تقدير موقفمقالات المركز

الدوافع الداخلية للعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا



شارك الموضوع

منذ انطلاق ما تسميها روسيا “العملية العسكرية الخاصة” في أوكرانيا، تعددت التحليلات والآراء بشأن دوافع اتخاذ هذا القرار، وأسباب اندفاع الجيش الروسي نحو العاصمة كييف، والتراجع فيما بعد، والتركيز على إقليم الدونباس في الشرق والجنوب، وهما المنطقتان الأكثر أهمية لروسيا من الناحية الجيوسياسية، في حين غابت دراسة الدوافع الداخلية تقريبًا عن جميع التحليلات، لتقييم هذا القرار، وأثره في الداخل الروسي.

الاستمرارية شبه المستحيلة

في الثامن من مايو (أيار) المقبل، سيمر على حكم الرئيس بوتين لروسيا (22) عامًا، منها (18) عامًا حكم فيها بشكل مباشر رئيسًا للدولة، وأربعة أعوام بشكل غير مباشر رئيسًا لمجلس الوزراء (2008- 2012)، حقق فيها على المستوى الخارجي، مقارنة بالداخل، ما يمكن تسميتها عدة “إنجازات” مهمة، واستعادت روسيا كثيرًا من أدوارها على المسرح العالمي، ولكنها تظل أقل بكثير مما كانت عليه في العهد السوفيتي. أما في الداخل، فقد أنهى التمرد المسلح في الشيشان، والعمليات الإرهابية في الداخل الروسي، وشهد الوضع الاقتصادي تحسنًا كبيرًا خدمته فيه الظروف الخارجية على وقع ارتفاع أسعار النفط بفضل الحربين الأمريكيتين على كل من أفغانستان (2001)، والعراق (2003)، كما تخلص من غالبية الطبقة الأوليغارشية التي أحاطت بالرئيس الأسبق بوريس يلتسن، وروض بعضها الآخر.

خلال فترة حكم بوتين، ظهر جيل جديد من الروس، لم يعاصروا الأيام الأخيرة من عمر الاتحاد السوفيتي، وما رافقه من فترة مظلمة اتسمت بغياب حكم القانون، واشتعال التمردات في عدة أجزاء من الاتحاد الروسي، والانسحاق الاقتصادي والحضاري والسياسي لروسيا، وبات الأمن من الأمور المسلم بها، وفي ظل عالم مفتوح عبر الفضائيات والإنترنت، بدأت المقارنات مع “الجوار القريب” من بلدان البلطيق، وبعض جمهوريات الكتلة الشرقية السابقة، مثل بولندا، والمجر، والتشيك، ومدى تمتع مواطني هذه البلدان بالرفاهية الاقتصادية، والحرية السياسية، في حين أنهم في دولة أكثر قوة وثراء ولا يتمتعون بهذه المميزات.

مع الوقت عادت من جديد ظاهرة الأوليغارشية للبروز، وتبين أن حرب بوتين الافتراضية ضدهم كانت حربًا على الولاء، لا على المبدأ، وزاد عدد هذه الطبقة وثراؤها بشكل مستفز لغالبية السكان، وبدا أن نظام بوتين غير قادر على تقديم شيء جديد للشعب، وهو ما أدى إلى انطلاق ما تسميه المعارضة “الربيع الروسي (2011-2013)”، حيث خرجت عدة تظاهرات في العاصمة موسكو وغيرها من المدن الروسية، تطالب بمواجهة الفساد، وتغيير المنظومة الحاكمة، ومزيد من الحريات الاقتصادية والسياسية.

أدى ضم/ استعادة روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014، إلى تراجع هذه الاحتجاجات المناهضة لبوتين ونظامه بشكل كبير، واستعادة الكرملين جزءًا من شعبيته، لما تمثله القرم من قيمة تاريخية وجيوسياسية للروس، ولاشتعال الصراع في منطقة الدونباس. لكن في منتصف عام 2020، ومع تحول الصراع في شرق أوكرانيا إلى خبر يومي معتاد، بدأت التظاهرات تعود من جديد إلى الشارع وصولًا إلى مدينة خاباروفسك، في أقصى شرق روسيا، واستمرت عدة أشهر.

إدراكًا منه لضرورة التغيير، وشبه استحالة بقاء الوضع الداخلي على ما هو عليه، أعلن الرئيس بوتين تعديلات دستورية تمنح البرلمان صلاحيات واسعة، من ضمنها اختيار رئيس مجلس الوزراء، الذي أصبحت لديه سلطات أكبر بكثير فيما يخص الشؤون الداخلية، وتحديد مدد الرئاسة بمدتين متتاليتين، أو مرتين في العمر فقط، لتأكيد عدم العودة إلى سيناريو بوتين- ميدفيديف التبادلي في الفترة من (2008-2012)، ولكن ما أفسد من رونق هذه التغييرات إجراء تعديل في اللحظات الأخيرة لتصفير عداد مدد الرئاسة لبوتين، وهو ما يعني إمكانية انتخابه رئيسًا لفترتين رئاسيتين من (2024-2036)، وبدا وكأن منح صلاحيات واسعة للحكومة والبرلمان هو ثمن لبقاء بوتين رئيسًا مدى الحياة، وقد دخلت التعديلات الجديدة حيز التنفيذ في الرابع من يوليو (تموز) 2020.

لم تحقق التعديلات الدستورية- فيما يبدو- هدف الكرملين، ولم تهدئ من روح المعارضة لدى الشباب في الداخل الروسي، بعدما أفسدها “تصفير” عداد مدد الرئاسة، ومع تراجع الأوضاع الاقتصادية على وقع تفشي وباء كوفيد-19، وعدم قدرة الكرملين- فيما يبدو- على تقديم شيء جديد يرضي الشباب في الداخل، بدا أن التوجه نحو الخارج كما هو معتاد تاريخيًّا في روسيا حل مفيد لأزمات الداخل، وأقل تكلفة من نشوء اضطرابات قد لا يمكن السيطرة عليها.

المعضلة الأوكرانية

الأزمة الروسية مع أوكرانيا ليست بالجديدة؛ فمنذ تفكك الاتحاد السوفيتي عام 1991، ظل وضع هذا البلد الأكثر أهمية لروسيا، إلى جانب بيلاروس، معلقًا دون حسم، فلم تتجه كييف إلى تكامل ووحدة مع روسيا في إطار جديد، ولم تنتمِ إلى الغرب بشكل صريح. شهدت فترة الرئيس الأول لأوكرانيا، ليونيد كرافتشوك (1991- 1994)، بناء هياكل السلطة، وإنهاء الأمور العالقة مع روسيا والغرب من الحقبة السوفيتية، على سبيل المثال تفكيك الأسلحة النووية التي وضعتها موسكو على أرضي أوكرانيا في أثناء الحرب الباردة، وبدء صراع الهوية، في حين شهدت فترة الرئيس الثاني ليونيد كوتشما (1994- 2005) تراجعًا في حدة خطاب الهوية، وأولوية تحسين الأوضاع الاقتصادية، وتعاونًا كبيرًا وفعالًا بين كييف وموسكو.

أدى الوضع المعلق بشأن انتماء أوكرانيا، إلى قيام ما تسمى “الثورة البرتقالية” التي تزعمها الداعون إلى توجه غربي واضح، وإلى الإطاحة بنهج كوتشما، المعتدل، وتولي فيكتور يوشتشينكو الرئاسة (2005- 2010)، ولكن موسكو تمكنت من التعامل مع هذا الوضع الجديد، ونتيجة للروابط الثقافية والاقتصادية الكبيرة بين شرق أوكرانيا وكتلتها السكانية والتصنيعية الأكبر، حدث ما يمكن وصفه بتقاسم للنفوذ بين روسيا والغرب وأتباع كلا الفريقين، وحالة من الهدوء تمكنت رئيسة الوزراء يوليا تيموشينكو (2007- 2010) من صنعها ببراعة، وذلك عبر اتفاقيات اقتصادية مع روسيا، إلى بجانب الحفاظ على علاقات جيدة مع الغرب.

 نتيجة للنجاح الاقتصادي الذي عاشته أوكرانيا، بفضل التعاون الفعال مع روسيا والغرب، جاءت نتائج انتخابات الرئاسة لعام 2010، أشبه ما تكون باستفتاء شعبي على العلاقة مع روسيا، وأدت إلى فوز فيكتور يانوكوفيتش، الذي خرق التوازن الذي كان قائمًا بين طرفي النزاع، وذلك من خلال الإطاحة بيوليا تيموشينكو، والزج بها وبأتباعها في السجون بتهم فساد، وتعيين رئيس مجلس وزراء تابع له؛ لتصبح السلطة والثروة كلها في يد الفريق الأقرب إلى موسكو، والأخيرة لم تتدخل لحماية ذوي التوجه الغربي المتوازن، والمؤمنين بضرورة وجود علاقة جيدة أيضًا مع موسكو.

كانت أحدث الميدان الأوروبي عام 2013، صراعًا بين الأوليغارشية ذات التوجه الغربي ونظيرتها ذات التوجه الروسي، ونهاية لمرحلة تقاسم السلطة والثروة فيما بينهما، وتمكن الفريق الغربي من الإطاحة بالفريق الروسي، واشتعلت الأزمة وصولًا إلى ما تسمى “العملية العسكرية” الحالية.

يستنتج مما سبق، أن الصراع على أوكرانيا بين روسيا والغرب لم يكن وليد اللحظة، ولم يكن هناك توقع من أي طرف لإمكانية نشوء صراع مسلح، وحتى أكثر المتشائمين رجحوا أن يكون صراعًا محدودًا في منطقة الدونباس دون تمدده كما حدث ووصل إلى العاصمة كييف، خاصةً أن مسألة ضم أوكرانيا إلى حلف الناتو لم تكن محسومة، واقتصادها دخل في مرحلة من التدهور والتراجع الكبير مع فقدانها رأس مالها البشري من خلال الهجرة الواسعة النطاق للكفاءات. كما أن أشد معارضي الكرملين شراسة، لم يكونوا ليقبلوا بأوكرانيا في حلف الناتو، ولا استعادتها شبه جزيرة القرم، وربما لهذا السبب بالتحديد لم تراع العقوبات الغربية ما تسمى “الصوابية السياسية”؛ لإدراكها أن كسب قلوب الروس في هذه المعركة تحديدًا محال؛ ولذلك اتخذت إجراءات تبدو وكأنها موجهة ضد الروس شعبًا وثقافةً وتاريخًا وحضارة، إلى جانب الاقتصاد.

أثار ما سبق السؤال عن الدوافع الداخلية من جراء هذه العملية، وهل هي حقًا لمواجهة خطر “وجودي” وشيك يستدعي عملًا استباقيًا عاجلًا كما يروج الكرملين، أم مغامرة خارجية هدفها إعادة هندسة الأوضاع الداخلية قبل تفجرها؟

المغامرة المحسوبة المخاطر

يمكن قول الكثير عن الأخطار الجيوسياسية والأمنية التي يمكن أن تلحق بروسيا إذا انضمت أوكرانيا إلى حلف الناتو، أو- وهو ما كان يحدث بالفعل- تمتعها بكل مميزات الناتو دون عضوية، وكما سلف، فإن الرأي العام السياسي الروسي من أقصى اليمين إلى اليسار، لا يوجد فيه خلاف بشأن هذه الأخطار، وعدم السماح بحدوثها، ولكن في المقابل كانت هناك عدة خيارات أخرى غير العمل المسلح، حسب كثير من المراقبين والخبراء الروس، ومنهم عسكريون قدامى مشهود لهم بالكفاءة والوطنية، في حين رأى فريق لا يستهان به أن “العملية العسكرية” كانت “مغامرة محسوبة المخاطر” من جانب الكرملين، وتعتمد رؤية هذا الفريق على العناصر التالية:

السيناريو الأول، إذا أراد بوتين البقاء في السلطة، وضمان أن يصبح رئيسًا عام 2024، أي بعد عامين، لا بد له من التمهيد لهذه الانتخابات عبر حدث خارجي كبير يستدعي تعبئة الرأي العام الروسي، والقضاء المسبق على أي معارضة بدعوى مواجهة خطر خارجي “وجودي”، وحشد قوى الشعب الروسي خلف وطنه ومستقبله من خلال التصويت لصالح بوتين الذي يتولى القيادة لمواجهة الغرب الجماعي المحتشد بكل قواه للقضاء على روسيا وتفتيتها.

السيناريو الثاني، إذا ما كان بوتين بالفعل قد اقتنع بأن بقاءه لم يعد ممكنًا بعد عام 2024، فلا بد من البحث عن بديل آمن له ولإرثه، وضمان تثبيته في السلطة دون معارضة، وكتابة الصفحة الأخيرة من حكمه ليدخل التاريخ الروسي من أوسع أبوابه، وذلك من خلال القول بأنه من تمكن من عكس الهزيمة الجيوسياسية التي تعرضت لها البلاد بعد مرور 21 سنة، تمامًا كما فعل بطرس الأكبر، الذي حوّل روسيا إلى إمبراطورية بعد المدة نفسها من حكمه. ووفق هذا التصور، توفر “العملية العسكرية” في أوكرانيا تحقيق كلا الهدفين: الداخلي في تعيين خليفة له، والخارجي عبر توسيع مساحة روسيا وحدود أمنها القومي، ويمكن بعدها أن يتقاعد أو ينال منصبًا جديدًا في ظل دولة اتحادية سيتم إعلانها (الاتحاد الروسي– بيلاروس– نوفوروسيا أو مالا روسيا)، والمقصود بالأخيرة “روسيا الجديدة”، أو “روسيا الصغرى”، وهو الاسم التاريخي لشرق أوكرانيا وجنوبها، وربما تنضم إلى الدولة الاتحادية الجديدة كازاخستان.

لتحقيق أيٍّ من السيناريوهين السابقين، هناك حاجة إلى عمل خارجي يؤدي إلى ضغوط كبيرة على روسيا لم تشهدها منذ تفكك الاتحاد السوفيتي عام 1991، وهو ما يمكن بوتين من إعادة “هندسة” الوضع الداخلي للتخلص من جميع العوائق التي ما زالت باقية من الحقبة “الليبرالية” المحدودة المدة الزمنية (1991- 2007)، ولكنها عظيمة الأثر والنفوذ في روسيا، وإضعاف جميع مراكز القوى التي تشكلت في ظل نظامه، ويمكن أن تصبح عائقًا أمام مخططاته للتغيير.

وفق المعايير الروسية، لا المعايير الغربية، أو التي تبدو منطقية، فإن ما تسمى “مغامرة” بوتين محسوبة المخاطر؛ فإذا ما تمكن من السيطرة على العاصمة كييف، وتعيين سلطة جديدة موالية له في أوكرانيا، كما كان يبدو من الأهداف الأولية “للعملية” العسكرية، فسيصبح عندئذ الإمبراطور القيصر صاحب القوى العظمى، القادر على تصفية كل التركة القديمة في مشهد أقرب إلى ما قام به بطرس الأكبر بعد انتصاره في حرب الشمال العظمى، والتخلص من جهاز “ستريليتسي” الذي تأسس في عهد إيفان الرابع “الرهيب” عام 1550، وأصبح يشكل مركز قوة ونفوذ يهدد بطرس الأكبر والإصلاحات التي يريد تطبيقها؛ أما إذا لم تحقق العملية أهدافها، وتراجعت إلى حدود الدونباس، وربما الجنوب، فسيكون قد حقق انتصارًا مميزًا، ويمكن أن يعزو عدم تحقيق الانتصار الكامل إلى ما ظهر من ضعف في كفاءة بعض القيادات، وقد بدأت أولى إرهاصات هذه العملية عبر تعالي الأصوات في الداخل الروسي بضرورة قيام بوتين بعملية تنظيم شاملة لأجهزة الدولة، وقيادة ما تسمى “ثورة” من الأعلى للتغيير، وسط “تسامح” غير معهود من الكرملين مع هؤلاء الناقدين.

وفق الصورة النمطية عن طبيعة الحكم في روسيا، يُصور دائمًا الحاكم الروسي على أنه مُطلق وصاحب الكلمة الأولى والأخيرة. قد يبدو هذا الأمر صحيحًا في الظاهر، وبالفعل فإن روسيا ليست دولة ديمقراطية على النمط الليبرالي الغربي، والقيادة الروسية نفسها تُقر بذلك؛ بل تعتز به، وتدعي أن لديها نموذجها الخاص المسمى “الديمقراطية السيادية”، ولكن هذا لا يعني أن الحاكم الروسي حر في صنع ما يشاء؛ فهناك، خلف الأبواب المغلقة في لعبة السلطة الشديدة الشراسة والصعوبة في روسيا، مراكز قوى كثيرة، وحرب من نوع خاص فيما بينها تشبه عملية “الانتخاب الطبيعي” في علم الأحياء، تؤدي إلى عملية “اصطفاء” أو “انتقاء” للنخبة الحاكمة والقيادة التي تتولى تنظيم العلاقة فيما بينها، ولضمان البقاء في السلطة أو قيادة عملية تغيير، ووضع الشخص الذي يريده بوتين من بعده، لا بد من هذه العملية، وإلا- وفق لعبة السلطة في روسيا- لو أعلن بوتين على سبيل المثال أنه لا ينوي الترشح عام 2024، ستتوقف تقريبًا أجهزة الدولة عن العمل، وسيبدأ صراع النخب حول المرشح المفضل، وتنقسم مؤسسات الدولة إلى مجموعات عشائرية تتصارع فيما بينها لتصعيد رجالها إلى السلطة، والشيء نفسه سيحدث إذا أراد أن يحدد خليفة له يصعب أن تتوافق عليه هذه “العشائر” المختلفة؛ وبناء عليه، تصبح “العملية” العسكرية في أوكرانيا- وفق أصحاب هذا الرأي- مغامرة “محسوبة” المخاطر، وفوائدها مهما كانت الخسائر الآنية أكبر بكثير من بقاء الوضع على ما كان عليه.

الأكيد أن روسيا ستشهد تغييرًا كبيرًا في الداخل، ولا يعني هذا أن يكون بالضرورة تغييرًا إلى الأفضل أو إلى الأسوأ، فالحسابات شيء وما يقدره القدر لمستقبل هذا البلد شيء آخر، فقد أراد الزعيم السوفيتي يوسف ستالين تغيير جميع هياكل السطلة السوفيتية، وتسليمها إلى جيل جديد من الشباب، وأن يكتفي بما حققه ويصبح رمزًا للبلاد دون سلطة، ولكنه توفي في ظروف يصفها البعض بأنها غير “طبيعية”، قبل انعقاد المؤتمر الخاص بالحزب بأسبوع واحد. أما بوتين، فهو يملك الآن ما لم يملكه ستالين، أو ربما تعلم من درس ستالين؛ الأوليغارشية التي يمكن أن تشكل ثقلًا، وتشارك في قرار بقائه في السلطة، أو قبول من سيخلفه فيها، خلافًا لكونها مكروهة شعبيًّا، فقد أدى الغرب نيابة عنه أعظم خدمة له بالقضاء على أغلب ثرواتها ومكامن قوتها، أما مراكز القوى في الجيش أو الاستخبارات، فلن تتمتع بعد هذه “العملية” بالقدرة نفسها التي كانت عليها قبل القيام بها، ويمكن لبوتين أن يحتفل بالحصول على الدونباس كهدية خارجية ويقود “ثورته” من الأعلى لتغيير جميع وجوه النظام الحالي كهدية داخلية، والعمل بشكل مريح دون أي ضوابط أو قيود غربية، أو شبه ليبرالية فرضتها عليه الظروف نتيجة فترة الانفتاح، وربما يتم إلغاء كل أشكال الانتخابات باستثناء البرلمان، والتذرع بأن الانتخابات لا تنتج بالضرورة “الكفاءات”، أو ينهي فترة رئاسته ويضمن تسليم السلطة لمن يخلفه، ويحافظ على تاريخه وإرثه، ويمثل وجهًا جديدًا يمكنه التفاوض مع الغرب من خلال تثبيت ما تحقق من مكتسبات، والاكتفاء بها مقابل إنهاء حالة الحرب الاقتصادية، والعقوبات.

مرة أخرى، لم تتوافق بالضرورة مخططات حكام الكرملين مع الواقع في روسيا، وقد لا يكون بوتين استثناءً من هذه القاعدة؛ هناك دائمًا المفاجآت غير المتوقعة، والخارجة عن نطاق المنطق، لأنه كما قيل “لا يمكن فهم روسيا بالعقل” وحده.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير


شارك الموضوع