مختارات أوراسية

عام جديد في ظل عالم مملوء بالأوهام


  • 8 يناير 2023

شارك الموضوع

أطلقت (العملية العسكرية الخاصة) في أوكرانيا، التي بدأت في 24 فبراير (شباط) 2022، سلسلة من العمليات والأحداث التي أدت إلى نشوء صراع عالمي، يمكن مقارنته بالحروب العالمية من الناحيتين السياسية والاقتصادية. ربما نكون في المرحلة الأولى من هذا الصراع، لكن بمرور الوقت سيشارك مزيد من اللاعبين فيه. مع ذلك، يمكن استخلاص بعض الاستنتاجات الأولية بالفعل الآن.

كان العام الماضي هو عام اصطدام ما بعد الحداثة بالعالم الحقيقي. عمليًّا، بنى جميع المشاركين المباشرين وغير المباشرين في الأزمة الأوكرانية سياساتهم الداخلية والخارجية على أسس نظرية وعَقَدية، وعلى التفكير بالتمني، كلما كانت العواقب أكثر خطورة عليهم؛ لذا، دعونا نلقِ نظرة على اللاعبين الأساسيين، وأوهامهم الرئيسية.

الأوهام الروسية

الوهم الأول والأساسي لروسيا، تعلق بقابلية التفاوض مع الأطراف المقابلة. خلال فترة ما بعد الاتحاد السوفيتي، حاولنا إقامة علاقات سلمية مع أوكرانيا، استنادًا إلى أن ذلك الخيار سيكون الأفضل للجميع: “الغرب سيكون لديه إدراك بأن روسيا قوة نووية رائدة على حدوده؛ ومن ثم سيحترم مصالحها مقابل حصوله على حزام أمني يمكن التنبؤ به، وقواعد لعب واضحة”، إلى جانب درجة عالية من التأثير في أوكرانيا. بالإضافة إلى ذلك، ستحافظ أوروبا على علاقاتها مع روسيا وتعززها كقاعدة موارد رئيسية وسوق مبيعات واسعة، وستتاح لأوكرانيا فرصة الاندماج الناعم في أوروبا، مع الحفاظ على العلاقات الاقتصادية والثقافية العميقة مع روسيا، في حين ستحتفظ روسيا بالتأثير في أوكرانيا، وضمان سياسة كييف الودية تجاه كل من موسكو والملايين من السكان الروس في أوكرانيا، بالإضافة إلى مزيد من الاندماج التدريجي في الغرب، وقبل كل شيء في النظام الأوروبي (حتى التكامل).

مع ذلك، فإن التاريخ الكامل لأوكرانيا ما بعد الاتحاد السوفيتي، هو تاريخ للحركة العكسية. أصبحت هذه الحركة لا رجوع عنها منذ عام 2014، وأدى التجاهل المستمر لهذه الحقيقة، ومحاولة عقد تفاهمات مع كييف أو الغرب بعناد شديد، في تناقض مع الواقع والمنطق، إلى بدء (العملية العسكرية الخاصة). ما الخطأ الذي حدث بالضبط في نهاية فبراير (شباط)؟ لن نعرفه قريبًا. ولكن إذا كانت موسكو قد حددت هدفها لحل المشكلة الأوكرانية وفقًا للسيناريو الجورجي، مع قليل من إراقة الدماء، وفي غضون أيام قليلة، فمن الواضح أن هذا الهدف لم ولن يتحقق.

أود أن أصدق أن أوهام موسكو قد تبددت أخيرًا، ولم تعد قيادتنا العسكرية والسياسية تأمل في عقد صفقة مع الغرب وكييف. مع ذلك، وحتى الآن، يشير مسار الأحداث إلى العكس تمامًا: “بعد بدء العمليات العسكرية في فبراير (شباط)، يتم تنفيذ العمليات الهجومية فقط في دونباس، وليس على طول الجبهة بكاملها، ولكن في المناطق المحلية- بشكل رئيسي من جانب قوات الشركات العسكرية والأمنية الخاصة، والميليشيات الشعبية السابقة للجمهوريات”. هناك شعور بأننا خلال العام لم نفهم حقًا ما يجب القيام به، كما لو كنا ننتظر أن يشعر العدو بالملل أمامنا، وسيبدأ أخيرًا بالتفاوض بشكل حقيقي.

الوهم الثاني: هو القدرات القتالية للجيش الروسي. أصبح من المعتاد الآن توبيخ الجيش، وإلقاء اللوم عليه حتى من داخل البيئة الوطنية والداعمة للكرملين. لكن يجب أن يكون مفهومًا أنه منذ وقت إصلاح سيرديوكوف، لم يكن الجيش الروسي مستعدًا لخوض نزاع بري واسع النطاق، مع خط مواجهة أمامي يبلغ بضعة آلاف من الكيلومترات، مع الحاجة إلى إجراء تعبئة وطنية داخلية على مستوى الحرب الوطنية العظمى، وحشد مئات الآلاف من الناس. هذا الخلل لن يتغير بين عشية وضحاها. وعلى الرغم من أوجه القصور التي حُدِّدت في تصرفات القوات المسلحة وهيئة الأركان العامة، وأُصلِحَ بعضها، فإننا ما زلنا لا نرى هجومًا واسع النطاق لديه هدف حاسم يتمثل في هزيمة الجيش الأوكراني. ربما سنراه هذا العام، ويستعد الجيش للقيام به بالفعل.

الأوهام الأمريكية

الوهم الأول الرئيسي للولايات المتحدة، في حقبة ما بعد الحرب الباردة، يتعلق بتخيلها إمكانية السيطرة الكاملة (أو على الأقل الهيمنة) على العمليات الجارية في العالم؛ ومن ثم “حقها” الحصري في تحديد مصالح الأطراف الأخرى. كانت سياسة واشنطن قائمة على مبدأ بسيط جدًّا: “ما أريده هو ما سيكون، ولا يحق لأي طرف أن يطلب أكثر مما أعطيه إياه”. أما من يتمرد على هذه السياسة، فكان رد واشنطن بسيطًا أيضًا: “أنا أمتلك الوسائل الكافية لإكراه أولئك الذين يعصون أوامري ومعاقبتهم”.

في كثير من النواحي، أدت عدم المرونة الأمريكية هذه إلى الأزمة الحالية: “إذا كان لدى الولايات المتحدة رغبة في إنهاء هذه المشكلة، لحرصت على التفاوض مع موسكو، وقبلت بعض طلباتها السياسية والاقتصادية لحفظ ماء وجهها، وإلى حد كبير كانت موسكو مستعدة للكثير في الاستجابة”.

في الشرق الأوسط، أدى هذا السلوك بالفعل إلى إضعاف حاد لموقف الولايات المتحدة. كما جعل احتمال الصراع مع الصين لا رجوع فيه تقريبًا؛ لقد تم زرع القنابل الموقوتة في إطار العلاقات مع الحلفاء في أوروبا وآسيا، ومن المحتمل أن تنفجر في السنوات المقبلة.

منذ الحرب العالمية الثانية، تعمل الولايات المتحدة على إنشاء نظام عالمي، بطريقة ما، نوع جديد من الإمبراطورية. لقد سيطروا باستمرار على العمليات السياسية والاقتصادية في العالم دون مواجهة كثير من المقاومة. على العكس من ذلك، حاول الجميع الاندماج في هذا النظام، وحصلوا في المقابل على بعض الفوائد الاقتصادية والتقنية، والحماية العسكرية، لكن الولايات المتحدة، بعد أن وجدت نفسها تؤدي دور الدولة الأم لجميع دول العالم، بدأت بالتخلص من هذا الدور، وبعد عدة أجيال، أصبحت الطبقة السياسية الأمريكية مقتنعة بأن هذا النظام بات يراعي مصالح الشركات وعدة أطراف خارجية أكثر من مصالح الولايات المتحدة، وتحول إلى عبء في بعض الأحيان؛ ومن هنا يأتي الركود، وكلما ازدادت هستيريا السياسة الخارجية الأمريكية، تحاول إجبار الآخرين على التصرف بطرقتها الخاصة؛ ونتيجة لذلك، يتقوض النظام العالمي المتمركز حول أمريكا.

تتمتع الولايات المتحدة بهامش أمان قوي، ولا تزال تمتلك قاعدة تأثير واسعة النطاق، والمؤسسات العالمية البديلة بدأت للتو بالتبلور؛ لذلك لا ينبغي للمرء أن يتوقع تغييرات ملحوظة في السياسة الأمريكية في السنوات المقبلة، خاصةً في ظل الانقسام الداخلي. على النقيض من ذلك، فإنه هذا الوضع يدفعها نحو زيادة التوتر في السياسة الخارجية.

الوهم الثاني: تخيل إمكانية كسب الصراع العسكري في أوكرانيا دون تدخل مباشر فيه. نعم، القوات المسلحة لأوكرانيا صامدة صمودًا جيدًا، لكن روسيا نشرت حتى الآن جزءًا صغيرًا من مواردها العسكرية في (العملية العسكرية الخاصة)، ودرجة التصعيد من جانب موسكو تتحدد بناءً على القرارات السياسية وليس القدرات العسكرية. إذا أرادت موسكو، وكانت مستعدة، يمكنها مضاعفة الهجوم، الذي سيكون من الصعب جدًّا على الغرب والولايات المتحدة الرد عليه دون تدخل مباشر في الصراع مع قواتهما (على الأقل الدفاع الجوي والقوات الجوية). مع ذلك، شدد الرئيس بايدن مرارًا وتكرارًا على أنه لن يوافق على هذا التدخل ما دام على قيد الحياة.

الأوهام الأوروبية

الوهم الأول لأوروبا هو أن رفاهيتها التي تحققت جيدًا في العقود الماضية هي ميزة خاصة بها، وأنها تقوم على مجموعة من القيم المجردة. الواقع أن رفاهية أوروبا كانت تقوم على ركيزتين رئيسيتين: “الحماية العسكرية عبر الجيش الأمريكي، وقاعدة موارد رخيصة روسية في المقام الأول”. أسهم غياب الحاجة إلى رعاية أمن الفرد وموارده وأسواق المبيعات، واستحالة النزاعات الداخلية من ناحية، في انطلاق اقتصادي غير مسبوق، وعصر ذهبي حقيقي، ومن ناحية أخرى أدى إلى انحطاط النخب الأوروبية والطبقة السياسية، التي اعتقدت بصدق أن هذا الوضع سيظل دائمًا، ولا يوجد جديد بحاجة إليه لتنمية القيم والسعي إلى نشرها في جميع أنحاء العالم المتخلف المحيط. يفسر هذا التصور عناد أوروبا وتعنتها، بل تطرفها المطلق في القضية الأوكرانية. تتخذ أوروبا أشد العقوبات شراسة على روسيا بأكبر قدر من الحماسة، بغض النظر عن أي ضرر.

في ظل هذه الأوضاع الجديدة، تحرم أوروبا نفسها من سوق كبيرة، وكذلك من أهم قاعدة لمواردها، وتتحول إلى اعتماد شبه استعماري على واشنطن، التي على عكس أوروبا، لديها قوة عسكرية كبرى، وسيطرة حقيقة على العمليات السياسية والاقتصادية الجارية في عالم اليوم.

بعد فشل المحاولة المشتركة من الغرب لإعطاء روسيا صدمة اقتصادية، وشعورًا بالرهبة، فإن قادة أوروبا في حيرة: “يمكن للأشخاص أنفسهم التحدث عن الحاجة إلى نصر عسكري على روسيا، وبعد ذلك بيومين يمكنهم الحديث عن الحاجة إلى حوار دبلوماسي”، على ما يبدو دون فهم حقيقي لما يعنيه “النصر العسكري”، وما يعنيه “الحوار الدبلوماسي”.

احتمالية نمو أسعار الطاقة والخامات في السنوات المقبلة كبيرة؛ ونتيجة لذلك، ستشهد أوروبا تراجعًا في عمليات التصنيع، وانخفاضًا في مستويات المعيشة، واحتمال نشوب حرب تجارية مع الولايات المتحدة، في ظل حالة من الركود العالمي، مع احتمالية بقاء أوكرانيا مدمرة لعدد غير محدد من السنوات، مع احتمالية خسارة الاستثمارات المتراكمة في روسيا، لكن هذا الوضع الصعب لن يؤدي إلى تغيير في السياسات الأوروبية؛ لأنه- ببساطة- لا يوجد من لديه القدرة على اتخاذها وتنفيذها. بالإضافة إلى ذلك، فإن مشكلات الاتحاد الأوروبي التي طال أمدها، والتي تعثر بسببها في السنوات السابقة، لم تختف: “أزمة الهجرة، والأزمة الاقتصادية المستمرة لجنوب أوروبا التي على وشك التحول إلى انهيار اقتصادي كامل”.

الأوهام الأوكرانية

الوهم الأول لأوكرانيا هو الإيمان بإمكانية بناء دولة أحادية العرق معادية لروسيا داخل حدود ما بعد الاتحاد السوفيتي، في ظل وجود نسبة كبيرة من السكان الروس، فضلًا عن الاقتناع بأن الغرب وروسيا نفسها سيظلان- إلى ما لا نهاية- يتقاتلان لأجل عيون أوكرانيا.

أوكرانيا ليست بولندا، ولن يدعمها الغرب إلى ما لا نهاية، أو يسعى لتحويلها إلى دولة نموذجية. بعد أن دخل هذا الصراع مرحلة مفتوحة في عام 2014، وتحولها إلى بؤرة مناهضة لروسيا، بدأت أوكرانيا بالتحول إلى العسكرة، وخوض حرب انتحارية لصالح الغرب ضد روسيا.

يجب الاعتراف بأن هذا النموذج كان ناجحًا جزئيًّا: “لقد صمدت كل من القوات المسلحة لأوكرانيا، والدولة الأوكرانية ككل في وجه ضربة فبراير (شباط)، وتمكنت من التعافي بدعم من الغرب، وتسببت في عدد من الهزائم المؤلمة لروسيا بحلول الخريف”. ومع ذلك، فإن النجاحات العسكرية ليست ذات طبيعة إستراتيجية، وتكلفتها هي موت الاقتصاد الأوكراني. وفقًا لتقديرات مختلفة، فرّ ما يصل إلى ثلث السكان من أوكرانيا، وانخفض الإنتاج بمقدار النصف حتى قبل الضربات الروسية على منشآت الطاقة التي بدأت في أكتوبر (تشرين الأول)، وبحلول العام الجديد، وفقًا لتصريحات رسمية من كييف، وصل معدل الانخفاض إلى نسبة 70%، وهذا يعني البطالة، وخزانة فارغة، وإفقارًا للسكان، وإغلاقًا واسع النطاق للمؤسسات الصناعية.

الوهم الثاني: الدعم الغربي. نعم، يدعم الغرب الآن أوكرانيا دعمًا كبيرًا، ويتكبد نفقات جسيمة لذلك، لكنه ما زال يتجنب المشاركة المباشرة في المعارك، وتتحمل كييف وحدها كل المصاعب. مهما كانت نتيجة المرحلة الساخنة من الصراع، فإن أوكرانيا المدمرة على ما يبدو، سيتعين عليها التعامل مع العواقب التي سيخلفها الصراع بمفردها، وهو ما يلقي بظلال من الشك على مستقبل وجودها. مع ذلك، حتى إذا أدركت النخب الأوكرانية هذه الحقائق، فلا يمكنهم التوقف عن الصراع. السيطرة الغربية على كييف شديدة جدًّا، والضخ الأيديولوجي كبير جدًّا، وكل شيء ذهب إلى مداه الأبعد.

يمكن للغرب أن يدفع أوكرانيا إلى التفاوض في حالة واحدة فقط: “إذا هُزمت القوات المسلحة الأوكرانية، وفقدت قدرتها على القتال، وإذا تقلصت المساحات التي تسيطر عليها كييف بما يكفي لكي تفقد أهميتها الإستراتيجية للغرب”. أي هدنات لن تؤدي إلا إلى تأجيل الصراع إلى المستقبل، ولا ينبغي أن يكون لدى المرء أي أوهام بشأن هذا الموضوع.

الصراع العالمي آخذ في الازدياد؛ روسيا والغرب، اتخذ الصراع بينهما صفة الوجودية، ولا يظهر أي من الطرفين ميلًا إلى التسوية. الأمر الأكثر إثارة للدهشة هو أن الأعمال العدائية لا تزال محلية نسبيًّا بطبيعتها، ومقتصرة على مسرح أوكراني واحد. يبدو أن الأطراف ركزت على كيفية تعلم العيش في الظروف الجديدة، مما يعني أن تطوير النظام العالمي القادم يمكن أن يحدث بشكل سلمي نسبيًّا، دون الحاجة إلى التحول إلى صراع لا نهاية له ضد الجميع، مع خطر وقوع كارثة نووية.

أخيرًا، ستُعطى المبادرة في هذه العملية لمن يقبل الواقع قبل الآخرين، ويفهم مكانه فيه، ويبدأ بالتصرف وفقًا لذلك. هذا لا ينطبق على المشاركين في الأزمة الأوكرانية المذكورة أعلاه فحسب؛ ولكن أيضًا على البلدان المحايدة التي لم تنفصل بعد عن أوهامها[1].

 

ما ورد في المقالة يعبر عن رأي الكاتب ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير


شارك الموضوع