مختارات أوراسية

كيف تنظر بلدان الخليج العربية للعملية العسكرية في أوكرانيا؟


  • 25 مايو 2022

شارك الموضوع

منذ انطلاق “العملية العسكرية الروسية الخاصة” في أوكرانيا، يوم 24 فبراير الماضي، ظهرت، التقييمات الأولية لمواقف بلدان الخليج العربية من خلال تغطية وسائلها الإعلامية لهذا الحدث، الذي قد يُكتب في التاريخ الحديث كبداية لتغيير شكل العالم الذي عرفناه منذ اليوم التالي لتفكك الاتحاد السوفيتي في السادس والعشرين من ديسمبر (كانون الأول) 1991.

التكتلات السياسية الخليجية

على مدار ألف عام، قادت دمشق، وبغداد، والقاهرة بالتوالي الشرق العربي الإسلامي، حتى سقطت القاهرة على يد الأتراك العثمانيين عام 1517، وتحولت إلى ولاية عثمانية، إلى أن تحررت جزئيًا عام 1805، وربما لا يعرف الكثيرون في روسيا أن أولى محاولات مصر للتحرر من النير التركي كانت بمساعدة روسية، عبر تحالف بين الإمبراطورية كاترين العظيمة، وعلي بك الكبير، حاكم مصر ذي الأصل الأرثوذكسي الأبخازي، وبمساندة من البحرية الإمبراطورية الروسية بقيادة الكونت أليكسي أورلوف عام 1770.
عادت القاهرة من جديد لقيادة المنطقة حتى العام 1979، لكنها تركت تلك القيادة في أعقاب توقيع معاهدة السلام المصرية-الإسرائيلية، برعاية واشنطن، حين تنازلت عن دورها التاريخي في المنطقة مقابل الدعم الأمريكي لاستعادة أراضيها المحتلة في سيناء من قبل إسرائيل.
حاولت الجمهوريات العربية “الثورية” المتحالفة مع الاتحاد السوفيتي، سد الفراغ المصري، ولكنها فشلت جميعًا في ذلك، وتحولت الآن سوريا والعراق وليبيا، إلى بلدان فاشلة ومدمرة..في المقابل و بفضل عوائد النفط والغاز ، وحكمة قادة بلدان الخليج العربية، واستقرار منظومة حكمها ، وتوظيفهم لتلك الثروات بشكل جيد، أصبحت تلك في مركز الصدارة للقرار العربي في الوقت الراهن، وقد زاد ثقلها بشكل كبير للغاية بعد فوضى أحداث ما يسمى “الربيع العربي”، وهو ما عبر عنه الأكاديمي الإماراتي د. عبدالخالق عبدالله، في كتاب تحت عنوان ” لحظة الخليج في التاريخ العربي المعاصر ”
ورغم التجانس الفريد من نوعه لبلدان الخليج العربية الست (المملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة، والبحرين، وقطر، والكويت، وسلطنة عمان) إلا أن هناك عدة فوارق بينية في رؤيتهم وتوجهاتهم السياسية – يمكن تقسيم هذه البلدان لتكتلين أساسيين:
الكتلة الأولى، تتكون من المملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة، والبحرين؛ حيث تمثل هذه الدول الثلاث المساحة الأكبر (2,234,075) كم²، من اجمالي مساحة دول الخليج الست البالغة مساحتها (2،672،700) كم²، والناتج المحلي الإجمالي (GDP) الأعلى (1,159.67) مليار دولار حسب بيانات عام 2020، مقابل (315.72) مليار دولار لنفس المدة للدول الثلاثة الأخرى، وأكثر من 80% من الكتلة السكانية. يسود الانسجام والتفاهم في المواقف السياسية الرئيسية بين هذه البلدان الثلاث، وهناك علاقات ودية للغاية بين قادتها، واتجاه متزايد بدء منذ العام 2011، لتعزيز مكانتهم بشكل أكثر استقلالية عن الولايات المتحدة، وقد شهد هذا الاتجاه صعودًا مطردًا منذ تولي الأمير محمد بن سلمان، منصب ولي العهد في السعودية عام 2017.
الكتلة الثانية، تتكون من سلطنة عمان، ودولة الكويت، حيث ينتهج كلا البلدين سياسة حيادية نابعة من ظروف تاريخية مرت بهما، إذ عانت عمان من حرب أهلية امتدت في الفترة من 1965–1975، وسميت “تمرد ظفار” في أقصى جنوب البلاد، وكانت مرتبطة إلى حد كبير بصراع الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، وحلفائهما في المنطقة، وبعد انهاء هذا التمرد وخلق وفاق داخلي بقيادة السلطان الراحل قابوس، انتهجت البلاد سياسة حيادية تجنبها آثار الصراعات والاستقطابات الخارجية، وقد تكرر الشيء نفسه مع الكويت، التي كانت لديها سياسة خارجية نشطة للغاية في الثمانينيات من القرن الماضي، وتعرضت للغزو العراقي عام 1990، وبعد تحريرها، ونتيجة لتركيبتها الداخلية السياسية والمذهبية شديدة التباين، اتخذت من الحياد والانكفاء نهجًا عامًا لسياساتها الخارجية.
و لتقريب الصورة بشكل أكثر وضوحًا للقارئ الروسي، يمكن تشبيه مواقف الكويت وعمان تجاه السعودية، بمواقف بلدان آسيا الوسطى المستقلة تجاه روسيا ، حيث تراعي مصالح موسكو، ولا تبادر باتخاذ أي إجراءات أو عقد تحالفات مناهضة لها. تبقى قطر خارج نطاق كلا التكتلين السابقين، وهي التي يمكن وصفها بأنها “بولندا الخليج”، فقط من زاوية سعيها لاكتساب مكانة مهمة لا تتناسب مع حجمها وقدراتها وامكانياتها، وذلك عبر تقديم نفسها للطرف الأمريكي كوكيل لمصالحه في المنطقة، ومروج لأجندته السياسية والاقتصادية، وكذلك العسكرية والأمنية، واستضافتها لأكبر القواعد العسكرية الأمريكية (العديد – السيلية)، وامتلاكها لأكبر قناة إخبارية عربية (الجزيرة)، ودعمها التيارات الإسلاموية للوصول إلى السلطة، وهو ما أدى لخلاف طويل الأمد بين قطر وكافة جيرانها بدرجات متفاوتة، حيث اتبعت هذه السياسة منذ قيام الأمير السابق حمد بن خليفة آل ثاني، بانقلاب قصر على والده في السابع والعشرين من يونيو (حزيران) 1995.

كيف تنظر بلدان الخليج العربية للعملية العسكرية في أوكرانيا؟

انعكس التقسيم السابق على مواقف بلدان الخليج العربية، وتغطيتها الإعلامية للأحداث في أوكرانيا، في حين تبنى الاعلام السعودي والإماراتي المصطلح الروسي “العملية العسكرية الخاصة” في أوكرانيا، وأبدى الرأي العام بكلا البلدين تفهمًا للمخاوف الأمنية الروسية، وهو ما تم ترجمته في مقالات كبار الصحفيين الذين انتقدوا مواقف الولايات المتحدة، واتهموها بتأجيج هذه الصراع لأجل مصالح اقتصادية وجيوسياسية، تبع ذلك تحركات سياسية نشطة، حيث تم رفض كافة الضغوط الأمريكية لخروج الرياض وأبوظبي عن اتفاق (أوبك+) مع روسيا، والتي بدأت منذ يوم 16 فبراير (شباط)، عبر زيارة وفد أمريكي لكلا البلدين لحثهما على زيادة انتاج النفط، وتكرر الرفض نفسه حسبما نقلت صحيفة (وول ستريت جورنال) عن مسؤولين من الشرق الأوسط والولايات المتحدة قولهم إن البيت الأبيض حاول ترتيب مكالمات بين الرئيس جو بايدن والقادة الفعليين للسعودية والإمارات، كجزء من مساعي واشنطن لبناء دعم دولي لأوكرانيا واحتواء ارتفاع أسعار النفط، لكن “بدون جدوى”، بالإضافة إلى دعوة وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة هيلاري كلينتون، لاتباع سياسة “العصا والجزرة” مع الرياض لدفعها لزيادة النفط. وما تبع ذلك من هجمات ممنهجة على منشآت نفطية سعودية من قبل جماعة الحوثيين المتمردة في اليمن الموالية لإيران، والتي قامت إدارة بايدن برفعها من قائمة المنظمات الإرهابية، وهو ما تم اعتباره في الرياض وأبوظبي، محاولة أمريكية للضغط عليهما عبر منح الضوء الأخضر لهذه الجماعة بتكثيف الهجوم على كلا البلدين.
في الأول من مارس (آذار)، جرى اتصال هاتفي بين الرئيس بوتين وولي عهد أبوظبي الشيخ محمد بن زايد، الذي أبدى تفهمًا للمخاوف الأمنية لروسيا، تبع ذلك زيارة وزير الخارجية الإماراتي الشيخ عبدالله بن زايد، إلى موسكو يوم 17 مارس (آذار)، ولقائه وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، وقيام ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، بإجراء اتصالين هاتفيين مع الرئيس بوتين، الأول في الرابع من مارس (آذار)، والثاني في 16 أبريل (نيسان)، أكد فيه الزعيم السعودي على تمسكه باتفاق (أوبك+)، ودعمه لجهود السلام، واستعداده للوساطة. كما زار وزير الخارجية البحريني عبداللطيف الزياني، موسكو في السابع من أبريل (نيسان)، وعبر أثناء مؤتمره الصحفي مع نظيره الروسي “عن تقدير البحرين للمكانة الكبيرة التي تحتلها روسيا في الميزان الدولي، مما أسهم في حفظ السلم والاستقرار الإقليمي والدولي”. أخيرًا، رفضت السعودية والإمارات والبحرين، تطبيق أي شكل من أشكال العقوبات على روسيا، فيما تشهد الإمارات تدفقًا كبيرًا للسائحين الروس، ويلقى أبناء جلدتهم أفضل معاملة في السعودية والبحرين.
على الجانب الآخر، لم يحدث أي شكل من أشكال التواصل بين القيادتين القطرية والروسية، بينما أجرى زيلينسكي اتصالاً هاتفيًا مع أمير قطر في التاسع من مارس (آذار)، سبقه اتصال في نفس يوم انطلاق “العملية العسكرية الخاصة” يوم 24 فبراير (شباط)، وهو ما يوضح مدى التعويل الأوكراني أو بالأحرى الغربي على موقف قطر منذ اللحظة الأولى، في المقابل لم تدخر الأخيرة جهدًا في التأكيد على موقفها المساندة للتحالف الغربي ضد روسيا، ونشرت شبكة واسعة من مراسلي فضائياتها الشهيرة ( الجزيرة ) في كافة أرجاء أوكرانيا، وبحسب أحد المعلقين السياسيين العرب البارزين، فإن “أوكرانيا لم تكن لتقدم تغطية إعلامية للتأثير على الرأي العام العربي واجتذابه لصالحها بأفضل مما فعله الإعلام القطري وقناة الجزيرة”. كما، توصّلت ألمانيا إلى اتفاقية شراكة طويلة الأمد في مجال الطاقة مع قطر، وذلك في إطار سعيها لتقليص اعتمادها على الغاز الروسي، وفق ما أعلنت متحدثة باسم وزارة الاقتصاد الألمانية، وذلك بعد زيارة وزير الاقتصاد الألماني روبرت هابيك، ولقائه بأمير قطر يوم 21 مارس (آذار).
على مواقع التواصل الاجتماعي، نشأت “معركة” أخرى بين قطر وأذرعها الإعلامية والنشطاء السياسيين من جماعة الإخوان المسلمين (جماعة محظورة في روسيا)، وباقي الجماعات الإسلاموية، لنقد الموقف السعودي-الإماراتي-البحريني، وتقديم تحليلات سياسية للجهات الغربية مفادها أن هناك “تحالف للمستبدين العرب بقيادة وليي عهد السعودية وأبوظبي وبوتين، مقابل تحالف الديمقراطية بقيادة قطر وحلفائها، الرافضين للسياسة الروسية”، وذلك في محاولة للضغط على قادة السعودية والإمارات، وتشكيل رأي عام عربي وغربي معادي لهما.

موسكو والرياض علاقة قديمة وفرص ضائعة

روسيا، الوريث الشرعي للاتحاد السوفيتي، كانت أول دولة في العالم تعترف بالمملكة العربية السعودية، عام 1926، والأمير فيصل آل سعود، وزير الخارجية السعودي آنذاك، الذي أصبح لاحقًا الملك الثالث للسعودية، كان أول مسؤول عربي يزور روسيا في القرن الماضي عام 1932، بينما نشأت العلاقات الدبلوماسية بين الإمارات والاتحاد السوفيتي منذ اللحظة الأولى لإعلان الاتحاد الإماراتي عام 1971.
شابت العلاقات السعودية-الروسية، الكثير من العوائق التي أدت لعدم تطورها رغم قدمها، ووجود العديد من المصالح المشتركة، وكان أبرز هذه العوائق تبني روسيا للأيديولوجية الشيوعية، ووجود حلفاء لها في المنطقة يهددون أمن واستقرار الخليج، وهو ما أدى لانحيازها للموقف الأمريكي، والذي كان نابعًا من الحفاظ على أمنها لا قناعة أو إيماناً بالقيم الأمريكية أو “تبعية” مطلقة كما يحلو للبعض تصوير الأمر، وقد حافظت بالفعل على استقرارها وتطورها، ويكفي نظرة على أوضاعها مقارنة بالجمهوريات العربية “الثورية” لإدراك الفارق الكبير بينهما.
الآن، الأوضاع تغيرت، ولم يعد لدى الاتحاد الروسي سياسة “تبشيرية” يسعى لفرضها على الآخرين، بل إن الولايات المتحدة هي من تقوم بهذه المهمة، والضمانات الأمنية التي كانت تحصل عليها دول الخليج من واشنطن باتت محل شك، بعد توقيعها للاتفاق النووي مع إيران عام 2015، دون استشارتها أو أخذ مصالحها ومخاوفها في الحسبان، وسرعة “التخلي” الأمريكي عن الحلفاء المقربين لها، وهو ما ظهرت مؤشراته الأولى بعد سقوط الرئيس حسني مبارك في مصر عام 2011، وتحول العلاقة الاقتصادية بين الطرفين من تكامل (الخليج يورد النفط ومشتقاته لواشنطن مقابل المنتجات الأمريكية) إلى اكتفاء واشنطن الذاتي بل وتحولها لأحد كبار المنتجين والمنافسين، بينما الصين الآن هي المشتري الأكبر للنفط العربي.

ثورة محمد بن سلمان الاصلاحية

أدى صعود ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، للسلطة عام 2017، لإحداث تغيرات جوهرية في سياسات السعودية يمكن وصفها بأنه “ثورة من الأعلى”، نحن أمام قائد شاب، متحرر من الأيديولوجيات السياسية والدينية، لم يعاصر صراعات الحرب الباردة، ويمتلك رؤية اقتصادية وسياسية جديدة، قائمة على بناء دولة قومية حديثة لأول مرة في تاريخ السعودية منذ نشأتها، ويسعى بكل طاقته لتخليصها من الأيديولوجية الدينية “السلفية” التي ظلت تحكمها طيلة العقود الماضية، وفطام اقتصادها عن “ادمان النفط”، عبر تنويعه من خلال رؤية (2030)، واعتبار الولايات المتحدة، شريك رئيسي للسعودية من ضمن عدة شركاء آخرين، وليست الشريك “الحصري” كما كان الوضع حتى وقت قريب، وهو ما يعتقد السعوديون أنه الدافع الرئيسي للهجوم الأمريكي عليه واستهدافه شخصيًا.

بجهود من محمد بن سلمان، تطورت العلاقات الروسية-السعودية، حيث قام بعدة زيارات التقى فيها الرئيس بوتين، وتم التوصل لاتفاق تاريخي بين البلدين المنتجين الأكبر للنفط (أوبك+) لتنظيم عملية ضخ النفط بما يحفظ حقوق المنتجين، وتوجت هذه المجهودات بقيام الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، بزيارة تاريخية إلى موسكو ليكون أول ملك سعودي يزور روسيا في أكتوبر (تشرين الأول) 2017، وبدء نقاش جاد حول الاستثمار السعودي في روسيا، عبر عدة لقاءات بين الأمير محمد بن سلمان، والرئيس التنفيذي لصندوق الاستثمار الروسي المباشر كيريل ديمترييف، الذي منحته السعودية في السادس من أكتوبر (تشرين الأول) 2019، وشاح الملك عبد العزيز آل سعود من الطبقة الثانية.

عوامل الاتفاق بين التكتل الخليجي الأكبر وروسيا

السعودية، هي البلد الأكبر خليجيًا، والأكثر تأثيرًا في الوقت الحالي عربيًا، وذات الثقل الإسلامي الذي لا ينافسها فيه أي بلد آخر، وذلك لكونها مهد الإسلام ورسوله، وفيها مدينتا مكة والمدينة، قدس أقداس المسلمين حول العالم؛ بجانب قوتها الاقتصادية، وعلى المستوى الخليجي هناك انسجام بين السعودية والإمارات والبحرين، وميل واضح من قبل الكويت وعمان، لسياسات هذا التكتل الخارجية، رغم حيادهما، فيما تبقى فقط قطر خارج هذا السياق.

يمكن اجمال أوجه الاتفاق بين الطرفين في العناصر التالية:

• رفض الأحادية القطبية الأمريكية، بعدما أدركت السعودية والإمارات والبحرين، أن هذه الهيمنة الأمريكية تحولت لغير صالحهم، وباتت تشكل عبئاً وعامل ضغط عليهم، وحاجتهم لوجود تعددية قطبية وتوازن في النظام العالمي يمنحهم هامشاً أوسع من الحركة وربما المناورة.
• القادة الشباب الجدد، لديهم تطلعات وطموحات مختلفة عن جيل الأجداد والآباء، ويرون بلدانهم الآن قوية وينبغي أن يكون لها دور مؤثر على الساحتين الإقليمية والعالمية، وأن العلاقة مع واشنطن بحاجة لإعادة ضبط، لأن الأخيرة لم تعد “القوة الوحيدة” بالعالم، وهم لم يعودوا تلك البلدان الضعيفة كما كانوا من قبل.
• استخدمت الدعاية الغربية نفس الأدبيات والمفردات تجاه الرئيس بوتين مع الأمير محمد بن سلمان، واستهدفته بشكل شخصي، والسبب وراء ذلك وفق المحللين السعوديين، أنهم “لا يريدون تطور بلادهم، ويرغبون في بقاء السعودية القديمة المعتمدة بشكل مطلق على واشنطن، والمستهلكة لمنتجاتها والغير منتجة سوى للمواد الخام، والمنفذ لكل سياسات واشنطن دون قيد أو شرط”، وهو نفس الموقف الذي تتخذه أمريكا تجاه الرئيس بوتين وروسيا بشكل عام.
• تعارض السعودية والإمارات والبحرين، ما تسمى “الثورات الملونة”، وينتهجون سياسة يمكن وصفها بـ “الليبرالية المحافظة”؛ عبر توسيع دائرة الطبقة الوسطى، وتطوير الاقتصاد المنتج، والحفاظ على العادات والقيم المجتمعية الأصلية، وبناء هوية وطنية، ومنح الأفراد حريات عامة اجتماعية واسعة، وتطوير النظام السياسي بشكل تدريجي وفق قدرة المجتمع على استيعابها دون ثورات أو انقلابات، وهو موقف يشاركون فيه روسيا نفس الرؤية.
• مناهضة الحركات الإسلاموية، التي نمت منذ حرب أفغانستان (1979-1989)، وادراكهم لخطيئة المضي قدمًا خلف السياسات الأمريكية التي شجعت على دعم تلك الحركات لمواجهة روسيا، وهي الحركات التي انقلبت على واشنطن وباتت مصدر تهديد لها، فضلاً عن تخريبها لمنطقة الشرق الأوسط.
• حماية النفط وصناعة الطاقة بوجه عام من الدعاية الغربية المناهضة لها، والمنافسة الأمريكية، وضمان وجود سعر عادل يحافظ على مصالح المنتجين والمستهلكين، لا يخدم فقط سياسات الولايات المتحدة، الاقتصادية والجيوسياسية، وهو ما تجسد في اتفاق (أوبك+).
• رفض كافة الأفكار الفاشية، والتدخلات الخارجية، ومحاولات فرض نمط محدد من أنماط الثقافة والهوية، أو شكل سياسي لا يتوافق مع ظروف وثقافة وسياقات البلدان المختلفة تاريخيًا.
• تحرير الاقتصاد وتجنيبه الخلافات السياسية، وبالتالي رفض سياسات العقوبات الأحادية، على سبيل المثال الصين هي المشتري الأكبر للطاقة الخليجية، وهي حتى الآن مورد الدخل الرئيسي لبلدان الخليج العربية، وبات السؤال المطروح خليجيًا “ماذا لو طبقت واشنطن عقوبات اقتصادية على بكين كما تفعل الآن مع موسكو؟”، وتأثر اقتصاداتهم بهذه السياسات.
• الرفض المطلق لوجود سلاح خارج نطاق الدولة، وضرورة انهاء حالة الفوضى التي خلفها ما يسمى “الربيع العربي” في ليبيا وسوريا واليمن، وغيرها من بلدان المنطقة، وعودة الاستقرار تحت ظل سلطة سياسية متوافق عليها محتكرة للسلاح.

هناك الكثير والكثير من أوجه الاتفاق بين روسيا والبلدان الخليجية المذكورة ، وهي عوامل لم تتوفر من ذي قبل، ويمكن البناء عليها وتعزيزها في ظل هذه الظروف الحالية، لخدمة سياسات كلا الطرفين.هناك الكثير والكثير من أوجه الاتفاق، وهي عوامل لم تتوفر من ذي قبل، ويمكن البناء عليها وتعزيزها في ظل هذه الظروف الحالية، لخدمة سياسات كلا الطرفين.

خارطة طريق لتجنب مكر التاريخ

كما سلف، رغم قدم وأهمية العلاقات الروسية-السعودية، والخليجية بوجهٍ عام، إلا أنها عانت مما يمكن تسميته “مكر التاريخ” الذي حال دون تطورها، والآن هناك فرصة تاريخية، وتلاقي مصالح فريد من نوعه يمكن أن يواجه هذا “المكر” التاريخي، ويفضي لعلاقة طويلة الأمد بين البلدين. وهنا يطرح السؤال: “ماذا يريد التكتل الخليجي الثلاثي من موسكو؟”

العلاقات الروسية-الإيرانية، قديمة وعميقة، ورغم أن السعودية كانت تنظر إليها نظرة نقد وريبة، وترى أن موسكو قد شجعت بشكل غير مباشر إيران وحلفاءها على العبث بأمن المنطقة، إلا أن هناك الآن إدراك متزايد بأهمية هذه العلاقة بالنسبة لموسكو، نظرًا لوجود مصالح مشتركة مع طهران، لا يمكن أن تنحاز فيها موسكو لمواقف تبدو عدائية ضدها، ولا يطالب أحد الآن بذلك، ولكن يمكن استغلال العلاقة الروسية مع إيران، لصالح ضمان أمن بلدان الخليج العربية، وذلك بعدما فشلت الولايات المتحدة/أو عدم رغبتها، خلق توافق بين الطرفين يؤدي لتحول إيران من الثورة إلى الدولة المسؤولة، التي تراعي مصالح جيرانها وتحترم أمنهم، حيث يسود اعتقاد خليجي عام بأن واشنطن “مستفيدة من هذا الصراع”، كما أن كافة وعودها بإجبار إيران على تغيير سياساتها إما بالعقوبات أو عبر عمل عسكري، ثبت عدم جديتها.

الرئة الاقتصادية الأساسية لإيران هي الصين، وقد زاد من عمق هذه العلاقة توقيع “الشراكة الإستراتيجية الشاملة بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية وجمهورية الصين الشعبية” لمدة 25 عام، ومصدر الطاقة الرئيسي للصين وكذلك أهم موانئ مشروعها “الحزام والطريق”، وأكبر مستورد لمنتجاتها الآن بلدان الخليج العربية، ومن مصلحتها عدم وجود توترات في المنطقة.

روسيا، المورد الأساسي للأسلحة لإيران، والسند الأكبر لها في مجلس الأمن الدولي والمنظمات الدولية الأخرى، وليس من مصلحة روسيا، أن تتعرض بلدان الخليج العربية لمزيد من الضغوط الإيرانية عبر وكلائها في المنطقة، وهو ما قد يدفعها على كره منها لقبول المطالب الأمريكية بالانسحاب من (أوبك+)، وإيقاف عملية التطور الحالية في العلاقات مع روسيا، وهكذا يمكن للتكامل الصيني-الروسي، والمصالح المشتركة مع بلدان الخليج العربية، وعلاقاتهم المميزة مع طهران، أن يشكلوا عامل ضبط لسياساتها، وهو ما تنتظره السعودية والإمارات والبحرين، من موسكو وبكين، ولذلك تكتسب المعركة الحالية بين روسيا والتحالف الأطلسي على أراضي أوكرانيا أهمية خاصة للتكتل الخليجي الثلاثي، الذي يعتقد أنه يرى في أي انكسار قد تتعرض له موسكو خسارة لهم، وعودة للهيمنة الأمريكية من جديد بشكل أكثر حدة من ذي قبل.

الإمارات العربية المتحدة، يمكن أن تشكل مركزاً لوجستياً للبنوك والشركات الروسية، ومركزاً للتجارة الوسيطة الجديدة بين روسيا والشرق وكذلك الغرب، لتخطي آثار العقوبات الاقتصادية، وعاملاً مساعداً على تطوير العلاقات الروسية مع أفريقيا، حيث تمتلك الإمارات نفوذاً كبيراً في عدد من بلدان القارة، ومشاريع عملاقة متنوعة.

الآن، لدى موسكو والرياض وأبوظبي والبحرين، مصالح مشتركة في مجال الطاقة، والأمن، والاقتصاد، والنظرة لنظام عالمي جديد متعدد الأقطاب، وبعيدًا عن المبالغات، وبنظرة واقعية لا يعني هذا أنهم على استعداد للدخول في صدام مع الولايات المتحدة، سياسات قادة هذه الدول باتت مستقلة بوضوح، وقد عبر عنها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، في حديثه الأخير لمجلة (ذا أتلانتيك)، وتطوير علاقاته مع الصين، والزيارة المرتقبة للرئيس شي جين بينغ، المتوقع أن تؤدي لانطلاقة جديدة للعلاقة، والحديث عن إمكانية بيع النفط للصين باليوان. كما أن ولي عهد أبوظبي الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رفض إتمام صفقة المقاتلات من طراز (F-35) لاشتراط أمريكا وقف التعاون مع الصين في شبكات (5G)، بجانب رفضهما للخروج من اتفاق (أوبك+)، وتطبيق عقوبات على روسيا. على الرغم من ذلك، فهم ينتهجون سياسة حكيمة، وبشكل تدريجي لبناء قوة ذاتية دون صدام، ويفضلون نموذج الصين الهادئ لا النموذج الثوري أو القابل للاستفزاز وجره لمعارك جانبية تعطل قطار التنمية، كما أن روسيا والصين، لا تزالان غير قادرتين حتى الآن على سد الفجوة التكنولوجية مع الولايات المتحدة، وتقديم بدائل اقتصادية ومالية تمكنهم من الانفكاك الكامل عن أمريكا.

يتطلب هذا الوضع، سياسة أكثر وضوحًا وحزمًا من موسكو تجاه إيران ووكلائها، وإبرازاً لدورها في إمكانية صنع السلام على ضفتي الخليج، بدون حروب وصراعات، وهو ما سيمنحها ليس فقط مكانة مميزة بل وشعبية واسعة لدى شعوب هذه البلدان، وأن تتحدث موسكو بصراحة مع طهران أن سياسات وكلائها بضرب البنية التحتية لإنتاج النفط، وتوجيه الصواريخ من العراق واليمن للسعودية والإمارات، واثارة السكان المحليين في البحرين، لا تخدم سوى الولايات المتحدة، وتضر بمصالح موسكو، وحال نجحت روسيا في صنع ما يمكن تسميته بـ “اتفاقية عدم تدخل واعتداء” بين الطرفين أو هدنة طويلة الأمد، تمهد لحوار موسع لخلق منظومة أمن جماعي يكون فيها لموسكو وبكين، الدور الرائد في حماية وأمن الخليج، سيضمن ذلك الوضع الجديد أسواقاً جديدة لموسكو، ودوراً كبيراً في المنطقة، ويساهم في الدفع بتوجهها الجديد نحو الشرق وأفريقيا بعدما ثبت بالتجربة فشل التوجه الروسي نحو الغرب، ولا يجعلها رهينة لسياسة محدودة النطاق تجاه آسيا نظرًا لاعتمادها الكبير على الصين، بل يوازن بالعلاقة عبر جعل موسكو جزءاً لا يتجزأ من حماية مصالح الصين في أهم منطقة واعدة للاقتصاد الصيني، لتصبح العلاقة متكافئة ولموسكو فيها اليد العليا، وهو ما يجعل سياساتها أكثر تحررًا من أي قيود قد تجد نفسها فيها في آسيا.

أخيرًا، عبر التأثير السياسي والمالي الكبير للسعودية، ومن خلفها الإمارات، في الشرق الأوسط، وأفريقيا، والعالم الإسلامي، يمكن صنع توافق داخلي في سوريا، والعراق، واليمن، وليبيا، ولبنان، وكل هذه البلدان بحاجة لمشاريع إعادة اعمار ستمنح فرصة كبرى للاقتصاد الروسي للدخول إلى أسواق جديدة، وعلى الجانب الآخر ستتشجع بقية البلدان العربية والإسلامية للتقارب أكثر من موسكو، وتوسيع نطاق مشروعاتها لتشمل مصر والسودان وإثيوبيا، عبر تدخل روسي-سعودي-إماراتي، لإنهاء أزمة سد النهضة، بجانب مكامن الغاز والنفط في هذه البلدان التي تضمن للشركات الروسية حصة في استكشافها، ودوراً في تسويقها بما لا يؤثر على حصص روسيا في السوق العالمية، وهو ما يعوض روسيا عن أي خسارة نتيجة للعقوبات الغربية. كذلك، هناك حاجة لتواصل أكبر بين الباحثين من كلا الجانبين، ومشاريع تعاون للنشر المتبادل للآراء والأفكار، حيث من الملاحظ أن الرؤية الروسية تجاه بلدان الخليج إما معتمدة على أفكار جيل المستعربين الروس القدامى، المبني على الرؤى السوفيتية وصراع الحرب الباردة، أو الليبراليين الروس الذين يعيدون كتابة ما تنتجه الصحافة البريطانية والأمريكية بعد ترجمته للروسية.

 

 

المقال مترجم من النسخة الأصلية الروسية، التي تم نشرها في (مجلس الشؤون الدولية الروسي – RIAC)، وهو مؤسسة فكرية أكاديمية ودبلوماسية غير هادفة للربح تم إنشاؤها بموجب المرسوم الرئاسي المؤرخ في 2 فبراير (شباط) 2010. ومؤسسوه هم: (وزارة الخارجية الروسية، ووزارة التعليم والعلوم، والأكاديمية الروسية للعلوم، والاتحاد الروسي للصناعيين، ورجال الأعمال، ووكالة الأنباء الروسية إنترفاكس).[1]


شارك الموضوع