للأرض والسماء، للشمس والقمر، للحسابات الفلكية والهندسية، للمواقيت والأزمنة، للطول والعرض، لتاريخ الهند، ولتاريخ القرون الخالية، للجغرافيا وللجيولوجيا، لكل هذا وغيره كان البيروني أول من كتب وأصل وناقش وحلل وأتى بما لم يأت به سابقوه، ليصبح في عين المستشرق الألماني إدورد سخاو، وفي أعين غيره، أعظم عقلية عرفها التاريخ.
بين عامي 973/1048 عاش ومات أبو الريحان محمد بن أحمد البيروني، وهي فترة شهدت طفرة علمية وأدبية، لكنها كذلك شهدت اضطرابًا سياسيًّا بسبب الضعف الذي أصاب الخلافة العباسية.
ولد البيروني في مدينة كاث، إحدى ضواحي العاصمة الخوارزمية آنذاك، وهي الآن مدينة صغيرة في أوزباكستان، وتخليدا لذكراه نسبت هذه المدينة إليه، وأصبحت تعرف حاليا ببيروني.
ولقب البيروني الذي اشتهر به، إنما كان يطلقه أهل خوارزم على الغريب. ولأنه كان كثير الترحال فقد اعتبروه غريبًا عنهم، في حين تقول مصادر أخرى إن التجار- وقد كان والده تاجرًا- يسكنون خارج أسوار العاصمة تخلصًا من دفع الضرائب، وكان يطلق على من يعيش خارج البلدة بيروني.
أما البيروني نفسه فلا تذكر المصادر شيئًا عن طفولته، لكنها تؤكد إتقانه المبكر للغتين الفارسية والعربية، ثم سرعان ما أضاف إليهما لغات أخرى، كالسريانية واليونانية، وهو ما أتاح له الاطلاع على الثقافات المختلفة دون مترجم أو وسيط.
إتقان اللغات ليس وحده ما فتح نوافذ العلم والاطلاع أمام البيروني، فقد عمل في بداية حياته لأحد علماء النباتات، يجمع له البذور ويستشرف في الوقت نفسه عالمًا جديدًا غير العلوم التقليدية التي شاعت في ذلك العصر، وقد ساعده ذلك على وضع مؤلف لم يلتفت إليه التفاتًا كافيًا حتى الآن، وهو كتاب «الصيدلة في الطب»، الذي تضمن خصائص العقارات المستخلصة من النباتات والأعشاب والحيوانات والمعادن.
وكتاب البيروني عن الصيدلة هو واحد من مؤلفات كثيرة وصل عددها إلى 180 كتابًا، نشر هو فهرسًا لها تضمن 103 كتب، ثم جمع تلامذته ومجايلوه ما كتبه بعد هذا الفهرس.
كان البيروني من أوائل الذين آمنوا بضرورة المشاهدة والاستقراء والرصد والتتبع والتحليل، وكذلك إجراء التجارب، وقد ظهر هذا في كثير من مؤلفاته، ولم يكن يترك صغيرة ولا كبيرة إلا ووقف أمامها متأملا ومحللا.
كان لمؤلفات البيروني فضل كبير في صناعة عصر النهضة، والثورة الصناعية في العالم؛ فقد حدد بدقة خطوط الطول والعرض، وناقش مسألة ما إذا كانت الأرض تدور حول محورها أم لا، وسبق في ذلك جاليليو وكوبرنيكوس، كما وضع قاعدة حسابية لتسطيح الكرة، أي نقل الخطوط والخرائط من الكرة إلى سطح مسطح وبالعكس، وبهذا سهل رسم الخرائط الجغرافية، إضافة إلى المسائل الهندسية التي كان سباقًا إليها.
لم يكن البيروني بعلمه وبحثه الدوؤب منعزلا عن السياسة وأمورها؛ بل اشترك فيها وقرب من الملوك والسلاطين بسبب طلاقته التعبيرية، وحجته في الإقناع، ولم يكن قربه منهم طمعًا أو خوفًا؛ وإنما كان وهو إلى جوارهم يمارس رحلته في البحث والتدقيق والملاحظة والتأليف، وتذكر المصادر أن مسعود الغزنوي، أحد ملوك الدولة الغزنوية، قربه إليه للاستفادة من علمه، وحين أتم البيروني مؤلفه الفريد في علم الفلك «القانون المسعودي في الحياة والنجوم» منحه مسعود قطعًا فضية بوزن فيل، كما تذكر المصادر، لكن البيروني رفض قائلا: “إنما أعمل حبًّا في العلم ذاته”.
وحين كان مسعود الغزنوي في طريقه غازيًا إلى الهند اصطحب معه البيروني، فظل بالهند أعوامًا درس خلالها أحوال الهند وجادل فلاسفتهم، وفصل تقاليدهم وثقافاتهم، وقد ظهرت نتائج هذه الدراسات والأبحاث الجادة العميقة لهذه الأمة في كتابه الكبير المهم الذي عنونه بـ «تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة»، والذي طبع أول مرة في مدينة لايبزيغ الألمانية عام 1925.
وإذا كان كتاب البيروني عن الهند “أثر فريد في بابه”، كما يقول أحد المستشرقين، فإن كتبه الأخرى في الجغرافيا والتاريخ والهندسة والفلك والتنجيم وغيرها لا تقل أهمية عن كتابه عن الهند وعادات ناسها.
ففي مجال الطبيعيات خاض بالتفصيل في الخواص الفيزيائية لكثير من المواد، وتناولت أبحاثه علم ميكانيكا الموائع والهيدروستاتيكا، وفي الجغرافيا له كثير من الدراسات، التي ساهم فيها بتوضيح كثير من المجالات المرتبطة بعلمِ الجغرافيا، كتحديد خطوط العرض والطول للكرة الأرضية، والاهتمام بقياس نصف قطر الأرض، ووضع معادلةٍ لحسابِ نتيجة محيط الأرض، وغيرها، فضلا عن المعلومات التي تؤكد أنه أول من قال بجاذبية الأرض.
في الوقت نفسه، وفي عام 1970، لم تطلق وكالة الفضاء ناسا اسم البيروني على فوهة من فوهات سطح القمر، إلا تخليدًا لإنجازاته الفريدة في علم الفلك، حيث اهتم بدراسة الكواكب والنجوم وحركتها، وتابع أطوار القمر، حتى إنّه صمَّم رسمًا توضيحيًّا عن طبيعة القمر، والتغيرات التي تطرأُ عليه.
وكذلك حرص البيروني على دراسة علم الرياضيات والأرقام، ووضع مجموعة من المؤلفات عن العمليات والمعادلات الرياضيّة، وربما سطور هذا المقال لا تتسع لذكر أعماله في المجالات المختلفة، فغير ما ذكرت كان للبيروني السبق في نظريات مختلفة عن المعادن وخصائصها، وظاهرة المد والجزر وسريان الضوء، وكان أول من قال بأن سرعة الضوء تفوق سرعة الصوت، وربما نظرة واحدة على مؤلفاته التي أصبحت ميراثا عظيمًا في مكتبات العالم تدفعك إلى معرفة الرجل وما قدمه.
وفضلا عما قدم من كتب ونظريات خاصة به، قدم البيروني للمكتبة تراجم معظمها من التراث الهندي إلى اللغة العربية، وله كتبٌ ومؤلفات أخرى في الأدب كـ «شرح ديوان أبي تمام»، و «مختار الأشعار»، و«الآثار»، وفي الفلسفة له كتاب «المقالات والآراء والديانات»، و«جوامع الموجود في خواطر الهنود».
وفي 3 رجب 440 هـ /13 يناير (كانون الأول) 1048 توفي البيروني بعد رحلة عطاء واسعة وممتدة حتى وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، وقد ذكر ياقوت الحموي نقلا عن النيسابوري “أنه دخل على أبي الريحان وهو يجود بروحه وقد تحشرج نفسه وضاق به صدره وقال: قلت لي يومًا إن حساب الجدات فاسد، فقلت إشفاقًا عليه: “أفي هذه الحالة؟” قال لي: “يا هذا، أودع الدنيا وأنا عالم بهذه المسألة خير من أن أخليها وأنا جاهل بها، فأعدت عليه ذلك فحفظه، وخرجت من عنده، وأنا في الطريق سمعت الصراخ”.