مع بدء الاستعدادات الأمريكية للانتخابات الرئاسية الـ(60)، المقرر عقدها يوم الثلاثاء 5 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، سادت حالة من التفاؤل داخل الأوساط السياسية القريبة من الكرملين، التي تعتقد أن الجمهوريين سينتزعون منصب الرئاسة من “الجد” العجوز بايدن (كما يصفونه)، وهو ما سيؤدي إلى وقف، أو على أقل تقدير، تقليل الدعم الأمريكي لكييف، وما سيتبعه من تراجع كبير للدعم الأوروبي، ومن باقي دول منظومة “الغرب الجماعي”. لكن بعض الخبراء الروس الأكثر رسوخًا في الشأن الأمريكي، بدؤوا بالتحذير من الإفراط في التفاؤل، معتقدين أن مجيء جمهوري إلى منصب الرئاسة، سواء أكان ترمب أم دي سانتيس، لن يغير كثيرًا في مشهد الصراع الحالي.
علق الخبير الروسي بوريس ميزويف على هذه الفرضية بطرح سؤال: “هل تستطيع روسيا الاعتماد على الناخب الجمهوري في الولايات المتحدة؟”، ليجيب: تتطلع روسيا- مرة أخرى- باهتمام إلى ملامح الحملة الانتخابية الأمريكية. من بين الجمهوريين في الانتخابات التمهيدية المقبلة، لا يزال دونالد ترمب يتصدر بفارق كبير، بعد أن صرح- مرارًا وتكرارًا- أنه سينهي الصراع في أوكرانيا في غضون 24 ساعة، في حين حصل تاكر كارلسون، كاتب العمود المطرود من قناة فوكس نيوز، على أكثر من 90 مليون مشاهدة على موقع تويتر حين برأ- علانيةً- روسيا من مسؤولية تفجير محطة كاخوفسكايا لتوليد الطاقة الكهرومائية، ويبدو أن موقفه هذا قد حظي بدعم الغالبية العظمى من هؤلاء المشاهدين. في غضون ذلك، ووفقًا لاستطلاعات الرأي الأخيرة التي أجرتها جامعة هارفارد، فإن 60 في المئة من الجمهوريين يؤيدون استمرار الدعم لأوكرانيا. من بين مؤيدي ترمب، 53 في المئة فقط من المؤيدين لأوكرانيا. هذا هو أكثر من النصف، ولكن لا يزال قليلًا، بالنظر إلى الدعاية النشطة المناهضة لروسيا في وسائل الإعلام الأمريكية، بما في ذلك فوكس نيوز.
في حين أن بين ناخبي الخصم الرئيس لترمب رون دي سانتيس، ليس هناك كثير من المؤيدين لأوكرانيا- فقط نحو 59 في المئة. ليس هناك شك في أن هؤلاء الأشخاص، ناخبي ترمب، لن يصبحوا أصدقاء لروسيا؛ لأن الناخب الجمهوري غير مكترث بروسيا، فهو يهتم أكثر بأمواله، وكثير منهم في حيرة من أمرهم لماذا يُنفَق هذا الكم الضخم من الأموال لتمويل حملة عسكرية في أوكرانيا البعيدة.
يرى ميزويف أنه من “الخطأ” تصوير الناخب الجمهوري على أنه شخص أناني لا يفكر إلا في أمواله حصرًا. وبحسبه، “من المؤكد أنه منزعج وغاضب من الناحية الأخلاقية بسبب ما تسببه هذه الحرب من دمار وقتل للأبرياء”. ثم يكمل: ومع ذلك، سيخبر تاكر كارلسون جمهوره- بشكل مقنع تمامًا- أن كل هذا يحدث لأن إدارة بايدن- لأسباب خاصة بها- نسفت اتفاقيات إسطنبول، التي من حيث المبدأ كانت مفيدة جدًّا لأوكرانيا، ولم تتضمن أي تنازلات خاصة، باستثناء وضعها المحايد. ليس هناك شك في أن كارلسون، وربما ترمب، سيتحدثان عن هذه القصة أكثر من مرة خلال موسم الانتخابات (2023- 2024). سوف نسمع عن المجزرة التي لا معنى لها، والتي تعود بالنفع على دعاة العولمة الأمريكيين فقط، وعن نظام كييف الفاسد، الذي يستفيد من معاناة مواطنيه. أغرب مرشح في هذه الانتخابات هو منافس بايدن في المعسكر الديمقراطي، روبرت كينيدي جونيور، الذي كرر الكلمات نفسها. دعونا لا ننسى شخصية غريبة أخرى، وهي رجل الأعمال فيفيك راماسوامي، البالغ من العمر 37 عامًا، الذي تحدث بالفعل بقسوة إلى حدٍ ما عن الحاجة إلى “إجبار أوكرانيا على الدخول في مفاوضات”.
بحسب الخبير الروسي، لا شك في أن هذا التحالف المشروط المناهض لأوكرانيا يبدو حتى الآن أضعف من التحالف الموالي لأوكرانيا. يعود ذلك إلى سبب بسيط، في أي نقاش قبل الانتخابات، سيكون من السهل على أي مرشح مؤيد لأوكرانيا صد أي هجوم من خصم مناهض لأوكرانيا من خلال رابط تويتر بسيط لشخصية سياسية روسية معروفة تُصدر تهديدات قاسية للغرب وجميع الإنسانية. إذا أظهر هذا العدو السيئ السمعة لروسيا براعة، فسيجد في أحد البرامج التليفزيونية الروسية المعروفة كثيرًا من التصريحات عن الحاجة إلى “الاستيلاء على وارسو”، و”تكرار الهجوم على برلين”، ومطالبات “بتدمير الدولة الأوكرانية”، وما إلى ذلك. يمكن لكارلسون أن يشير- بقدر ما يحب- إلى الكلمات العادلة تمامًا لرئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت، الذي أخبر العالم كيف أحبط الأمريكيون اتفاقيات إسطنبول في مارس (آذار) 2023، لكن خصومه سيعارضون هذه الحجة بسهولة من خلال الإشارة إلى الخطاب المعتاد لـ”حزب الحرب” الروسي، وجميع الشتائم التي تصدر ضد الروس المؤيدين لإنهاء إراقة الدماء بسرعة، بما في ذلك كبار المسؤولين، مثل فلاديمير ميدينسكي، ومارغريتا سيمونيان.
يختتم ميزويف تحليله بأنه من غير المرجح أن يفوز المرشح المناهض للحرب في الانتخابات الرئاسية في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، لكن الجو العام لرفض الحرب غير الضرورية يمكن أن يحول الإدارة الحالية إلى اتجاه أكثر إيجابية، وقد يجبرها على التخلي عن هدفها المتمثل في ضرورة “هزيمة روسيا”، وهدمها، وتدميرها. يدرك الجميع بالفعل أنه في المستقبل سيتحدث تاكر كارلسون في برنامجه، وأنه من الصعب إسكاته، وفي ذلك يدعمه ذلك الجزء الأمريكي الذي يرى أن مسار بايدن يساري جدًّا، وقمعي جدًّا، ولا هوادة فيه. إذا كانت روسيا تريد أن تلعب جنبًا إلى جنب مع هذه القوى في أمريكا، فإنها بحاجة إلى بناء حزبها الصحيح، وفهم أهدافها، وتقييم قدراتها، وحساب مواردها.
علقت الخبيرة الروسية في الشأن الأمريكي فيرونيكا كراشينينيكوفا على فرضية المقربين من الكرملين، تحت عنوان: “الناخب الجمهوري لا يهتم بروسيا“، حيث قالت: الناخب الجمهوري لا يهتم بروسيا؛ لكنه يهتم أكثر برفاهيته، وبالصين؛ لأنه يسمع باستمرار من ساسته عن التهديد الخطير الذي تمثله “الصين الشيوعية” لأمريكا. ومع ذلك، في كلتا الحالتين، يأتي على ذكر روسيا؛ لأن الرفاهية تتراجع بسبب التضخم، وعدم الاستقرار في الأسواق، بسبب العقوبات الغربية على الاتحاد الروسي (بالإضافة إلى أسباب عالمية). ينظر جزء من الناخبين الجمهوريين إلى الدعم العسكري لأوكرانيا على أنه إهدار للمال لأغراض غير مناسبة، ويعتقد أن “كل قذيفة ترسل إلى أوكرانيا هي قذيفة لن نرسلها إلى الصين”. هذا رأي جمهور ناخبي أقصى اليمين في الحزب الجمهوري من محبي ترمب، وهم يمثلون الثلث، وهو عدد كبير.
لكن الناخبين الجمهوريين المعتدلين يعتقدون أن الدعم العسكري لأوكرانيا أمر “جيد”؛ حتى لا نضطر نحن أنفسنا إلى القتال مع الروس. تلعب الرغبة في معارضة إدارة بايدن في كل شيء دورًا أيضًا. ومع ذلك، إذا فازوا، فإنه يمكن للجمهوريين أن يفعلوا الشيء نفسه. نعم، في أمريكا يعرفون كيف يحسبون المال، ويتوقعون “نتائج” من أوكرانيا. يمكنهم تقليل مقدار الدعم، والمطالبة بالمزيد مقابل أموال أقل. ومع ذلك، فإن موارد العمليات العسكرية أصبحت أقل لكلا الجانبين، ولروسيا أيضًا. السؤال هو: مَن سيُستَنزَف أسرع، وهنا الجواب ليس في صالح روسيا. وأهم من ذلك، كم عدد الروس الذين يجب أن يموتوا قبل الرهان على فوز الجمهوريين، الذين حتى إن وصلوا إلى السلطة، فلن يكون ذلك إلا في نهاية يناير (كانون الثاني) 2025.