليصبح قوة شاملة مجمعة وفعالة ومعززة. وقد تطور جيش التحرير الشعبي الصيني إلى جيش مشترك معزّز بمختلف الأسلحة والخدمات والقوة الصاروخية الإستراتيجية، التي لم تَعدْ تُعدّ جدارًا فولاذيًّا لحماية الصين الاشتراكية فقط؛ ولكن قوة مهمة للحفاظ على السلام العالمي.

الصلاحيات العامة للجيش الشعبي الصيني

التزم جيش التحرير الشعبي الصيني بأربعة مبادئ أساسية لدعم الإصلاح، والانفتاح على العالم الخارجي، وتحقيق التحول الإستراتيجي للأيديولوجية التوجيهية لبناء الجيش، وإنجاز إصلاح التنظيمات العسكرية. شارك جيش التحرير الشعبي الصيني في البناء الوطني، وخدمة الناس، وزرع سياسات الحزب الشيوعي الصيني التي تدعم الإصلاح وتبني سياسة العالم الخارجي، بالإضافة إلى إحراز تقدم ملحوظ في مجالات التدريب العسكري، والعمل السياسي، والدعم اللوجستي، وأبحاث الدفاع الوطني. وعلى قاعدة وراثة التقاليد العسكرية، ثبت تاريخيًّا أن جيش التحرير الشعبي الصيني سيكون دائمًا بالنسبة إلى الصين “حارس الأمان” للاشتراكية ومصالح الناس، ويؤدي دورًا مهمًّا في سلامة الأراضي، والإغاثة من الكوارث، وتعزيز البناء الاقتصادي والأيديولوجي للدولة.

يتألف جيش جمهورية الصين الشعبية من قوات نشطة، وقوات احتياطية من جيش التحرير الشعبي الصيني، والشرطة، والميليشيا المسلحة للشعب الصيني. ويُستخدم الجيش الصيني كأداة للسياسة الخارجية، ويتألف من الجيش، والبحرية، والقوات الجوية، والمدفعية الثانية. القوة الدائمة النشطة للجيش لها صلاحيات القيام بعمليات عسكرية دفاعية، في حين تنفّذ قوات الاحتياط التدريب في وقت السلم، لإمكانية استدعائها للخدمة في وقت الحرب. وقد خاض جيش التحرير الشعبي الصيني حروبًا عدّة إقليمية؛ لتحرير الجزر البحرية، ومقاومة العدوان الأمريكي، ومساعدة كوريا في الهجمات المضادة للدفاع عن النفس، وفي حماية حدود البلاد.

العقيدة العسكرية الصينية

يُعد فهم أدب الحرب الصيني أمرًا أساسيًّا في دراسة الأنشطة العسكرية كأدوات للسياسة الخارجية، وقد تم تكريسه على نحو أمثل في كتاب «صن تزو» “فن الحرب”، وكتابات «ماو تزي تونغ» المرتبطة بمبادئ التوجيه ذات الصلة. وعلى خلفية الاعتداءات العديدة التي فرضتها الدول الإمبريالية، وما ترتب على ذلك من معاناة للشعب الصيني، أسس الحزب الشيوعي الصيني وقاد الجيش الشعبي لشن حروب ثورية مختلفة. وعلى الرغم من أنشطة جيش التحرير الشعبي الصيني في زمن الحرب، شدد على دور الأدوات العسكرية في وقت السلم، في صناعة الدفاع والعلاقات العسكرية المدنية والتكامل مع الناس، مع ذكر أن الحرب هي سياسة الدم.

أعطى «ماو تزي تونغ» (مؤسس جمهورية الصين الشعبية، ومؤسس الحزب الشيوعي الصيني) أهمية كبرى لنمو اقتصاد الدولة والاهتمام الدقيق بكتلة القوة الاقتصادية عند استخدامها في الحرب، مع افتراض أن جميع سياسات الدولة هي سياسات حرب؛ ومن ثم فإن السياسة الخارجية، سواء أكانت دبلوماسية، أم اقتصادية، أم عسكرية، هي- في الواقع- مجرد شكل آخر من أشكال إستراتيجية الحرب وتكتيكاتها، وهو ما يؤكد القيمة العسكرية الكبرى بالنسبة إلى الصين لاتفاقية الشراكة الإستراتيجية الشاملة مع إيران. وبشكل عام، تكرس لدى الصين أن السياسة هي الانعكاس المحوري للاقتصاد الذي يصنع البناء الاقتصادي، والقوة الإنتاجية، والقوى العاملة، ومصادر المواد والاحتياطي، والإنجازات العلمية والتكنولوجية؛ وأنّه “بالاقتصاد يتم إرساء أساس متين للنصر النهائي”.

المصالح العسكرية المشتركة مع إيران

تتلاقى المصالح العسكرية الصينية والإيرانية عند الغاية المشتركة بتحدي النفوذ الأمريكي في المنطقة، والتغلب على الهيمنة التاريخية للنظام الغربي على العالم. وعلى الرغم من عدم الظهور في “حلف عسكري أو سياسي”، جمعت الصين وإيران تمارين وتدريبات عسكرية مشتركة ومناورات بحرية (آخرها كانت مشتركة مع روسيا)، في تحدٍّ واضح للتدخلات العسكرية للولايات المتحدة الأمريكية في منطقة وسط آسيا والشرق الأوسط.

وفي إطار اتفاقية الشراكة الإستراتيجية الشاملة مع إيران، تسعى الصين إلى تعميق التعاون العسكري مع إيران دون الحاجة الى الدخول في حلف عسكري بمواجهة الولايات المتحدة الأمريكية وحلف الناتو، بما يخدم مصالحها على المدى الأقرب في حفظ الأمن والاستقرار لضمان نجاح مشروع الحزام والطريق واستدامته. وقد اتفقت الصين وإيران بموجب الاتفاقية على تطوير التعاون العسكري بين البلدين في إطار البحوث، وتبادل معلومات استخباراتية، والتدريبات المشتركة، كما في تصنيع سلاح مشترك وتطوير الأدوات والإستراتيجيات العسكرية. كما جمعت الطرفين مصلحة نشر قوات عسكرية صينية في المنطقة، لحماية مصالح الصين الاقتصادية في إيران من جهة، وحماية إيران- في المقابل- من خلال ردع القوات العسكرية الأمريكية في المحيط.

تعبّر الاتفاقية عن إرادة لتحويل مذكرة التفاهم الصينية الإيرانية إلى اتفاقية شراكة إستراتيجية تتطلّع من خلاله الصين إلى تحديد المجالات التي يمكنها فيها تنمية نفوذها، والقدرة على ضبط تحركات إيران العسكرية في المنطقة لحفظ الأمن والاستقرار. فمع أنّ العقيدة العسكرية الإيرانية ذات طبيعة دفاعية في المقام الأول، وتستند إلى قاعدة “الردع للخصوم، إلى جانب تبني بعض المفاهيم العسكرية الغربية والأمريكية، فإنها تستند- في حقيقة الأمر- إلى الأهداف العَقَدية (ولاية الفقيه) والمبادئ الأيديولوجية الدينية الإسلامية.

وتعد القوات المسلحة الإيرانية جيشًا حديثًا نسبيًّا، بحيث أعيد تأسيسه بُعيد الثورة الإيرانية عام 1989. الوزارة مسؤولة عن التخطيط، واللوجستيات، وتمويل القوات المسلحة لجمهورية إيران الإسلامية يخضع- بشكل مستقل- لسيطرة هيئة الأركان العامة تحت قيادة المرشد الأعلى لإيران. وتُعدّ القوات المسلحة الإيرانية أكبر جيش دائم في الشرق الأوسط، وثالث أكبر قوات مسلحة إقليميًّا بعد الجيشين التركي والمصري، حيث تحتل القوات المسلحة الإيرانية المرتبة الـ 14 في العالم من بين 137 دولة صُنِّفَت عام 2019 من جانب «Business Insider». وممّا يميز إيران عسكريًّا على المستوى الإقليمي، ما حققته من اكتفاء ذاتي من المعدات العسكرية، وأنظمة الدفاع الأساسية من صواريخ ورادارات، كما نجحت في صناعة دباباتها، وناقلات الجنود المدرعة، والطائرات المقاتلة، والمركبات الجوية بدون طيار، والقوارب، والغواصات.

غير أنّ القوات المسلحة الإيرانية تتألف من ثلاث قوات نظامية، هي: جيش الجمهورية الإسلامية، وفيلق الحرس الثوري الإيراني، وقوة إنفاذ القانون (الشرطة). يتكون الجيش من أربعة فروع: القوة البرية، والقوة البحرية، والقوات الجوية، ومقر خاتم الأنبياء للدفاع الجوي. أما فيلق الحرس الثوري الإسلامي (يسمى أيضًا Pasdaran)، فقد أنشئ بتكليف خاص لحماية الثورة الإسلامية الإيرانية ونظام الجمهورية الإسلامي في الداخل والخارج. ويتألف الحرس الثوري الإسلامي- بدوره- من قوات برية، وقوات جوفضائية، وقوات بحرية، وجهاز المخابرات، وفيلق القدس، كما يتحكم في القوة شبه العسكرية “قوات المقاومة- البسيج” التي تتألف من نحو مليون فرد. وعلى الرغم من التفاوت في المصالح من حيث العقيدة العسكرية، وتعارض مصلحة الصين مع مصلحة الحرس الثوري الإسلامي ودوره، فإنّ الاتفاقية سوف تسهم في تعزيز نفوذ الحرس الثوري في إيران وقدراته للرد على التهديدات المحتملة، سواء ارتبطت بالإرهاب، أو بالمواجهة مع الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل.

قراءة في بنود الاتفاقية في أبعادها العسكرية

اتفق الصين وإيران على تعزيز التعاون الأمني وتطبيقه في مختلف المجالات، بما في ذلك مكافحة الإرهاب والجرائم المنظمة، وتوسيع التعاون العسكري لتعزيز القدرات الدفاعية والإستراتيجية، مع ما يشمله ذلك من إنماء البنى التحتية البحرية، وبناء الهياكل البحرية والطوافات، وتطوير المواني والمعدات والمرافق ذات الصلة، وتطوير التعاون العسكري في مجالات التعليم، والبحث، والصناعة الدفاعية، والتعاون في القضايا الإستراتيجية.

ومن أبرز أوجه التعاون، تعميق الشراكة الإستراتيجية الشاملة في مجال التعاون السياسي الثنائي والاقليمي والدولي، عبر المشاركة الفعالة في الممرات الاقليمية والدولية، ومنها (مواني تشابهار نحو آسيا الوسطى) في الممر الجنوبي الشمالي، ومواني (تشابهار، ومرفأ بندر عباس نحو تركيا وجمهورية أذربيجان) في الممر جنوب غربي البلاد. وقد اشتمل هذا التعاون على الشراكة في الممرات البرية، من حيث بناء ممر السكك الحديدية لزيارة المقامات، عن طريق باكستان، وإيران، والعراق، وسوريا، والمشروعات ذات الصلة. وتكمن الأهمية العسكرية للممرات المائية في أنّها تمكّن الصين من امتلاك النفوذ الإستراتيجي على الحدود البحرية للبلاد؛ مما يعطيها السيطرة البحرية الحيوية في أوقات النزاع للإحالة دون إمداد الخصم بالأسلحة والاحتياجات العسكرية والمؤن.

ويمكّن التعاون في خطوط النقل (بين باكستان، وأفغانستان، والعراق، وسوريا)  الصين من إنشاء الممر الشرقي- الغربي لإيران؛ ومن ثم امتلاك سيطرة إقليمية برية أكبر. وقد عززت الصين هذا النفوذ المكتسب في ما نصت عليه الاتفاقية من التعاون العسكري والدفاعي والأمني الثنائي، لجهة التعاون الدفاعي والاستشاري في المجالات الإقليمية والدولية، بما في ذلك مجال الشؤون الاستراتيجية، ومكافحة الإرهاب. كما اتفق الطرفان على تطوير التعاون الدفاعي في مجالات التعليم، وتبادل الأساتذة والطلاب، والبحث، والتدريب، وتبادل الخبرات العسكرية، والدفاعية، والتكنولوجية. ومن أبرز أوجه التعاون العسكري، الصناعة الدفاعية من حيث التعاون في تطوير معدات الاتصالات السلكية واللاسلكية، والشراكة في نظام الملاحة الصيني البديل عن الـ «GPS» الأمريكي.

الأبعاد العسكرية على مستوى العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية

جاء الرد الأمريكي على الاتفاقية الصينية الإيرانية في توقيت إستراتيجي بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، حيث تزامن مع بدء الانسحاب التدريجي والكامل لقواتها من أفغانستان بعد أيام من إعلان توقيع الاتفاقية، وبعدما باشرت الولايات المتحدة في وقت سابق سحب قواتها القتالية المتبقية في العراق، كما سحبت قواعد صواريخ الباتريوت الأمريكية من منطقة الخليج. في المقابل، تم الكشف عن التوجه نحو إعادة التموضع الأمريكي في وسط آسيا، مع احتمال إنشاء قواعد عسكرية في أوزباكستان، وطاجكستان. هذا، وكان وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن أجرى مع بداية العام “جولة آسيوية” بهدف تعزيز التعاون العسكري مع حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، وتشكيل “ردع موثوق به” لمواجهة صعود الصين.

أدركت الولايات المتحدة الأمريكية أنها لن تتمكن من السيطرة على توسع الصين من خلال “احتوائها” حدوديًّا، وأنها لم تنجح في لي ذراع إيران من خلال “محاصرتها” اقتصاديًّا. ومع الكشف عن الاتفاقية الصينية الإيرانية، ارتأت الولايات المتحدة ضرورة تعديل إستراتيجيتها، وإعادة تموضع قواتها بما يتناسب مع المواجهة “الطويلة الأمد” المقبلة، حيث لجأت إلى استبدال سياسة “إطلاق الحدود” بسياسة “الاحتواء”. ومع هذا الخيار، أطلقت الولايات المتحدة حدود الصين أمام أكبر مخاوفها، وأعظم ما يهدد هويتها ووحدة أراضيها، والأمن في تركستان الشرقية، ألا وهو خطر الإرهاب، وتحديات الإسلام السياسي، والتمدد الثقافي الديني نحو الصين.

من منحى آخر، يُخشى أن تؤدي الشراكة الإستراتيجية الصينية- الإيرانية، مع ما تشمله من تطوير القدرات والأسلحة المتخصصة للقوات المسلحة الإيرانية، إلى تسريع العمل بمخططات إيران في الشرق الأوسط ووسط آسيا لتقوية نفوذها الإقليمي. فأمام استعداد إيران للدخول في العمق الاستراتيجي للمنطقة، بفعل القوة البشرية التي تشكل القوة الإيرانية في البلدان المجاورة، وما يقترن بها من عامل “الاستعداد لقبول الخسائر”، مادية كانت أو بشرية (من حيث تبجيل العمليات الاستشهادية)؛ تكتسب إيران نقاط قوة في وجه التدخل الأمريكي في المنطقة الذي يعتمد بشدة على التكنولوجيا، ومرافق القواعد الإقليمية، والشركات الأمنية (خصخصة الأمن والحرب).

وبالرد على الاتفاقية الصينية- الإيرانية، وجدت إسرائيل أن هذا الاتجاه يتطلب تعديلات في سياسة إسرائيل، مع التركيز على إدارة مخاطر أكثر صرامة في العلاقات الإسرائيلية الصينية، وحوارًا محدثًا مع الشركاء الإستراتيجيين لتحقيق تعاون إستراتيجي أكبر مع الولايات المتحدة ودول الخليج. وفي السياق عينه، أعلنت إسرائيل تكثيف الاستعدادات لاتخاذ إجراءات محتملة ضد إيران، مع تخصيص جزء كبير من ميزانية الدفاع لهذه الغاية، وذلك بعدما حذّرت إسرائيل أنّ العقوبات الحالية ضد إيران ليست قوية بما فيه الكفاية، وأن إيران تستخدم تكتيكات المماطلة لتجاوز عتبة الأسلحة النووية.

جبهات جديدة لمواجهات محتملة

تحقق الاتفاقية لإيران دورًا إستراتيجيًّا حاسمًا في مشروعات الربط التجاري في نيودلهي، في إطار مبادرة الممر الدولي بين الشمال والجنوب، في ظل علاقات تعاونية جيدة بين الهند وإيران، فقد عززت إيران والهند تعاونهما الثنائي في قطاعي التجارة والمعرفة منذ إعلان نيودلهي عام 2003، مع الالتزام بمشروعات البنية التحتية الطويلة الأجل والتعاون في مجال الطاقة، حتى أصبحت إيران من أهم الموردين لاقتصاد الهند. من هذا المنطلق، لنا أن نفهم بوضوح ما يتم تداوله عن الدوافع الأمريكية لـ “نقل الثقل الأمريكي إلى الهند اقتصاديًّا، وأستراليا واليابان عسكريًّا”، مع إعلان الرئيس الأمريكي بايدن تشكيل تحالف عسكري رباعي “كواد” (أمريكي، وبريطاني، وهندي، وياباني) في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، في مسعى لإعادة موازنة القوة الاقتصادية في وجه الشراكة الاقتصادية الصينية- الإيرانية، واستعدادًا لمواجهة عسكرية في بحر الصين الجنوبي.

وتكمن أهمية هذا الإعلان الأمريكي في أنّه يعطي صورة أوضح عن الإستراتيجية الأمريكية الحديثة للمنطقة، ويمثل نموذجًا للتحالفات العسكرية، والتموضع الإستراتيجي الجديد للقوى العظمى في العالم. بالنسبة إلى الهند، يبدو هذا المشروع الأمريكي مُحقّقًا، انطلاقًا من مصلحة الهند الاقتصادية بالترحيب بالشركات الأمريكية التي سوف تعزز من دورها الاقتصادي في المنطقة بموازاة القوة الاقتصادية الصينية الصاعدة. هذا، وكانت الهند قد أعلنت منذ أشهر شراكتها الاقتصادية مع بريطانيا من خلال استثمارات في القطاع الخاص بقيمة توازي 1.39 مليار دولار أمريكي، مع تعهد الطرفين بالسعي إلى عقد اتفاقية للتجارة الحرة.

وفي ظل العلاقات المتوترة بين الصين وأستراليا، وتعليق المحادثات الاقتصادية الثنائية، بعد أن عمدت أستراليا إلى استحداث قانون يسمح لها بفسخ عقد الشراكة مع الصين بشأن “طريق الحرير الجديد” بدعوى أنه يهدد المصلحة الوطنية، وباعتبار أنه وسيلة للصين لتوسيع نفوذها السياسي والاقتصادي؛ لجأت الولايات المتحدة الأمريكية، ومعها بريطانيا، إلى توقيع اتفاقية أمنية تاريخية “أوكوس”، تمكّن أستراليا من امتلاك التكنولوجيا الضرورية لبناء غواصات تعمل بالطاقة النووية. وفي حين تشعل هذه المبادرة بؤرة التوترات في بحر الصين الجنوبي، وصفت الصين الاتفاقية بأنها “غير مسؤولة”، في تصريح للمتحدث باسم الخارجية الصينية، حيث حذرت الصين من أن ”التحالف يخاطر بتكثيف سباق التسلح، وبإلحاق أضرار جسيمة بالسلام الإقليمي”.

وتهدف اليابان من دخولها تحالف “كواد” إلى الحفاظ على منطقة المحيطين الهندي والهادئ حرة ومفتوحة، ودعم حرية الملاحة والطيران، وحكم القانون، وغيرها من الثوابت التي دعا إليها التحالف. غير أن هذا التحالف يأتي للتعبير عن مواجهة سياسية وعسكرية صريحة تتحدى بها اليابان الصين، وتتصدى لسياساتها في النزاع القائم بين البلدين على هوية إقليم «تايوان» وسيادته، بالإضافة إلى الصراع الجيوسياسي المحتدم في مضيق تايوان. وفي مواجهة “كواد”، اعتبرت الصين أن فشل التحالف محتوم، باعتبار أنه سباحة ضد تيار العصر وطموحات المنطقة، وأنه يتأتى عما وصفته الخارجية الصينية بـ “زمرة مغلقة وحصرية تستهدف الدول الأخرى”.

وفي إطار صراع المضايق، يبدو أنّ أكثر ما تخشاه الولايات المتحدة، هو موطئ القدم المحقق للصين عند مضيق هرمز، بعدما كشفت بنود الاتفاقية الصينية- الإيرانية عن تعاون مشترك بين الصين وإيران لبناء ميناء «جاسك» وتطويره، حيث يتعزز بموجب هذا التعاون الوجود العسكري الصيني على المضيق، بمواجهة القاعدة البحرية للأسطول الأمريكي الخامس في البحرين، وهو ما سيدفع الولايات المتحدة إلى تعزيز وجودها وأحلافها العسكرية في منطقة الخليج والمياه الدولية. ومما لا شك فيه أنّ هذا الحشد العسكري الدولي ستكون له تداعيات مختلفة من حيث تأجيج الصراع بين القوى الدولية للسيطرة على المنطقة.

وفي ضوء المناورات العسكرية الأخيرة المشتركة بين الصين، وإيران، وروسيا، قد تعمد الصين إلى إفساح المجال أمام السفن الحربية الروسية لاستخدام المنشآت التي تبنيها الشركات الصينية في ميناء جاسك وغيره من المواني الإيرانية الرئيسية. ومن أهم هذه المواني إستراتيجيًّا، ميناء «تشابهار»، الذي تسعى الصين إلى تحويله إلى ميناء عالمي، وميناء «بندر عباس» جنوب ايران، حيث تهدف الصين إلى ربط الميناءين مع شمال إيران بشبكة من الطرق السريعة وسكك الحديد، بما يشكل مسار الحزام الجنوبي الرابط الممتد من شنجهاي الى جنوب إفريقيا، والمدمج بطريق الحرير؛ وهو سوف يستدعي لحمايته إقامة قاعدة عسكرية دائمة للصين في إيران.

الخلاصة

في ضوء كل ما تقدّم، نترك في خاتمة البحث النوافذ مشرعة أمام مستقبل يضج بالأحداث، مع الوجود العسكري المتنامي للصين وسط آسيا والشرق الأوسط، واحتشاد القوى الدولية لقواتها العسكرية مع أحلافها في المنطقة.  فقد أعلنت الاتفاقية الإستراتيجية الشاملة بين الصين وإيران بداية فصل جديد في العلاقات الدولية، كما شكّلت نقطة تحول في ميزان القوى الدولي وديناميكيات الاقتصاد العالمي، من حيث تسريع صعود الصين “العظمى”، وتدفّق القوة الاقتصادية العالمية نحو “مشروع القرن” الآسيوي، بعيدًا عن أمريكا الشمالية، وأوروبا الغربية.

لن تكُف الصين- من جهتها- عن استخدام قوتها الاقتصادية وقدراتها المالية لتعزيز موقعها الإستراتيجي في وجه الهيمنة الأمريكية والنفوذ الغربي في بلاد الشرق؛ وهو ما يساعد الصين على الانتصار لهويّتها الحضارية والتاريخية العظمى، والتوسّع في حدودها السياسية خارج محدودية جغرافية المكان. ومع امتداد نفوذها العالمي، لن تتراجع الصين عن تشديد قبضتها على القارة الآسيوية ومحيط الدول التي تدور في فلك «الحزام والطريق»، من حيث حماية مصالحها الجيوسياسية في البنى التحتية، والسكك الحديدية، كما في المضايق والممرات المائية، وفي منشآت القطاع العام المستحدثة داخل إيران لضمان التدفق المستدام للنفط الخام إلى الصين.

أخرجت اتفاقية الشراكة- بدورها- إيران من السجن الأمريكي الكبير، وأعانتها على التخلص من عواقب القيود الدولية التي أنهكت اقتصادها، وحدّت من آفاق علاقاتها؛ حيث فتحت لها الصين الباب على نظام عالمي بديل كامل متكامل في مجالاته السياسية، والاقتصادية، والعسكرية التي تواجه بها إيران ممارسات الهيمنة الأمريكية. في المقابل، تبدو التحديات السياسية والاقتصادية خلال المرحلة المقبلة كبيرة، وهو ما يضع مساعي الدول لإعادة التموضع الإستراتيجي والعسكري على نار حامية. وفي هذا السياق، لم تتوانَ الولايات المتحدة الأمريكية عن إعادة رسم مخططاتها الإستراتيجية لتفادي أي أخطاء أو فراغ قد تستحدثه سياساتها الأحادية في المنطقة. وإلى جانب الصراعات على المضايق، والتوترات على الممرات البرية، بما يمكن أن يعرقل الإستراتيجية الصينية، سوف تتأكد الصين من استنفاد جميع السبل الدبلوماسية والضغوط السياسية لحماية مصالحها من أي أخطار اقتصادية، أو هجمات أمنية، قبل اللجوء حتمًا، إذا ما استدعت الحاجة، إلى توظيف قدراتها العسكرية.

 

ما ورد في البحث يعبر عن رأي الباحث ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير


شارك الموضوع