هل تُفتَح ملفات الأراضي والحدود بين ألمانيا وبولندا من جديد؟ وهل تواصل برلين مطالبها لوارسو باستعادة الأراضي الألمانية التي ضمتها بولندا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية؟ وإلى أي مدى يمكن أن يتسبب إطالة زمن “الحرب الروسية الأوكرانية” في توسيع “الشقوق السياسية” بين ألمانيا وبولندا، حيث يتصاعد الخلاف بين الطرفين تارة بسبب الاتهامات البولندية لبرلين بالتقاعس عن دعم كييف، وتارة أخرى بسبب اتهام المستشار الألماني أولاف شولتز للحكومة البولندية بالحصول على أموال طائلة من جراء تسهيل منح تأشيرات الدخول للاتحاد الأوروبي من خلال سفاراتها في إفريقيا وآسيا؟ وهل فعلًا تخصيص مليارات الدولارات لإعادة بناء “الجيش الألماني” ليس له علاقة بالخلاف مع روسيا بقدر ارتباطه بالصراعات التاريخية على الأراضي، وتعويضات الحرب العالمية الثانية بين وارسو وبرلين؟
المؤكد أن الخلافات البولندية الألمانية هي محور البرامج الانتخابية لكل من الحكومة والمعارضة البولندية في الانتخابات البرلمانية المقررة بعد 15 يومًا من الآن، حيت يتسابق حزب “العدالة والقانون” الحاكم مع أحزاب المعارضة الرئيسة “الائتلاف الأهلي، والطريق الثالث، واليسار”؛ لإقناع الناخبين البولنديين بقدرتهم على إجبار ألمانيا على دفع نحو 1.5 تريليون يورو تعويضًا عن احتلال أدولف هتلر بولندا عام 1939، لكن هذا الأمر محفوف “بالمخاطر الجيوسياسية” بسبب رد برلين الذي يدعو إلى فتح كل الملفات العالقة بين بولندا وألمانيا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وفي مقدمتها ملف “الأراضي الألمانية” التي تم اقتطاعها من ألمانيا وضمها إلى بولندا، وهي قضية يمكن أن يترتب عليها مشكلات كثيرة مع دول أخرى، ليس فقط للحصول على تعويضات مالية من برلين؛ بل فتح ملفات “كل الحدود الأوروبية” في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
طلبت بولندا رسميًّا من الحكومة الألمانية دفع 6.1 تريليون زلوتي (نحو 1.5 تريليون يورو) تعويضًا عن احتلال الرايخ الألماني الثالث بزعامة أدولف هتلر لبولندا 6 سنوات بداية من 1939، وتشرح بولندا مطالبها في 12 مجلدًا تقول فيها إن النازيين قتلوا نحو 5.3 مليون مواطن بولندي كانوا يشكلون آنذاك نحو 35 % من مجموع الشعب البولندي، وإن هتلر نهب البنوك البولندية وكل ما فيها من أموال، كما تتهم بولندا ألمانيا النازية بالاستيلاء على ذاكرة الشعب البولندي من خلال نهب الممتلكات الثقافية، والأرشيف البولندي، وكل شيء له قيمة مالية أو ثقافية، وهو ما يجعل أوروبا أمام “مسمار جديد” في نعش الاتحاد الأوروبي وحلف دول شمال الأطلسي؛ لأن هناك دولًا أخرى، مثل اليونان، تنتظر ما الذي ستسفر عنه المساعي البولندية، وفي حال دفع برلين أموالًا جديدة لبولندا، فإن الدول التي تضررت من النازية لديها ملفات جاهزة للحصول على تعويضات مليارية من برلين، وتعتمد بولندا في مطالبها بالحصول على تعويضات على مجموعة من العوامل، منها:
“مبدأ التعويضات”: تقول بولندا إن مبدأ التعويضات قائم في العلاقات بين الدول، وإن الولايات المتحدة، وغيرها من الدول الغربية، لا يمكن أن تنكر حق بولندا في الحصول على تعويضات عن فترة الحكم النازي؛ لأن الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى حصلت على تعويضات ضخمة جدًّا من ألمانيا بموجب اتفاقية فرساي التي وقعتها ألمانيا مع الحلفاء في 18 يونيو 2019، وكانت هذه التعويضات في أشكال شتى، سواء بالأموال، أو حتى التعويضات العينية، كما أن مبدأ التعويضات كان سائدًا في نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث حصلت غالبية دول الحلفاء على تعويضات ضخمة من الدول الخاسرة للحرب، وخاصة من ألمانيا، وتضمنت شروط نهاية الحرب العالمية الثانية دفع ألمانيا تعويضات ضخمة إلى الولايات المتحدة، وبريطانيا، وفرنسا، والاتحاد السوفيتي، وفق ما جاء في نصوص اتفاقية “بوتسدام”، ونتيجة لهذا فإن الحلفاء نقلوا كل شيء من ألمانيا، بداية من الأموال والمصانع، والصلب والفحم، وحتى خطوط السكك الحديدية فُكِّكَت ونُقِلت إلى الخارج، كما سيطر الحلفاء على السفن التجارية، وكل مكونات الأسطول الحربي، فضلًا عن استحواذ الحلفاء على الأسهم الأجنبية التي كانت تساوي في ذلك الوقت 2.3 مليار دولار، ولم يتوقف الحلفاء عن البحث عن كل ما تملكه ألمانيا إلا بعد بدء تطبيق “خطة مارشال” عام 1947.
“جرائم الحرب لا تسقط “: تعتمد وارسو في مطالبها على أن هناك مقدمة قانونية في ميثاق الأمم المتحدة تتحدث عن “العدالة”، وأن مبدأ العدالة يحاسب على كل الجرائم مهما طال الزمن، وأن تعويض الأجيال الجديدة عن الجرائم التي تعرضت لها الأجيال السابقة حق للأجيال البولندية الحالية، ونجحت النخبة السياسية الألمانية في التعبئة الشعبية وراء هذه المطالب انطلاقًا من الرؤية البولندية التي ترى “عدم قانونية” اتفاقية عام 1953 التي تخلت فيها بولندا عن طلب مزيد من التعويضات الألمانية، وتجادل حكومة “القانون والعدالة”، وغيرها من أحزاب المعارضة، بأن بولندا عندما وقعت اتفاقية عام 1953 كانت “غير كاملة السيادة”، وكانت تحت ضغط الاتحاد السوفيتي السابق، كما أن وثيقة عام 1953 كانت بين جمهورية ألمانيا الديمقراطية (ألمانيا الشرقية) التي لم تعد قائمة اليوم.
“عرقلة المسيرة الأوروبية”: أكثر الأسباب التي تجعل المواطن الأوروبي قبل الحكومات يتابع هذه القضية، هو تأكيد بولندا أن عدم حل قضية التعويضات مع ألمانيا سوف يعرقل المسيرة الأوروبية، ويضعف من “روح التضامن الأوروبي”؛ ولهذا لجأت بولندا إلى مخاطبة كل المؤسسات الأوروبية لحث ألمانيا على التجاوب معها بعد أن فشل مسار “المفاوضات الثنائية” في دفع ألمانيا إلى التجاوب مع بولندا؛ ولهذا ذهبت وارسو إلى البرلمان الأوروبي للضغط على ألمانيا بهدف فتح باب النقاش بشأن التعويضات، ووضع صيغة للحوار بينها وبين برلين، كما رفعت وارسو “دعوى قضائية” للتعويضات أمام المفوضية الأوروبية، وحتى اليوم لم تعطِ المفوضية الأوروبية ردًا على الطلب البولندي، وهو ما دفع بولندا إلى الذهاب بعيدًا، وتقدمت بالطلب نفسه إلى كل من اليونسكو، والأمم المتحدة، وعززت في طلبها للأمم المتحدة أن ألمانيا لا تزال حتى اليوم تدفع تعويضات إلى اليهود وإسرائيل؛ ولهذا تعتقد وارسو أن مطالبها بالتعويضات تتفق مع القانون الدولي، ونمط العلاقات بين الدول.
ترفض ألمانيا أي ضغط بولندي لدفع تعويضات جديدة، وتقول إن موقفها يقوم على الاعتراف بالمآسي التي تسبب فيها الحكم النازي، وإنها تقر سياسيًّا وأخلاقيًّا بهذه الجرائم التي عاناها الشعب الألماني أولًا، قبل الشعوب الأوروبية الأخرى، وإن ملف التعويضات لبولندا أُغلِقَ بموجب اتفاقية عام 1953، وإن بولندا لم تكن دولة محتلة في ذلك الوقت؛ بل كانت ذات “سيادة كاملة “، ومقرًا لحلف وارسو، وتلوح الحكومة الألمانية والمستشار أولاف شولتز بعدد من الخطوات، منها:
أولًا: “ثلث الأراضي”: تقول برلين إن ألمانيا دفعت ثمنًا باهظًا تمثل في التنازل عن “ثلث أراضيها” وفق خريطة عام 1937، وإن الاتحاد السوفيتي وبولندا حصلا على أراضٍ كان يقيم عليها نحو 12 مليون ألماني، حسب ما جاء في اتفاقية باريس للسلام عام 1947، وإن حصول بولندا على الأراضي الألمانية كان تعويضًا عن الخسائر التي لحقت بالبولنديين من ناحية، وتعويضًا لبولندا عن “الأراضي” التي ضمها الاتحاد السوفيتي الذي دخل بولندا بعد 17 يومًا من الغزو النازي. وتحذر ألمانيا من أن الإصرار البولندي على فتح باب التعويضات من جديد سيؤدي إلى تكرار سيناريو الأراضي الألمانية التي كانت في حوزة بلجيكا، وهولندا، ولوكسمبورغ، وفرنسا، فعندما دفعت ألمانيا تعويضات لتلك الدول استعادت كل الأراضي الألمانية، وأن على بولندا أن تكون مستعدة لإعادة الأراضي الألمانية إذا كانت عازمة على فتح ملف التعويضات من جديد، وهي ورقة شديدة الخطورة يمكن أن “تفخخ” كل العلاقات الأوروبية، بل كل العلاقات بين دول حلف “الناتو”؛ لأن بولندا- من وجهة النظر الألمانية- هي “الدولة الأوروبية الوحيدة” التي حصلت على تعويضات ولم تُعِد الأراضي الألمانية حتى الآن، فبموجب اتفاقية لاهاي في 8 أبريل 1960، أعادت هولندا 69 كيلومترًا إلى ألمانيا بعد دفع برلين 280 مليون مارك تعويضات لأمستردام.
ثانيًا: “الموقف القانوني”، ترفض ألمانيا الادعاء البولندي بأن موقف برلين القانوني ضعيف في اتفاقية عام 1953، وتقول إنه أعيد مرة أخرى تأكيد إغلاق ملف التعويضات في اتفاقية ” 4+2 ” التي تم التوقيع عليها عام 1990، والتي ضمت الاتحاد السوفيتي السابق، والولايات المتحدة، وفرنسا، وبريطانيا من جانب، وألمانيا الشرقية، وألمانيا الغربية من جانب آخر، وسمحت بتوحيد ألمانيا، وإغلاق كل الملفات والقضايا التي كانت بين ألمانيا وكل الدول في وسط أوروبا وشرقها، وتقول ألمانيا إنه إذا كانت بولندا تدعي عدم استقلال قرارها السياسي عام 1953، فماذا عن اتفاقية 4+ 2 التي لم تعترض عليها بولندا، وأقرت جميع الدول التي تعرضت للظلم النازي بهذه الاتفاقية عام 1990؟
ثالثًا: “استعادة المكانة”: ترى الحكومة الألمانية أن تعزيز مكانتها على الساحة الأوروبية سياسيًّا واقتصاديًّا، ومؤخرًا عسكريًّا، يحرم بولندا من أي زخم سياسي في هذا الملف، وتراهن على أن تعزيز مكانة الجيش الألماني في الفترة المقبلة، سواء من خلال الميزانية العسكرية الضخمة، أو عن طريق صندوق دعم الجيش الألماني بـ100 مليار يورو، سوف يجعل الدعوات البولندية تخفت وتتراجع.
يفتح الخلاف البولندي الألماني بشـأن التعويضات ملفًا أكثر خطورة؛ ألا هو “ملف الأراضي”، ليس فقط بين وارسو وبرلين، بل تطالب بولندا باسترجاع أراضٍ لها في أوكرانيا، ويعتقد كثير من البولنديين أن الأراضي الأوكرانية “غرب لفيف” هي أراضٍ أوكرانية، وأن مساحة بولندا الحالية أقل من مساحتها ليلة الغزو النازي عام 1939، وأن هناك أراضي بولندية لا تزال ضمن الحدود الحالية لأوكرانيا، وبيلاروسيا، وليتوانيا، وهناك تقديرات روسية تقول إن بولندا لها أطماع في أراضي أوكرانيا، كما تطلق بولندا على الأراضي التي حصلت عليها من ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية “الأرض المسترجعة أو المستردة”، وهي تقصد بذلك الحرب التي خاضتها بروسيا (ألمانيا) ضد الكومنولث البولندي الليتواني في الفترة من عام 1772 حتى عام 1795، وخسرت فيها بولندا وليتوانيا نحو 141 ألف كيلومتر من أراضيها لصالح ألمانيا.
المؤكد أن ارتدادات إطالة الحرب الروسية الأوكرانية لن تكون فقط على روسيا كما يهدف الغرب؛ بل قد تفتح “ملفات حساسة”، و”قضايا شائكة” منذ عقود طويلة بين دول الاتحاد الأوروبي و”الناتو”، وأن هذا الملف لن يغلق قريبًا، رغم رهان البعض في بولندا أن هزيمة أوكرانيا في الحرب الروسية الأوكرانية قد تفتح الباب أمام “تقسيم أوكرانيا”، وأن تعويض بولندا بأراضٍ من أوكرانيا قد يكون مقدمة لإغلاق ملف التعويضات التي تطلبها بولندا من ألمانيا.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير