من بين كل المدن المصرية، كانت الإسكندرية، في منتصف القرن التاسع عشر حتى أواسط القرن العشرين، مدينة مكتظة بالجاليات الأجنبية المختلفة، وواحة للتسامح الديني والثقافي، وملاذًا كوزموبوليتانيًّا بصورة استثنائية، لكن الذين يؤرخون لتلك الفترة يقصرون حديثهم عن الجالية اليونانية أو الأرمينية بشكل أوسع وأشمل من بقية الجاليات الأخرى.
في عام 2014، أصدر المركز القومي للترجمة في مصر كتابًا بعنوان «الإسكندرية الروسية.. قدر المهاجرين»، لمؤلفه غينادي فاسيليفيتش غارياتشكين، الذي عاش في مصر 10 سنوات عمل خلالها مديرًا للمركز الثقافي الروسي في الإسكندرية، وترجمه إلى العربية علي فهمي عبدالسلام، وهو كتاب يكشف عن تاريخ الشتات الروسي في مصر وأسراره، وتحديدًا في مدينة الإسكندرية، وهي مادة ثرية لم يكن الحديث عنها مسموحًا به، وكأنه ماضٍ ممنوع، لم تُتح للباحثين دراسته وتتبع آثاره إلا مع قيام الاتحاد الروسي، وزيارة الرئيس بوتين مقابر المهاجرين البيض في ضواحي باريس، كما يقول غارياتشكين في مقدمة كتابه.
في ذلك الكتاب حديث عن الإسكندرية بأزمنتها التاريخية المختلفة، حتى توافد الجاليات الأجنبية إليها بعد قدوم محمد علي باشا إلى الحكم عام 1805، وكيف فقدت المدينة في عهد سعيد باشا (1854- 1863) نكهتها الشرقية ليصبح ربع عدد سكانها غير مصريين.
وبعد أن يفصل بالشرح والتأصيل لكل الجاليات الأجنبية الكبيرة والصغيرة التي عاشت واستوطنت الإسكندرية، يتحدث غارياتشكين عن الجالية الروسية، مؤكدًا أنها تقع في منطقة وسطى بين الجاليات الأجنبية الصغيرة، فوفقًا لتعداد عام 1882، كان هناك (340) روسيًّا يتخذون من الإسكندرية وطنًا ثانيًا لهم، لكنها في تعداد 1897 كانت أولى الجاليات، حيث بلغ عددها (3192) فردًا.
قبل ذلك، وفي بدايات القرن السابع عشر الميلادي، يحكي غارياتشكين عن بعض الحجاج الروس الذين كانوا يفضلون زيارة الإسكندرية وهم في طريقهم إلى الأراضي المقدسة في سيناء وفلسطين، مع أن الإسكندرية لم تكن على خريطة الرحلة.
وقد نقل غارياتشكين وصفًا بديعًا لأحد الحجاج، وهو أرسيني سوخانوڨ الذي زار الإسكندرية عام 1651، حيث رأى تناقضًا واضحًا بين بقايا زمن عظيم وخراب الحاضر لعروس البحر الأبيض، حيث كتب قائلا: “الإسكندرية مدينة تحتوي على أبنية غير عادية؛ فلا توجد مدينة مثلها تم تزيينها بهذا القدر، كما أنها أصبحت الآن خالية من الناس، فلا يعيش بها إلا قليلون حول بوابة المدينة، أما وسطها فمقفر، ومساكنها قد انهارت”.
ربما كانت هذه هي الملامح الأولى التي رصدها غارياتشكين عن علاقة الروس بالمدينة المصرية الساحلية، لكن تلك الأعداد تضاعفت وزادت مع مطلع القرن العشرين، فبعد الثورة الروسية عام 1905، وبعد مذابح فرق “المئة السود” الإرهابية، بدأت هجرة جماعية من روسيا وما حولها إلى الإسكندرية، ووفرت المدينة المصرية المأوى للروس النازحين والفارين من الاضطرابات السياسية والأعمال الإرهابية، وأُسِّست جمعيات خيرية بهدف جمع التبرعات للروس المسلمين واليهود على السواء، وذكرت الصحف المصرية أن منظمة زڨينيغورودسكايا أنشأت “اتحاد المهاجرين الروس اليهود” لا بهدف توفير مال لهم؛ ولكن من أجل توفير عمل يساعدهم وأسرهم على العيش.
ويشير غارياتشكين إلى أن الإسكندرية في الوقت نفسه كانت مسرحًا مهيأ لممثلي حركة المعارضة الروسية، بصورة لم يستطع القنصل الروسي في الإسكندرية آنذاك بيتروف أن يراقب نشاط الثوار، أو يتتبع حركاتهم، وهو ما ذكره في خطابه إلى وزير الخارجية المؤرخ في 22 أغسطس (آب) 1913.
ويرجع المؤلف السبب في استخدام المعارضة مدينة الإسكندرية إلى أنها تقع على مفترق ثلاث قارات، وقربها من الساحل الروسي، وتبعيتها الصورية للدولة العثمانية، ولأنها مستعمرة إنجليزية من جانب آخر. وكانت صحيفة إسكرا “الشرارة” بالروسية، وهي صحيفة كانت تصدر من خارج روسيا لنشر الأفكار الاشتراكية، تطبع منشوراتها سرًّا في مطعم “سيفاستوبول” في الإسكندرية وترسلها عبر سفن الشركة الروسية للملاحة إلى روسيا.
وهكذا توطدت العلاقة بين المهاجرين الروس ومدينة الإسكندرية. صحيح أنهم لم يكونوا عددًا أكبر من اليونانيين والإيطاليين وتلك الجاليات الكبرى في المدينة، لكنهم- كما يقول المؤلف- كانوا أكثر عددًا من الجاليات الألمانية والمجرية والنمساوية والإسبانية والبرتغالية والأمريكية والهولندية والدنماركية والسويدية.
وكان المهاجرون الروس آنذاك يقطنون ثلاث مناطق في مصر بشكل عام، وهي الإسكندرية، والقاهرة، ومنطقة القناة، ولم يقل تعداد الروس في الإسكندرية عن الثلث في أي وقت، وكان معظمهم يعمل بالتجارة والخدمات، وعدد غير قليل منهم يعملون مهندسين وفنيين. وكانوا يعيشون في المناطق الوسطى في الإسكندرية، خاصة بالقرب من الميناء ومحطة السكك الحديدية، فضلا عن إقامة بعضهم الآخر في بعض الأحياء الشعبية، مثل مينا البصل، والعطارين، واللبان، وغيرها من المناطق.
لكن الخروج الجماعي الأكبر للمهاجرين الروس إلى مدينة الإسكندرية كان بين شهري فبراير (شباط) ومارس (آذار) عام 1920 في الحرب الأهلية التي قتل فيها الملايين، وهُجِّرَ ما يقرب من مليون شخص، حُمل بعضهم إلى مدينة الإسكندرية عبر خمس سفن إنجليزية وروسية، وأمضى اللاجئون عشرة أيام في الحجر الصحي بسبب وباء التيفوس.
وفرضت السلطات الإنجليزية في معسكر التل الكبير نظامًا صارمًا صعّب من عيش المهاجرين الروس؛ فقد سكنوا في مخيمات ومعسكرات محاطة بأسلاك شائكة، وكان لا يسمح بالخروج منها إلا بتصريح من القائد البريطاني، والتصريح لا يستخدم إلا يومًا واحدًا. وفي كتاب غارياتشكين وصف دقيق نقله عن شهادات مؤرشفة لأحد الأطباء الذين عاينوا هذه المعسكرات، وعاشوا تفاصيلها الصعبة لحظة بلحظة.
ورغم كل ما فُرض على معسكر التل الكبير نشأت أنشطة ثقافية وترفيهية، وأقيمت دروس لمحو الأمية، وتم عمل صالونات لحياكة الملابس، وصناعة الأحذية، فوجد الروس لأنفسهم عملا وحياة أخرى ملأى بالأمل والتحدي، وأخطرت السلطات البريطانية القنصل الروسي أنها سترسل المهاجرين الروس إلى صربيا، أما من أراد البقاء في مصر فعليه إيجاد عمل لنفسه كهؤلاء، وبعد عامين كان عدد كبير منهم قد انتقل من التل الكبير إلى الإسكندرية، وتحديدا في منطقة سيدي بشر، ليصبحوا نواة جديدة، وزيادة أخرى في عدد الروس المقيمين في المدينة الساحلية.
في الإسكندرية بدأت حياة أخرى في منطقة سيدي بشر، مطاعم تقدم المأكولات الروسية، وإنشاء مراكز ثقافية، ومكتبات عامة، ومسارح، وفرق موسيقية، بل إصدار صحف خاصة بهم كانت تطبع بأعداد قليلة.
تمت تصفية معسكر سيدي بشر في صيف عام 1922، وتم ترحيل بعضهم إلى بلغاريا ويوغسلاڨيا، في حين تشبثت قلة قليلة في الإسكندرية بالمدينة التي كانت مسرحًا لتفاصيل جزء من حياتهم في فترة من أصعب الفترات، وبقي التاريخ يحدث عن نفسه، ويظل الأمر بحاجة إلى مزيد من استقراء تاريخ هؤلاء الذي ظل- سنواتٍ- محرمًا لا يمكن الاقتراب منه.
ما ورد في المقالة يعبر عن رأي الباحث ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير