تشهد القارة الإفريقية موجة جديدة نحو “الاستقلال” الثاني، بعدما شهدت على مدار عقدين، منذ خمسينيات القرن الماضي وما تلاها، الموجة الأولى من النضال لأجل الاستقلال رسميًّا. كان هذا الموضوع هو محور حلقة نقاشية لبرنامج “المراجعة الدولية“، المذاع على قناة “روسيا 24”.
إن إفريقيا هي النموذج المصغر للعالم، حيث تشهد صحوة أخرى، وهو ما طرح عدة أسئلة: لماذا تصدر الانقلاب في النيجر الأخبار العالمية؟ ماذا يعني هذا لفرنسا؟ ماذا تريد “إفريقيا الشابة”؟ هل هي بحاجة إلى روسيا؟
أجاب عن كل هذه الأسئلة الخبيران الروسيان فيودور لوكيانوف، وسيرغي كارامايف.
بدا لي أن هذا الضجيج الذي يحدث بشأن النيجر، وما يجري فيها من أحداث، يفوق ما يحدث عادة في مثل هذه الحالات. ما سبب اهتمام الجميع بهذا البلد؟
هناك بالطبع أسباب كثيرة هنا؛ أولًا: كانت النيجر حليفًا موثوقًا به للغرب حتى الانقلاب. إذا نظرت إلى الصحافة بين عامي 2021 و2022، فستجد إشادة مستمرة بالنيجر من جانب الغرب. من الطبيعي مع تغير الوضع أن يتوقف هذا المديح الغربي. ثانيًا: يوجد مشروع طموح لربط خطوط الغاز الطبيعي بين إفريقيا وأوروبا عبر الصحراء من نيجيريا إلى الجزائر ثم إلى أوروبا، وبين نيجيريا والجزائر تقع النيجر، وعلى هذا يعتمد مصير تدفق الغاز الذي تحتاج إليه الجزائر، وقبل كل شيء أوروبا. ثالثًا: توجد قاعدة جوية تابعة للقوات الجوية الأمريكية في النيجر. هذه ليست وحدة كبيرة جدًّا؛ إنها بالأحرى محطة للطائرة بدون طيار، ولكن مع ذلك، يوجد نحو ألف فرد هناك، ومن الواضح أن أمريكا تشعر بالقلق.
أعتقد أنه في عام 2021، قال سفير الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة صراحةً: “إن النيجر من أهم حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة”. من الطبيعي أن يكون رد فعل الولايات المتحدة على الانقلاب في النيجر مختلفًا عن أماكن أخرى. أخيرًا، الموقع الجغرافي للنيجر مهم جدًّا من وجهة نظر القضايا الأمنية في المنطقة، ليس سرًّا أن الجماعات الجهادية تعمل باستمرار في غرب إفريقيا، وما يحدث في النيجر يؤثر- مباشرة- في كيفية تطور الوضع في نيجيريا، وتشاد، وبوركينا فاسو، وغيرها من البلدان المجاورة، وهكذا أصبحت النيجر فجأة نقطة محورية للأحداث في القارة.
هناك شعور عام بأن القوى الغربية وحلفاءها مستعدون لبذل كل الجهود لتغيير الوضع، لكن في الوقت نفسه، لا أحد يريد التورط في هذه المواجهة؛ لأن النتيجة غير واضحة. هل تعتقد أن الأمر ينحصر في الرغبة في إظهار القوة أم أن هناك شيئًا آخر؟
من الصعب الجزم بوضوح بشأن النيّات الحقيقية، لكن على مدى العقدين الماضيين، فقدت كثير من البلدان الرغبة في التورط في التدخلات العسكرية بالمناطق الساخنة؛ لأن كل شيء يبدأ صغيرًا (قوات شرطة، أو عملية حفظ سلام)، وينتهي بحرب واسعة النطاق. الحرب عبارة عن إنفاق ضخم للموارد، والمال، والأفراد، والقوى العاملة، وكل شيء آخر؛ لأجل تحقيق أهداف غير واضحة تمامًا. إذا كان هناك ضمان بأننا سنحضر الآن ألف شخص، ونرتب كل شيء بسرعة ونغادر، بالطبع، في هذه الحالة سيتدخل الجميع، ولكن عندما يكون الوضع غير واضح، ويتغير كل يوم، إن لم يكن كل ساعة، فلا يمكن الاعتماد على التدخل العسكري المباشر. هناك طرق أخرى، على سبيل المثال، العقوبات الاقتصادية: “ببساطة، حصار البلاد اقتصاديًّا”. هذا يمكن أن يكون أكثر فاعلية.
نسمع أحاديث كثيرة، حتى في فرنسا نفسها، عن أن باريس تفقد نفوذها، هل هي مبالغة أم أننا فعلا نشهد تراجعًا؟
لقد كنا نشاهد غروب شمس فرنسا منذ أكثر من عام. يبدو الأمر وكأن الثلج يذوب في أبريل (نيسان) حيث بدأ تساقط الثلوج، وبعد أسبوعين كانت هناك بالفعل كل هذه الأحداث المتلاحقة، ويبدو أنه لم يحدث أي انهيار مفاجئ. بالمناسبة، يحدث شيء مماثل مع فرنسا، وهو تطور اقتصادي بحت: “في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، كانت 10 في المئة من حجم التجارة مع إفريقيا لصالح فرنسا، أما الآن فهي أقل من 5 في المئة، في حين أن حصة الصين 17 في المئة”.. الأرقام تتحدث عن نفسها. بغض النظر عن مدى صعوبة محاولة ماكرون إثبات العكس، لا يزال الفرنسيون يتمتعون بموقف أبوي تجاه إفريقيا، كما لو أنهم ليسوا شبابًا يافعين؛ بل مجرد أطفال يحتاجون إلى الرعاية؛ لذلك تقول لهم فرنسا سنبقى هنا.
لقد اعتادت فرنسا هذا الوضع، فهي تتلقى موارد رخيصة، وتبيع البضائع إلى إفريقيا، وهو وضع مريح لها، لكن الأفارقة لا يحبون ذلك.
يجب ألا ننسى أن إفريقيا قارة شابة وحيوية جدًّا، وملأى بالشباب، ويتفاعل الشباب مع هذه الأمور بشكل أكثر حدة من كبار السن. الشباب يريدون التغيير، ويرون أوضاعًا لا تناسبهم، وبالطبع سوف يحتجون. لم يبدأ الأمر بالأمس، ولا يمكن القول أيضًا إنه كان مفاجئًا، ولا يمكن حل المشكلة دفعة واحدة، الآن وعلى الفور، ويقول الجيش: “سوف نأتي ونستعيد النظام”.
لماذا إذن رد الفعل هذا من المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس)؟ لماذا انزعجوا وبدؤوا فجأة بالتلويح بالتدخل العسكري؟
كما قال الرفيق سوخوف: “إن إفريقيا مسألة حساسة”؛ لأنه قبل أي “انقلابات”، على سبيل المثال، كما هي الحال في زيمبابوي، مع أنني لا أعتقد أن ما حدث هناك كان انقلابًا، تكون هناك استعدادات دبلوماسية خلف الكواليس، وقد أوضح الانقلابيون للشركاء الغربيين نيّاتهم قبل القيام بأي تحرك: “أيها الرفاق الأعزاء، قد يكون لدينا تغيير طفيف في السلطة هنا، فلا تتفاعلوا كثيرًا”، فقيل لهم: “نعم، حسنًا، لقد أخذنا علمًا”، وشارك الجيش بنشاط في هذه العملية، في حين كان الانقلاب في النيجر أشبه بصاعقة مفاجئة للجميع، سواء لفرنسا أو لإفريقيا. وبطبيعة الحال، رد الفعل الأول هو: “كيف يمكن أن يكون هذا؟ لماذا حدث ذلك؟”.
النقطة الثانية هي أن الانقلاب في النيجر كان سببًا في رد الفعل هذا بين المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا؛ لأن هذه المجموعة مرتبكة إلى حدٍ ما، ولا تعرف ما الذي يجب عليها أن تفعله. والآن، تدور مفاوضات هادئة خلف الكواليس، كما يحدث- في الواقع- في الشؤون الدبلوماسية، ومعظمها مغلق أمام الجمهور. تحاول المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا التوصل إلى كيفية بناء علاقات مع الحكومة الجديدة. وفي إفريقيا، يعد الانقلاب ناجحًا إذا استمرت الحكومة الجديدة أكثر من أسبوع. لقد استمروا بالفعل أكثر من شهر بقليل، مما يعني أننا بحاجة إلى بناء علاقات معهم بطريقة أو بأخرى؛ لذلك نحن بحاجة إلى جدول أعمال، وتحديد كيفية التصرف، ونحتاج إلى بيانات بالطبع.
يُعتقد أن الشركات العسكرية الخاصة لدينا (فاغنر وغيرها) هي التي تملأ هذا المكان أو الفراغ. ما دورها الفعلي؟ هل نبالغ؟ لقد سمعت آراء مختلفة من الأفارقة، ويعتقد البعض أن فاغنر- على وجه الخصوص- أدّت دورًا سلبيًّا في تشكيل صورتنا في إفريقيا.
دعنا نقُل فقط إنه لا توجد إجابة واضحة هنا. في البداية، ما شركة فاغنر؟ وما طبيعة عملياتها؟ عندما يقال إن شركة فاغنر تعمل في إفريقيا، يقولون ببساطة: “نحن نقدم المساعدة، بما في ذلك بهذه الطريقة”. والشيء الآخر هو أن شركة فاغنر تعمل بنجاح في جمهورية إفريقيا الوسطى، لكنها، على سبيل المثال، لم تتمكن من العمل في موزمبيق. لقد وصلوا إلى موزمبيق في الوقت المناسب، وفشلوا في القيام بالمهمة وغادروا بعد شهرين؛ ولذلك لا أستطيع أن أقول إن فاغنر عامل مؤثر في جميع أنحاء إفريقيا. وبطبيعة الحال، في إفريقيا الوسطى تؤدي دورها، ولكن دعونا لا ننسى أن الشركات العسكرية الخاصة هي أداة وفاعل، لكنها ليست دولة تأتي بمعاهدات واتفاقيات مبرمة، وما إلى ذلك. بادئ ذي بدء، فاغنر مشروع تجاري. كقاعدة عامة، تحمي الشركات العسكرية الخاصة بعض الأعمال، وتتلقى بالطبع أرباحًا، فمنطق الأعمال التجارية بسيط جدًّا: “ما دام العمل مربحًا فإنه سيستمر في القيام به، ولكن فور اختفاء المنفعة سوف يغادر”.
في الأشهر الأخيرة، سمعنا عن إفريقيا حرفيًّا كل يوم: “في البداية أخبار، ثم أخبار أخرى، وهناك أيضًا أخبار إيجابية (في السابق كان معظمها أخبارًا سلبية)”. هل يمكن أن نقول إن إفريقيا تكتسب نوعًا من الذاتية الدولية ككل أم أنها لم تكتسبها بعد؟
أود أن أقول إن كلا الأمرين صحيح؛ فمن ناحية، نحن نعيش في عالم الإعلام، ونتلقى 99 في المئة من المعلومات من وسائل الإعلام المختلفة (الإلكترونية، والمطبوعة، والتليفزيونية)، وتحتاج وسائل الإعلام إلى جذب انتباه المستهلك، والكتابة عن شيء ما (إنه تفاعل متسلسل). هناك شيء ما يحدث في إفريقيا الآن؛ فلنكتب عن إفريقيا (الجميع يكتب)، ولكن دعونا نتخيل- وأنا أتحدث مبدئيًّا الآن- أن بعض الأزمات تحدث في شبه القارة الهندية (بنغلاديش، وباكستان، والهند نفسها)، وأن الاهتمام سيتحول- بشكل طبيعي- إلى هناك، ولن تؤدي إفريقيا بعد الآن مثل هذا الدور لوسائل الإعلام… ومن ناحية أخرى، فإننا نشهد الآن ظهور الذاتية ذاتها، هناك إعادة صياغة كبيرة للنظام العالمي. إنها مثل التحولات التكتونية في منصة الأرض: “نحن لا نراها، يمكننا فقط رؤية العواقب”، وهذه العواقب لا تظهر (على الفور).
الواقع أن وسائل الإعلام الحديثة جعلت العالم ضيقًا جدًّا. في السابق، كانت الأخبار تنتقل عدة أيام، ثم دقائق، والآن يتم تداول كل شيء في ثوان. لقد تقلص العالم إلى حجم حبة البازلاء، وفي إفريقيا أيضًا. تتمتع إفريقيا بشبكة إنترنت عالية، ويتلقى السكان الأفارقة الأخبار من جميع أنحاء العالم. ومن الواضح أن الأفارقة لا يهتمون كثيرًا بالأخبار الواردة من توفالو أو ناورو (دولتان في أوقيانوسيا). أما القوى العالمية الرائدة، فهي تعرف ذلك، وتقرأ، وتستخلص النتائج. ومن هذه الاستنتاجات يأتي رد الفعل الذي يتم التعبير عنه- من بين أمور أخرى- في التغييرات السياسية؛ ومن ثم تغطي وسائل الإعلام هناك هذه التغييرات السياسية، مثل هذه العملية المترابطة هنا.
هل إفريقيا بحاجة إلى روسيا؟
بالطبع، إنهم بحاجة إلينا. السؤال هو: في أي مجال؟ وكيف؟ يوجد في إفريقيا طلب كبير جدًّا على مجالات مختلفة، على سبيل المثال، الطاقة. مشكلة إمدادات الطاقة في إفريقيا حادة جدًّا. وإذا تمكنا من الذهاب إلى هناك وعرض تزويدهم بالطاقة، فإن الأفارقة سيقبّلوننا جميعًا من الرأس إلى أخمص القدمين. لكن هناك مشكلات تتعلق بكيفية ضمان ذلك. بناء محطات الطاقة النووية؟ لكن، على حد علمي، لدينا مشروع فقط مع مصر وجنوب إفريقيا. نحن بحاجة إلى مجال الأمن، وهذا لا ينطبق فقط على وجود الشركات العسكرية الخاصة، ولكن أيضا على سوق الأسلحة وتدريب المتخصصين. نحن بحاجة إلى مجال الطب؛ لأن إفريقيا قارة يوجد فيها كثير من الأمراض الاستوائية، ومشكلات الصرف الصحي، وما إلى ذلك. إذا جئنا إلى هذه السوق وقلنا: “كما تعلمون، لدينا أطباء رائعون سيساعدون في علاج الملاريا على الفور”؛ بالطبع سنُستقبَل بأذرع مفتوحة في إفريقيا.
ومع ذلك، لدينا مشكلة كبيرة في تدريب الموظفين. لا يوجد كثير من الأفارقة في روسيا. هناك معهد الدراسات الإفريقية، وهناك معاهد أخرى، وباحثون أفراد، ولكن بشكل عام، مقارنة الاتحاد الروسي بالاتحاد السوفيتي أشبه بقطرة في محيط.
لقد سبق أن قلت عن الطب والأطباء إنه ليس لدينا كثير من المتخصصين في أمراض المناطق المدارية، لذا ينصح بتدريبهم، وليس الأطباء فحسب، بل البنية التحتية أيضًا؛ لا يمكنك أن تأتي بحقيبة سفر وتفتح مركزًا طبيًا في القرية. نحن بحاجة إلى مختبر، ومواد، وموظفين. وحتى فيما يتعلق بمجرد التدريب والتبادل، نعم، فقد زاد عدد الطلاب الأفارقة في جامعاتنا، لكن هذا لا يكفي، وهكذا في جميع المجالات.
النقطة الأساسية هنا هي أن روسيا لا تستطيع حتى الآن صياغة ما تريد بوضوح؛ وذلك لأن لدينا هياكل مختلفة تسعى إلى تحقيق أهدافها الخاصة؛ وزارة الخارجية لها أهدافها، ووزارة الصناعة والتجارة لها أهدافها، ووزارة التربية والتعليم لها أهدافها. إنها لا تتطابق دائمًا، ولا تتقاطع دائمًا. إذا دُمِجَ هذا كله- بطريقة أو بأخرى- في نوع من التدفق المشترك؛ نستطيع أن ندخل- بالطبع- إلى إفريقيا بشكل جيد جدًّا.
ما ورد في المقالة يعبر عن رأي الكتّاب ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير