منذ أن قررت الولايات المتحدة الأمريكية، في ظل ولاية جو بايدن، أن تسحب قواتها المتمركزة في أفغانستان بعد وجودها الذي دام عشرين عامًا، على أن ينتهي انسحاب القوات الأمريكية في 31 أغسطس (آب) من العام الجاري (2021)، دون أن تنتصر للديمقراطية كما زعمت، انحصرت نجاحات الوجود الأمريكي، كما جاء في تصريحات بايدن، في مقتل أسامة بن لادن، وضمانة ألا تكون هناك هجمات مُشابهة لأحداث سبتمبر 2001 تهدد الولايات المتحدة مستقبلا. ويري بعضهم أن الولايات المتحدة هي الجواد الفائز بالخروج من الدائرة الأفغانية بضبابية أوضاعها، والزج بدول الجوار الأفغاني (إيران وروسيا والصين والهند) في دوائر القلق من شبح تفاقم الحركات الجهادية على إثر وجود كيان طالبان الأفغاني، واحتمالية تمديد فكرها الجهادي المُتمرد عبر الحدود ليصل إلى تيارات مُعادية لأنظمة الحكم داخل تلك الدول، ولم يلتفت كثير إلى أن إيران- بشكل خاص- لطالما عارضت أي وجود عسكري أمريكي طويل الأمد في أفغانستان، كما إنها حاولت تقويض أي فرصة للاتفاق الأمريكي الأفغاني الإستراتيجي إبان الفترة من 2012 إلى 2014 بغرض توفير إطار تعاون طويل الأمد- بعد رحيل القوات الأمريكية- بين أمريكا وأفغانستان، خوفًا من ضرب مُنشأتها النووية[1].
فمنذ إعلان القرار الأمريكي وهناك معارك طاحنة بين حركة طالبان والحكومة الأفغانية، نتج عنها اتساع نفوذ طالبان وسيطرتها على أراضٍ تمتد إلـى ما يُمثل 85% من الأراضي الأفغانية، خاصة في الجنوب والشمال، والشمال الغربي، وعدم تمكُّن الحكومة الأفغانية من حسم الموقف لصالحها، بل يذهب المشهد إلى أكثر من ذلك حسب توقعات من الكونغرس الأمريكي بأن سقوط الحكومة الأفغانية وعدم قدرتها على الصمود لن يتعدى الستة أشهر، وبين ذلك وذاك كانت تصريحات الدول الكبرى بأنه لا بد من عقد تفاهم تفاوضي يجمع بين طالبان والحكومة في كابل، ولكن ذلك الأمر يُعد عديم الجدوى والتأثير على أرض الواقع، والجدير بالذكر في ذلك السياق أن إيران أول من أقدمت على التعامل مع الطرفين، حيث استضافت وزارة الخارجية الإيرانية عدة وفود في النصف الأول من يوليو (تموز) 2021 من الحكومة الأفغانية وحركة طالبان؛ في محاولة سريعة لأن تكون الحاضن الأول للمشهد الأفغاني وتطوراته. ومع أن ذلك الأمر لم يُحدث درجة من التوافق بين الطرفين فإنه شكّل بداية التعامل الإيراني الصريح مع حركة طالبان، علمًا بأنها لم تغفل الاستعداد لتفاقم الأوضاع بنشر عدد كبير من القوات العسكرية والعتاد على طول الحدود مع أفغانستان، خاصة أن ما يقدر بنحو 700 كيلومتر من حدودها مع أفغانستان الآن في أيدي طالبان، ولكن إيران بسياستها المُهيمنة المعروفة بالتحرك الإستراتيجي بما يخدم مصالحها وتمديد نفوذها في آن واحد، بتواصلها مع حركة طالبان تضع بداية لفصل جديد في خريطة تمديد أذرع الإخطبوط الإيراني في أفغانستان، مع الإدراك الإيراني أنه من الضروري أن تظل الحكومة الأفغانية منخرطة بنشاط، ولا تشعر بأنها مستبعدة من الجهود الإيرانية، رغم كل عيوبها تُعد الحكومة الأفغانية منتخبة من الشعب الأفغاني، وقد حققت إنجازات في مجالات مثل حقوق المرأة، وحقوق الأقليات التي لا ينبغي التضحية بها[2].
أول التهديدات التي تتبادر إلى الذهن هو تدفق الهجرة الأفغانية إلى الأراضي الإيرانية. وتُشير التقديرات أنه من المتوقع تدفق ما يصل إلى مليون أفغاني عبر الحدود لتجنب القتال أو حكم طالبان، كما تُشير التقديرات إلى أن إيران تستضيف بالفعل 780 ألف لاجئ أفغاني مسجل، وأن ما بين 2.1 و 2.5 مليون أفغاني لا يحملون وثائق يعيشون في إيران بشكل غير رسمي[3]، وتلك الأعداد الضخمة لا طاقة لإيران باستضافتها، ولن يحتملها الاقتصاد الإيراني المُنهك بالفعل، خاصة أن الأفغان داخل إيران يعدون الأكبر عددًا بعد الباكستانيين[4]، ومنذ سنوات يتعرضون للتمييز وسوء المعاملة على أيدي الحكومة الإيرانية[5]، كما إنه لا يتوافر في الأصل الحد المُناسب من الخدمات والموارد التي تكفي الداخل الإيراني، خاصة المياه التي بسبب نقصها الحاد تتفاقم الأحداث والتظاهرات في منطقة الأحواز، إضافة إلى سياسة التميز و الاضطهاد التي تتبعها إيران ضد كل من هو مسلم أو عربي، وخارج نطاق الشيعة والسياسات المواتية للجمهورية الإسلامية[6].
ولا نغفل الإشارة إلى المياه التي تحصل عليها إيران من تدفق “نهر هلمند” النابع من جبال شرق وسط أفغانستان الواقعة غرب كابول، ليصل إلى إيران نحو 820 مليون متر مكعب سنويًّا من المياه[7]، وهذا ما أقرته اتفاقية إدارة الأنهار، المنصوص عليها بين كلا البلدين عام (1973) [8]، ولكن تلك الكمية تناقصت بشدة بسبب التغيرات المناخية، وبناء سدود في الداخل الأفغاني.
وعلى نحو آخر، فمن المهم ألا يغيب عن إدراكنا ماهية عقيدة الدولة الإيرانية الراسخة التي لا تتغير بتعاقب مُختلف الرؤساء، ألا وأنها تتبع تخطيط السياسات التي تخلق لها النفوذ في مختلف الدول. قد تتجاهل حل مشكلاتها الداخلية، ولكنها لا توفر جهدًا أو تكلفة مادية في فتح المسارات التي تخدم نفوذها الخارجي، وتبُث من خلالها فكرها وتعليمها، كما فعلت في أفغانستان عبر سنوات مضت، كبناء إيران جامعة خاتم النبيين الإسلامية، وهي من أكبر الكيانات التعليمية في أفغانستان، وبها أبرز فقهاء الشيعة، بالإضافة إلى بناء وتعزيز المدارس والمساجد والمراكز الإعلامية الموالية لإيران، ويركز معظم هذا النشاط على شمال أفغانستان وغربها، فضلاً عن العاصمة كابول[9].
كما أنها أوجدت لنفسها مسارًا متوازيًا من التحالفات والمواءمات داخل أفغانستان بمسارات تعامل مع مختلف الجماعات المُقاتلة، سواء ضد الولايات المُتحدة أو مُتعاونة معها، وبخاصة طالبان، حيث قدمت لها الأسلحة الخفيفة، والبنادق ذات القذائف (RPGs)، وأيضًا قدمت التدريب العسكري لقوات طالبان على أراضيها [10]، وكان من شأن ذلك الدعم إيجاد مصداقية لإيران لدي فصائل داخل حركة طالبان، كما تحتفظ إيران بعلاقات سياسية متينة مع الحكومة المركزية في أفغانستان[11].
منذ تفاقم الأحداث بالخروج الأمريكي من أفغانستان، تبادر إلى الأذهان أن سبيل إيران إلى تعزيز نفوذها في الداخل الأفغاني قد يكون من خلال التواصل مع الشيعة الأفغان الذين يُشكلون من المجتمع الأفغاني نسبة لا تتعدي الـ 29%، كما إنها تدعمهم منذ زمن بالمال والتعليم، أو استخدام لواء الفاطميين، وهي ميليشيا أفغانية شيعية تم تأسيسها وتمويلها وتدريبها من الحرس الثوري الإيراني عام 2014 لقتال المعارضة السورية، ولكن تلك الافتراضية عارية من الصحة؛ لأن اللواء في الأساس يُعانى ضعفًا في العدد، وتخبطًا بعد موت مرؤوسيها، كما إن المُحللين من داخل أفغانستان نفوا تمامًا أي وجود لهم[12].
ولكننا بالنظر إلى التركيبة العرقية للمجتمع الأفغاني، نجد أن “البشتون” السُنة المُكتسحين لجنوب أفغانستان، هم الذين يُشكلون حركة طالبان بالأساس، وتاريخ علاقاتهم وثيق مع الدعم الباكستاني تحديدًا، كما توجد قبيلتا الطاجيك والهزارة، وهما محور التركيز الرئيسي لأنشطة النفوذ الإيراني، علمًا بأن الهند أيضًا لديها علاقات أوثق مع الطاجيك، لا سيما في ضوء تاريخها في دعم تحالف الطاجيك والهزارة الشمالي المناهض لطالبان، وقد تكون قبائل الهزارة هي الأبرز شيعيًّا، رغم وجود قبائل شيعية أخرى، مثل قبيلة الفرسيوان، وقبيلة قيزلباش، وقبيلة السيدز[13].
وفقًا لتقارير حديثة لعام 2020، استمالت طالبان الأقلية الشيعية من خلال الهزارة، حيث إنه وفقًا للتقارير، جندت طالبان أحد زعمائها المحليين من أقلية الهزارة، وجعلته حاكمًا جديدًا لحكومة الظل التابعة لطالبان في منطقة بلخاب، إقليم سار إي بول (Sar-e-Pul) في شمال أفغانستان، و هو مولوي مهدي، وهو رجل دين شيعي، وزعيم ميليشيا، بالإضافة إلى تقارير كانت تشير إلى حالات قليلة من التعاون بين الهزارة وطالبان، ووجود عدد قليل من الهزارة في صفوف طالبان. على سبيل المثال، عام 2012، ظهرت تقارير عن نحو عشرة رجال من الشيعة الهزارة يقاتلون إلى جانب طالبان في قره باغي، في ولاية غزنة. ومع ذلك، فإن مثل هذه الحالات هي استثناء، ولم يكن هناك ما يشير إلى انتشار تجنيد طالبان للهزارة[14].
نقرأ من مشهد تعيين رجل دين شيعي حاكمًا تابعًا للحركة في بلخاب، أن طالبان أعدت نفسها قُبيل الخروج الأمريكي لتحقق أهداف إستراتيجية، أولها استيعاب الهزارة، حيث أرادت الجماعة المتمردة تحسين صورتها وشرعيتها الدولية كمجموعة شاملة وحركة على مستوى البلاد، بالإضافة إلى قوتها العسكرية وسيطرتها على الأرض حاليًّا، فهي بالفعل حققت تفوقًا نوعيًّا جعلها قادرة على تحدي الشرعية الهشة للحكومة الأفغانية. كما إن احتواء طالبان للهزارة في أفغانستان هو محاولة من طالبان لتنويع قاعدة دعمها خارج باكستان، وتعزيز علاقاتها مع إيران ذات الأغلبية الشيعية، على الرغم من الاختلافات الأيديولوجية السابقة.
جدير بالذكر أن طالبان حريصة على بلورة تصور عالمي جديد لها، يتناسى تاريخها كجماعة عنيفة وراديكالية لا تحترم حقوق الإنسان، لكي يثبت نظام طالبان نفسه كقوة شرعية في كابول، ولتزيد استثمارها الدبلوماسي الذي حققته منذ عام 2018 حتى الآن لعواصم الدول الكُبرى، وتُبلور صورتها كمجموعة معتدلة، مع دعم من جميع الأعراق الرئيسية في أفغانستان[15].
كل ذلك يعنى أن حركة طالبان نفسها تُعيد تقديم نفسها للعالم ولإيران الجارة القوية بشكل خاص؛ لأن كلا الطرفين بات مُستهدفًا الانخراط في لعبة سياسية أساسها المصالح، بشكل يتعدى عراقيل المذاهب الفكرية أو العرقية؛ فالجمهورية الإسلامية، على الرغم من حذرها من طالبان، لن تسمح للقضايا الدينية والأيديولوجية أن تقف في سبيل النفعية السياسية[16].
وإذا كان لدى إيران كثير من المصالح الكبرى في أفغانستان التي تريد حمايتها، فهي لا تريد بالضرورة أن تكون أفغانستان ذات حكومة مركزية قوية؛ لأن هذا يمكن أن يمثل تحديًّا لمصالحها، ولا تُريد أن تترك المشهد الأفغاني للنفوذ الباكستاني الذي قد يكون لديه دعائم قوية، فبلا شك لا تريد طهران أن تحصل قوة مثل باكستان على النفوذ في المنطقة على حسابها.
فبالنسبة إلى طالبان فإن دعم الدول المجاورة، مثل إيران، سيثبت أهمية كبيرة للجماعة المتطرفة في تعزيز شرعيتها والمطالبة بالسلطة في كابول، وبالنسبة إلى طهران، تعد طالبان رهانًا أكثر أمانًا ضد صعود “الدولة الإسلامية” على حدودها الشرقية في أفغانستان، وقد جاءت العلاقة الحميمة بين طالبان وإيران إلى الواجهة عام 2020 بعد الحادث الذي قيل إن حرس الحدود الإيراني أغرق فيه 20 مواطنًا أفغانيًّا. وبعد الحادث، طلب المبعوث الخاص لإيران لقاء “الملا بردار” لمناقشة الحادث على الحدود الإيرانية. فمع أن حادثة غرق مهاجرين أفغان أدت إلى “لقاء متوتر” بين مسؤولين إيرانيين ووزير خارجية أفغانستان محمد حنيف أتمار، فإن النهج الاستباقي الذي تبناه النظام الإيراني في إشراك طالبان في مناقشة غرق المهاجرين الأفغان- مُتجاوزًا الحكومة في كابول- يشير إلى درجة متقدمة من إتاحة الفُرص لتعزيز العلاقات بين النظام الإيراني وحركة طالبان.[17]
نتوصل مما سبق إلى عدة استنتاجات:
أولاً: إن كلا الطرفين (طالبان، وإيران) بات مُستهدفًا الانخراط في لعبة سياسية أساسها المصالح، بشكل يتعدى عراقيل المذاهب الفكرية أو العرقية؛ فالجمهورية الإسلامية، على الرغم من حذرها من طالبان، لن تسمح للقضايا الدينية والأيديولوجية أن تقف في سبيل النفعية السياسية[18].
ثانيًا: إذا كان لدى إيران كثير من المصالح الكبرى في أفغانستان التي تريد حمايتها، خاصة أنها لا تريد أن تترُك المشهد الأفغاني للنفوذ الباكستاني الذي قد يكون لديه دعائم قوية، فبلا شك فإن طهران لا تريد أن تحصل قوة مثل باكستان على النفوذ في المنطقة على حسابها[19].
ثالثًا: إن فكر طالبان الجديد يُرحب؛ بل يسعي إلى الاحتماء بالعباءة الإيرانية؛ لأن ذلك سيثبت أهمية كبيرة للحركة في تعزيز شرعيتها، وتعزيز سلطتها الفعلية على الأرض في أفغانستان، دون أن تتصدر الحكم. وبالنسبة إلى طهران، فإن طالبان تعد رهانًا أكثر أمانًا ضد صعود الدولة الإسلامية على حدودها الشرقية في أفغانستان[20].
ما ورد في المقالة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.