مقالات المركز

أي الكفوف رابحة: طالبان أم الإرهاب أم القوى الدولية؟

أفغانستان.. صراع أيديولوجي ومصالح دولية



شارك الموضوع

قوة عظمى عالمية ترسل قوات إلى أفغانستان، وتُنصّب قائدًا جديدًا، وتخطط للرحيل في غضون أشهر، وتُفاجأ بأنها انغمست في صراع دام سنوات ضد تمرد ذي دوافع عالية، ولا ينتهي الصراع إلا كنتيجة للانسحاب المخزي لقواتها المسلحة. ينطبق اليوم ذلك السرد على الولايات المتحدة، كما انطبق على الاتحاد السوفيتي قبل عقود[1]، فلطالما شكلت أفغانستان حجر عثرة لكل من وطئت قدماه أراضيها بغرض تطويعها في خدمة مصالحه الجيوسياسية أو الاقتصادية.

لم تندمج طالبان في محادثات السلام بدوافع الضغط الأمريكي، مثلما حاولت إدارة أوباما (2009/2011)، وفشلت في إجبار طالبان على الجلوس إلى طاولة المفاوضات [2]، ولكنها خاضت تلك المحادثات بعدما فرضت نفسها على الأرض؛ ومن ثم فرضت نفسها دبلوماسيًّا منذ عام 2018، وعقدت زيارات ولقاءات مع أكبر دول العالم و كأنها تُعيد تقديم نفسها للعالم، بل تحكمت فعليًّا في تهميش الحكومة الأفغانية آنذاك عن المحادثات، واشترطت على الولايات المتحدة أن لا سلام دون عقد اتفاق ثنائي بين الولايات المتحدة وحركة طالبان نفسها، ذلك الأمر كان مؤشرًا قويًّا يوضح عقيدة الجيل الحالي من حركة طالبان؛ إذ إنه يفضل دائمًا التعامل من مركز قوة، وليس مركز رجاء لسلطة.

الإرهاب على أرض الأفغان بين الحاضر ومرآة الماضي

أكبر تهديد يشغل العالم بعد سقوط أفغانستان الكامل في يد طالبان هو احتمالات تنامى الإرهاب، فنعرض ذلك بغرض استشراف مستقبل ديناميكيات هذه التنظيمات في أفغانستان، ومنها إلى الجوار الإقليمي والعالم في ضوء حكم طالبان للبلاد.

تنظيم القاعدة وفروعه

في اتفاق فبراير (شباط) عام 2020 بين الولايات المتحدة وطالبان، التزمت طالبان ببذل جهود لمكافحة الإرهاب مقابل الانسحاب الكامل للقوات العسكرية الأمريكية والدولية، علمًا بأن تنظيم القاعدة مثّل الهدف الرئيسي لأمريكا منذ عام 2001. ومن بين هؤلاء زعيم التظيم أيمن الظواهري (الذي يقال إنه مريض) ونوابه، وهو مجلس استشاري من نحو عشرة أفراد، وأعضاء لجان التنظيم المختلفة، مثل العمليات العسكرية، والمالية. في سبتمبر (أيلول) عام 2019، أعلن البيت الأبيض أن القوات الأمريكية قتلت حمزة بن لادن، نجل مؤسس “القاعدة” أسامة بن لادن، والقيادي الصاعد في المجموعة. [3] وقد جادل المسؤولون الأمريكيون بأن الغارات والضربات الجوية الأمريكية على أهداف تنظيم القاعدة، بما في ذلك معسكر تدريب كبير اكتُشِف في ولاية قندهار عام 2015، قللت من وجود القاعدة في أفغانستان. قدر تقرير صادر عن وزارة الدفاع في أبريل (نيسان) 2021 أن القادة الأساسيين لتنظيم القاعدة في أفغانستان “يشكلون تهديدًا محدودًا”؛ لأنهم “يركزون على البقاء تركيزًا أساسيًّا”. [4]

إلا أن سكون “القاعدة” عن نشاطه لا يعني تلاشيه، خاصة أنه منذ عام 2015، تأكد وجود القادة الرئيسيين للتنظيم المركزي للقاعدة وكثير من قادة فصيل جنوب آسيا في أفغانستان، لا سيما أن المراقبين اتفقوا أنه متماسك سياسيًّا، وعلى مدار السنوات الأخيرة (2017/2020)، لم تكن هناك مؤشرات على انقسام التنظيم المركزي للمجموعة، أو فرع جنوب آسيا، كما أن التنظيم قادر على حشد رأس مال تنظيمي ذي مغزى خلال عدد من المناطق المهمة في البلاد. كما أنه يتمتع بدعم عدد من الجماعات المسلحة في آسيا الوسطى [5]، ولكنه فضل أن يؤازر طالبان بعد أن تم التشاور بين قيادات التنظيم المركزية والإقليمية العليا، والتوصل إلى التعهد علنًا بقسم الولاء الديني- الذي يسمى البيعة- لطالبان. [6]

القاعدة في شبه القارة الهندية (AQIS)

أعلن الظواهري في سبتمبر(أيلول) 2014 إنشاء فرع رسمي منفصل للقاعدة في جنوب آسيا -في شبه القارة الهندية، (صُنّفَ منظمة إرهابية أجنبية عام 2016) يمثل التنظيم في بلاد الرافدين (يطلق اسم بلاد الرافدين على العراق، وتجدر الإشارة إلى أن كلًا من إيران، وسوريا، وتركيا، تقع في منطقة بين النهرين كذلك)، وهو محاولة من التنظيم لتأسيس وجود أكثر ديمومة في المنطقة، مدفوعًا جزئيًّا بنقل بعض قادته إلى سوريا. وبحسب ما ورد، عزز تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين وجوده في أفغانستان من خلال ضم مقاتلين إلى طالبان. وفقًا لتقرير وزارة الدفاع في أبريل(نيسان) 2021، فقد هدد تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين القوات الأمريكية في أفغانستان، وهو انعكاس لتعاون المجموعة مع طالبان، مع احتمال أنه كان يفتقر إلى الوسائل اللازمة لشن هجمات خارج المنطقة.[7]

في تقرير صدر في أبريل(نيسان) 2021 عن الأمم المتحدة، جاء أن القاعدة وطالبان “لا يزالان متحالفين تحالفًا وثيقًا، ولا يظهران أي مؤشر على قطع العلاقات”، إلا أن طالبان أصدرت أوامر في فبراير(شباط) 2021 تمنع فيها أعضاءها من إيواء مقاتلين أجانب، ولكن بخلاف ذلك، لا يبدو أنها اتخذت خطوات ملموسة قد تشكل قطعًا في العلاقات مع القاعدة. احتفل المتعاطفون مع القاعدة باستيلاء طالبان على السلطة، وقد أفرجت طالبان عن سجناء، من بينهم أعضاء في القاعدة.[8]

جدير بالذكر أن بعثة الأمم المتحدة لمساعدة أفغانستان (يوناما) قد وثقت تصاعدًا حادًا في أعمال العنف، وحذرت من أن عام 2021 قد يشهد أكبر عدد من الضحايا المدنيين منذ أن بدأت الوكالة بحفظ السجلات عام 2009. وقد وثقت (5183) حالة وفاة، وإصابة مدنيين في النصف الأول من 2021، أعلى بكثير من إجمالي القتلى والمصابين خلال الفترة نفسها في السنوات السابقة.[9] في تقريره لعام 2021، قال فريق الأمم المتحدة الذي يراقب حركة طالبان، إن الجماعة لا تزال تتمتع بعلاقات قوية مع القاعدة، فأحكمت طالبان سيطرتها على القاعدة من خلال جمع المعلومات عن المقاتلين الإرهابيين الأجانب، وتسجيلهم وتقييدهم، وفق ما أفاد به خبراء الأمم المتحدة. [10]

ولاية خراسان الإسلامية (ISKP)

بعد ظهور تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسوريا – (منظمة إرهابية محظورة في روسيا) عام 2014، بدأ تنظيم الدولة الإسلامية في الحصول على تعهدات في شرق أفغانستان والمناطق القبلية في باكستان، عينت قيادة الجماعة المتمركزة في العراق حافظ سعيد، وهو زعيم سابق بالجيش الباكستاني، أول زعيم للحركة. كان تنظيم الدولة الإسلامية (ISIS-K) يتركز في شرق أفغانستان وشمالها، وحققت نجاحات كبيرة في مقاطعات جوزجان، وكونار، وننجرهار، المتاخمة لإقليم باكستان، كما أُنشئت مؤسسات شبيهة بالدولة، على غرار الخلافة في العراق وسوريا، واجتذبت مجموعة من المقاتلين الأجانب، بشكل أساسي من جنوب آسيا ووسطها.[11] في عام 2016، بعد عام من تأسيسه، كان تنظيم داعش خراسان (منظمة إرهابية محظورة في روسيا) في ذروته، مع ما يقرب من (3000) إلى (4000) مقاتل، وفقًا لتقديرات المحللين [12]، ويمكن القول إنه كان أحد أنجح روافد تنظيم الدولة الإسلامية، وقُلِّصَ هذا الرقم إلى النصف بعدما تم التركيز عليها في استهداف موقعها الرئيسي في شمال أفغانستان عام 2018، وفي شرق أفغانستان في أواخر عام 2019، من خلال الهجمات العسكرية الأمريكية والأفغانية، وبشكل منفصل، هجمات طالبان. [13]

فقد أجبرت هذه الخسائر الإقليمية المجموعة على “اللامركزية” وفقًا لمراقبي الأمم المتحدة، ورغم استهدافهم في ضربات أمريكية، حذر المسؤولون الأمريكيون من أن التنظيم لا يزال يمثل تهديدًا، وتشير الهجمات الأخيرة المنسوبة إلى الجماعة إلى احتفاظها بالمرونة العملياتية، فبالإضافة إلى الهجمات على أهداف حكومية، أعلن تنظيم ولاية خُراسان مسؤوليته عن كثير من التفجيرات الواسعة النطاق ضد المدنيين، واستهدفت بشكل أساسي الأقلية الشيعية في أفغانستان، بما في ذلك تفجير مدرسة للفتيات في كابول، مايو (أيار) 2021 [14]، وبالطبع عملياتهم الأخيرة في محيط مطار كابول، واستهدافهم القوات الأجنبية قبيل الإجلاء الأخير. [15]

تقاتلت ولاية خُراسان وقوات طالبان أحيانًا بشكل تنافسي للسيطرة على الأراضي، أو بسبب خلافات سياسية، أو خلافات أخرى. كما ورد أن طالبان حين تولت السيطرة على أفغانستان، أعدمت زعيم تنظيم الدولة في ولاية خراسان في أغسطس(آب) 2021. وتكهن البعض بأن المتشددين من طالبان قد ينشقون إلى تنظيم ولاية خُراسان إذا اتّبع قادة طالبان شكلًا من التوازن أو المواءمة في أفكار محددة حين تبدأ في الحُكم. [16]

شبكة حقاني

هي عنصر رسمي شبه مستقل من حركة طالبان الأفغانية، وحليف للقاعدة. أسسها جلال الدين حقاني، القائد الإسلامي البارز المناهض للسوفيت، والذي أصبح مسؤولًا بارزًا في طالبان، وقد أكدت طالبان وفاته لأسباب طبيعية في سبتمبر (أيلول) 2018، والزعيم الحالي للجماعة هو نجله، سراج الدين حقاني. ويصف مراقبو الأمم المتحدة شبكة حقاني بأنها “حلقة الوصل الأساسية” بين طالبان والقاعدة. ويشير تقرير الأمم المتحدة الصادر في أبريل (نيسان) 2021 إلى الشكوك فيما إذا كانت شبكة حقاني تتعاون تكتيكيًّا مع تنظيم ولاية خُراسان، وأنها صاحبة أكثر الهجمات دموية في الحرب في أفغانستان، بما في ذلك مقتل وإصابة مئات من القوات الأمريكية، وقد وُصفت تاريخيًّا بأنها قريبة من وكالة الاستخبارات الباكستانية. [17]

حركة طالبان باكستان (TTP)

المعروفة أيضًا باسم طالبان الباكستانية: لها “أهداف معادية لباكستان”، وفقًا لمراقبي الأمم المتحدة، لكنها قاتلت أيضًا إلى جانب طالبان الأفغانية داخل أفغانستان (حيث تضم حركة طالبان باكستان آلاف المقاتلين)، وكأنها منظمة جامعة لعدد من الجماعات المتطرفة التي تتخذ من باكستان مقرًا لها، والتي دخلت في صراع مع الحكومة الباكستانية بعد عام 2007. بدأت الحركة بالانقسام بعد وفاة زعيمها عام 2013، ففي عام 2014  تعهد بعض أعضاء حركة طالبان باكستان بالولاء للدولة الإسلامية، وانتقلوا لاحقًا إلى شرق أفغانستان ردًا على عمليات الجيش الباكستاني التي دفعت في الغالب المجموعة إلى الخروج من ملاذاتها الآمنة في المناطق القبلية الخاضعة للإدارة الاتحادية السابقة. ومع ذلك، فإن إعادة التوحيد بين حركة طالبان باكستان وبعض الجماعات المنشقة السابقة (ربما سهّلها تنظيم القاعدة) منذ عام 2020 قد أدى إلى تضخم صفوف المجموعة، وقد تستفيد حركة طالبان باكستان بشكل أكبر من استيلاء طالبان على سجناء حركة طالبان باكستان، وإطلاق سراحهم في أفغانستان.

الحركة الإسلامية لأوزبكستان (IMU)

صُنفت الحركة عام 2000 منظمة إرهابية، فقد كانت ذات يوم حليفًا بارزًا لـلقاعدة، شكلها الأوزبكيون الذين قاتلوا مع القوات الإسلامية في الحرب الأهلية في طاجيكستان (1992-1997)، وتمركزت في شمال أفغانستان، وتحالفت مع طالبان وشنت هجمات على دول أخرى في آسيا الوسطى. أفاد مراقبو عقوبات الأمم المتحدة أن الحركة الإسلامية لأوزبكستان مؤخرًا تحت سيطرة طالبان، وهي “أقل نشاطًا مما كانت عليه من قبل”؛ نظرًا إلى تحركاتها السابقة للتوافق مع ولاية خُراسان. [18]

حركة تركستان الشرقية الإسلامية (ETIM)

تسعى إلى إقامة دولة إسلامية مستقلة للإيغور، وهم شعب ذو أغلبية مسلمة، ويتحدث اللغة التركية في غرب الصين. وفي عام 2002، صنفت الحكومة الأمريكية الحركة منظمة إرهابية أجنبية، مستشهدة بعلاقاتها بالقاعدة. أفاد مراقبو عقوبات الأمم المتحدة في يونيو(حزيران) 2021 أن للحركة مئات المقاتلين في شمال شرق أفغانستان، ووجودًا أكبر في إدلب/ سوريا، وأتها تنقل المقاتلين بين المنطقتين. وبحسب ما ورد، تركز الحركة في أفغانستان على الصين.[19]

الولايات المتحدة الأمريكية: خروج مُذل.. هيمنة مُهددة

ركز العالم أنظاره صوب طالبان، تلك المجموعة التي صمدت في مواجهة أقوى تحالف أمني في العالم، منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وثلاث إدارات أمريكية، في حرب أسفرت عن مقتل أكثر من ستة آلاف جندي أمريكي ومتعاقد، وأكثر من ألف ومئة جندي من قوات الناتو، التي دخلت أفغانستان عام 2003، وهو ما يمثل أول التزام عملياتي له خارج أوروبا. ففي أوج قوته، كان لدى حلف الناتو أكثر من مئة وثلاثين ألف جندي من خمسين دولة في أفغانستان. وقتل نحو سبعة وأربعين ألف مدني، وقتل ما يقدر بنحو ثلاثة وسبعين ألف جندي وضابط شرطة أفغاني منذ عام 2007، ويعتقد أيضًا أن عشرات الآلاف من مقاتلي طالبان قُتِلوا [20]، فقد اجتمع مُختلف المُحللين الأمريكيين أن كيفية الخروج الأمريكي من أفغانستان خطأ إستراتيجي، وله تداعيات كارثية، وأن بايدن لم يستمع إلى النصائح العسكرية والمخابراتية؛ بل كان قد أقنع نفسه بأن الهزيمة أمر لا مفر منه، وافترض أن طالبان ستسمح له بالقيام بانسحاب خاطف، وأن القوات الأمريكية والمدنيين سيذهبون قبل انهيار البلاد. فلم تترك تلك الإستراتيجية وقتًا لانسحاب منهجي، وقد كان لدى طالبان كل الأسباب والدوافع للسعي إلى إذلال الولايات المتحدة بدلًا من السماح بتراجع رشيق. [21]

فكان تسلسل الأحداث رسالة للعالم تهدف إلى محو رسالة جو بايدن حين تولى الرئاسة الأمريكية عن استعداد الولايات المتحدة لاستئناف دورها القيادي العالمي، فإن انسحابها من أفغانستان وجه ضربة كبيرة لمصداقيتها [22]، فعززت المشاهد الفوضوية في مطار كابول ببساطة الآراء العالمية القديمة عن عدم الوثوق بأمريكا، وواقع أنها قوة عظمى؛ بل مُتضائلة في العالم.[23] فبينما حاول بايدن طمأنة الأمريكيين والعالم أن واشنطن ستستمر في محاربة الإرهاب العالمي، آلت تطورات الواقع إلى مواجهة معركة شاقة لإقناع المجتمع الدولي بالتزامات واشنطن وقدراتها في التدخلات الخارجية[24]، فقد تم التخلي عن أفغانستان في وضع أسوأ مما كانت عليه عندما وصل فريق “جاوبريكر” Jawbreaker التابع لوكالة المخابرات المركزية إلى شمال أفغانستان للمشاركة مع التحالف الشمالي عام 2001، على الأقل كانت هناك معارضة جديرة بالثقة في مواجهة طالبان، لكن تلك المعارضة ليست موجودة اليوم.[25] كما أنه حين تعالت أصوات معارضة لطالبان في إقليم بنجشير ذي الأغلبية من الطاجيك والهزارة، بقيادة أحمد مسعود، نجل قائد المعارضة السابق أحمد شاه مسعود، حيث نواة التحالف الشمالي الرافض لطالبان- قُبيل أن تهزمهم طالبان- لم يجد مُعينًا على ذلك أيضًا؛ بل وجد تصريح بايدن بأن هناك تفاهمات بين إدارته وطالبان.[26]

كانت هناك محاولات أمريكية بتمديد مهلة الخروج إلى ما بعد 31 أغسطس(آب)- تحجُجًا بأن هناك أعدادًا كبيرة في انتظار الإجلاء- ولكن طالبان رفضتها تمامًا، وبالفعل تم التراجع عن تلك المحاولات والحديث عنها، ولكن لم يكن ذلك هو السبب الحقيقي؛ فقد كانت من أجل خلق مساحة زمنية تُمكن الأمريكيين من إيجاد منافذ وعملاء لهم على الأرض، خاصة في ظل إصرار طالبان على الخروج الكامل لكل الأجانب من أرضهم، فقد كانت نصائح المُحللين أنه  لا تزال الولايات المتحدة بحاجة إلى عيون على أفغانستان، بدافع أن طالبان ليست حليفًا، وأنهم ليسوا مستعدين لتلقي مفاجآت طالبانية أخرى[27]، كما كان في تلك النصائح مُطالبة طالبان بإطلاق سراح آخر رهينة أمريكي معروف، مارك فريريتش، وألا يتركوا خلفهم أحدًا.[28]

الجدير بالذكر أنه في ظل إجبار طالبان للجميع بتسريع عمليات الرحيل الكامل، ترك الأمريكان أعدادًا ضحمة من المُعدات العسكرية، التي أسمتها طالبان بالغنيمة، والتي وفقًا لتصريحات بيرس مورجان (مسؤول مبيعات الأسلحة الأمريكية)  قُدرت بما يُساوي  85 مليار دولار، بما يشمل (75.000) مركبة، وأكثر من (200) طائرة وطائرة هليكوبتر، وأكثر من (600.000)  من الأسلحة الصغيرة والخفيفة، وطائرات هليكوبتر بلاك هوك (أكثر من 85% من دول العالم لا تمتلكها)، بالإضافة إلى أجهزة رؤية ليلية، ودروع واقية، ومستلزمات طبية، والأكثر كارثية أن طالبان حصلت على أجهزة بيو- مترية تحتوي على بصمات الأصابع، ومعلومات السير الذاتية للأفغان الذين عملوا مع القوات و المنظمات الأمريكية على مدى عشرين عامًا. كما أضاف مورجان أنهم كمسؤولين ليسوا متأكدين أن الإدارة الأمريكية برئاسة بايدن لديها خطة لاستعادة كل هذه المعدات العسكرية والإمدادات.

أيضًا على مستوى تأثر تحركات المجتمع الدولي، نجد أن إدارة بايدن تعهدت بالتركيز على منافسة القوى العظمى مع الصين، لكن انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان يضعف موقف واشنطن تجاه بكين[29]؛ وذلك ما دفع كمالا هاريس، نائبة الرئيس الأمريكي- في بداية الأسبوع الرابع من أغسطس (آب)، وفي أثناء الانسحاب الأمريكي من أرض الأفغان- إلى الانطلاق في رحلة دبلوماسية إلى سنغافورة وفيتنام، خاصة أن بايدن أبدى عدم اهتمام واضح في الأشهر الستة الأولى من إدارته، بالاتصال أو التواصل مع أي رئيس دولة من جنوب شرق آسيا، وبدا أنه يركز أكثر على إعادة بناء العلاقات مع أوروبا[30]، خاصة أن المنافس الأشرس للولايات المتحدة (الصين) حقق نحو إحدى وعشرين زيارة، التقى فيها كبار الدبلوماسيين الصينيين نظراءهم في جنوب شرق آسيا منذ أغسطس 2020[31]، بالإضافة إلى تكثيف دبلوماسية اللقاح، حيث كان التبرع الأخير بـثلاثة وعشرين مليون جرعة من اللقاح الأمريكي لجنوب شرق آسيا دفعة غير متوقعة، وهي ذات جودة تتفوق على اللقاحات الصينية الصنع الأقل فاعلية، التي تم نشرها بكميات كبيرة.[32]

فيما يتعلق برحلة هاريس الدبلوماسية- التي تُعد انطلاقتها الأولى إلى الخارج- فمع أنها لم تحظَ بتغطية واهتمام إعلامي في الداخل الأمريكي الذي انصب حينها على الحادث الإرهابي في أفغانستان الذي راح ضحيته ثلاثة عشر جنديًّا من القوات الأمريكية وعشرات الأفغان[33]، فإنها التقت رئيس الوزراء “لي هسين لونج”، وأعلنا اتفاقيات بشأن التحديات الأمنية المشتركة، وتغير المناخ، وبناء سلاسل التوريد المرنة، بالإضافة إلى اقتراح شراكات أعمق في مجال الرعاية الصحية والطبية. كما زارت قاعدة شانغي البحرية لمناقشة العلاقات الدفاعية الأمريكية السنغافورية مع مسؤولي الدفاع السنغافوريين[34]، بالإضافة إلى خطاب ألقته في مدرسة لي كوان يو للسياسة العامة، ركزت فيه على رؤية أمريكا لمنطقة المحيطين الهندي والهادي تحت إدارة بايدن، وطرحت رؤية إيجابية للسلام والاستقرار، وحرية البحار، والتجارة دون عوائق، والنهوض بحقوق الإنسان- بما في ذلك في أماكن مثل بورما- كما أنها حرصت على بلورة النقطة الخلافية بين فيتنام والصين حيث نزاعتهما الإقليمية في منطقة بحر الصين الجنوبي.[35]

الديناميكيات الإقليمية: تنافس ومواءمات

لطالما كانت طالبان تتوق إلى الاعتراف الدولي بأنها كيان سياسي يستحق أن يُقبَل زعيمًا شرعيًّا للدولة الأفغانية. ففور سيطرتها، كانت الصين أول المرحبين بقيادة طالبان، حيث إنها كانت منخرطة رسميًّا مع طالبان منذ عام 2019، وبشكل غير رسمي خلال السنوات العديدة الماضية للتحضير لاستعادة طالبان للسلطة، خاصة خلال يوليو (تموز) 2021، حيث رحب وزير الخارجية الصيني وانغ يي بممثلي طالبان في الصين، في إشارة واضحة جدًّا إلى دفء العلاقات بين الصين وطالبان.[36]

لدى الصين هدفان رئيسيان ومترابطان؛ أولًا: الاستقرار في أفغانستان لتجنب أي امتداد محتمل للتمرد إلى مقاطعة (شينجيانغ/تركستان الشرقية) شمال غرب الصين، حيث موطن أقلية الإيغور العرقية، إذ ترى بكين أنهم جزء من الجماعة الإرهابية حركة تركستان الشرقية الإسلامية (ETIM)، وحتى الآن اعتمدت الصين في الغالب على باكستان )الشقيقة الصارمة( للقيام بالأعباء الثقيلة، ومنع الإرهابيين من دخول (شينجيانغ/تركستان الشرقية)، أو دعم قضية الحركة، ثانيًا: تأمين الوصول إلى الموارد الطبيعية في أفغانستان، حيث تمتلك أفغانستان ما يقرب من تريليون دولار من المعادن الأرضية النادرة القابلة للاستخراج المحبوسة داخل جبالها؛ لذلك تحتاج الصين إلى الاستقرار لبناء الطرق السريعة والسكك الحديدية في جميع أنحاء البلاد، بما يخدم مشروعها الأكبر ، مبادرة الحزام والطريق، الذي يمر بباكستان، وتأمل الصين وصوله إلى إيران أيضًا عبر المرور بأفغانستان.[37]

وعلى منحى آخر ، فعلى الرغم من كونهما خصمين تاريخيين لطالبان، فقد قدم الاتحاد الروسي وإيران في السنوات الأخيرة الدعم للحركة، وأقامتا علاقات أوثق مع قيادتها، ولكن كل الأطراف حاليًّا تتخذ حذرها، كما فضل الاتحاد الروسي تحذير شركائه في آسيا الوسطى من قبول اللاجئين الأفغان، حيث إن الإرهابيين يمكن أن يكونوا مختبئين بينهم، كما أشار الرئيس فلاديمير بوتين إلى أنه “لا توجد قيود على التأشيرات” بين روسيا ودول آسيا الوسطى، بدعوى أن “المسلحين تحت ستار اللاجئين” يمكنهم العبور بسهولة إلى روسيا نفسها.[38] جدير بالذكر أن أربع سفارات فقط استمرت في العمل في كابول بعد سيطرة طالبان، وهي سفارات إيران وباكستان والصين وروسيا، علمًا بأنه على الرغم من عدم وجود اعتراف رسمي بالنظام الجديد في كابول، استمرت التجارة مع باكستان في التدفق عبر الحدود، كما استأنفت إيران شحنات الوقود إلى أفغانستان، فدول الجوار لأفغانستان بصدد محاولة العمل مع طالبان، مع ضمان عدم إطلاق العنان لها.[39]

استنتاجات

  • بعد إعلان طالبان تشكيل حكومتها التي انغلقت على عناصر منها فقط، دون تمثيل المرأة والأقليات، ومن تلك العناصر مطلوبون على قائمة الإرهابيين، وخاصة سراج حقاني وزير الداخلية، وهو رئيس شبكة حقاني المسلحة[40]، فذلك يؤكد أن حُكم طالبان لأفغانستان في الداخل عنوانه الحديد والنار، كما ابتعدت طالبان آلاف الأميال عن الاعتراف الدولي بها أو بحكومتها، وستبقي طالبان مُتصدرة المشهد الأفغاني على المديين القصير والمتوسط؛ بفضل ممارسة الولايات المتحدة تجاهها، وهي سياسة الاسترضاء، ولكن إن دامت طويلًا فيكون واقع أفغانستان تحت سيطرة طالبان كما اليمن تحت سيطرة الحوثيين.
  • استمرار تفاقُم تدفق المهاجرين الأفغان إلى دول الجوار.
  • ما آلت إليه الأحداث، بالإضافة إلى فرض الحظر على الرياضة النسائية [41]، والإغلاق العنيف، وحظر الاحتجاجات معًا، كلها أمور تكشف الهوة العميقة بين وعود طالبان وتنفيذها. ليس من الصعب الوصول إلى نتيجة مفادها أن وعدها بعدم السماح للجماعات الإرهابية باستخدام الأراضي الأفغانية سوف يلقى المصير نفسه؛ بل قد تكون هي من تقوده وتوجهه للضغط على أي طرف كورقة مساومة وتهديد لتحقيق مصالح أو رغبات معينة.
  • ستسعى الولايات المتحدة إلى شراكات أعمق في مجال الرعاية الصحية والطبية، مثل المكتب الإقليمي في جنوب شرق آسيا في هانوي للسيطرة على الأمراض. ودفع الاقتصاد الرقمي في فيتنام، ومنها إلى دول المنطقة، بما يُعزز إمكانية إعادة الانخراط في شبكات التجارة في آسيا والمحيط الهادي؛ لتعوض الضرر الذي أحدثه الانسحاب المفاجئ للرئيس ترمب من الشراكة عبر المحيط الهادي قبل خمس سنوات، وفي المناطق التي تكون فيها الولايات المتحدة قادرة على المنافسة. تضم جنوب شرق آسيا أيضًا حليفين للولايات المتحدة، هما تايلاند والفلبين، بالإضافة إلى شركاء أمنيين مهمين، مثل سنغافورة، وشركاء ناشئين رئيسيين، مثل فيتنام. علمًا بأن العلاقات بين الولايات المتحدة وفيتنام قد توسعت كثيرًا في السنوات الأخيرة، وشهدت نموًا في العلاقات التجارية بما يشمل إقامة شراكة شاملة عام 2013، بالإضافة إلى تعزيز دبلوماسية اللقاح.

ما ورد في المقالة يعبر عن رأي الكاتب ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير


شارك الموضوع