الوضع في الشرق الأوسط حساس دائمًا، ولا سيما فيما يتعلق بمصير الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، الذي يشكل أحد أهم أسباب التوتر، واختلال الأمن القومي، والإنهاك الاقتصادي والاجتماعي لبلدان تلك المنطقة. وتتابع دول البلطيق (ليتوانيا، ولاتفيا، وإستونيا) القضية الإنسانية المتأزمة وانسدادها السياسي عن كثب؛ لما لهذه البلدان من علاقات مع إسرائيل من ناحية، ورغبة في الانفتاح على جميع أطراف المشكلة التي يتم تداولها في أروقة الاتحاد الأوروبي، وحلف الناتو، واللجان المُختلفة للأمم المتحدة، من ناحية أخرى؛ لذا نستعرض فيما يلي موقف الدول الثلاث من الصراع.
كانت ليتوانيا من بين أقوى مؤيدي إسرائيل في أوروبا خلال العقد الماضي، وعادةً فإنها لا تدعم المبادرات الفلسطينية للحصول على اعتراف في المنظمات الدولية. لكن يبدو أن هذا يتغير اليوم، فقد صوتت ليتوانيا لصالح قرار للأمم المتحدة، الذي وصف قرار الولايات المتحدة الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل بأنه غير قانوني. كما لم يشارك ممثلو الدولة في افتتاح السفارة الأمريكية في القدس.
وسبق هذا عام 2012، عندما منحت الأمم المتحدة فلسطين صفة دولة مراقب غير عضو. وصوتت لصالح الطلب الفلسطيني 138 دولة، فيما عارضته 9 دول، وامتنعت 41 دولة عن التصويت. وكانت ليتوانيا أحد البلدان التي قررت الامتناع عن التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وهذا موقف ينم عن تغير كبير وسريع لنظرة هذا البلد إلى الصراع، حيث سبقه في أكتوبر (تشرين الأول) 2011، أنها كانت من بين 14 دولة صوتت ضد عضوية فلسطين في منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو).
وعندما صوتت ليتوانيا ضد الطلب الفلسطيني في اليونسكو، نما الجدل في الأوساط السياسية الليتوانية بشأن خضوع الشعب الفلسطيني للاحتلال، وهذه مسألة مشابهة نسبيًّا لوضع الشعب الليتواني نفسه تحت السلطة السوفيتية؛ ولهذا يجب أن يتفهم ويتعاطف أبناء هذا البلد مع تطلعات الحرية للدول الأخرى. وقال آنذاك الخبير في شؤون الشرق الأوسط، إجدوناس راسيوس، من معهد العلاقات الدولية والعلوم السياسية بجامعة فيلنيوس: “لقد عشنا في ظل ظروف الاحتلال، لكننا كنا قادرين على العمل بشكل طبيعي، والالتحاق بالجامعات، ولدينا قدرة على إيجاد الوظائف، لكن الشعب الفلسطيني لا يمكنه أن يحصل على شيء من هذا”. لكن، من ناحية أخرى، قالت أصوات سياسية رسمية، وعلى رأسها السيدة/ داليا غريباوسكايتي، الرئيسة السابقة لليتوانيا: “ربما لن يكون من الممكن إجراء مقارنات، مع أننا نتفهم السعي من أجل الحرية، وندعم كل الدول التي تسعى إلى تحقيق ذلك سلميًّا”، وإن العلاقات مع إسرائيل، ومن خلفها الولايات المتحدة، مسألة سياسية مهمة جدًّا، ولا يمكن التعامل مع غضبتهما على أنها شيء عابر؛ لذلك فإن الامتناع عن التصويت في لجان الأمم المتحدة ربما يكون أفضل موقف الآن. لا سيما أنه موقف يتماشى مع ما تعتقده دول الاتحاد الأوروبي، التي فشلت في الإجماع على قرار موحد.
مهد الموقف السابق لمرحلة يمكن القول إنها جديدة لموقع الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي في خريطة السياسية الليتوانية، وعلى الرغم مِن عدم اعتراف ليتوانيا بدولة فلسطينية، فإنه قد سبق أن جرت مشاورات عام 2018 بشأن فتح مكتب تمثيل دبلوماسي للسلطة الفلسطينية هناك، مشابه لمكتب العلاقات الليتوانية مع فلسطين في رام الله. ورغم التقليل من قيمة هذه المشاروات أحيانًا فإنها كانت على رأس أولويات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في زيارة أجراها للعاصمة فيلنيوس في العام نفسه لإجراء حوارات مباشرة بشأن ما أسماه عدم التفهم الأوروبي للموقف الإسرائيلي إزاء الأراضي الفلسطينية، وكان الرد الرسمي الليتواني هو الاستمرار في تأييد موقف الاتحاد الأوروبي بشأن حل الدولتين للصراع الفلسطيني، ووضع القدس.
وبالتزامن مع زيارة نتنياهو، شنت الصحف الإسرائيلية حملة على ليتوانيا التي لم ترضخ لضغوط الجالية اليهودية وبياناتها التي تُطالب بدعم أكبر لإسرائيل، وسبق لها أنها لم تستجب لدعوات الجالية إلى التصويت ضد قرار يسمح لفلسطين بأن تكون عضوًا مراقبًا في الأمم المتحدة، ويسمح للسلطة الفلسطينية بالاشتراك في كثير من المؤسسات الأممية، والمحكمة الجنائية الدولية، واتهمت تلك الصحف ليتوانيا بأنها بلاد لم تعترف قط بالجرائم التي ارتكبتها خلال الهولوكوست، واستمرت في تكريم القوميين الذين تعاونوا مع النازيين، كما حاكمت يهودًا قاتلوا مع القوات الحزبية ضد النازيين.
ليتوانيا- بلا شك- حليف للولايات المتحدة، ولها علاقات ودية مع إسرائيل، ولكنها تأخذ في الحسبان آراء الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي المتعلقة بالصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، وفي الوقت نفسه تسعى ( أي ليتوانيا) إلى التمسك بمبدأ التعددية في العلاقات الدولية بين كل الأطراف، فإن أخذت منحى أحادي الجانب لصالح أي من طرفي النزاع، سيشكل ذلك خطرًا على الدولة الصغيرة، لكن موقفها الآن المتفهم والمتقبل للمصالح والحقوق الفلسطينية يعد تقدمًا كبيرًا يضمن تحقيق المكاسب للطرف الخاضع للاحتلال، مع الإبقاء على الموقف الليتواني الحالي متوازنًا وداعمًا للقانون الدولي.
فيما يتعلق بالصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، تلتزم لاتفيا بإجماع الاتحاد الأوروبي، وتتخذ “موقفًا متوازنًا” في حدود مقدورها، مثل الامتناع عن التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2012 لمنح فلسطين وضع “دولة غير عضو”، والتصويت في ديسمبر (كانون الأول) 2017 الذي أدان اعتراف الولايات المتحدة بالقدس عاصمة إسرائيل.
انتقدت ريغا كثيرًا ما وصفته بالقوة “غير المتناسبة/ المميتة” التي تستعملها تل أبيب ضد قطاع غزة، بل كانت أكثر حِدة دبلوماسية تجاه المؤسسات الأممية التي أصدرت على مر السنين كثيرًا من القرارات التي تُدين إسرائيل، وتدعو إلى استئناف عملية السلام. لكن هذه القرارات لم تساعد على التوصل إلى عملية سلام شاملة، ومن الأفضل اللجوء إلى المفاوضات المباشرة بمشاركة جميع الأطراف ذات الصلة؛ لأن القرارات لا يمكن أن تحل محل عملية السلام. وقد وصف وزير الخارجية اللاتفي إدغار رينكفيكس القرارات الأممية كالتالي: “هذه مستندات لطيفة جدًا نأخذها، بالطبع، على محمل الجد، لكننا لا نعتقد أن هذا النهج يُساعد حقًا على السلام”.
موقف العاصمة ريغا لا ينحاز إلى أي طرف. ويُحاول أن يكون مفيدًا قدر الإمكان في حدود تأثيره في الاتحاد الأوروبي، أو في الأمم المتحدة، ولا تنوي الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، لكنها لا تفكر أيضًا في الاعتراف بدولة فلسطينية في هذه المرحلة.
تُركز إستونيا على حل المشكلات الإنسانية والمعيشية للفلسطينيين بوصفها الأولوية في الوقت الحالي، مع الإشارة إلى ضرورة الاستمرار في العملية السياسية لتحقيق السلام الشامل، حيث تؤدي الحروب المتكررة التي يشنها الجانب الإسرائيلي إلى عواقب سلبية، ليس في الشرق الأوسط فقط؛ ولكن على نطاق أوسع يشمل المجتمع الدولي.
وتشارك إستونيا في مؤتمرات إعادة الإعمار المتعلقة بقطاع غزة والأراضي المحتلة في فلسطين، وقد تبرعت عامي 2009 و2014 لصالح وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، وأسهمت في مشروعات بالتعاون مع السلطة الفلسطينية تتعلق بإصدار الهويات الإلكترونية.
تأخذ إستونيا موقفًا متماشيًا مع الاتحاد الأوروبي وأغلبية المجتمع الدولي فيما يتعلق برفض سياسة الاستيطان الإسرائيلية، وترى أن هذه المستوطنات تتعارض مع القانون الدولي، وعقبة أمام السلام، ولن تتم الموافقة عليها كطريقة مشروعة لتعزيز المصالح الإسرائيلية، كما تؤيد إقامة دولة فلسطينية إلى جانب دولة إسرائيل (حل الدولتين)، واحترام حقوق الشعب الفلمصططفي سطيني السياسية والاقتصادية.
أخيرًا، إن المواقف الأكثر إيجابية التي تبديها بلدان البلطيق من أجل التوصل إلى اعتراف بدولة فلسطينية، ووقف التصعيد العسكري الإسرائيلي، والتوصل إلى سلام شامل يضمن استقرار الشرق الأوسط، هي انعكاس للاتجاهات والأفكار التي تزيد شعبيتها في أوروبا. ومع ذلك، فإن توازنات القوى والمصالح مع الولايات المتحدة وإسرائيل قد تمنع هذه البلدان من إظهار دعم أقوى لقضايا السلام والاستقرار في الشرق الأوسط.
1- توسيع العلاقات العربية عمومًا، والفلسطينية خصوصًا، مع بلدان البلطيق له أثر إيجابي في قضايا الشرق الأوسط.
2- التواصل مع بلدان البلطيق يضمن وصول الصوت الفلسطيني إلى المؤسسات الأممية، وداخل الاتحاد الأوروبي، وحلف الناتو.
3- العلاقات الفلسطينية- الإسرائيلية بحاجة دائمة إلى توازن قوي وعدد داعم من الدول في الهيئات والمؤسسات الأممية.
4- المسار السلمي لحل القضية الفلسطينية يحتاج إلى أعضاء فاعلين وناشطين في مختلف المؤسسات الأممية والإقليمية ذات القرار والتأثير، وهذا ما تتمتع به دول البلطيق؛ بسبب عضويتها في الاتحاد الأوروبي، وحلف الناتو، والأمم المتحدة.
5- لا تعاني بلدان البلطيق اضطرابات سياسية واسعة، أو انهيارات اقتصادية؛ ومن ثم فإن العلاقات الودية معها لن تحتاج إلى تكاليف مادية بقدر ما تحتاج إلى حوارات مباشرة لتوضيح المواقف والسياسات.
6- قد يساعد التقدم التكنولوجي على رفع العبء البيروقراطي عن الأراضي المحتلة في فلسطين.
ماورد في المقالة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير