مقالات المركز

معيار النصر والهزيمة بعد العام الأول من الصراع على أوكرانيا


  • 25 فبراير 2023

شارك الموضوع

انطلقت منذ عام، ما تسميها روسيا “العملية العسكرية الخاصة” في أوكرانيا[1]، وسط تحليلات غربية ادّعت أن الجيش الروسي سيصل إلى العاصمة كييف، وسيسيطر عليها خلال أيام أو أسابيع قليلة[2]. تبين أن هذه التوقعات لم تكن في محلها؛ حيث تراجع الجيش الروسي عن العاصمة[3]، ومع مرور الوقت، وبعد عدة معارك، انحسر مسرح العمليات العسكرية في المنطقة الشرقية بإقليم الدونباس، إلى جانب سيطرة جزئية على مدينة خِرسَون، أول مركز إقليمي سيطر عليه الجيش الروسي.

أصبحت الحرب- كما هو واضح للجميع- صراعًا روسيًّا- أطلسيًّا في أوكرانيا وعليها. لن أتطرق إلى الجانب العسكري ومآلاته، في ظل حالة الاستقطاب الحادة بين روسيا والغرب، وحلفاء كل طرف وشركائه، وادعائه “النصر” أو “الهزيمة” للطرف الآخر. بدلًا من ذلك، قد يكون من المفيد ترك الخوض في هذه الفرضيات، وطرح السؤال الذي أعتقد أنه الأهم، وهو: ما «معيار النصر والهزيمة» لكل طرف في هذه الحرب الطاحنة؟ وللإجابة عن هذا السؤال، نحتاج أولًا إلى طرح سؤال آخر، عن: «الدوافع والأهداف» من وراء هذه الحرب، وهو ما أسعى إلى شرحه وتحليله في هذا المقال.

الدوافع الروسية

بعد بدء الحرب، تعددت الروايات الروسية بشأن دوافعها وراء بدء هذه “العملية العسكرية الخاصة”. (يمكن العودة إلى القسم الأول تحت عنوان “الاضطراب الروسي”، في دراسة «المواجهة الروسية- الأطلسية وإمكانية توسعها»). تبلغ مساحة الاتحاد الروسي (17,075,400) كم²، وهو ما يجعل روسيا أكبر دولة في العالم من حيث المساحة الجغرافية. طُرحت عدة فرضيات عن الدوافع الروسية، لعل أشهرها رغبة بوتين في توسيع أراضيها، واستعادة “مجد الإمبراطورية” الروسية الغابر.

لا يُخفي بوتين حنينه إلى هذه الإمبراطورية، وقد عبر عن ذلك عدة مرات. على سبيل المثال، تصريحه عام 2005، بأن: “سقوط الاتحاد السوفيتي أكبر مأساة جيوسياسية”[4]، ومقارنة نفسه وأعماله بـ”بطرس الأكبر”[5]، وقد سبق أن شرحت في مقال سابق، الروابط العاطفية والتاريخية بين بوتين وبطرس الأكبر، في مقال تحت عنوان: «ديسمبر المشؤوم.. كيف أراد بوتين أن يغير قدر روسيا عبر أوكرانيا».

الفرضية الأولى: بوتين يود توسيع أراضي روسيا

تبدو هذه الفرضية ضعيفة لأسباب عدة. يدرك بوتين- بغض النظر عن طموحاته وأحلامه- أن عالم اليوم ليس هو عالم عام 1721، عندما أعلن بطرس الأكبر قيام الإمبراطورية الروسية، ولا عام 1922، بعد انتصار البلاشفة في الحرب الأهلية، وسيطرتهم على غالبية أراضي الإمبراطورية السابقة، وإعلان قيام الاتحاد السوفيتي رسميًّا. إلى جانب ذلك، هناك موانع لوجستية وسياسية تحول دون تحقيق هذا “الحلم”، أهمها أن إضافة أراضٍ جديدة إلى روسيا، ذات المساحة المفرطة بالفعل، سيضيف أعباء جديدة على الحكومة الفيدرالية في موسكو، ليست اقتصادية وحسب؛ بل سياسية أيضًا، من حيث الوضع القانوني لتنظيم هذه الأراضي الجديدة، ووفق أي صيغة ستكون جزءًا من الاتحاد الروسي، وما سيفرضه هذا الضم من تحديات سياسية ستدفع البلاد نحو إعادة توزيع للسلطة والثروة، يصعب معها حفاظ الكرملين على طابع الحكم الفردي المركزي الذي يتمتع به، وهو ما لا يبدو أن لديه استعدادًا للتخلي عنه مهما كانت الإغراءات.

ما يرجح هذه الفرضية، عدم سيطرة روسيا على شرق أوكرانيا وجنوبها، بعد أحداث الميدان في كييف عام 2014، حيث ثارت هذه المناطق، ولم يكن هناك وجود للجيش أو الشرطة الأوكرانيين، وأغلبية السكان كانوا مؤيدين لروسيا والرئيس المعزول فيكتور يانوكوفيتش، لكن الكرملين اكتفى- في ذلك الوقت- بالسيطرة على شبه جزيرة القرم.

كانت لدى موسكو فرصة للسيطرة على المناطق الشرقية والجنوبية في أوكرانيا، دون إطلاق رصاصة واحدة تقريبًا كما حدث في القرم، وكان لديها مستند قوي؛ حيث طلب الرئيس الشرعي- آنذاك- يانوكوفيتش، بموجب “معاهدة الصداقة الروسية- الأوكرانية”، تدخل الجيش الروسي لـ”حماية أوكرانيا”، وقد صرحت موسكو بذلك رسميًّا[6]، لكنها رفضت هذا المطلب الذي لبته لاحقًا في كازاخستان، عندما طالبها الرئيس قاسم توكايف بالتدخل لحماية أمن البلاد، في يناير (كانون الثاني) 2022، وكذلك في سوريا عام 2011، وكانت حجتها- آنذاك- أن هذا التدخل جاء بناءً على طلب من “السلطة الشرعية” في دمشق.

رغم عدم قبولها التدخل العسكري، طرح كثير من حلفاء روسيا في أوكرانيا، وأيدهم في ذلك كثير من السياسيين والمفكرين الروس، عدم الاعتراف بالسلطة الجديدة في كييف، وإعلان يانوكوفيتش حكومة منفى شرعية في موسكو، أو في المناطق الشرقية التي سيطر عليها حلفاؤها في الدونباس، ولكن الكرملين رفض هذا المقترح أيضًا، واعترف بأن بترو بوروشنكو هو الرئيس الشرعي الجديد للبلاد، ووقع بوتين معه «اتفاقيات مينسك» عام 2014، وما أنتجته من اتفاقيات وبروتوكولات تعاون أخرى، وظلت تؤكد- حتى قبل أسبوع من بدء الحرب- “وحدة أراضي أوكرانيا”. أما قرار “ضم” مناطق أوكرانية أربع إلى روسيا، فقد صدر فقط في شهر سبتمبر (أيلول) 2022، وكان مرتبطًا- إلى حد كبير- بآثار التراجع العسكري في خاركوف، وغيرها من المناطق في الشرق.

أمر آخر قد يكون من المفيد ذكره؛ في الثاني من أبريل (نيسان) 1996، وبعد طلب وإلحاح من رئيس بيلاروس، ألكسندر لوكاشينكو، وقعت موسكو ومينسك اتفاقية إقامة «دولة اتحادية» بين البلدين، وسُجِّلَت اتفاقيةً دوليةً تحت رقم (5300)[7]، وفقط بعد مرور 25 عامًا على توقيعها، بدأت موسكو عام 2021، بالتحدث عن بدء الشروع في التحضير لإقامة هذه الدولة الاتحادية عام 2030. كان الدافع الروسي للتأجيل هو عدم رغبتها- كما سبق ذكره- في تحمل أعباء سياسية واقتصادية، بضم دول أو كيانات جديدة إلى أراضيها، وهو ما كررته بعدم ضم أبخازيا، وأوسيتيا الجنوبية، وترانسنيستريا، وغيرها من المناطق التي طالب سكانها بالانضمام إلى موسكو بعد استقلالهم فعليًّا عن الكيانات الجديدة التي تشكلت بعد تفكك الاتحاد السوفيتي.

الفرضية الثانية: إيقاف توسع حلف الناتو

طُرحت هذه الفرضية كأحد أسباب بدء روسيا الأعمال العسكرية في فبراير (شباط) 2022، لكن هذه الفرضية تبدو غير مقنعة في ظل وجود حلف الناتو بالفعل في بلدان البلطيق الثلاث (إستونيا، ولاتفيا، وليتوانيا)، وكذلك بولندا، وباقي بلدان الكتلة الشرقية لحلف وارسو سابقًا. كما أن بدء الحرب دفع- فعليًّا- السويد وفنلندا المحايدتين إلى طلب الانضمام إلى الحلف.

من الناحية القانونية، لم تكن أوكرانيا مؤهلة للانضمام إلى الناتو، في ظل وجود نزاع مسلح داخلي، وكان الوعد بضمها أقرب إلى الوعد بضم تركيا إلى الاتحاد الأوروبي. قدم “الشركاء” الغربيون- كما تصفهم موسكو في خطابها الرسمي- عدة مقترحات وتطمينات بهذا الاتجاه، وكان يمكن التوصل إلى كثير من الحلول الوسط. وعلى أي حال، لم يكن هناك خطر وشيك يدفع إلى ضرورة بدء أعمال عسكرية بهذا الحجم؛ ففعليًّا، كانت أوكرانيا، قبل 24 فبراير (شباط) الماضي، أقرب ما تكون إلى الدولة الفاشلة، وكان اقتصادها منهكًا، وحلف الناتو في حالة تفكك، ولا يوجد أي استعداد لدى أي دولة غربية لتقديم دعم لها.

الفرضية الثالثة: تغيير النظام العالمي

بعدما استنزفت موسكو فرضياتها بشأن “العملية العسكرية الخاصة”، وما بدا من عدم واقعية الحديث عن “نزع النازية”، أو “تغيير السلطة في كييف”، راجت نظرية مفادها أن “روسيا تسعى إلى تغيير شكل النظام العالمي”، وبناء نظام عالمي جديد قائم على التعددية القطبية، وأن هذه الحرب هي المفتاح لتحقيق هذا الهدف. فعليًّا، لم تتبنَ موسكو حتى الآن أي أيديولوجية مناهضة للرأسمالية الغربية، وما زالت تحتفظ- على الأقل في الشكل- بالنظام السياسي الديمقراطي التمثيلي التعددي المستنسخ من الغرب، بل كثيرًا ما انتقدت الولايات المتحدة؛ لعدم التزامها بمعايير التجارة الحرة، وغيرها من معايير هذا النظام الدولي. كذلك لا تمتلك موسكو (ولا تدعي) أن لديها نموذجًا اجتماعيًّا أو اقتصاديًّا أو سياسيًّا بديلًا عن النموذج الغربي، أو تصورًا لشكل النظام العالمي الجديد؛ بدلًا من ذلك، يركز كل نضالها وخطابها السياسي على بقاء هذا النظام، مع إجراء تعديلات عليه تسمح لروسيا بأن تكون طرفًا فاعلًا فيه، لا طرفًا هامشيًّا كما هو وضعها منذ العام 1991.

الاستنتاجات

بناءً على ما سبق، وبعد تحليل للخطاب السياسي الروسي على مدار عام كامل من بدء هذه الحرب، ومقارنته بالتصرفات الفعلية على الأرض، يمكن استخلاص النتائج التالية:

  1. لم يكن الهدف الروسي الأولي من خوض هذه “الحرب”، أو “العملية العسكرية الخاصة”، هو الاستحواذ على مزيد من الأراضي، بل يمكن القول أن إضافة أراضٍ جديدة مدمرة، خالية من السكان باستثناء بعض العجائز، ودون اعتراف عالمي بحيازتها، وفي ظل التدهور الديمغرافي الذي تعانيه روسيا، بما لا يمكنها من توطين الروس فيها، والحاجة إلى أموال طائلة لإعادة إعمارها وتأهيلها وسط تعرضها لخطر الهجوم بشكل يبدو دائمًا من جانب أوكرانيا، إلى جانب المشكلات اللوجستية والسياسية الأخرى، كل ذلك يمثل عبئًا على موسكو لا يمكنها تحمله، والعائد أقل بكثير من الخسائر المتوقعة.
  2. يبدو أن حسابات موسكو كانت مبنية على تحليلات غير موفقة، من قبيل “سيستقبل الأوكرانيون الجيش الروسي بالورود”، ولن “نكون بحاجة إلى سوى عملية عسكرية محدودة”، متعمدة في ذلك على أجواء عام 2014، دون إدراك لحقائق الأوضاع ومتغيراتها على الأرض، إلى جانب رؤية بدت راسخة لدى صانع القرار الروسي بأن “الغرب الجماعي في حالة تدهور”، وحلف الناتو “أصبح شيئًا من الماضي”، وأوروبا “لن تخاطر برفاهيتها الاقتصادية لصالح دعم أوكرانيا”، ولا يمكن لبقية أطراف المنظومة الغربية “الثقة بالولايات المتحدة، بعد انسحابها من أفغانستان”، الذي صُوِّرَ في روسيا على أنه “علامة قوية على الضعف الأمريكي، وانحسار قوة واشنطن العالمية”.
  3. كان الخطاب السائد في الإعلام والمجتمع السياسي الروسي، يصف أوكرانيا بالدولة “الفاشلة”، ويصف جيشها بأنه عبارة عن “ميليشيات من المتطرفين القوميين”، وحكومتها “مجموعة من المسخ التابع للغرب يقودها مهرج”؛ ولهذا فلن تقوى على المواجهة، وعند حدوثها ستصاب القيادة الأوكرانية بالشلل، وهو ما سينعكس على باقي المناطق والأطراف التي ستستلم دون قتال يذكر، وهو ما ثبت عدم صحته.
  4. التصور الأقرب إلى الواقع، وهو ما تشير إليه كثير من الدلائل التي ذُكِرَت فيما يخص (دوافع روسيا)، أن الهدف من هذه العملية كان الاستحواذ (السياسي) على أوكرانيا بكاملها، لا الاستحواذ (الجغرافي) على كل/ أو بعض أراضي أوكرانيا، من خلال تحرك عسكري سيؤدي إلى صدمة في كييف، وسط عجز غربي عن تقديم المساعدة، سينتج عنه مسارعة الغرب إلى طلب التفاوض مع موسكو، وستطرح الأخيرة شروطها وصولًا إلى اتفاقيات أمنية واقتصادية جديدة، وضمان تبعية القرار السياسي الأوكراني لموسكو، لتصبح أقرب إلى النموذج البيلاروسي، وإعادة تشكيل المشهد السياسي في كييف بما يضمن تبعية أوكرانيا- تبعيةً مستمرةً ومستقرةً- لروسيا؛ ومن ثم الانسحاب من أوكرانيا.
  5. يبدو واضحًا أن المخطط الروسي كان يعتمد على ما سبق من تثبيت سلطة تابعة لموسكو في كييف. يعقب ذلك إخضاع كازاخستان، وجورجيا، ومولدوفا، من خلال قوة رد الفعل لما حدث في أوكرانيا، إلى جانب بيلاروس الخاضعة لقرار موسكو، وما سينتج من تفاعلات عن كل هذه العملية من إخضاع ناعم لباقي بلدان آسيا الوسطى وجنوب القوقاز، وهذا ما كان الكرملين بحاجة إليه: (دول مستقلة اسميًّا، لكنها تابعة وتدور في فلك الاتحاد الروسي عمليًّا)، دون تحمل عبء حكمها بشكل مباشر، وحل إشكالاتها الاقتصادية والسياسية الداخلية المعقدة، وترك هذه المهمة لوكلاء محليين يديرونها، يستمدون دعمهم وشرعيتهم من موسكو.
  6. الحصول على اعتراف أوكراني ودولي بتبعية شبه جزيرة القرم، وتأمين ممر بري من روسيا إلى القرم غير خاضع لأوكرانيا، لحل الإشكالات اللوجستية التي تعوق روسيا عن تطوير المنطقة نتيجة عدم وجود اتصال جغرافي بري معها.
  7. حال تحقق النموذج السابق ذكره، كانت موسكو ستخرج من هذه المواجهة محققة لجميع طموحات بوتين بإعادة تشكيل إمبراطورية بقيادة موسكو، ولكن وفق نمط عصري جديد يختلف عن الإمبراطورية الروسية (1721-1917)، والاتحاد السوفيتي (1922-1991)، أي سيطرة تحقق جميع الأهداف الجيوسياسية لروسيا دون تحمل أعباء تضعفها مع الوقت.
  8. وفق مخطط «إستراتيجية الطاقة الروسية 2030»، الصادرة عام 2010، كان الاستثمار السياسي الروسي، وجزء كبير من النضال الجيوسياسي في المجال ما بعد السوفيتي، طيلة العقدين الماضيين، من أجل تأمين أسواق صادرات الطاقة الروسية. كما قال المارشال الراحل محمود غارييف: “الأمن في نظر روسيا يعني- أولًا وقبل كل شيء- أمن الطاقة وأسواقها المستهدفة”، كما ورد في مقدمة إستراتيجية الأمن القومي الروسي، التي شارك في صياغتها عام 2007[8].
  9. تأمين أسواق الطاقة يعني السيطرة على الممرات البحرية والبرية التي تمر منها أنابيب الغاز والنفط، والشاحنات الروسية، إلى الأسواق المستهدفة في أوروبا، وصولًا- وفق استراتيجية (2030)- إلى اعتماد أوروبي كامل على الموارد الروسية اعتمادًا يصعب التراجع عنه. عند النظر إلى الخريطة، يمكن فهم الأمور فهمًا أوضح وأسهل، وتخيل الواقع الجيوسياسي الجديد (المفترض) إذا حققت روسيا هذه النظرية:
  • ستمر خطوط الغاز الطبيعي من بحري آزوف والأسود إلى دول شرق أوروبا وتركيا، وشبه جزيرة البقان، في ظل سيادة روسيا.
  • وضع بلدان البلطيق الثلاثة تحت السيطرة، بما يسمح بعمل خطي (نورد ستريم) إلى ألمانيا، ومنها إلى بلدان شمال أوروبا، بشكل آمن.
  • من أراضي بيلاروس وأوكرانيا تمر خطوط الغاز والنفط إلى أوروبا الغربية.
  • عبر كازاخستان، وبلدان جنوب القوقاز، وبيلاروس، وأوكرانيا، تصبح جميع المنافذ البحرية والبرية بين الصين والاتحاد الأوروبي في كلا الاتجاهين تحت هيمنة روسية كاملة.
  • الاتجاه شرقًا بعد تأمين الاتجاه الغربي، من خلال توسيع نشاط خط الغاز الطبيعي «سيلا سيبيري»، إلى الصين، والضغط على اليابان، وصولًا إلى توقيع (معاهدة سلام)، وتمديد خطوط الغاز الطبيعي إليها، وصولًا إلى الكوريتين، وفتح اتجاه جديد في آسيا.
  • استغلال الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، والهيمنة على بلدان آسيا الوسطى، والعلاقة المميزة مع الهند، وحاجة الأخيرة إلى موازنة علاقات موسكو مع بكين، من خلال خطوط للغاز الطبيعي تصل إلى شبه القارة الهندية، ومنطقة جنوب آسيا.
  • التحكم في إمدادات الغاز الطبيعي والنفط في جمهوريتي تركمانستان وأذربيجان، بحيث تُسَوَّق من خلال شركات روسية، وبما لا يتعارض مع مصلحة موسكو؛ لضمان سيطرتها على هذه السوق الكبيرة.
  • الحفاظ على الشراكة مع الصين وتعزيزها، مع ضمان عدم تحول القوة الاقتصادية الصينية المتنامية- بجانب النمو الديمغرافي مقابل التدهور الديمغرافي الروسي- إلى عامل ضغط على روسيا، مما يخل بالتوازن بين البلدين؛ من خلال سيطرة روسيا على كل طرق التجارة البرية والبحرية بين الصين والاتحاد الأوروبي. ربما التوصيف الأدق لهذا الطموح الروسي، عبَّر عنه البروفيسور أندري فورسوف، بما ينبغي أن يسود في العلاقة بين موسكو وبكين، بعبارة: “نحن شعب مسالم، لكن قطارنا المدرع يقف على جانب الطريق”.
  • امتلاك روسيا ورقتي الطاقة والأمن في وجه الاتحاد الأوروبي؛ الطاقة لكونها المصدر الرخيص والأقرب الذي أُنفِقَت عشرات المليارات من البنية التحية لربط الطرفين أحدهما بالآخر، والأمن باعتبارها طريق الصين إلى أوروبا، وطريق الأخيرة إلى الصين، والمنطقة العازلة “الآمنة” بين الطرفين، القادرة على حماية أوروبا من أي تغول صيني مستقبلًا، وعبر أوروبا تضمن روسيا نموًّا اقتصاديًّا يمكنها من كبح أي طموحات صينية في أراضيها.
  • وفق هذه المعادلة، كانت موسكو تأمل تحقيق سيادة كاملة، وقلب الموقف الجيوسياسي لصالحها بعد تراجعها منذ عام 1991، والاستفادة الاقتصادية من جميع الخصوم؛ الهند والصين واليابان وكوريا الجنوبية من ناحية الشرق، والاتحاد الأوروبي من ناحية الغرب، وفتح البلاد للحصول على استثمارات وتقنيات حديثة من جميع الأطراف، وبدء التفاوض مع الولايات المتحدة وهي تمتلك القوة الكافية لفرض قواعد جديدة لتقاسم النفوذ حول العالم، وعودة حدود حلف الناتو إلى عام 1997، كما ورد في الإنذار الروسي قبيل الحرب.
  1. لم يكن السعي الروسي يهدف- فيما يبدو واضحًا- إلى تغيير في النظام العالمي؛ بل العودة إلى قواعد هذا النظام الذي تشكل بعد مؤتمر يالطا عام 1945، وخُرِقَ بعد تفكك الاتحاد السوفيتي لإعادة تقسيم مناطق النفوذ من جديد مع الولايات المتحدة وأوروبا، وفق المعادلة نفسها، لكن بصيغة جديدة.

الخاتمة

تدرك الولايات المتحدة جيدًا- هذا الطموح الروسي، وما سينتج عنه من تعاظم لقوة روسيا على المسرح العالمي، وهو ما يفسر- إلى حد بعيد- اندفاعها بجانب بريطانيا، وبولندا، وبلدان البلطيق، نحو دعم أوكرانيا، واتخاذ مواقف متشددة منذ اللحظة الأولى لدخول الجيش الروسي الأراضي الأوكرانية، حيث ساعدها الصراع الحالي على إعادة تنشيط حلف الناتو، وإمكانية ضم أعضاء جدد (السويد وفنلندا)، وتدمير الاستثمار الروسي طيلة العقدين الماضيين في خلق تكامل اقتصادي مع أوروبا، وسحب الأخيرة في اتجاه معركتها مع الصين، حيث بدت أوروبا غير متحمسة لدخول هذا الصراع، وتحاول تجنبه.

الاتحاد الأوروبي وُضِعَ بين المطرقة والسندان، ورغم كل الاستثمار الروسي في دعم التيارات اليمينية المحافظة، وما قدمته موسكو من وعود اقتصادية مغرية تبدو- نظريًّا- في صالح أوروبا، واستعادة دورها الاقتصادي والسياسي من جديد، فإن أي طالب أوروبي مبتدئ في مجال العلاقات الدولية، يدرك أن هذه “الصفقة” التي عرضتها موسكو، ستؤدي- فعليًّا- إلى شراكة روسية- أوروبية، وفي ظل هذه الشراكة ستصبح روسيا الجيش الأكبر، والدولة الأكبر مساحةً، وعدد سكان، ونفوذًا في كل أوروبا؛ ومن ثم ستصبح صاحبة اليد العليا في جميع ترتيبات الأمن والتعاون والاقتصاد في كل القارة الأوروبية؛ وعليه تحقق طموح بطرس الأكبر، وكل من جاءوا من بعده من أباطرة وقادة روس، بتكلفة لا تذكر، لتصبح روسيا سيدة أوروبا، وبوتين إمبراطورها؛ وبناءً عليه، إذا كانت المعادلة “تبعية” لموسكو مقابل واشنطن، فـ”التبعية” للأخيرة تحت شعار “التحالف الأطلسي”، ستكون لها الأفضلية؛ حيث هناك مشتركات في القيم، والأنظمة السياسية والاقتصادية، وكذلك الثقافة بين الطرفين، أكبر بكثير مما هي عليه مع موسكو؛ لذلك لم يكن أمام أوروبا من خيار آخر سوى الانخراط في هذه المعركة خلف الولايات المتحدة، وإن كان بوتيرة أقل اندفاعًا، لكنها تشهد تطورًا مع الوقت، وهو ما ظهر واضحًا من خلال قرار ألمانيا وفرنسا منح أوكرانيا أسلحة متطورة.

الصين، علاقتها مع موسكو أقل من تحالف، وأكبر من كونها مجرد صداقة وحسن جوار؛ يمكن وصفها بأنها “شراكة”- إلى حد كبير- لكن هذه الشراكة ستختل لصالح موسكو إذا حققت الأخيرة أهدافها، وأيضًا ستصبح الصين وحيدة في مرمى نيران أمريكا وحلفائها إذا انكسرت روسيا وخرجت من هذا الصراع مهزومة؛ لذلك يبدو الموقف الصيني الحذر، وما يشاع عن طرحها أفكارًا عامة لا ترقى إلى ما يمكن وصفه بمبادرات سلام، هدفه الحفاظ على هذا التوازن (ألا تنتصر روسيا بتحقيق أهدافها، وألا تتعرض لانكسار يمكن وصفه بأنه انتصار غربي).

أخيرًا، مَن المنتصر والمهزوم في هذا الصراع، بغض النظر عن نتائج العمليات العسكرية على الأرض التي اتخذت طابعًا إقليميًّا محدودًا في منطقة الدونباس بشرق أوكرانيا، والمناطق التي تم الاستحواذ عليها، وسواء بقيت أو تم التخلي عنها، قد يبدو واضحًا في ضوء ما تم شرحه من دوافع وأهداف لكل طرف. بقاء أوكرانيا تحت أي اسم، حتى لو اقتطعت كل أراضيها الشرقية، سيجعلها مسيطرة من ناحية الغرب على الحدود مع مولدوفا، ورومانيا، والمجر، وسلوفاكيا، وبولندا، وسيضع بيلاروس- حليفة موسكو- تحت الحصار، وسيعزل كلا البلدين عن أوروبا، حيث ستكون موسكو بحاجة (إلى ما تبقى من أوكرانيا) لمد أنابيب الغاز والنفط إلى أوروبا، أو تخضع لابتزازها بجانب تركيا، والأخطار بتعطيل هذه الخطوط أو تفجيرها في أي لحظة كما حدث في خطي (نورد ستريم). أما فيما يخص سيناريوهات الحل وإنهاء هذا الصراع، فهي مجرد تكهنات؛ إذ يبدو من الصعوبة بمكان وضع سيناريو أو أكثر متماسك يمكن الاستناد إليه في ظل هذا الوضع المعقد.

ما ورد في المقالة يعبر عن رأي الكاتب ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير


شارك الموضوع