تقدير موقف

تحليل الموقف الصيني من الأزمة الروسية الأوكرانية



شارك الموضوع

تاريخ العلاقات الروسية الصينية

يرجع تاريخ العلاقات الروسية الصينية إلى القرن الثامن عشر، في عهد حكم سلالتي «تشينغ» الصينية و«رومانوف» الروسية، حيث شهد إنشاء السفارة الروسية في بكين عام 1861، لتعود الحكومة الصينية وتفتتح سفارة رسمية لبلادها في مدينة سان بطرسبورغ عام 1887. غير أن العلاقات الصينية الروسية سرعان ما تصادمت، بداية القرن التاسع عشر، مع انضمام روسيا إلى «قوات حلف القوى الثماني» التي عملت على اجتياح الصين في محاولة لاحتلال شمال شرق الصين.

حتى أواسط القرن الماضي، غلب طابع عدم الوفاق على العلاقات الروسية الصينية نتيجة عوامل عدة، بدءًا من ثورة 1911 الصينية التي أطاحت بحكومة تشينغ، والحملة التي شنّتها القوات الروسية لغزو إقليم منغوليا الخارجية، ومرورًا بانهيار العلاقات بين حزب الكومنتانغ والحزب الشيوعي عام 1927- بعد انقلاب 12 أبريل (نيسان) المضاد للثورة الصينية- وطرد المبعوث السوفيتي من الصين. ووصولًا إلى «معاهدة الصداقة والتحالف الصينية السوفيتية» التي وقّعت في أغسطس (آب) 1945 لحل الخلافات بين الدولتين، تجد الصين أنّ الاتفاقية انتهكت سيادة الصين، وقسّمت مجال النفوذ، بتقرير استقلال “منغوليا الخارجية” نتيجة استفتاء شعبي.

عادت العلاقات الروسية الصينية واستقرّت في المرحلة اللاحقة من عهد «ستالين»، وذلك بعد اتفاق الطرفين على إبطال الاتفاقية السابقة، واستبدال «معاهدة الصداقة والتحالف والمساعدة المتبادلة الصينية السوفيتية»، الموقعة عام 1950، بها، فتطورت بذلك العلاقات الاقتصادية، كما تعزز التعاون العسكري خلال الحرب الكورية. أمّا عهد «خروتشوف» فأعاد العلاقات إلى نهج الجمود، والجفاء، والصراع الحدودي، نتيجة الانقسام الأيديولوجي الصيني السوفيتي بشأن التفسيرات والتطبيقات المختلفة للعقيدة “الماركسية اللينينية”، والتنافس على قيادة الشيوعية العالمية؛ هذا الانقسام الذي أسهم في تقارب العلاقات الصينية الأمريكية في السبعينيات.

لم تستقم العلاقات الروسية الصينية إلّا عند مشارف انتهاء الحرب الباردة “الثلاثية الأقطاب”، مع انهيار الاتحاد السوفيتي أوائل التسعينيات، فقد أدركت الصين وروسيا أهمية ترميم العلاقات وتوطيدها، بل تم الإتفاق على توحيد الموقف في وجه صعود النظام العالمي الأحادي القطب، و”هيمنة” الغرب المستفيد من الخلاف. من هنا، تم حسم مسألة القطاع الشرقي للحدود بين البلدين، والعمل على تأسيس علاقات صداقة وشراكة بنّاءة بينهما.

مع بداية عهد بوتين، تعززت العلاقات الصينية الروسية بعدما وقّع الجانبان على «المعاهدة الصينية الروسية لحسن الجوار والصداقة والتعاون» عام 2001، كما تم توحيد الرؤية والكلمة والموقف تجاه النظام العالمي، والعمل على تمكين العلاقات وتحويلها إلى شراكة إستراتيجية. فيما تقدّم، وجدنا من الضرورة إلقاء الضوء على أبرز النقاط التاريخية المفصلية في تاريخ العلاقات الروسية الصينية، للانطلاق منها كقاعدة لفهم أعمق وأشمل لطبيعة العلاقات الروسية الصينية، وركيزة للاستدلال على موقف الصين من الأزمة الروسية الأوكرانية.

طبيعة العلاقات الروسية الصينية

لا تحالف استراتيجيًّا أو عسكريًّا حقيقيًّا بين الصين وروسيا؛ وإنّما خلافات كبيرة مردّها المصالح والأهداف الإستراتيجية المختلفة بين “قطبي قوة” عالميين، وعلاقة تنافسية لطالما تأثرت واحتدمت بحكم الجوار الجغرافي بين الدولتين، ومساعي بسط النفوذ على المنطقة الأوراسية، والسيطرة على مفاصلها الإستراتيجية، فكان أن حدّد «ستالين» هدفين إستراتيجيين للاتحاد السوفيتي في الشرق الأقصى بعد الحرب العالمية، وهما: فصل منغوليا الخارجية عن أراضي الصين، وتشكيل منطقة أمنية واسعة لاستعادة دائرة نفوذ روسيا القيصرية في شمال شرق الصين، وضمان وصول الاتحاد السوفيتي إلى البحر والموانئ في المحيط الهادئ.

ومتى أخذنا اليوم خطاب الرئيس الروسي «فلاديمير بوتين» الأخير بشأن استقلال الجمهوريتين «دونيتسك» و«لوغانسك» عن أوكرانيا، نجد أنّ الذاكرة الجماعية الروسية لم تزل حاضرة بقوة في تشكيل سياسات روسيا الخارجية، كما لم تزل إمبراطورية روسيا القيصرية راسخة في ذهن “القيصر” الروسي الجديد. أمّا أخطر ما شدّد عليه خطاب «بوتين» فهو: عدم التسامح مع “الخيانة الشيوعية”، وعدم تكرار “خطأ ستالين”، الذي لا يشير في ظاهره فقط إلى المواجهة الروسية الأوكرانية، وعدم الهزيمة أمام الناتو. قد يحمل خطاب «بوتين» تنبيهًا مبطّنًا للصين بعدم إهمال روسيا لخطر الاختلاف الأيديولوجي بين النظامين الشيوعيين في تطبيق الديمقراطية الليبرالية الجديدة، والامتداد الكبير للنفوذ الاقتصادي الصيني في المحيط الأوراسي، وهو ما يحتّم على روسيا العمل على استعادة دائرة نفوذها في وجه التوسع الصيني شمال غرب الصين، ضمن حدودها القيصرية السابقة.

بالإضافة إلى ذلك، تجمع بين الصين وروسيا شراكة وثيقة سياسيًا، واقتصاديًا، وعسكريًا، يهدف من خلالها الطرفان إلى استصلاح آلية لإدارة الخلاف الصيني الروسي حتى لا يتحول إلى صراع، ويتفقان- من جهة ثانية- على هدف موحّد؛ هو هدم النظام الأحادي العالمي السائد بعد الحرب الباردة، وإعادة إنتاج نظام جديد متعدد الأقطاب؛ وعليه، تلجأ الصين وروسيا إلى تشبيك المصالح السياسية والعسكرية في إطار اتفاق سياسي ضمني بمساندة كل منهما الأخرى في وجه سياسة الغرب الاحتوائية للحدود الروسية والصينية، على نحو يضمن عدم الانكسار أمام “الهيمنة” الغربية، أو الانسياق نحو استغلال الولايات المتحدة للخلاف بينهما، واستخدام طرف ضد الآخر. وبموازاة ذلك، يعمل الطرفان كذلك على تشبيك المصالح الاقتصادية والتجارية في المنطقة، وهو ما تم ترجمته من خلال اتفاقية التعاون بين الصين و«الاتحاد الاقتصادي الأوراسي» الذي ترعاه روسيا لحماية مصالحها.

الشراكة الصينية الروسية الإستراتيجية

توّجت العلاقات الروسية الصينية مع بداية شهر فبراير (شباط) الحالي بعقد شراكة إستراتيجية “بلا حدود”، مع تعهد أعلنه الجانبان، في بيان مشترك، بمعارضة أي توسّع للحلف الأطلسي، ودعم أحدهما الآخر في مواجهة “الهيمنة” من خلال العقوبات الأمريكية الأحادية. وفي سياق البيان، أبدت الصين دعمها للمطلب الروسي المتمثل في ضرورة عدم ضم أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي، كما أكدت روسيا دعمها للموقف الصيني بشان قضية السيادة الصينية على تايوان. وقد صدر البيان الصيني الروسي خلال لقاء بوتين وجينبينغ، على هامش زيارة الرئيس الروسي إلى بكين للمشاركة في افتتاح دورة الألعاب الأولمبية الشتوية لعام 2022.

بيد أنّ أهم ما كشفت عنه “الشراكة الإستراتيجية” هو عقد حزمة من الصفقات يتجاوز عددها 15 اتفاقية، تم من بينها التوقيع على اتفاقية لتوريد الغاز الروسي إلى الصين من خلال خط أنابيب جديد (طاقته 50 مليار متر مكعب من الغاز سنويًا[1]). وقد نصّت أهم بنود الاتفاقية على: 1) إدارة شركة «غازبروم» الروسية (شركة مملوكة للدولة) للصفقة؛ 2) أن يتم توريد الغاز الروسي للصين بحجم 10 مليارات متر مكعب سنويا، على مدى 30 عامًا، بدءًا من عام 2026؛ 3) أن يتم هذا الإيراد من خلال خط الأنابيب الجديد الذي يصل جزيرة «سخالين» في الشرق الأقصى لروسيا بمقاطعة «هيلونغجيانغ» شمال شرق الصين، عبر بحر اليابان[2]؛ و4) أن تتم تسوية مبيعات الغاز بين الجانبين الصيني والروسي باليورو بدلًا عن الدولار الأمريكي.

الدعم الروسي للصين

يأتي هذا الاتفاق الروسي الصيني على نحو مكمّل للاتفاقية الصينية الروسية السابقة التي قدرت قيمتها بـ 400 مليار دولار عام 2014، وهدفت إلى إمداد الصين بـ 38 مليار متر مكعب من الغاز سنويًا لمدة 30 سنة، بحلول عام 2018. وإلى جانب التعاون في مجال الطاقة، تعددت المواقف الروسية السياسية والدبلوماسية الداعمة للصين، حيث التزمت روسيا تاريخيًا بعدم إقامة علاقات رسمية مع تايوان، كما أعلنت دعمها للسيادة الصينية على إقليم التيبت بوصفه جزءًا لا يتجزأ من الصين. ولم تتوان روسيا- العام الفائت- عن اتخاذ موقف رافض للدعوة الأمريكية إلى تشكيل تحالف دولي ضد الصين، بالرد أنّ الصين ”شريك مهم لروسيا“.

ويتصدر الدعم العسكري الروسي للصين قائمة التعاون بين البلدين، حيث دعمت روسيا الصين بالتقنيات العسكرية الروسية المتطورة من الغواصات والمدمرات، وتكنولوجيا الأسلحة التي استفادت منها الصين في تطوير طائراتها ومطاراتها، وبحريتها، وقدراتها الحربية والعسكرية، ودفاعها الجوي. في هذا الإطار، ساندت روسيا الصين في توجيه تحذير مشترك إلى الولايات المتحدة نتيجة العقوبات الأمريكية التي فُرضِت على إدارة تطوير المعدات التابعة لوزارة الدفاع الصينية، بسبب شراء الصين للمقاتلات الروسية من طراز سوخوي سو35، ومنظومة صواريخ أس400. ومؤخرًا، أخذ التعاون في قضايا الدفاع الصاروخي بين البلدين مستوى رفيعًا بعدما أعلن الرئيس الروسي التعاون مع الصين في إطلاق مشروع بناء مفاعلات روسية التصميم في محطات الطاقة النووية الصينية.

الدعم الصيني لروسيا ضمن العلاقات الروسية الصينية

تمكّنت الصين من إنقاذ روسيا من العقوبات التي فُرضت عليها عقب التدخل الروسي في شبه جزيرة القرم في أوكرانيا وضم الإقليم، بعدما عملت الصين على ضخ الأموال في الاقتصاد الروسي بموجب اتفاقيات تقدر قيمتها بملايين الدولارات في مجال الطاقة، بالإضافة إلى تعزيز التعاون التجاري والتكنولوجي بين البلدين. على المستوى التجاري، تعد الصين أكبر مصدّر للواردات الروسية، وأكبر وجهة لصادراتها التي يشكل السلاح الروسي منها نحو 70% من إجمالي واردات الصين من الأسلحة، كما تزوّد الصين روسيا بالإلكترونيات، والآلات والأدوات الصناعية، في مقابل ما تستورده من غذاء وطاقة. وقد أشار مساعد الرئيس الروسي «يوري أوشاكوف» إلى أن حجم التبادل التجاري بين روسيا والصين ارتفع هذا العام ليسجّل مستوى قياسيًا بقيمة 140 مليار دولار، وأكّد العمل مع الصين على زيادة حجم التجارة إلى 200 مليار دولار سنويًا.

وعلى مستوى العلاقات الثنائية، شكّلت مبادرة تسوية الخلاف الحدودي بين الصين وروسيا بشكل نهائي عام 2005، خطوة رئيسية نحو تطوير العلاقات الروسية الصينية وتوطيدها، كما عزّزت الصين التعاون والتنسيق الأمني مع روسيا في إطار مجموعة شانغهاي الخماسية. في المنحى الدبلوماسي، اتخذت الصين موقفًا داعمًا لروسيا في قضية الشيشان باعتبارها من الشؤون الداخلية التي تتعلق بوحدة الأراضي الروسية، لكن في الأزمة الأوكرانية الحالية، اختلف الموقف الصيني لجهة تأكيد احترام سيادة أوكرانيا، واعتبار أن للقضية الأوكرانية وضعًا تاريخيًا خاصًا ومعقدًا مع روسيا. وفي المقابل، أظهرت الصين تفهّمها للمخاوف الروسية الأمنية، ودعم موقفها المعارض لتوسع الناتو.

الموقف الصيني الرسمي من الأزمة

أعلنت الصين موقفها الرسمي من الأزمة الروسية الأوكرانية، من خلال بيان مؤلف من نقاط خمس محددة، شددت بموجبه على موقفها الثابت الداعي إلى احترام سيادة الدول، وسلامة أراضيها، والالتزام بأهداف ميثاق الأمم المتحدة ومبادئه، والاستمرار في معارضة جميع قوى الهيمنة بحزم، وحماية الحقوق والمصالح المشروعة للدول النامية الصغيرة والمتوسطة، كما دعت إلى ”رؤية أمن مشترك، شامل، تعاوني، ومستدام“.

وفي الشأن الروسي، وافقت الصين روسيا في أنّ ”أمن الدولة لا يمكن ضمانه على حساب أمن الدول الأخرى“، ودعت إلى ”وجوب التعامل مع مطالب روسيا الأمنية المشروعة على محمل الجد، ومعالجتها بشكل مناسب، ووجهت إلى الحلف الأطلسي رسالة معارضة ضمنية بأنّه ”لا يمكن ضمان الأمن الإقليمي من خلال تعزيز أو توسيع الكتل العسكرية“، كما دعمت الحوار بين الاتحاد الأوروبي وروسيا بشأن قضايا الأمن الأوروبي، على قدم المساواة بين الجانبين، وعلى نحو يؤدي إلى توازن وفعالية، وتحقيق آلية أمن أوروبية مستدامة.

أمّا في الحرب الروسية الأوكرانية، فقد استنكرت الصين الأزمة الحالية، وشددت على ضرورة منع تدهور الوضع وخروجه عن نطاق السيطرة؛ من خلال محافظة جميع الأطراف على ضبط النفس اللازم، وحماية أرواح المدنيين وممتلكاتهم، ومنع حدوث أزمة إنسانية واسعة النطاق. وقد أبدت الصين دعمها وتشجيعها لجميع الجهود الدبلوماسية للتوصل إلى حل سلمي للأزمة، كما رحّبت بالحوار والمفاوضات المباشرة بين روسيا وأوكرانيا. وفي الشأن الأوكراني، أبدت الصين تفهمها ”للسياق التاريخي الخاص والمعقد“ للقضية الأوكرانية، معلنة رؤية الصين بأن تصبح أوكرانيا جسرًا بين الشرق والغرب.

وفي توضيح لموقفها الحيادي في مجلس الأمن تجاه الحرب الروسية الأوكرانية، والامتناع عن التصويت، أشار البيان إلى أن الصين رفضت دائمًا قرارات مجلس الأمن التي تستدعي ”دون مبرر“ الفصل السابع للسماح باستخدام القوة والعقوبات. في المقابل، أكّدت الصين أنها تمارس دورها وعضويتها في مجلس الأمن كـ ”قوة مسؤولة“ أوفت دائمًا بالتزاماتها الدولية بأمان، وأدت دورًا بنّاءً في حماية السلام والاستقرار العالميين، والتزام طريق التنمية السلمية لبناء مجتمع ومستقبل مشترك للبشرية.

وكان اللافت في البيان الصيني توجيه النقد الحاد إلى مجلس الأمن على اعتبار أنه يجب أن يؤدي دورًا بنّاءً في حل قضية أوكرانيا، مع إعطاء الأولوية القصوى للسلام والاستقرار والأمن الإقليمي، على مستوى الإجراءات الهادفة إلى تهدئة التوترات بدلً من ”زيادة الوقود على النار“، أو على مستوى تعزيز الحل الدبلوماسي بدلًا من زيادة التصعيد في الموقف.

المواقف الدبلوماسية الصينية تجاه الأزمة في أوكرانيا

على الرغم من الموقف الرسمي الحيادي من القضية الأوكرانية، الذي التزمت به وسائل الإعلام التابعة للدولة الصينية، فإنه منذ بداية التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا تباينت المواقف الدبلوماسية الصينية بين سفارتي الصين في كل من روسيا وأوكرانيا؛ فبينما التزمت السفارة الصينية في أوكرانيا الصمت حيال الأزمة، واكتفت بتوجيه السفير رسالة مصورة إلى الرعايا الصينيين في أوكرانيا لمساندتهم، وتذكيرهم بضرورة الالتزام بتوجيهات السلامة، وعدم مغادرة أوكرانيا إلى حين اتخاذ السفارة الترتيبات الأمنية المناسبة لإجلائهم، شنّت السفارة الصينية في روسيا، من خلال موقعها على «تويتر»، حربًا إعلامية شرسة على سياسة الولايات المتحدة الأمريكية؛ إذ أشارت عبر صورة كاريكاتورية إلى أنّ الولايات المتحدة تتهم الصين بعدم صب جهودها لحل الأزمة، في حين أنّ سبب عدم قدرة الصين على إطفاء شعلة الحرب في أوكرانيا هو استمرار الولايات المتحدة في صب الزيت فوق النار، وهو ما وصفته بالتصرف ”غير المسؤول، وعديم الأخلاق“.

هاجم المتحدث باسم الخارجية الصينية- بدوره- في تغريداته على “تويتر” الولايات المتحدة، وكان أبرزها مشاركة لائحة بجميع التدخلات العسكرية الأمريكية منذ الحرب العالمية الثانية، مرفقة بعبارة “التاريخ لا ينسى”، بالإضافة إلى بيان إحصائي أظهر أن 81% من الحروب التي وقعت بين عامي 1945 و2001، والتي يبلغ مجموعها 201 نزاع مسلح، من أصل 248، في 153 دولة حول العالم، شنّتها الولايات المتحدة الأمريكية.

أعلن وزير الخارجية الصيني- من جهته- تأكيد الصين وجوب التخلي تمامًا عن عقلية الحرب الباردة، في ظل قراءات سياسية اعتبرت الهجوم الغربي على التدخل الروسي في أوكرانيا يحمل رسائل لبكين وتحذيرات مبطنة حيال الموقف الصيني من إقليم «تايوان». وفي بيان شديد اللهجة لوزارة الخارجية، بتاريخ الأول من مارس (آذار)، هدّدت الصين الولايات المتحدة من محاولة ترهيب الصين والضغط عليها عن طريق تضخيم مرور سفنها الحربية عبر مضيق تايوان بقصد إرسال رسالة لدعم “استقلال تايوان”، ووجهت ”التحذير الصارم: ما يسمى بالردع العسكري سوف يتحول إلى نفايات حديدية عند مواجهة السور العظيم الحديدي المتكون من 1.4 مليار صيني“[3]. وكانت وزارة الدفاع الصينية قد صرّحت في هذا الإطار بتاريخ 26 فبراير (شباط)، أنّ الجيش الصيني “لن يتوقف” عن تحركاته ضد منطقة تايوان الصينية ما لم يوقف الانفصاليون استفزازهم. وفي حين تدرس الصين آليات إعادة دمج تايوان في الصين، مع المحافظة على حقوق التايوانيين، دعت إلى إنشاء آلية أمن أوروبية متوازنة، وفعالة، ومستدامة من خلال الحوار والتفاوض.

هل تغير الموقف الصيني من الأزمة الأوكرانية؟

شكّل مسار تطور النزاع الروسي الأوكراني عنصر مفاجأة للصين، كما لروسيا، من حيث عدم إدراك مدى دعم الناتو لأوكرانيا، وحجم الاستعداد الأوكراني للحرب، في حين كشفت بعض الأوساط الإعلامية تقديم الولايات المتحدة معلومات استخباراتية للصين عن الحشد العسكري الروسي، والاستعداد الروسي للحرب. وعلى الرغم من البيانات الاستخباراتية، فإن الصين التزمت في تصريحها الأوّلي الموقف الموافق للسياسة الروسية بأنه ما من حرب، وأنّ التحركات العسكرية ليست غزوًا لأوكرانيا؛ وإنما إجراءات أمنية روسية ردعية.

مع توغّل القوات العسكرية الروسية في الداخل الأوكراني، وتوسّع مسرح العمليات العسكرية نحو العاصمة الأوكرانية كييف، وتطور حدّة النزاعات المسلحة، أدركت الصين وجوب تعديل موقفها الداعم لروسيا إلى اتخاذ موقف حيادي وصفته بـ “المسؤول”، النابع من دورها في الأمم المتحدة، وعضوية مجلس الأمن. ويبدو أنّ الصين أيقنت أن دعم التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا غير متناسب مع قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 3314/1974 الذي يوصّف العدوان بأنّه “استعمال القوة المسلحة من جانب دولة ما ضد سيادة دولة أخرى، أو سلامتها الإقليمية، أو استقلالها السياسي، أو بأي طريقة أخرى تتعارض مع ميثاق الأمم المتحدة”.

ونتيجة التطورات الميدانية والسياسية، أكّدت الصين دعوتها إلى احترام سيادة أوكرانيا، وسلامة أراضيها وشعبها، رغم تصريحها عن خصوصية القضية الأوكرانية وتعقيدها، حيث تخدم هذه التصريحات حسابات الصين الإستراتيجية للحفاظ على علاقة مستقبلية جيدة مع أوكرانيا من جهة، وعلى موقف متفهم للدوافع الروسية من جهة أخرى. وقد سلّحت الصين موقفها بمعارضة أي عمل “يشعل الحرب” أو يغذيها من خلال تسليح أوكرانيا، وهو ما عادت الصين وأوضحته في سياق اتهام المتحدثة باسم الخارجية الصينية «هوا تشون يينغ» الولايات المتحدة بإرسال أكثر من ألف طن من الأسلحة والذخائر، لا تقل قيمتها عن 1.5 مليار دولار.

تحليل الموقف الصيني بين مساندة روسيا وحماية مصالح الصين في أوكرانيا

المصالح الصينية في أوكرانيا

للصين مصالح إستراتيجية كبرى في أوكرانيا، ترجع إلى عدة عوامل، منها موقع أوكرانيا، ومواردها، وعلاقتها التجارية بالاتحاد الأوروبي، المعززة بفعل اتفاقية التجارة الحرة. تمثل أوكرانيا محطة مهمة للصين على طريق الحرير الجديد في خدمة السكك الحديدية السريعة بين الصين وأوروبا، وهو ما دفع الصين إلى عقد اتفاقية تعاون مع أوكرانيا في مجالات تشمل تمويل وإنشاء البنية التحتية. وعلى إقليم «دونيتسك»، وقعت الصين صفقة مع أوكرانيا لبناء محطة طاقة رياح بقدرة 800 ميجاوات، وبقيمة مليار دولار أمريكي مع شركاء أوكرانيين محليين داخل الإقليم، كانت ستكون أكبر حديقة رياح برية في أوروبا.

على المستوى التجاري، أصبحت الصين أكبر شريك تجاري منفرد لأوكرانيا بحلول عام 2019، كما تعد الصين أكبر مستورد للشعير الأوكراني، وثاني أكبر مستورد للقمح الأوكراني، فيما تشكل صادرات الذرة الأوكرانية نحو 30% من واردات الذرة الصينية. أمّا اقتصاديًا، فبلغ إجمالي الاستثمار المباشر من جانب الشركات الصينية في أوكرانيا 150 مليون دولار بنهاية عام 2019، وفقًا لبيانات صينية، و75.7 مليون دولار في مشروعات في أوكرانيا بعد منتصف عام 2020، وفقًا لسفارة أوكرانيا في الصين.

كيف تهدد الأزمة الروسية الأوكرانية مصالح الصين؟

لا تقتصر أخطار النزاع الروسي الأوكراني على التهديدات التي تطول مصالح الصين في الموارد والسلع المستوردة من أوكرانيا، أو المشروعات والاستثمارات الصينية داخل البلاد؛ بل تطول أمن الصين الإستراتيجي؛ إن لناحية عرقلة وتأخير تنفيذ مشروع الحزام والطريق، أو لناحية زعزعة أمنها في بحر الصين الجنوبي.  فعلى الرغم من اعتقاد البعض أنّ النزاع مع روسيا سوف يشغل الأمريكيين عن صب تركيزهم على الإحاطة بالصين من جهة بحر الصين الجنوبي، الذي يشكل ثلث التجارة العالمية، فإن التحديات الأمريكية للصين اليوم في تضخيم مرور سفنها الحربية، تهدد الصين في المجال التجاري، والأمني داخل إقيم تايوان؛ لاحتمال اتخاذ الولايات المتحدة إجراءات في تايوان لمنع الصين من تكرار التجربة الروسية الأوكرانية.

أمّا طريق الحرير، فقد تتوخى روسيا من خلال العملية العسكرية داخل أوكرانيا إلى تحقيق مصالح أبعد من مجرد منع توسع الناتو شرقًا؛ وإنّما الحد من التوسع الصيني غربًا بهدف منع الصين من بسط نفوذها السياسي، والاقتصادي، والعسكري داخل حدود “العالم الروسي”، أو منطقة نفوذ روسيا التاريخية، والأهم منع الصين من إنشاء قواعد عسكرية داخل هذه المنطقة من أجل تأمين مشروعاتها الاقتصادية، وحماية استثماراتها.

المصالح الروسية الإستراتيجية في أوكرانيا

في تحليل إستراتيجي لخريطة سير العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا، تتضح لنا مساعي روسيا الجيوسياسية لتحقيق مصالحها الإستراتيجية في استعادة السيطرة على المواقع الإستراتيجية، وإعادة بسط النفوذ الروسي على حدود «نوفوروسيا»، التي عاد الرئيس الروسي وذكّر بها في خطاب إعلان استقلال الجمهوريتين. وتكمن أهمية السيطرة على حدود نوفوروسيا في المكاسب الجيوسياسية التي كانت روسيا تسعى بجهد إلى تحقيقها عسكريًا خلال الأيام الماضية، بدءًا من السيطرة على «بحر آزوف» من جهة منطقتي «بردبنياسك» و«ماريبول»، وتمكنها من السيطرة على «نهر الدنيبر» من جهة «أنرغودار» و«خيرسون»، وتحركها نحو تأمين السيطرة الروسية الكاملة على منطقة شمال «البحر الأسود». وفي منحى آخر، تمكن الجيش الروسي من السيطرة على أبرز المرافق الحيوية داخل أوكرانيا، ومنها محطة كاخوفكا للطاقة الكهرومائية، ومطار أنتونوف الدولي، والأهم، السيطرة على مفاعل تشيرنوبل النووي.

هل تصب الأزمة الأوكرانية في مصلحة الصين؟

تأمل الصين أن تشكل أوكرانيا جسر عبور بين الشرق والغرب، بوصفها نقطة توازن مهمة في مشروع الحزام والطريق الصيني الذي لا بد أن يمر من خلال منطقة النفوذ الروسية، والطرق المحتكرة لروسيا، نحو أوروبا. غير أنّ احتدام الأزمة الأوكرانية، وضبابية المشهد المستقبلي قد يخلقان عدة سيناريوهات يكون لكل منهما أثره المختلف في المصالح الصينية في أوكرانيا. فهل استمرار الحرب داخل أوكرانيا يعرقل طريق عبور المشروع الصيني بين الصين وأوروبا؟ وإذا ما تم تدويل النزاع وتطوره أمام تهديدات روسيا النووية وانضم عدد من الدول الأوروبية إلى الحرب، هل يفشل مشروع طريق الحرير؟ وإذا ما انتهت الحرب بمكاسب روسية على مناطق سيطرتها، هل يعزز هذا من التعاون الصيني الروسي على إنجاح المشروع؟ أم أنّ العقوبات الأمريكية والغربية قد تطول الصين بسبب مساندتها لروسيا؛ مما قد يؤدي إلى انسحاب عدد من الدول الأوروبية من المشروع الصيني لصالح إحياء مشروع الاتحاد الأوروبي “البوابة العالمية”؟

لا شك أنه من مصلحة الصين ردع أي توسع إضافي لحلف الأطلسي شرقًا، ودرء مخاطر المنافسة الإستراتيجية العالمية التي كان الاتحاد الأوروبي يخطط لها لمنافسة الصين، بعدما تم إعلان خطة استثمار عالمية ينظر إليها على نطاق عريض على أنها مصممة لمنافسة مبادرة الحزام والطريق. وكانت رئيسة المفوضية الأوروبية «أورسولا فون ديرلاين» قد كشفت، في ديسمبر (كانون الأول) 2021، النقاب عن مبادرة الاتحاد الأوروبي التي أُطلق عليها اسم “البوابة العالمية” لاستثمار 300 مليار يورو (340 مليار دولار) على المستوى العالمي بحلول 2027 في مشروعات البنية التحتية والمشروعات الرقمية والمناخية[4]. ممّا تقدّم، تبدو مصلحة الصين محققة أكثر من خلال التعاون مع روسيا، وتقديم الدعم لها، ومساندتها في وجه العقوبات.

الخلاصة: مصلحة الصين في دعم روسيا في خضم الأزمة مع أوكرانيا

تعلم الصين أنّ العقوبات الأمريكية على روسيا سوف تدفعها إلى طلب المساعدة الصينية، وهو ما يسمح للصين بأداء دور الحامي الاقتصادي، وزيادة سلطته ونفوذه في عمليات التعاون والتفاوض مع روسيا. وبالفعل، أدى إخراج روسيا من نظام «سويفت» الأمريكي العالمي إلى ارتفاع أسهم النظام المالي الصيني البديل اليوم، بعد إعلان البنوك الروسية الانضمام إليه. قد تؤدي هذه الخطوة إلى التحول نحو اعتماد العملة الصينية في تنفيذ الاتفاقيات الصينية الروسية المشتركة، كما ستشجع دولًا أخرى على الخروج من نظام سويفت، والانضمام إلى العالم المالي الصيني الجديد، بسبب تفضيل التعامل بالعملات المحلية بدلًا من الدولار.

اقتصاديًا، قد تعمد الصين إلى الاتفاق مع روسيا على شراء البضائع الروسية، بحيث تصبح الصين سوقًا رئيسية لتصريف المنتجات الروسية، وتكون ممرًا تجاريًا لجميع الصادرات والواردات الروسية. في المقابل، قد تتبلور لدى الصين مصلحة التعاون مع روسيا وفق الامتياز الذي تتمتع به السفن الروسية المسجلة في البحر الأسود، بالعبور عبر المضايق بالاستناد إلى اتفاقية مونترو لعام 1936، وبخاصةٍ بعد إعلان وزير الخارجية التركية اليوم عدم القدرة على منع السفن الحربية الروسية من عبور المضايق في طريق عودتها إلى البحر الأسود. وفي منحى آخر، يكون من مصلحة الصين التعاون مع روسيا في قطاع الملاحة الجوية، بعدما تم وقف عدد من الرحلات الجوية الروسية، وحظر الطيران الروسي في بعض الدول، كما قد تتمكن الصين من الاستثمار في المساهمة بإعادة ترميم ما دمرته الحرب في الأقاليم التي أعلنت استقلالها، والمشاركة في إعادة بناء أوكرانيا.  

وتبقى المصلحة الأبرز للصين هي تنفيذ الاتفاقيات التي عُقِدت مؤخرا مع روسيا، وأهمها اتفاقية توريد الغاز الروسي إلى الصين. وقد تلجأ الصين، في حال فرض أي عقوبات عليها نتيجة دعم الاقتصاد الروسي، إلى اعتماد الموقف نفسه الذي احتجت فيه الصين عام 2014 في وجه العقوبات الأمريكية، حيث تعتبر العقوبات انتهاكًا لقواعد الممارسات الدولية، مع إمكانية اللجوء إلى فرض رسوم جمركية على السلع الأمريكية المستوردة.

أمّا عسكريًا، فقد تعمد الصين إلى تقديم الدعم العسكري لروسيا إذا ما توسعت الحرب على نحو مباشر مع حلف الناتو، أو تطور النزاع مع الولايات المتحدة الأمريكية في بحر الصين الجنوبي على نحو تجد الصين نفسها مجبرة على خوض الحرب. ولمّا كانت الصين قد شاركت في المناورات “الأكبر في تاريخ روسيا” بحضور قادة صينيين ومشاركة نحو 3 آلاف جندي صيني، فإنّها تدرك حجم الاستعدادات الروسية للتوسع في الحرب، وإدارة المعارك على مسافة بعيدة، وجهوزية 300 ألف جندي روسي للمشاركة في القتال، والقدرات الفعلية لروسيا التي كانت قد وظفت منها في المناورات 36 ألف آلية عسكرية، وألف طائرة، و80 قطعة بحرية، بالإضافة إلى تدريبات على أسلحة متطورة، وصواريخ إسكندر القادرة على حمل رؤوس نووية.

 

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الباحثة ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير


شارك الموضوع