أثارت الأحداث الأخيرة في القدس المحتلة، والحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، التساؤلات حول الموقف الروسي من الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني وإلى أي اتجاه تميل السياسة الروسية، في ظل علاقاتها المتشابكة مع كافة الأطراف المتصارعة في المنطقة.
شأنه شأن باقي القوى الكبرى، اتسم الموقف الروسي تجاه الصراع العربي-الإسرائيلي، بمراحل مختلفة تغيَّرت فيه سياساته، وصولًا للواقع الحالي وذلك تبعًا لظروف ومقتضيات كل مرحلة.
دعمت روسيا السوفيتية، بقيادة يوسف ستالين، قيام دولة إسرائيل بكل ما لديها من قوة – شمل ذلك: “إمداد الحركة الصهيونية على أرض فلسطين بالسلاح عبر تشيكوسلوفاكيا، والسماح لقادة عسكريين بالجيش الأحمر من أصول يهودية بالذهاب إلى أرض فلسطين، وتقديم الدعم الدبلوماسي القوي لقرار تقسيم فلسطين في الجمعية العامة التابعة لهيئة الأمم المتحدة رقم (181) في 29 نوفمبر (تشرين الثاني) 1947”. الذي كان يفخر دائمًا أندريه غـروميكو، وزير الخارجية السوفيتي، بأنه «أول من رفع يده للتصويت لصالحه» – بعد خطابه بالأمم المتحدة، الذي قال فيه أن الاتحاد السوفيتي كان يفضل قيام «دولة عربية يهودية واحدة تتمتع بحقوق متساوية لليهود والعرب». لكن إذا اعتبرت مفوضية الأمم المتحدة أن هذا الخيار «غير عملي في ظل تدهور العلاقات بين اليهود والعرب»، فهناك بديل «مبرر» ألا وهو «تقسيم فلسطين إلى دولتين مستقلتين: يهودية وعربية».[1]
يمكن القول إن تأسيس دولة إسرائيل، يعود فيه الفضل بعد بريطانيا، لروسيا السوفيتية، التي شكَّلت الداعم الدبلوماسي والعسكري، وكذلك الفكري لقيام هذه الدولة؛ حيث كان المنظرون والقادة السياسيون الرئيسيون لدولة إسرائيل، من يهود الإمبراطورية الروسية، ومرتبطين بالحركة الاشتراكية وعلى رأسهم حزب العمل الاشتراكي الديمقراطي اليهودي- «رابوتشي سيونا – عمال صهيون» الذي أسسه المنظر اليهودي بير باراخوف، المولود عام 1881 في مقاطعة بولتافا، بالإمبراطورية الروسية (أوكرانيا حاليًّا) وهو أستاذ دافيد بن غوريون، ويعتبر حزب العمل، امتدادًا له، وهو الحزب الذي حكم إسرائيل منذ عام 1948 إلى 1977، بشكلٍ متواصل.[2]
دوافع يوسف ستالين في دعم تأسيس دولة إسرائيل، كانت متعددة ولا يمكن حصرها في سببٍ واحد. أبرز هذه الأسباب، تلك الرؤية الساذجة التي أقنع بها الثوريون الاشتراكيون من اليهود القيادة السوفيتية، التي كانت تجهل الأوضاع في المنطقة، بأن اليهود والعرب في أرض فلسطين، أصبحوا يدًا واحدة في مواجهة الاستعمار الغربي، وأنهم قادرون عبر العمل معًا وبدعم من الاتحاد السوفيتي، على تحرير أرض فلسطين من سلطة الانتداب البريطاني، وإنشاء دولة بروليتارية لاقومية تمثل نموذجًا لكل شعوب الشرق الأوسط – اعتقد ستالين أن الزعامات العربية في ذلك الوقت موالية لبريطانيا، وكان يحلم بموطأ قدم لروسيا السوفيتية على ساحل المتوسط، وتخيل أن دعمه لليهود سيترجم بعد قيام دولة مستقلة في أرض فلسطين بحصول روسيا على نفوذ بالمنطقة – كان لدى ستالين شعور دائم بالريبة من اليهود ولا يثق فيهم، وهو أمر مدان بلا شك، ولكن المزاج الشعبي السائد في روسيا آنذاك كان لديه مثل هذه المشاعر غير الودودة على أقل تقدير تجاه اليهود، وأراد أن يتخلص منهم ومن الوعد الذي سبق أن قطعه لينين لهم بإقامة وطن قومي في شبه جزيرة القرم (جمهورية يهود القرم السوفيتية الاشتراكية) أو المشروع المعروف أمريكيًّا باسم «كاليفورنيا القرم» والذي بموجبه قدمت (لجنة التوزيع الأمريكية اليهودية المشتركة – JDC) دعمًا ماليًّا للاتحاد السوفيتي، الذي كان خارجًا لتوه في حالة انهيار اقتصادي نتيجة الحرب الأهلية، مقابل إقامة هذا المشروع الذي أراد ستالين أن يتملص منه عبر دعم إقامة هذا «الوطن» القومي على أرض فلسطين.[3] – روَّج يهود الاتحاد السوفيتي لإسرائيل المقبلة، بأنها نموذج سوفيتي في الشرق الأوسط، وأن الـ «كيبوتسيم» اليهودية، تماثل الـ «كولخوزي» المزارع الجماعية السوفيتية – كان لدى الكثير من القادة السوفيت، تعاطف كبير تجاه اليهود، إما لأصولهم اليهودية أو لاقترانهم بزوجات يهوديات داعمات لقيام دولة إسرائيل، أو من باب التعاطف الإنساني؛ نتيجة ما تعرَّضوا له من مآسٍ على يد النازية – قدم اليهود خدمات جليلة لا تقدر بثمن للسلطة السوفيتية في ذلك الوقت، ويعود الفضل لأكثر المعلومات الاستخباراتية حساسية في الحرب العالمية الثانية، وفي سر صنع القنبلة النووية إلى عملاء بريطانيين وأمريكيين من أصول يهودية – تعامل السوفيت مع يهود من ذوي الثقافة واللغة الروسية، بينما كان يجهل العرب كل شيء تقريبًا عن روسيا في ذلك الوقت، وعلى رأسها اللغة، وهو ما سمح للدعاية الإسرائيلية بألا يكون لها منازع.[4]
تبدل الوضع في نهاية عهد يوسف ستالين، وأدرك الخدعة التي تعرض لها، ومع مجيء نيكيتا خروشوف، والرفض الأمريكي لإمداد مصر بالسلاح وتمويل مشروع السد العالي، تعمَّقت العلاقات السوفيتية-العربية، وانحاز الموقف السوفيتي بشكل كبير ولو ظاهريًّا إلى الحق العربي، وساهم في دعم الكثير من الجيوش العربية بالسلاح والخبرات التقنية، وصولًا لقطع موسكو لعلاقاتها الدبلوماسية مع تل أبيب، بعد حرب الخامس من يونيو (حزيران) 1967.
تعرض الروس لما يصفونه بـ «الخيانة»؛ نظرًا لدعمهم «الكبير» للعرب في حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973، والتكاليف التي تحملوها نظير هذا الدعم من هجوم عليهم بالإعلام الغربي المسيطر عليه من اللوبي الموالي لإسرائيل، ثم ذهاب العرب للتسوية السلمية من خلال وساطة حصرية للولايات المتحدة، مستثنين الروس منها، سواء في اتفاقية السلام المصرية-الإسرائيلية 1979، واتفاقية أوسلو 1993، واتفاقية وادي عربة 1994، ومحادثات السلام السورية-الإسرائيلية.
في ظل إدارة الرئيس فلاديمير بوتين، اتخذت روسيا نهجًا نقديًّا هادئًا لتجاربها السابقة، قام به وما زال مجموعة مختارة من خبراء السياسة الدولية والجيوبولوتيك الروس، لعدم تكرار أخطاء الماضي، والدرس الأبرز الذي خرجت به موسكو، من هذه المراجعة فيما يخص الصراع العربي-الإسرائيلي، عدم الانحياز لطرف على حساب الآخر، وهو ما يضعف قدرتها على التأثير والتواصل مع جميع الأطراف المتصارعة.
بناءً على هذا الموقف المعلن للخارجية الروسية، يمكن وصف الموقف الروسي بالحياد الإيجابي؛ حيث ينحاز للقانون الدولي، وما توافق عليه الطرفان الإسرائيلي والفلسطيني برعاية أمريكية وأممية، وهو ما يطالب به العرب والفلسطينيون.
تعتقد موسكو أن «الوساطة» الأمريكية في ملف السلام، قد تعرضت مصداقيتها وفاعليتها لأضرار بالغة لا يمكن تجاوزها، وتراجعت لدى جميع الأطراف الثقة في هذا الدور بعدما أصبح دائم التبدل وفقًا لأمزجة كل إدارة أمريكية، وأن سياسات دونالد ترامب، قد ساهمت في ترسيخ هذا الشعور لدى الطرف الفلسطيني، وسياسات سلفه أوباما، التي كان ينظر إليها إسرائيليًا بمزيد من الشك. كما أن العلاقات الأمريكية مع عدة أطراف فاعلة بالصراع تكاد تكون مقطوعة أو متوترة، وهو ما يضعف نفوذها. بدلًا من ذلك، تتبنى موسكو استراتيجية «الباب المفتوح» فلديها علاقة جيدة مع بلدان الخليج، وعلاقة متنامية مع مصر والأردن، وعلاقة تاريخية مع الفلسطينيين والإسرائيليين، وشراكة بالعديد من الملفات مع التركي والإيراني، وتواصل دائم مع حزب الله في لبنان وكافة الفصائل الفلسطينية، بما في ذلك حركتا حماس والجهاد الإسلامي، وهو ما يؤهلها للعب دور الوسيط المقبول من الجميع والذي لديه القدرة على التواصل معهم.
وفقًا لسياسات موسكو المحافظة، فهي ليست متحمسة للنيل من سلطة محمود عباس، رغم أن لديها تحفظات تجاه نهج إدارته، وتعتقد أن الزمن وطبائع الأمور مع تقدمه في السن، ستؤدي قريبًا لتغيير في القيادة الفلسطينية بشكل تلقائي، وأن القيادة الفلسطينية المقبلة ستكون تشاركية ولن تعتمد على زعيم واحد، على الأقل بالمرحلة الأولية حتى يتمكن طرف ما من فرض زعامته، وهو ما يفسِّر انفتاحها على الجميع، ليكون لها تأثير ونفوذ لدى أي قيادة مستقبلية للشعب الفلسطيني. كما أنها تراقب عن كثب التفاعلات الحاصلة داخل حركة فتح، وظهور جيل جديد من القادة الشباب والعمليين، الذين يمكن أن يغيروا من وجه الحركة، نظرًا لما لديهم من ديناميكية يفتقدها محمود عباس، وعلى رأس هؤلاء التيار الصاعد للثنائي مروان البرغوثي وناصر القدوة، وتيار الإصلاح الديمقراطي في حركة فتح بقيادة محمد دحلان، ووفق العديد من المعلقين الروس، يمكن لهم تشكيل مثلث قوة جديد قادر على قلب المعادلة داخل فتح، وهو ما سينعكس على التركيبة السياسية الفلسطينية، ويسهم في إعادة فاعلية عمل منظمة التحرير الفلسطينية، وهو ما أكدته الصحفية الروسية ماريانا بيلنكايا، في مقالٍ لها في صحيفة «كوميرسانت» الشهيرة، التي وصفت القيادي الفلسطيني محمد دحلان، بأنه ينتمي لإحدى أقوى العائلات في غزة، وأن شعبيته في حالة تصاعد، فرغم إقامته في الإمارات، إلا أنه يقدم مساعدات دورية لسكان القطاع، وعودة نجله فادي، للقطاع مع العديد من أنصاره، ورجَّحت الصحيفة أن تتوزع أصوات الناخبين حال أجريت انتخابات بين قائمته وقائمة مروان البرغوثي، الذي وصفته الصحيفة بأحد رموز المقاومة الفلسطينية، بجانب ناصر القدوة (ابن شقيقة الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات)، وألا تحصل قائمة عباس إلا على 22%؛ وهو ما دفع الأخير لتأجيل الانتخابات. [5]
كان لافتًا التغطية الإعلامية الواسعة التي حظي بها القيادي الفلسطيني محمد دحلان، في وسائل الإعلام الروسية الشهور القليلة الماضية، التي وصفته بـ «المعارض السياسي لرئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس»؛ حيث ذكرت وكالات «إنترفاكس». [6] و (تاس). [7] و (ريا نوفوستي). [8] دوره البارز في مساعدة سكان القطاع، والتي كان آخرها توفير 60 ألف جرعة من لقاح «سبوتنيك V»، بفضل علاقاته الطيبة مع دولة الإمارات العربية المتحدة.
تولي موسكو، أهمية خاصة لعملية توحيد الفصائل الفلسطينية على موقف واحد، وأن يفرز الصراع المُدَار تحت مظلة هذه الوحدة قيادة جديدة تراهن عليها وتدعمها، وتكون مقبولة من الأطراف الدولية والإقليمية المختلفة. كما تعتقد أن دور حماس والجهاد لا يمكن تجاوزه وليس من الحكمة تجاهلهما، بل محاولة احتوائهما لتكونا جزءًا من أي حل مستقبلي.
قضية الغاز، قصة أخرى لا يمكن إغفالها لفهم أكثر عمقًا للدور الروسي. تعتمد روسيا بشكل كبير على صادراتها من الغاز الطبيعي، وتعتبره أكبر من كونه مكسبًا اقتصاديًّا، بل أيضًا ورقة جيوسياسية مهمة؛ لذلك تعمل على أن يكون لديها وبشكلٍ دائم تواجد في أي مشاريع قد تكون منافسة لأسواق صادراتها. كما قال المارشال الراحل محمود غارييف «الأمن بالنسبة لروسيا يعني أولًا وقبل كل شيء أمن الطاقة وأسواقها المستهدفة»؛ وذلك في مقدمة إستراتيجية الأمن القومي الروسي، التي شارك في صياغتها عام 2007.[9] تعمل روسيا بدأب على تطبيق (إستراتيجية الطاقة الروسية 2030) لربط كافة الأسواق المستهدفة روسيًّا بخطوط غاز طبيعي، وهو ما يضمن ألا مجال لأي طرف منافس يمكن أن يقدم امتيازات بالسعر وانسيابية وسهولة وصول الغاز الروسي.[10] منطقة شرق المتوسط ثم مصر وليبيا، تحتوي على احتياطات ضخمة من الغاز الطبيعي مع قربها من أوروبا. يمكن أن تشكل منافسًا أو عنصرًا معطلًا لهذه الإستراتيجية. بينما في حال وجود علاقة جيدة مع كافة أطراف النزاع، سيكون من مصلحة الشركات الغربية وكذلك الحكومات إشراك شركات الغاز الروسية، كون وجودها سيشكل ضمانة لعدم تعرض منصاتها لأي هجمات من حماس أو الجهاد أو النظام السوري وحلفاء إيران بالمنطقة، وبذلك يتحكم الروس في عملية تنظيم هذه التدفقات إلى أوروبا، بما لا يتعارض مع حصة موسكو.
تولي السياسة الروسية، أهمية خاصة لما تسميه «الجوار القريب»؛ أي البلدان السوفيتية السابقة في جوارها، ونظرًا لوجود عدة نزاعات حدودية مع بعض هذه البلدان، والتدخل الإسرائيلي الذي أضر بمصالح روسيا، في حرب جورجيا عام 2008، بالطائرات المسيرة، سعت موسكو، لخلق معادلة ردع مضادة مع وضع الأولوية لاحتواء السياسة الإسرائيلية، وعدم الصدام معها. على سبيل المثال لم يعترض الروس على وجود قوات لحزب الله وإيران في سوريا، للمساهمة معها في تثبيت نظام الأسد، ولكنها في الوقت نفسه لم تمانع في قيام إسرائيل، بتوجيه ضربات عسكرية لهذه القوات حال استشعرت بالخطر على أمنها. كما سلَّمت سوريا نظام الدفاع الجوي المتحرك (إس-300)، لكنها أيضًا لم تسمح للجيش السوري باستخدامه إلا بأمرٍ منها، وهكذا تمكَّنت من كبح أي تدخل إسرائيلي بدفع أمريكي لدعم بلدان «الجوار القريب» لروسيا، مع امتلاكها أدوات للرد حال لم تلتزم تل أبيب، وهو ما انعكس على موقف الأخيرة من النزاع حول شبه جزيرة القرم.
أخيرًا تعتقد روسيا، أن بنيامين نتنياهو، هو آخر الزعامات المهيمنة للأشكيناز، في إسرائيل. وأن المستقبل بمقبل الأيام سيكون لليهود الشرقيين وذوي الأصول الروسية، والتي تعمل على تعميق العلاقات معهم، وتقديم كافة أوجه الدعم لخلق جو ملائم للتعايش السلمي مع الجالية اليهودية في روسيا والتي-حسب شهادة قادتها-تعيش أزهى عصورها في ظل قيادة الرئيس بوتين.[11]
هكذا وعبر هذه المعادلة تعتقد موسكو، أنها ستكون المؤهلة دون غيرها على المشاركة الفعالة في أي عملية سلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين وكذلك بين النظام السوري وإسرائيل وبالتبعية مع لبنان، وتهدئة التوترات مع إيران، وقيادة مشاريع استخراج الغاز الطبيعي في شرق المتوسط، وأن تكون عنصر الأمان لكل الشركات العالمية، من الصواريخ «الطائشة» التي يمكن أن يطلقها أي فصيل مسلح. مع امتلاك نفوذ على القيادة المستقبلية لإسرائيل وفلسطين. على هذا الأساس يمكن فهم محددات الموقف الروسي بشأن القضية الفلسطينية، ورؤيتها الأوسع للسلام والتعاون الاقتصادي الشامل في المنطقة، بما لا يستثني الحق العربي وعلى رأسه الفلسطيني، وهو ما يفسِّر ترحيبها بالعلاقات العربية-الإسرائيلية الجديدة، مع تكرارها الدائم بأن هذا “التطبيع” لا بد ألا يتجاوز فلسطين وحقوق شعبها، لضمان رسوخه وتحقيقه لاستقرار حقيقي.