تقارير

«مكر التاريخ» عنصر فاعل في العلاقات الروسية-السعودية


  • 23 مايو 2021

شارك الموضوع

قد تكون العلاقات الروسية-السعودية، هي المثال الأبرز لمفهوم «مكر التاريخ»، الذي ابتكره الفيلسوف الألماني فريدريش هيغل؛ حيث يرى أن لهذا التاريخ عقلًا وإرادة خاصة به، تعمل بشكل مستقل عن رغبات الأفراد، وغالبًا ضد إرادتهم. هكذا يمكن أن نفهم المراحل المختلفة لهذه العلاقات التي كانت دومًا تسير عكس إرادة القائمين عليها.

العلاقات الروسية-السعودية، قديمة جدًّا، وبدأت قبل تأسيس المملكة العربية السعودية. مع تزايد عدد الحجاج المسلمين من الإمبراطورية الروسية الذين كانوا يشكلون أكثر من ربع السكان. افتتحت روسيا عام 1890  أول قنصلية لها في الحجاز، وكان مقرها مدينة جدة. بعد سقوط السلطة الإمبراطورية التقى وزير الخارجية السوفيتي غورغي تشيشيرين وممثل الخارجية الحجازية حبيب لطف الله، في مؤتمر لوزان نهاية العام 1922. ثم أوفد الاتحاد السوفيتي عام 1924، الدبلوماسي كريم خكيموف؛ ليكون أول قنصل عام سوفيتي بأراضي الحجاز، وكان يعاونه زميله مايسي أكسلرود.[1]

 

السفير السوفيتي كريم خكيموف في الحجاز عام 1925 – издания Республика Башкортостан

السفير السوفيتي كريم خكيموف في الحجاز عام 1925 – издания Республика Башкортостан

عندما اشتد الصراع بين الهاشميين والأسرة السعودية، وبناءً على تقرير استخباراتي أرسله مايسي أكسلرود إلى القيادة السوفيتية، خلص في نهايته إلى ضرورة فتح علاقات مباشرة مع السلطان عبدالعزيز آل سعود؛ لعدة أسباب كان من أهمها: “أنه الأكثر قوةً وذكاءً، وطموحًا وقدرةً، واستقلاليةً عن باقي أمراء وملوك المنطقة، والقادر على خلق دولة عربية موحدة كبرى تواجه القوى الاستعمارية الأوروبية”.

تكللت هذه العلاقة بإنجاز هام وكبير؛ حيث ذهب خكيموف يوم 15 فبراير (شباط) 1926. للقاء السلطان عبدالعزيز آل سعود، كما كان يسمى وقتذاك وسلمه مذكرة اعتراف رسمية من الاتحاد السوفيتي، بمملكة الحجاز ونجد وملحقاتها، ليكون الاتحاد السوفيتي أول بلد بالعالم كله يعترف بالدولة السعودية الجديدة.

خبر اعتراف السوفيت بمملكة الحجاز ونجد وملحقاتها جريدة أم القرى عام 1926 – أوكرانيا برس

خبر اعتراف السوفيت بمملكة الحجاز ونجد وملحقاتها جريدة أم القرى عام 1926 – أوكرانيا برس

في المقابل، كان الأمير فيصل، أول مسؤول عربي يزور الاتحاد السوفيتي، في زيارة استمرت لمدة عشرة أيام، بدأت في 20 يونيو (حزيران) 1932. قام بعدها الخبراء السوفيت، بتوصيل أول خط هاتف بالسعودية عام 1934، في الطائف، وأجرى الملك عبدالعزيز أول اتصال تليفوني في تاريخ المملكة مع السفير السوفيتي الجديد نذير تيورياكوف. كما أوفدت السعودية بعثة من موظفي البريد لروسيا عام 1935. للتدريب على تقنيات عمل البريد والتلغراف.

الأمير فيصل بن عبدالعزيز آل سعود مع ميخائيل كالينين رئيس اللجنة التنفيذية المركزية لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية يتوسطهما السفير السوفيتي في السعودية كريم خكيموف، عام 1932 – مجموعة الرؤية الإستراتيجية “روسيا – العالم الإسلامي”

حظيت زيارة الأمير فيصل بتغطية إعلامية واسعة؛ حيث نشرت جريدة برافدا السوفيتية، وكذلك مجلة (أغانيوك – Огонёк). الروسية العريقة التي صدر عددها الأول عام 1898. مقالًا مطولًا عن الأسرة السعودية، والحركة الوحدوية لأراضي شبه الجزيرة العربية، التي قادها الملك عبدالعزيز آل سعود وتفاصيل زيارة الأمير فيصل.

مقال مجلة أغانيوك الروسية عن زيارة الأمير فيصل

مقال مجلة أغانيوك الروسية عن زيارة الأمير فيصل – virezkipress.ru

يتدخل هنا «مكر التاريخ» عكس إرادة قيادات كلا البلدين، وتشن بريطانيا حربًا على هذه العلاقة استغلت فيها المصالح المتميزة مع التجار ذوي الأصول الهندية، لتعطيل أي تعاون تجاري، وصولًا للحرب العالمية الثانية، وانشغال السوفيت فيها، واللقاء التاريخي بين الملك عبدالعزيز آل سعود والرئيس الأمريكي روزفلت عام 1945، الذي أسس لعلاقات تحالف بين الرياض وواشنطن.

ظلت العلاقة مقطوعة بين موسكو والرياض حتى عادت عام 1991، ودفعت وقتها كل من السعودية والإمارات-حسب شهادة فيكتور غيراشينكو رئيس البنك السوفيتي السابق، مبلغًا قدره 4 مليارات دولار للاتحاد السوفيتي. نصف المبلغ نقدًا، والنصف الآخر معدات سيقومون بشرائها من الغرب بناءً على طلب السوفيت، لمحطات تكرير النفط؛ وذلك نظير التزام موقف حيادي تجاه عملية تحرير الكويت. في المقابل اشترطت السعودية أن توجَّه هذه الأموال للجمهوريات السوفيتية ذات الأغلبية المسلمة لتحسين أوضاع سكانها المعيشية؛ وهو ما التزمت به القيادة السوفيتية.[2]

بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، كانت العلاقة باردة وتتسم بالشك والريبة من قبل الجانب الروسي، لوجود عدد من القادة العرب ذوي الأصول السعودية في الشيشان. حتى بدأت في التحسن التدريجي بعد وصول الرئيس بوتين للسلطة عام 2000.

الرئيس بوتين عام 2007، في ضيافة الملك سلمان – الذي كان أميرًا للرياض في ذلك الوقت

الرئيس بوتين عام 2007، في ضيافة الملك سلمان – الذي كان أميرًا للرياض في ذلك الوقت

تنظر القيادة الروسية وكذلك المجتمع السياسي الروسي، للعلاقات مع السعودية في ظل قيادة الملك سلمان بن عبدالعزيز، وولي العهد الأمير محمد بن سلمان. بشكل مختلف عن تلك النظرة التي كانت في الغالب سلبية. كما يعتقدون أنها تشهد ما يمكن وصفه بـ «الربيع» الذي يُعِيد إلى الذاكرة ما كانت عليه زمن الملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود، ويقدرون دور ولي العهد، في الدفع بها نحو التطور، والشبه الكبير بين الحفيد والجد في الرغبة بتنويع علاقات المملكة.

الأمير محمد بن سلمان والرئيس بوتين قمة العشرين في بوينس آيرس عام 2018 – وكالة أسوشيتد برس

إجمالًا تنظر القيادة الروسية للعلاقات مع التطورات الجديدة للسياسة السعودية، وفق المحددات التالية:

  • المملكة العربية السعودية، تتشابه إلى حد كبير مع روسيا في عدة جوانب، وربما هي البلد الأكثر شبهًا بها من حيث امتلاك كلا البلدين ثروات طبيعية هائلة، ومساحة شاسعة من الأراضي كانت دائمًا في حالة تمدد عبر تاريخهما، ودور الدين والتقاليد التي رعاها حكام كلا البلدين باستثناء الحقبة السوفيتية التي تخلت فيها روسيا مؤقتًا عن إرثها التقليدي.
  • كلا البلدين مستهدف من قوى خارجية نظرًا لمساحتهما الضخمة، وتنوعهما السكاني، وامتلاكهما لثروات كبرى، وقد أكدت التجربة أن اختلافهما لا يخدم سوى أعداء وخصوم كلا البلدين ويضعف منهما، وأن التنسيق والحوار المستمر حتى لو كانت هناك خلافات في بعض القضايا ضرورة تفرضها المصالح المشتركة.
  • وفقًا للتاريخ، كان من المفترض أن تكون العلاقات الروسية-السعودية، هي الأقوى بالمنطقة بالنظر لعراقتها وقدمها، ولكن «مكر التاريخ» الذي تدخَّل وكانت له كلمته أعاق هذا التطور، وحوَّل العلاقات في كثير من الأحيان لصراع وخلاف، وعليه فعودة العلاقات وتطورها بينهما كانت حتى وقت قريب تحت الصفر، والآن ترتفع بالتعاون في عدة مجالات وإن كانت دون الطموحات، ولكن بالنظر لما كانت عليه من قبل فهي في تقدم كبير ينبغي البناء عليه وتعزيزه.
  • كما أن موسكو لديها رغبة في تحسين وتطوير هذه العلاقة، فإنها ترى شعورًا متبادلًا من الرياض، تجلى في الزيارة التاريخية التي قام بها الملك سلمان كأول ملك سعودي على الإطلاق يزور روسيا في الرابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2017، والدور الكبير لولي العهد الأمير محمد بن سلمان، في تدعيم هذه العلاقة، وزيارته المتكررة لروسيا.
  • عانت روسيا، طيلة حقبة التسعينات من القرن الماضي، وحتى العام 2008، من تفشي ظاهرة الإرهاب، وتوجَّهت وقتها أصابع الاتهام لعدة شخصيات سعودية ساهمت في تأجيجها. بينما أول ما قام به ولي العهد السعودي، هو محاربة كافة الأفكار المتطرفة، والعودة بالهوية الدينية السعودية لسابق عهدها قبل ما تسمى «الصحوة» وقد لاقى هذا التغيير ترحيبًا كبيرًا من قبل السياسيين والمفكرين الروس، ورأوا فيه تعزيزًا لأمن روسيا القومي، والأمن الإقليمي والعالمي.
  • هناك حماس كبير لدى قطاع المال والأعمال الروسي لرؤية ولي العهد (2030) وما يمكن أن تحققه لكلا البلدين من تقدم بعلاقاتهما الاقتصادية، وهو ما تجلى في منح ولي العهد وشاح الملك عبدالعزيز من الطبقة الثانية، إلى كيريل ديميترييف، الرئيس التنفيذي لصندوق الاستثمار الروسي، تنفيذًا لأمر خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، عام 2019.

الأمير محمد بن سلمان يقلّد كيريل ديميترييف وشاح الملك عبدالعزيز – مال

  • يرى المسؤولون الروس أن كلا البلدين مستهدف في قيادتهما، عبر الدعاية الغربية واستخدام شعارات مثل «الحرية» و «حقوق الإنسان» التي تهدف إلى ابتزازهما، وفرض قيم غربية بشكل شمولي لا تتوافق مع عادات وتقاليد شعوبهم.
  • تدرك القيادة الروسية ألا مجال لإعادة إعمار سوريا، وضمان وحدة أراضيها، والتوصل لحل سياسي دون الرياض. بجانب العديد من ملفات المنطقة العالقة والتي تشكل اهتمامًا مشتركًا لكلا البلدين.
  • أدى التنسيق المستمر بين البلدين عبر آلية (أوبك بلس) إلى استقرار أسعار النفط، بينما أدى التباعد فيما بينهما في الماضي لتدهور أسعاره؛ وهو ما ساهم من ضمن عدة أسباب أخرى في تفكك الاتحاد السوفيتي، وعدم قدرة ميخائيل غورباتشوف، على الوفاء بتعهداته الإصلاحية، وقد اتهمت عدة جهات السعودية، بأنها تسببت في هذا الانهيار خدمةً للمصالح الأمريكية، وهو ما نفاه السفير الروسي السابق في الرياض ورئيس رابطة الدبلوماسيين الروس أندريه باكلانوف، وأوضح أن السبب يعود لعدم وجود تنسيق وحوار مباشر بين الطرفين.
  • أخيرًا ينظر الرأي العام السياسي وكذلك القيادة الروسية، بشكل إيجابي لخطوات ولي العهد السعودي في تطوير السعودية على كافة الأصعدة، بعدما تأخرت كثيرًا وفق اعتقادهم عن اتخاذ هذه الخطوات الجريئة، ولديهم فهم وإدراك لما تفرضه هذه التغييرات من اتخاذ بعض الإجراءات الاستثنائية، فلا يمكن معالجة أخطاء تاريخية متراكمة وخلل بنيوي أصاب كافة أركان الدولة، في ظل تحديات كبرى داخلية وخارجية وعالمية، وظروف غير طبيعية بالوسائل التقليدية ويعود ذلك الفهم لتجربة الروس المماثلة للتجربة السعودية، حين قاد (بيوتر الأول) أو «بطرس الأكبر» روسيا لتلحق بركب النهضة العالمية بعد عقود طويلة من الركود والتخلف، وهو ما فرض عليه اتخاذ إجراءات صارمة ضد قوى الجمود الرافضة للتغيير ومراكز القوى التي شكلتها ومستفيدة من سيطرتها. إلا أنه اليوم يوصف من قبل المؤرخين الروس والغربيين على حدٍّ سواء، بالشخصية الأعظم والأكبر في تاريخ روسيا، وعرابها الأبدي لدوره في نهضتها، وهو ما دفع الكاتب الصحفي والفيلسوف والمؤرخ الروسي الكبير فاليري بتروفيتش ليبيديف، لكتابة مقال صحفي بعنوان (محمد العربي – بطرس الأكبر السعوديين).[3]

المكر لمكر التاريخ

خالف كارل ماركس، أستاذه فريدريش هيغل، في رؤيته حول «مكر التاريخ» بأن هناك مجالًا لتجنبه وأنه ليس قدرًا محتومًا؛ حيث رأى أن البشر يؤثرون في حركة التاريخ وصناعته، بشرط وجود العوامل الاقتصادية والاجتماعية اللازمة لذلك، وهو ما يتوفر باللحظة الحالية، ويمكن عبره للقيادتين الروسية والسعودية، تجنب حدوث تراجع في العلاقات كما حدث في الماضي، ويعتمد هذا الأمر في المقام الأول، وفق العديد من الخبراء الروس على عدة عناصر أهمها:

عدم المبالغة في التوقعات بشأن أوجه التعاون، والتركيز على العناصر ذات الاهتمام المشترك دون تفرعها لتشمل مجالات عديدة قد لا تفضي إلى نتائج ذات قيمة، بدلًا من ذلك قد يكون التركيز على التعاون المشترك في مجالات لا توفرها الولايات المتحدة والحلفاء الغربيون للمملكة، ولا تشكل عامل تنافس هو البداية الأفضل، لخلق تراكم يؤدي لعلاقة راسخة قابلة للتطور. كذلك هناك من المشتركات بين كلا البلدين في سياساتهما المحافظة، ورفضهما لثقافة التثوير وإسقاط الأنظمة بحجة الثورات التي تفضي في النهاية لتفككها، والتنسيق بشأن أسواق الطاقة، ودعم سياسات التسامح الديني؛ حيث يدين أكثر من 20% من سكان روسيا بالإسلام، وللمملكة مكانة خاصة لديهم بحكم كونها قبلتهم ومركز المقدسات الإسلامية وتوثيق الشراكة الاقتصادية بمشروعات استراتيجية مشتركة، وتنظيف ما خلَّفه «الربيع العربي» من آثار كارثية على بعض بلدان المنطقة.[4] تمثل كل هذه العناصر مشتركات بين البلدين. كما قد يكون من المفيد لتعزيزها انفتاح سعودي أكبر على الشخصيات العامة والفكرية والسياسية الروسية، وعدم الاكتفاء بالعلاقات الحكومية. أخيراً احتفى الإعلام الروسي بتصريحات ولي العهد السعودي الأخيرة، وانفتاحه على الحوار مع إيران، ومخططاته الاقتصادية والتنموية الطموحة، ورؤيته للإصلاح الديني. إلا أن اللافت كان ضعف هذه التغطية لمجمل تصريحاته، وتركيزها على ما أوردته وسائل الإعلام الغربية بشأن العلاقات مع إدارة بايدن، دون الإشارة لتنوع علاقات المملكة مع عدة دول كبرى بما فيهم روسيا، ذلك لأن الإعلام الروسي يستمد في الغالب أخباره عن المملكة وقيادتها مما يطرحه الإعلام الغربي نتيجة حالة الفوضى التي أصابت البلاد بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، تراجع الاهتمام بصنع كوادر من المستعربين القادرين على فهم ومعرفة أوضاع المنطقة بشكل مباشر، والمتواجدون على الساحة الآن إما ضعيفي المستوى أو أفكارهم تجمدت عند حقبة الحرب الباردة وصراعتها.

 

ما ورد في التقرير يعبر عن آراء الباحثين ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير


شارك الموضوع