مقالات المركز

أليكسي نافالني.. المغامر المحبوب في الغرب



شارك الموضوع

منذ “التسميم” المزعوم للمدوِّن الروسي أليكسي نافالني في 20 أغسطس (آب) 2020، وذهابه للعلاج في ألمانيا، ثم عودته إلى روسيا في 17 يناير (كانون الثاني) 2021، والزج به في السجن[1]، ووسائل الإعلام الغربية تحرص على ألا يغيب اسمه عن الأضواء، وألا يطويه النسيان، وتقلِّدها في ذلك من حين إلى آخر بعض وسائل الإعلام العربية.

في الثالث من يوليو (تموز) 2021، نقلت إحدى الصحف العربية الرصينة مقالا عن صحيفة “الإندبندنت” البريطانية بعنوان “روسيا مخطئة في حظر منظمة نافالني”، والحديث هنا يدور عن “صندوق محاربة الفساد”. وأعرب أحد المراكز العربية المهمة “للفكر والدراسات الإستراتيجية” عن قلقه من أن “يُثير “تسمم” المُعارض الروسي نافالني، “مخاوف بشأن ترسانة روسيا من السموم”.

أما إحدى الصحف العربية الجدية، فخرجت تحت عنوان “حركة احتجاج نافالني وقلق بوتين.. القصة كاملة”، وأكدت، في 23 يناير (كانون الثاني) 2021، نقلا عن تقرير لصحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية صدر قبل يوم من ذلك، وفي 22 يناير (كانون الثاني) 2021، أكدت- على نحو حاسم- أن “زعيم المعارضة الروسية نافالني يشكل عبئًا على الكرملين”، في حين تسأل قناة عربية محترمة، في 24 يناير (كانون الثاني) 2021، على لسان “واشنطن بوست” أيضًا: “لماذا تثير حركة نافالني غضب بوتين؟”، وتعرب عن قلقها، وتنبئنا في 18 أبريل (نيسان) 2021، أن هناك “مخاوف على حياته…”!

وإذا كان مفهومًا اهتمام الإعلام الغربي بهذه القضية في ضوء العلاقات الأمريكية- الروسية، التي تبقى مضطربة وعصية على الفهم، واستغلال الغرب لها لمحاربة الكرملين، والضغط عليه ومساومته، وذلك حسب العديد من المراقبين الروس، فمن غير المفهوم اهتمام وسائل الإعلام العربية بهذا المغامر، الذي لم يفوت فرصة إلا وانتهزها للاستهزاء بالعرب والمسلمين.

السؤال هنا، هل بالفعل أليكسي نافالني، معارض للكرملين، وداعية حقوق وحريات ينبغي التعاطف معه ودعمه؟

لعل غالبية وسائل الإعلام العربية لا تعرف شيئًا عن معارضة نافالني الشديدة وتعصبه الأعمى ضد بناء المساجد في روسيا، وسخريته من صلاة المسلمين في الشوارع حول مسجد موسكو الجامع في عيدي الفطر والأضحى، وازدرائه الوافدين، وجلهم من المسلمين، إلى العاصمة من داخل روسيا، أو خارجها.

على سبيل المثال، في 12 يونيو (حزيران) 2011، ظهر نافالني في مقطع فيديو وهو يرتدي زي طبيب أسنان. وفي إشارة إلى قضية هؤلاء الوافدين المسلمين إلى موسكو من جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق، ومن جنوب روسيا نفسها، قال: “لا يجوز الاعتداء بالضرب على أي منهم؛ بل يجب التخلص من كل ما يسبب لنا مشكلات، على نحو دقيق لكنه حازم، عبر الترحيل”[2].

ولعل الزملاء العرب، الذين يدافعون عن “الناشط الحقوقي” كما يصوره بعضهم، لا يعرفون أنه كان يسخر دومًا من أبناء جلدتهم، بما في ذلك على صفحته في موقع “لايف جورنال”، في الرابع من يناير (كانون الثاني) 2009. وفي معرض تعليقه على العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، أبدى “استغرابه” من خروج تظاهرات في أوروبا داعمة لهؤلاء العرب “القذرين” (بالروسية: чумазиками-арабами) حسب وصفه[3].

كذلك فإن هؤلاء لا يعرفون كيف سخر نافالني من حجاب المسلمات الروسيات، وفي المقابل مدح على صفحته في تويتر زوجة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما ميشيل لدى زيارتهما للمملكة العربية السعودية في 21 يونيو (حزيران) 2016، ووصفها بـ “الرائعة”؛ لأنها تقف إلى جانب العاهل السعودي “من دون حجاب، أو خمار، أو وشاح”[4].

أما وسائل الإعلام الغربية، التي لا تزال تعشش في رؤوس بعض أقطابها أفكار “الحرب الباردة”، فتصر على وصفه بـ “الليبرالي”، متناسية مواقفه التي لا يمكن- بأي حال من الأحوال- تسميتها “ليبرالية” بالمفهوم الغربي، ومتناسية أن حزب “يابلوكو” الليبرالي الروسي المعارض طرده من صفوفه، في 14 ديسمبر (كانون الأول) 2007، بعد مشاركته في مسيرة للمتعصبين القوميين الروس، وبعد إعلانه تأييده للقومية الروسية المتشددة[5].

وقد جردته منظمة العفو الدولية لحقوق الإنسان من صفة “سجين الرأي” في 23 فبراير (شباط) 2021 بعد اطلاعها على تصريحاته المحرضة على العنف، التي أدلى بها عام 2008، ولم يتراجع عنها، والحديث هنا يدور عن “حرب الأيام الخمسة” في جنوب القوقاز، التي اندلعت عندما أمر الرئيس الجورجي آنذاك ميخائيل ساكاشفيلي القوات الجورجية بشن هجوم على الجمهوريتين غير المعترف بهما أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، في الثامن من أغسطس (آب). من الجدير بالذكر أنها أعادت إليه مرة أخرى هذه الصفة، مع تأكيد إدانتها لمواقفه، وأن “هذا لا يعني- بأي حال من الأحوال- الموافقة على آرائه”[6]. في ذلك الحين دعا نافالني إلى حصار جورجيا، وطرد مواطنيها كافة من روسيا، وأطلق عليهم تسمية مهينة، هي “القوارض” (بالروسية: грызуны)، وهذا ما تناسته أيضًا وسائل الإعلام الغربية.

نافالني لم يغير مواقفه العنصرية بعد ذلك، واستمر في تأييده للمتعصبين القوميين الروس، وخاصة عام 2013، خلال أعمال شغب ضارية، اندلعت في منطقة بيريوليوفو، في جنوب موسكو، بعد مقتل أحد أبنائها على يد شاب ذي أصول قوقازية، واستهدفت جميع المتحدرين من القوقاز وآسيا الوسطى، ثم تحولت إلى اشتباكات مع وحدات الشرطة الخاصة، التي اعتقلت (380) شخصًا من مثيري الشغب.

الغريب في الأمر أن ذلك كله لم يمنع سفير الولايات المتحدة السابق لدى الاتحاد الروسي (وليس روسيا الاتحادية) مايكل ماكفول (Michael McFaul)، في الفترة من 2012 إلى 2014، من مقارنة نافالني في مقالٍ له في “واشنطن بوست”، بشخصيات عظيمة، مثل مهاتما غاندي، ومارتن لوثر كينغ، ونيلسون مانديلا[7]!

من هو المعارض الروسي نافالني؟

انهار الاتحاد السوفيتي عام 1991، وكان عمر أليكسي نافالني 15 عامًا، عندما حلت “مأساة القرن العشرين الجيوسياسية الكبرى”، بحسب تعبير الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بيد أن ذلك صب في مصلحة منتفعين كانوا يفوقونه عمرًا، فاستحوذوا في عهد الرئيس الروسي بوريس يلتسين على ثروات الأجيال السوفيتية بأبخس الأثمان تحت راية الخصخصة، التي قادها الكاردينال الأشقر كما يسمى، أناطولي تشوبايس، التي وصف أساليبها عمدة موسكو الراحل يوري لوجكوف بأنها “إجرامية”.

تماشيًا مع هذا الوضع، سعى بطل قصتنا، وفي سبيل البحث عن مكان له تحت “شمس” الرأسمالية الزائفة، أو بالأحرى رأسمالية المحاسيب (Crony capitalism)، إلى خوض مغامراته في عالم المال والأعمال؛ ففي عام 1997، وهو لما يزل طالبًا في كلية الحقوق في جامعة الصداقة بين الشعوب في موسكو، ولم يتجاوز عمره 21 عامًا، أسس شركة “نيسنا” لتقديم خدمات تزيين الشعر، ثم باعها. وفي عامي 1997 و1998، عمل في شركة “إس تي- غروب” للتنمية. وفي عام 1998 عمل في بنك “إيروفلوت”، المملوك للخطوط الجوية الروسية “إيروفلوت” (فيما بعد أصبح عضوًا في مجلس إدارتها عام 2012).

وإضافة إلى بضعة مشروعات تجارة وأعمال أخرى، أسس عام 2000 مع أصدقائه من الجامعة المذكورة شركة مارست تجارة السندات المالية في البورصة. وقد شكا الخبير السياسي أليكسي موخين، في كتابه “نافالني- الحصيلة”، من أن كل محاولاته للبحث عن هؤلاء الأصدقاء باءت بالفشل. كما أن كل محاولات الصحفيين الروس للحصول من مسؤولي جامعة الصداقة بين الشعوب، التي تخرج فيها عام 1998، على معلومات بشأن دراسته ونيله الدبلوم فيها باءت أيضًا بالفشل.

أدى فشل نافالني في “البيزنس”- على ما يبدو- إلى إدراكه لقوانين اللعبة الجديدة في روسيا ما بعد الاتحاد السوفيتي، وأن العمل السياسي هو بوابة الوصول إلى الثروة لا العكس، وقد أشار أنصار نافالني السابقون إلى غياب أي طموحات سياسية لديه آنذاك، وأكدوا أنه كان يريد فقط تحسين فرصه لكسب النقود.

بسرعة تمكن نافالني من نسج علاقة مع أقطاب المال الجدد في موسكو، فاحتضنته حينًا قصيرًا من الزمن إذاعة “صدى موسكو”، التي أسسها في عهد يلتسين، الأوليغارشي فلاديمير غوسينسكي، الذي هرب لاحقًا إلى إسرائيل، على إثر تهم فساد، وحصل على جنسيتها.

في هذه الأثناء، كان أليكسي نافالني قد اتُّهم عام 2008 بالاحتيال على شركة “إيف روشيه” التجارية الفرنسية لمستحضرات التجميل، وبأنه اختلس مع شقيقه المسؤول في إدارة البريد الروسي أوليغ 26 مليون روبل (590 ألف يورو) تعود إلى الفرع الروسي للشركة الفرنسية. وقد حكمت عليه محكمة روسية بعد ذلك في 30 ديسمبر (كانون الأول) 2014، بالسجن ثلاث سنوات ونصف السنة مع وقف التنفيذ، وحكمت على شقيقه أوليغ بالعقوبة نفسها، لكن مع التنفيذ[8].

وفي عام 2009، وبعد تقربه طويلًا من حاكم مقاطعة كيروف “الليبرالي” الحديث العهد نيكيتا بيليخ، الذي يقبع الآن في السجن بتهمة تلقي رشوة عام 2016، أصبح مستشارًا له، وغادر العاصمة الروسية إلى مدينة كيروف. وقد استخدم نافالني هذه الوظيفة ليس لنشر أسس الليبرالية، ومبادئ الديمقراطية، ومحاربة الفساد؛ بل في تجارة الأخشاب، وهو “البيزنس” الذي تكتنفه الشبهات دائمًا في روسيا.

وفي عام 2009 أيضًا، اتُهم بالتخطيط لسرقة 16 مليون روبل (213 ألف دولار) من شركة أخشاب “كيروف ليس” المملوكة للدولة، وطالب ممثلو الادعاء بسجنه ست سنوات بعد ثبوت هذه التهمة. وفي 16 أكتوبر (تشرين الأول) 2013، صدر الحكم بسجنه 5 سنوات مع وقف التنفيذ، وأمرته المحكمة بدفع غرامة قدرها 500 ألف روبل (6 آلاف دولار)[9].

من جانب آخر، ظل نافالني يثير اهتمام “الليبراليين” الروس، الذين واصلوا دغدغة كبريائه. من ذلك أن الخبير السياسي ستانيسلاف بيلكوفسكي، الذي كان بالغ النفوذ في حقبة يلتسين، رفع نخب رئاسته المنشودة لروسيا في أحد مطاعم موسكو. كما أن رئيسة تحرير مجلة “نيو تايمز” ذات الميول الغربية يفغينيا ألباتس، أقنعته، عام 2010، بالدراسة نصف سنة في جامعة ييل الأمريكية.

وتؤكد مصادر صحيفة “موسكوفسكي كومسوموليتس” ذات الموقف المعارض للكرملين، أن الأوليغارشي قُطبَ النفط الروسي السابق ميخائيل خودوركوفسكي، قدم دعمًا قُدر بنحو (100) ألف يورو إلى نافالني، وتضيف هذه المصادر أن خودوركوفسكي أصبح بعد ذلك “يستثمر” أكثر في نافالني، لأنه رأى فيه “سياسيًّا واعدًا”[10].

ويتهم المراقبون الروس الأوليغارشي غوسينسكي بتمويله أيضًا للنيل من نظام بوتين “الدموي”.
وهناك أسئلة كثيرة تطرح بشأن المبالغ الضخمة التي تلقاها “مكافح الفساد” من داخل روسيا وخارجها، وأنفقها وفق مزاجه، ولغير الغرض المطلوب، بما في ذلك لتمويل دراسة ابنته داريا في جامعة ستانفورد الأمريكية.

أدت كل هذه المغامرات، بجانب الدعم الغربي، إلى تناقص شعبية نافالني عامًا بعد عام، ولم يعد عدد مؤيديه كبيرًا كما كان حين أُجريت انتخابات عمدة موسكو في الثامن من سبتمبر (أيلول) 2013، وحصل فيها على 27.4% من أصوات الناخبين، وشغل المرتبة الثانية بين المرشحين. ويرى مراقبون أنه لولا قصة “تسميمه” لما خرج أحد إلى أي تظاهرة.

تسميم المعارض الروسي نافالني

ويبدو أن السبب الأساسي في ذلك يعود إلى أن غالبية الروس أصبحت تنظر إليه على نحو سلبي كما أظهرت ذلك استطلاعات الرأي المحايدة، التي أكد فيها غالبية المستطلَعين أن هذا المدوّن نرجسي ومغرور، ووفقًا لاستطلاع أجراه مركز “ليفادا” الروسي المستقل لاستطلاعات الرأي في شهر ديسمبر (كانون الأول) من عام 2020، فإن 49% من الروس يعتقدون أن “تسميم” أليكسي نافالني كان “استفزازًا” تقف وراءه “أجهزة الاستخبارات الأجنبية”.

وإضافة إلى ذلك، وبعد إدراج المحكمة الروسية منظمتيه “صندوق مكافحة الفساد” و”صندوق حماية حقوق المواطنين”، ومقر حركته العامة على قائمة الجهات المتطرفة، لم يبق في يده أي من أدوات التأثير الجماهيرية السابقة، ولم يعد يستطيع تلقي التبرعات من أي جهة كانت، وشيئًا فشيئًا- كما يعتقد بعضهم- وفي ظرف زمني لن يكون طويلًا، سيبدأ نجمه بالأفول.

ذلك على الرغم من محاولاته للبقاء تحت الأضواء في السجن، ومنها تهديده بمقاضاة إدارة السجن الذي يقبع فيه؛ لعدم تلبية طلبه بالحصول على نسخة من القرآن الكريم.

أما ما يتعلق بالجهات الغربية، فيعتقد الناقدون له أنه “كان الطلقة الأخيرة في جعبتهم، وأن مدة صلاحيته السياسية الكاسدة لديهم قد نفدت، وأنهم سيجدون حصان طروادة روسيًّا آخر، ولو بعد حين”؛ عندئذ سيطوي النسيان اسم أليكسي نافالني نهائيًّا في وسائل الإعلام الغربية، وفي العربية أيضًا، وفق زعمهم.

بعيدًا عن كل ما سبق، الذي كان الهدف منه هو إزالة حالة اللبس العربية بشأن شخصية نافالني، وهل هو حقًا مناضل من أجل الحرية والمساواة، وناشط مكافح للفساد؟ فإن كل ما سبق من آراء الناقدين الروس له حتى المغالين منهم، والمتهمين إياه بأنه “عميل” يعمل لصالح الغرب، لا يبرر تعرضه للتسميم كما يزعم، أو لأي إجراء تعسفي مخالف للقانون.

ما ورد في المقالة يعبر عن رأي الكاتب ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير


شارك الموضوع