القضايا الاقتصاديةمقالات المركز

اقتصاد إستونيا.. كيف تستفيد المنطقة العربية من التجربة؟


  • 27 يوليو 2021

شارك الموضوع

تعد التجربة الاقتصادية الإستونية ذات قيمة من المنظور المستقبلي الأوسع لدول المنطقة العربية، حيث إنها توفر الخبرة والأجوبة عما إذا كان التقشف الشديد حلا فعالا لمواجهة الأزمات المالية، والتكاليف الاقتصادية والاجتماعية التي تنطوي عليها، وأفضل الممارسات عند تطبيق التقشف، حيث كان المردود النهائي للتقشف والاستقرار المالي الإستوني هو الانضمام إلى منطقة اليورو.

اقتصاد دولة إستونيا

يعتمد الاستقرار المالي الإستوني- اعتمادًا كبيرًا- على العوامل الخارجية، حيث لا يُسمَح للحكومة أو البنك المركزي بتنظيم أسعار الفائدة، أو مقدار العملة المتداولة، ويجعل العرض النقدي يعتمد- كليًّا- على رصيد العُملات الأجنبية. وتبدو مشكلات الاقتصاد الإستوني أكثر وضوحًا عند النظر إلى ميزان التجارة الخارجية، وميزان الحساب الجاري.

ارتبط النمو الاقتصادي في إستونيا بطفرة الإسكان والائتمان المترابطة، التي غذتها في الغالب البنوك السويدية والدنماركية المملوكة للأجانب. ومن خلال ملكية البنوك التجارية، حيث القروض وعرض النقود، كانت إستونيا تعتمد- اعتمادًا كليًّا- على الكرونا السويدية، وتفضيلات البنك المركزي السويدي (Sveriges Riksbank)، وسياساته النقدية.

نتيجة لما سبق، في لحظة بداية الأزمات المالية، كان النظام المالي الإستوني خاضعًا للعوامل الخارجية، في حين اقتصر دور الحكومة على تنظيمه فقط من خلال السياسة الضريبية والميزانية الحكومية، لكن تعاون الحكومة المُتناغم مع القطاع الخاص أدى إلى تسارع في نمو الناتج المحلي الإجمالي الذي بلغ عام 2007 (قبل الأزمة المالية العالمية 2008) نسبة (7.5٪)، وكان النمو يعتمد في الغالب على زيادة الاستهلاك المحلي والقروض العقارية، واستقر الدين الحكومي عند (4.4 ٪) فقط من الناتج المحلي الإجمالي، وهو واحد من أدنى المعدلات في الاتحاد الأوروبي، كما كانت الحكومة تدخر أيضًا احتياطيات خاصة في حالة حدوث أزمة اقتصادية مستقبلية.

الاستثمار في إستونيا

كانت الميزانية المخطط لها للدولة لعام 2007 متحفظة جدًّا، حيث بلغ الدخل المتوقع (4.85) مليار يورو، والإنفاق المخطط له (4.21) مليار يورو؛ مما أدى إلى توازن إيجابي، كما كانت النتائج الفعلية مثيرة للإعجاب، حيث بلغ دخل الميزانية (5.23) مليار يورو، في حين بقيت التكاليف عند مستوى (4.85) مليار يورو، وكانت ميزانية الدولة لعام 2008 هي الأكبر في تاريخ إستونيا، حيث بلغت قيمتها (6.14) مليار يورو ، بزيادة (900) مليون يورو عن الإيرادات الفعلية في العام السابق، وبينما كانت الحكومة والقطاع العام متفائلين، كانت المشكلات الأولى قادمة بالفعل في القطاع الخاص، بالتوازي مع الأزمة المالية العالمية 2008 التي تسببت في ضغوط السيولة، ووصول ديون القطاع الخاص الإستوني إلى (110٪) من الناتج المحلي الإجمالي؛ وهو ما أدى إلى تقييد البنوك التجارية القروض القائمة على العقارات، وإغلاق خطوط الائتمان التجارية لعملاء القطاع الخاص. كما انخفضت الاستثمارات الأجنبية المباشرة (FDI) من ملياري يورو في 2007 إلى (1.2) مليار يورو في 2008. وانخفض الناتج بنسبة (11٪) في عام 2020، ومن المتوقع أن ينمو بشكل معتدل (5٪) فقط عام 2021، وقد نتج عن ذلك انخفاض سريع في الناتج المحلي الإجمالي، وانخفاض إيرادات الميزانية. وأدى قرار القطاع المصرفي هذا إلى بدء الدورة التالية من الأزمة التي امتدت آثارها حتى أزمة إغلاق كوفيد- 19، حيث انخفضت الإيرادات الضريبية؛ ونتيجة لذلك لم تتمكن الحكومة من الوفاء بالتزاماتها المخططة فيما يتعلق بالخدمات الاجتماعية والعقود والرواتب، وهذا خفض الاستهلاك، وتشير التقديرات إلى أن الاستهلاك الخاص (46٪ من الناتج المحلي الإجمالي) قد تقلص بنسبة (8٪) عام 2020 بسبب إجراءات الإغلاق؛ مما أدى مرة أخرى إلى خفض كل من عائدات الضرائب الحكومية، وأرباح البنوك التجارية؛ ونتيجة لذلك انخفضت القدرة الشرائية، وقدرة خدمة القروض للقطاع الخاص انخفاضًا أكبر، وبدأت البنوك المملوكة للأجانب بتقليل المخاطر بشكل إضافي عن طريق سحب أصولها من إستونيا، ثم بدأت سوق العقارات في الانخفاض؛ مما زاد من حدة الأزمة.

بسبب الإغلاق الوقائي العالمي، انخفض الطلب في أسواق التصدير أيضًا، ووجه كثير من المصدرين الإستونيين، خاصة في قطاعي الزراعة ومواد البناء، اهتمامهم نحو الإعانات وبرامج الدعم من الاتحاد الأوروبي. وكان انخفاض الطلب الأجنبي مسؤولاً عن ثلثي ركود عام 2020، حيث انخفضت صادرات السلع والخدمات (التي تمثل نحو 70٪ من الناتج المحلي الإجمالي) بنحو (14٪)، مدفوعة بانخفاض صادرات معدات النقل والمنتجات المعدنية. ومع ذلك، متوقع أن تزيد هذه الصادرات بنسبة 10٪ عام 2021. وزادت نسبة البطالة وانخفض الدخل (ارتفعت البطالة من 4.5٪ عام 2019 إلى 6.5٪ عام 2020، في حين انخفضت الأجور بنسبة 1٪)، ويتوقع بنك إستونيا أن ينكمش الاقتصاد بنسبة تتراوح بين (2.5٪) و(1.8٪) عام 2021، ويرتبط نطاق التوقعات الواسع- ارتباطًا وثيقًا- بتوقعات منطقة اليورو، حيث يتراوح النمو الاقتصادي من (0.4٪) إلى (6٪) للعام نفسه. هذا وقد حافظ البنك المركزي على التوقعات المتعلقة بمعدل التوظيف لهذا العام عند (0٪)، وخُفِّضَت تقديرات صادرات السلع والخدمات لعام 2021 من (4.6٪) إلى (4٪).

من المتوقع أن يتعافى الاقتصاد عام 2021، لا سيما فيما يتعلق بادخار الأسر، ومن المتوقع أن يرتفع بنسبة (10٪) بفضل خطة الإنعاش الوطنية، التي تشمل أهدافها دعم استهلاك الأسرة، هذا إلى جانب خطط التوظيف، وزيادة الاستثمار العام (+ 25٪ عام 2020)، لا سيما في البنية التحتية، وستُمَوَّل هذه الاستثمارات من خلال خطة الإنعاش الوطنية بمبلغ (1.5) مليار يورو من المساعدات التي تلقتها إستونيا مِن الاتحاد الأوروبي، وسيُصرَف (70٪) منها قبل عام 2022.

في نهاية عام 2008، ومع شدة الأزمة المالية العالمية، فضلت الحكومة الإستونية اتخاذ تدابير “شاملة” بدلاً من التخفيضات المستهدفة، حيث لم يتم التوصل إلى توافق في الآراء بشأن القطاعات التي يجب أن تكون ذات أولوية في أثناء التخفيضات. وأُدخِلَت غالبية التخفيضات في الإنفاق على أنها مؤقتة، لمدة عامين في الغالب.

فيما يتعلق بإستراتيجية إدارة الأزمات الطويلة الأجل، كان السؤال الأساسي للحكومة الإستونية هو ما إذا كان ينبغي تحقيق الاندماج المالي عن طريق خفض التكاليف، أو زيادة الإيرادات، أو القيام بالأمرين معًا في الوقت نفسه. ونظرًا إلى أن الوفاء بمعايير منطقة اليورو كان هدفًا موازيًا لتحقيق الاستقرار في الأزمة، قررت النخبة السياسية الإستونية اختيار الخيار الأول. ونتيجة لذلك، تقدم التجربة الإستونية مساهمة قيمة أيضًا في نظرية ضبط أوضاع المالية العامة، التي دعمت- بخلاف ذلك- النموذج المعاكس للتدابير القائمة على الإيرادات التي توفر مكاسب فورية (وإذا لم يكن ذلك كافيًا).

كُسِرَ التقليد الذي يقضي فقط بالموافقة على ميزانيات الدولة دون عجز خلال المحاولات الفاشلة لتحقيق التوازن في الميزانية الحكومية عام 2008. وكان فائض ميزانية الدولة لعام 2007 بنسبة 2.4٪ (من الناتج المحلي الإجمالي)، ثم تغير بعد ذلك بعام إلى عجز بنسبة 2.9٪ – بالطبع عند مقارنته بمتوسط مستوى عجز الاتحاد الأوروبي في تلك الفترة، الذي كان 6.5٪، فقد كانت نتيجة إيجابية بشكل استثنائي.

قررت الحكومة الإستونية أيضًا توفير بعض أصول الموازنة عن طريق تقليل المدفوعات إلى ركيزة المعاشات التقاعدية بنسبة (50٪). كما أدى استقرار الاقتصاد إلى نمو مؤشر أسعار المستهلكين الذي وصل إلى (3.0٪) على أساس سنوي؛ وبذلك سمح مستوى التضخم في إستونيا لها باستيفاء معايير منطقة اليورو. ونظرًا إلى أن الأسواق المالية العالمية والبنك المركزي الأوروبي قدما مزيدًا من الائتمان، قررت الحكومة الإستونية أيضًا تغطية جزء من تكاليفها بديون إضافية؛ مما أدى إلى نمو الدين الحكومي من (4.5٪) من الناتج المحلي الإجمالي إلى (7.2٪). واستمر عجز التجارة الخارجية في الانخفاض (من 12.1٪ إلى 6.0٪)؛ مما أدى بالاقتصاد إلى مزيد من التوازن.

منذ عام 2010، بدأ الاقتصاد بالفعل في التعافي ببطء من خلال إظهار نمو الناتج المحلي الإجمالي بنسبة (3.2 ٪) على أساس سنوي. والأمر الأكثر لفتًا للنظر هو نمو الإنتاج الصناعي (+ 22.7٪)، فيما يتعلق بميزانية الحكومة المركزية، حيث تم تعلم بعض الدروس، وتم إجراء تغييرات؛ أولاً: تم التخطيط للتكاليف على مستوى أكثر واقعية، وتم التخطيط للميزانية بعجز 320 مليون يورو، وهو ما لم يسمح به القانون في إستونيا، لكن الجمهور قَبِلَه على نطاق عريض. من الناحية العملية، سار كل شيء بشكل أفضل بالنسبة إلى الحكومة: “كانت التكاليف والإيرادات متساوية تمامًا عند مستوى 5.6 مليار يورو”.

ظهرت نتائج هذه الخطة المالية عام 2020، حيث أصبحت إستونيا تملك موارد مالية عامة جيدة، وكانت قادرة على تخصيص ملياري يورو (7٪ من الناتج المحلي الإجمالي) لمكافحة الجائحة. وتحملت إستونيا مخاطر أعلى من ذي قبل من خلال إجراءات الضمان والقروض الجديدة والقائمة، مع اتخاذ تدابير مالية للمساعدة في إنشاء شركات جديدة، لا سيما الشركات الناشئة. ومن أجل تخفيف الوضع المالي للشركات، أوقف مجلس الضرائب والجمارك الإستوني حساب الفوائد على متأخرات الضرائب خلال فترة الجائحة، وكتدابير مؤقتة لمنع البطالة، ومساعدة الشركات التي تواجه صعوبات، اقترح صندوق التأمين ضد البطالة الإستوني أنه سيغطي (70٪) من الأجور الأصلية للموظفين المتضررين، بالإضافة إلى تخفيض الرسوم على وقود الديزل بنسبة (25٪)، وتخفيض رسوم الموانئ. وبسبب وضع الإغلاق، كانت هناك شركات لديها موارد بشرية لا يمكنها استخدامها؛ ولذا أنشأت الدولة منصة لتبادل القوى العاملة المؤقتة، تعمل بالشراكة مع صندوق التأمين ضد البطالة الإستوني بشكل مباشر ومجاني مع جميع الشركات، كما خفضت الدولة ضريبة القيمة المضافة على الصحافة عبر الإنترنت من (20٪) إلى (9٪).

أخيرًا، أدت حزمة التحفيز أعلاه إلى زيادة ديون البلاد، ولكن لا تزال أقل بكثير من ديون جيرانها الأوروبيين. وستستفيد المالية العامة أيضًا من دعم الاتحاد الأوروبي، حيث خصص الاتحاد 6 مليارات يورو لإستونيا في الإطار المالي المتعدد السنوات (2021- 2027) ، وسيُصرَف (14٪) منها في 2021. كما أذنت المفوضية لإستونيا بتقليل تمويلها المشترك؛ مما سيسمح للبلد بتوفير مليار يورو.


شارك الموضوع