في سبيل فهم التحولات الجيوسياسية الحديثة في الشرق الأوسط، يتطلب الأمر النظر بعناية في الإستراتيجيات الرامية إلى التأثير في المنطقة، ومن بين هذه الإستراتيجيات تأتي إستراتيجية روسيا بوصفها أحد اللاعبين البارزين. في عام 2024، يتساءل المتابعون والباحثون على حد سواء عن الخطوات والتحركات التي ستقوم بها روسيا في سياق تطورات المنطقة الحالية.
تأتي هذه القراءة كمحاولة لفهم إستراتيجية روسيا في الشرق الأوسط وتحليلها، وتسليط الضوء على العوامل التي قد تؤثر في هذه الإستراتيجية. سنتناول التحولات الاقتصادية والسياسية في روسيا، وكيف تتشكل إستراتيجيتها في ظل هذه التحولات. كما سنستعرض العلاقات الثنائية بين روسيا والدول الرئيسة في المنطقة، وكيف يمكن أن تتأثر هذه العلاقات بالأحداث الجارية.
بعد انهيار الاتحاد السوفيتي في ديسمبر (كانون الأول) 1991، وجدت روسيا نفسها أمام تحدي صياغة سياسة خارجية جديدة في سياق دولي مهيمن بوجود الولايات المتحدة. كان لا بد لروسيا من التكيف مع واقع جديد يتسم بالهيمنة الأمريكية، والضغوط الاقتصادية الداخلية. تركزت التوجهات الرئيسة للسياسة الخارجية الروسية في هذه الحقبة على النقاط التالية:
المرحلة الأولى ذات التوجه الأوروبي الأطلسي
ركزت روسيا على إدماجها مع الحضارة الغربية، وتحديدًا مع مجموعة حلف الأطلسي، وهي رؤية تعدّ الوسيلة الأمثل لتحقيق النهوض الاقتصادي. أقرت روسيا بأنها أصبحت قوة دولية عادية، وفي هذا السياق تبنت سياسة غير أيديولوجية تتفق مع الواقع الدولي الجديد. تجنبت روسيا التصعيد مع الولايات المتحدة، وركزت على التعاون العسكري، والنزع الأحادي للسلاح، وشهدت هذه الحقبة التعاون في مجالات الأمن الدولي، مثل فرض العقوبات على يوغوسلافيا.
المرحلة الثانية
أكدت روسيا طابعها الأوراسي ورؤيتها الجديدة لنفسها بوصفها دولة أوروبية-آسيوية، مما دفعها إلى توجيه سياستها نحو هذا العالم. عملت روسيا على تعزيز التكامل مع دول الخارج القريب، والدول الأوراسية، مثل إيران، وتركيا، والصين، والهند، وأوكرانيا.
قررت روسيا تجميد اتفاقية الأسلحة التقليدية في أوروبا من جانب واحد، مع تأكيد ضرورة أن تتبع دول الكومنولث سياسة ودية مع روسيا.
بدأت روسيا بممارسة ضغوط على دول الكومنولث من خلال التأثير في قطاع تصدير النفط عبر أراضيها.
تلك التحولات الإستراتيجية شكلت إطارًا مهمًّا لتفهم سياسة روسيا في فترة ما بعد الحرب الباردة، حيث تجلى تكاملها وتنوعها في التفاعل مع المحيطين الإقليمي والدولي.
في سياق التحولات الإستراتيجية الروسية، يظهر الشرق الأوسط بوصفه نقطة تقاطع حيوية تستحوذ على اهتمام روسيا. يُعزَّز الشرق الأوسط بوجوده الاقتصادي الكبير، والموارد الطبيعية الضخمة، ولكنه يشكل أيضًا منطقة ذات أهمية إستراتيجية بسبب التحديات الأمنية والسياسية المستمرة.
في هذا السياق، ينعكس التفاعل الروسي في الشرق الأوسط على توجهاته الإستراتيجية. تعكس الدور الروسي في قضايا المنطقة إستراتيجيات متعددة، تتنوع بين تعزيز العلاقات الدبلوماسية، والتفاوض الاقتصادي، والتدخل العسكري في بعض الأحيان.
شهدت الثورات العربية التي اندلعت في بعض الدول العربية من عام 2010 إلى عام 2012 تأثيرات واسعة في الديناميات الإقليمية. بينما اعتبرت بعض الدول تلك الثورات فرصة لتحقيق التغيير، وتعزيز الديمقراطية، اعتبرتها روسيا أحداثًا قد تهدد استقرار المنطقة، وتؤثر في مصالحها.
تجلى تفاعل روسيا مع الثورات العربية من خلال الدعم المتوازن للأنظمة القائمة، وتحفيزها على الاستجابة لمطالب الشعوب. كما سعت روسيا إلى الحفاظ على توازن القوى في المنطقة، ومنع تأثير التغييرات السياسية في مواقفها وعلاقاتها الاقتصادية.
تاريخ العلاقات الدبلوماسية بين روسيا وإيران يمتد إلى قرون كثيرة، حيث شهدت هذه العلاقات تحولات وتطورات متعددة. في العصور الوسطى، كانت العلاقات بين الدولتين تتسم بالتعاون الاقتصادي والثقافي، وكانت إيران جزءًا من الإمبراطورية الروسية التي تمتد إلى آسيا الوسطى.
في عهد القاجار والقاصديين في إيران، شهدت العلاقات التوسع والتطور، خاصةً خلال فترة حكم الشاه محمد رضا بهلوي، حيث شهدت التعاون في مجالات الاقتصاد والصناعة والتجارة. ومع ذلك، تأثرت هذه العلاقات سلبًا خلال الثورة الإيرانية في عام 1979، حيث أُلغي كثير من المشروعات واتفاقات التعاون الاقتصادية والثقافية بين البلدين.
مع مرور الوقت، عاشت العلاقات الدبلوماسية بين روسيا وإيران مراحل مختلفة من التحسن والتراجع، ولكنها استعادت دفئها خلال السنوات الأخيرة. تحت رئاسة الرئيس فلاديمير بوتين في روسيا، والقيادة الإيرانية، شهدت العلاقات الثنائية تطورًا إيجابيًّا، حيث تعاون البلدان في مجالات متعددة.
في السياق العسكري، شهدت روسيا وإيران تبادلًا نشطًا للخبرات والتكنولوجيا العسكرية. في عام 2015، أعلنت روسيا وإيران عقد اتفاق تعاون عسكري، يشمل توريد أنظمة الدفاع الجوي المتقدمة S-300 الروسية إلى إيران. هذا الاتفاق أسهم كثيرًا في تعزيز القدرات الدفاعية لإيران، وتحسين التوازن الإستراتيجي في المنطقة.
كما تعاونت البلدان في مجال مكافحة الإرهاب، خاصة في سياق الأزمة السورية. روسيا وإيران كانتا من أبرز الداعمين للحكومة السورية، وشاركتا في القتال ضد الجماعات المتطرفة. هذا التعاون العسكري أسهم في تحقيق نجاحات على الأرض، وضمان استقرار المنطقة.
من الناحية الدبلوماسية، تتبادل روسيا وإيران الزيارات الرسمية بين المسؤولين الحكوميين؛ وذلك لتعزيز التفاهم والتعاون في مختلف القضايا الدولية. تشكل اللقاءات الدورية بين القادة الروس والإيرانيين فرصة لتقييم العلاقات الثنائية، وبحث سبل تعزيزها في مختلف المجالات.
تعد قدرة روسيا على بناء شراكات مع دول لها تاريخ من التنافس والعداء، إشارة إلى البراعة الدبلوماسية للرئيس بوتين في فهم تعقيدات المنطقة. بينما ساعدت هذه البراعة في تحقيق أهداف روسيا في المنطقة، فإن إدارتها بحيث لا تؤدي إلى تشويه التوازن الإقليمي، ولا تهدد الشراكات الروسية مع دول المنطقة، تعد اختبارًا لمهارات الرئيس بوتين، الذي نجح في التعامل معه.
مع ذلك، تزايدت المخاطر المحيطة بعملية التوازن الروسي في المنطقة بعد الحرب الروسية الأوكرانية، مع تزايد اعتماد موسكو على دعم طهران، خاصة في المجال العسكري.
تعود العلاقات الوثيقة بين روسيا وإيران إلى عقود طويلة، وكان يُنظر إليها في السابق في الإقليم على أنها لا تشكل تهديدًا كبيرًا لمصالح دول الخليج وإسرائيل. ومع ذلك، فإن هذه النظرة قد تتغير الآن مع توسع هذه العلاقات في المستويات العسكرية، وتعزيز الروابط الاقتصادية والتجارية، والاستفادة من خبرات إيران في التحايل على العقوبات الغربية.
في عام 2024، يمكن أن يشهد التعاون بين روسيا وإيران تطورًا كبيرًا مع إعداد اتفاقية جديدة تمر بمراحلها النهائية، ومن المتوقع أن تُوقع خلال قمة لرئيسي البلدين. هذه الاتفاقية من المتوقع أن تشمل جميع العلاقات الروسية الإيرانية، مع ترسيخ طابع شامل وإستراتيجي للشراكة بين البلدين.
صرحت الناطقة باسم الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، بأن مسودة هذه الاتفاقية في مرحلتها النهائية من التنسيق، وتأتي لتعكس التطورات الإيجابية في العلاقات بين روسيا وإيران. يتناول الاتفاق المُعد للتوقيع جميع جوانب العلاقات بين البلدين، ومن المتوقع أن يعزز التعاون في المجالات الاقتصادية، والعسكرية، والسياسية.
تحديث هذه الاتفاقية يأتي بعد مرور أكثر من 20 عامًا على إبرام الاتفاقية السابقة في عام 2001، وتأتي لتأخذ في حسبانها التغيرات في الظروف الدولية والسياق الدولي. يُتوقع أن يكون التوقيع على هذه الاتفاقية جزءًا من جهود البلدين لتعزيز التعاون المتبادل، وتعزيز دورهما الإقليمي والدولي.
من الممكن أن تشمل الاتفاقية بين روسيا وإيران في عام 2024 عدة نقاط تعاون وتفاهم، وقد يتضمن ذلك:
التعاون الاقتصادي، تعزيز التبادل التجاري، والاستثمارات المشتركة في مختلف القطاعات الاقتصادية، مما يعزز الروابط الاقتصادية بين البلدين.
التعاون العسكري، توسيع التعاون العسكري بين روسيا وإيران في مجالات مثل تبادل التكنولوجيا العسكرية، والتدريب العسكري، وتعزيز القدرات الدفاعية.
التنسيق السياسي، تعزيز التنسيق السياسي بين البلدين في قضايا إقليمية ودولية، مثل الأزمات في منطقة الشرق الأوسط، وتحديات مكافحة الإرهاب.
الطاقة، تعزيز التعاون في مجال الطاقة، سواء أكان ذلك في مجال استكشاف واستخراج النفط والغاز أم تطوير مشروعات الطاقة المتجددة.
التبادل الثقافي، تعزيز التبادل الثقافي بين البلدين من خلال تنظيم فعاليات ثقافية وفنية، وتبادل الطلاب والأكاديميين.
التعاون في مجال الصحة والعلوم، تعزيز التعاون في مجال البحث العلمي، وتبادل المعرفة في مجال الطب والعلوم.
حل النزاعات، التعاون في تسوية النزاعات الإقليمية، والدعوة إلى الحوار والتفاهم بين الأطراف المختلفة.
تأثير هذه الاتفاقية في العلاقات الروسية الإسرائيلية قد يكون معقدًا. قد يزيد التعاون العسكري الروسي الإيراني التوترات مع إسرائيل، خاصة إذا كانت هناك مخاوف من أن التكنولوجيا العسكرية التي تتبادلها روسيا مع إيران قد تستخدم ضد إسرائيل. ومع ذلك، يمكن لروسيا أداء دور دبلوماسي لتخفيف التوترات بين الأطراف المختلفة، والحفاظ على علاقات قائمة مع الجميع.
عند دراسة الموقف الروسي من الأزمة السورية، نجد أنها تمثل أحد التحديات الرئيسة التي واجهت السياسة الخارجية الروسية في الشرق الأوسط. تكمن أهمية هذه الأزمة في تأثيرها في التوازن الإقليمي والمصالح الدولية لروسيا، إذ أعطت روسيا أولوية كبيرة للتصدي للتحديات الأمنية والاقتصادية في المنطقة.
دور روسيا بوصفها وسيطًا في التسوية: أحد الجوانب الملموسة في الموقف الروسي هو وساطتها في التسوية السياسية للأزمة. حاولت روسيا تحقيق حلول دبلوماسية من خلال المشاركة في مفاوضات جنيف وأستانا، حيث كانت تسعى للتوصل إلى اتفاق يضمن استقرار سوريا ووحدة أراضيها. هذا الدور الدبلوماسي قوبل بتقدير دولي، حيث قُدِّمت مبادرات ومقترحات روسية للتسوية.
التدخل العسكري الروسي وتأثيره: لم يكن التدخل العسكري الروسي في الأزمة السورية مجرد تصاعد في المستوى العسكري، بل كان له تأثير كبير في موازنة القوى على الأرض. استندت روسيا إلى دعمها للنظام السوري لتعزيز تأثيرها في المنطقة، وتعزيز مكانتها بوصفها لاعبًا إقليميًّا مؤثرًا. تأثير هذا التدخل لم يقتصر على الناحية العسكرية؛ بل امتد إلى التأثير السياسي والدبلوماسي.
توازن روسيا بين المصالح الإقليمية والدولية: تظهر سياسة روسيا تجاه الأزمة السورية محاولة لتحقيق توازن دقيق بين مصالحها الإقليمية والدولية؛ فبينما كانت تعمل على دعم التسوية السياسية، كانت مستعدة لتصعيد العمليات العسكرية إذا تصاعدت التوترات الإقليمية. يعكس هذا التوازن إستراتيجية تحقيق مكاسب دبلوماسية واقتصادية، مع التركيز على الحفاظ على تأثيرها في المنطقة.
التحديات والفرص المستقبلية: تواجه روسيا تحديات عدة في مواصلة دورها في التسوية السورية، ومنها التنافس مع اللاعبين الإقليميين والدوليين الآخرين، لكن في الوقت نفسه، تفتح الأزمة السورية أيضًا أبوابًا لفرص جديدة لروسيا، سواء في تعزيز وجودها العسكري، أو في تعزيز دورها بوصفها وسيطًا دبلوماسيًّا.
في سياق الأزمة السورية، يتضح وجود تنافس شديد بين الولايات المتحدة وروسيا، حيث تتلاقى أهدافهما وتتضارب مظاهر سياستهما في المنطقة. يرى باحثون أن ما يجري في سوريا وبعض الدول العربية هو إعادة تقسيم للمنطقة تحت ما يُعرف بـ”مشروع الشرق الأوسط الجديد”، أو “سايكس بيكو الجديد” وفقًا للرؤية الأمريكية، وهو يهدف إلى تقسيم المنطقة استنادًا إلى الهويات العرقية، والدينية، والطائفية، إلى إمارات ودويلات متحاربة، ويعد هذا المشروع وسيلة لتحقيق أمان إسرائيل، وتفتيت الهوية العربية.
مشروع الشرق الأوسط الجديد، الذي توقف فترة بسبب غياب الظروف الملائمة، عادت الولايات المتحدة لتنشيطه في سياق ما يُعرف بـ”الربيع العربي”، خاصة بعد بداية الأحداث في سوريا، وهو يهدف إلى تقسيم سوريا إلى أربع كيانات أو دويلات صغرى.
تسعى روسيا- من جهتها- إلى تحقيق هدفين رئيسين في سوريا؛ الهدف الأول هو منع وصول السلاح إلى
أي فصيل يشكل تهديدًا لإسرائيل، مثل حزب الله، وحماس، وذلك عبر منع إيران من تزويد تلك الفصائل عبر الأراضي السورية. الهدف الثاني يتمثل في حصار نفوذ إيران في المنطقة.
تأتي الولايات المتحدة بمساهمة مكثفة في دعم المعارضة السورية المعتدلة، وتهميش السلطات السورية، وتسعى إلى تحقيق تغيير في سلوك النظام السوري، أو حتى إسقاطه، مما قد يؤدي إلى إبرام اتفاقية سلام مع إسرائيل، وتحييد إيران، وتقويض تأثيرها في المنطقة.
التنافس الأمريكي الروسي: يكمن التنافس الأمريكي الروسي في منع وصول السلاح إلى أيدي الجماعات الإرهابية المُدرجة على لوائح الإرهاب، وهو يعكس التضارب السياسي والاقتصادي بين القوتين. في هذا السياق، تحمل الولايات المتحدة رغبة في إعادة تشكيل المنطقة وتوجيهها وفقًا لمصالحها، في حين تعدّ روسيا سوريا جزءًا من نفوذها الإقليمي، وتسعى إلى الحفاظ على استقرار النظام السوري.
بصفة عامة، تظهر الأزمة السورية بوصفها مسرحًا للصراعات الإقليمية والدولية، حيث يحاول كل طرف تحقيق مكاسب إستراتيجية، وتحديد مساحات نفوذه في هذه المنطقة المتقلبة.
يتطلب فهم مستقبل إستراتيجية روسيا في الشرق الأوسط تحليلًا دقيقًا للتحولات الإقليمية والدولية المستمرة. يظهر الواقع أن الشرق الأوسط يظل مسرحًا للتحديات الأمنية والاقتصادية؛ ومن ثم يبقى حيويًّا في حسابات السياسة الخارجية الروسية.
قد تتجه روسيا في المستقبل إلى تكثيف جهودها للحفاظ على الوجود الإقليمي والتأثير السياسي. قد تركز على تعزيز التعاون الاقتصادي مع دول الشرق الأوسط، والاستثمار في مشروعات تنمية مشتركة. في الوقت نفسه، قد تستمر روسيا في دعم الحلول السياسية للنزاعات في المنطقة بوصفها وسيطًا دوليًّا.
على صعيد أمني، قد يزداد دور روسيا في مجال مكافحة الإرهاب، وتعزيز الاستقرار الإقليمي. كما قد تتطلع روسيا إلى تعزيز التعاون الدفاعي والعسكري مع الدول الشريكة في المنطقة لتعزيز قدراتها وتأثيرها.
مع تعقيدات المشهد الإقليمي، ستواجه روسيا تحديات كثيرة في مسعى للحفاظ على استقرارها وتأثيرها في الشرق الأوسط، من بين هذه التحديات:
توازن العلاقات: كيفية تحقيق توازن بين العلاقات مع مختلف اللاعبين في المنطقة، ومنهم الدول العربية، وإسرائيل، وتركيا، دون التورط في صراعات إقليمية.
التعامل مع التحولات السياسية: كيفية التفاعل مع التغيرات المستمرة في هياكل الحكم في بعض الدول العربية، مع التركيز على دعم استقرار المنطقة.
المحافظة على التوازن الإقليمي: كيفية تحقيق التوازن في مواجهة المنافسة الإقليمية، وخاصةً مع القوى الإقليمية الكبرى الأخرى.
تحديات الأمن الإقليمية: كيفية التعامل مع التهديدات الأمنية المستمرة، ومنها التطرف الديني، والإرهاب.
التأثير الاقتصادي: كيفية تحقيق التوازن بين تعزيز التعاون الاقتصادي وتحقيق المصالح الاقتصادية في الشرق الأوسط، خاصةً في ظل تغيرات أسواق الطاقة العالمية.الأهداف الإستراتيجية والأمنية لروسيا تتجسد في تعزيز وجودها في البحرين الأسود والمتوسط بعد ضم شبه جزيرة القرم عام 2014. يسعى الروس إلى ضمان وجود عسكري دائم في هذه المياه، وتعزيز المواقع الإستراتيجية في البحر الأسود. يعكس هذا السياق أهمية المنطقة في الأولويات الروسية، خاصةً في ظل التحركات الأمريكية وحلف شمال الأطلسي بعد الأزمة الأوكرانية.
يتعامل الروس مع تغيرات ميزان القوى الدولي، حيث تتزايد قدرات روسيا، وتتراجع القدرات الأمريكية، مما يجعل النظام الدولي ينظر إلى التعددية. يُظهر النمو المتسارع لروسيا في العقدين الماضيين أنها أصبحت قوة فاعلة على الصعيدين الدولي والإقليمي، وكشفت الأزمة الأوكرانية عن تناقضات المصالح بين موسكو وواشنطن.
تهدف روسيا إلى تقليل التهديدات على حدودها الجنوبية، مما يدفعها إلى إقامة شراكة إستراتيجية مع الدول العربية، تُسهم في تحقيق استقرار داخلي لروسيا، وتعزز العلاقات الجيدة مع دول المنطقة. يركز الروس على استغلال حالات الفشل العسكري الأمريكي في الشرق الأوسط لزيادة مكاسبهم ونفوذهم، ويسعون إلى تقوية التقارب مع دول المنطقة.
لتحقيق الأمان الإقليمي، تتجه روسيا نحو إعادة تأكيد وجودها في المنطقة. ترى تطوير العلاقات مع إيران واستخدامها كورقة ضغط أمرًا ضروريًّا للمواجهة الناشئة مع الضغوط الأمريكية.
هدف روسيا أيضًا يتجلى في استنزاف القدرات الإستراتيجية للولايات المتحدة من خلال مشاركتها في المنطقة، خاصةً من خلال استغلال حالات الفشل العسكري الأمريكي في الشرق الأوسط، مثل الوضع في العراق. يسعى الروس إلى زيادة مكاسبهم ونفوذهم في المنطقة؛ من خلال دعمهم للدول الحليفة، مثل إيران وسوريا، وتعزيز التقارب مع دول المنطقة.
ترى روسيا أنه من خلال التفاعل القوي في الشرق الأوسط، يمكنها إعادة بناء تأثيرها ونفوذها الدولي، والتصدي للتحديات التي تواجهها من القوى الغربية، خاصةً الولايات المتحدة. تُظهر الأزمة الأوكرانية أن روسيا تسعى إلى استعادة نفوذها الدولي، وترفض أن تكون في ظلال القوى الغربية.
يتعلق الهدف الروسي أيضًا بإعادة تحديد المشهد الدولي، وتغيير توازن القوى، حيث تتخذ روسيا موقفًا يتناغم مع التحول العالمي. تحاول روسيا تحقيق مكانتها كقوة عالمية مؤثرة، وتسعى إلى إعادة تعريف النظام الدولي بمشاركة فعالة من جانبها.
من خلال تحقيق شراكات إستراتيجية مع الدول العربية، يرى الروس أنه يمكنهم تعزيز تأثيرهم، وتحقيق مكاسب إستراتيجية على المدى البعيد. تُعد الشراكة مع الدول العربية وسيلة إلى تحسين الأمن الإقليمي، وتحقيق المصالح المشتركة، خاصة في ظل التحديات الأمنية والاقتصادية التي تواجه المنطقة.
تُظهر الأهداف الروسية في المنطقة الشرقية أهمية إستراتيجية كبيرة لتحقيق مصالحها الوطنية، والدفاع عن نفوذها الدولي. تؤدي المنطقة دورًا حيويًّا في استراتيجية روسيا الإقليمية والعالمية، وتظهر التحديات والفرص التي تواجهها في هذا السياق.
يمكن تلخيص الأهداف الروسية في المنطقة بالسعي إلى تحقيق توازن القوى الإقليمية والعالمية؛ وذلك من خلال استنزاف قدرات الولايات المتحدة، وتعزيز النفوذ الروسي في المنطقة، وتعزيز استقلالها الاقتصادي والعسكري عن التأثيرات الغربية، وخاصة الأمريكية.
تسعى روسيا، في إطار تحقيق أهدافها، إلى تكوين تحالفات وشراكات إستراتيجية مع دول الشرق الأوسط، ومنها دول ذات أهمية إستراتيجية كإيران وسوريا. تستند هذه الشراكات إلى مصالح مشتركة في مجالات الأمن، والطاقة، والتجارة.
يتعلق الهدف الروسي أيضًا بتعزيز الاستقرار في المنطقة من خلال وساطتها في تسوية في النزاعات. يرى الروس أنه من خلال التدخل السياسي والدبلوماسي، يمكنهم تحقيق التوازن والتأثير في قضايا المنطقة.
يعدّ التوجه الروسي نحو الشرق الأوسط توجهًا إستراتيجيًّا متعدد الأبعاد، حيث يسعى الروس إلى تحقيق أهدافهم الاقتصادية والعسكرية والسياسية في هذه المنطقة. تأتي هذه الأهداف في سياق التحولات الجيوسياسية العالمية، والتحديات الجديدة التي تواجه النظام الدولي.
يتطلب تحقيق هذه الأهداف توجيه استراتيجيات دقيقة، وتكاملًا مستمرًا للسياسة الخارجية الروسية. تظهر هذه الأهداف كجزء من إستراتيجية أوسع يتبناها الكرملين لتحديد دور روسيا في التشكيل المستقبلي للنظام الدولي، وتعزيز مكانتها العالمية.
مع تصاعد العنف في منطقة النزاع الفلسطيني- الإسرائيلي إلى مستويات غير مسبوقة، يزداد الحديث عن ضرورة التدخل الجماعي والعمل المشترك لتهدئة التوترات في الشرق الأوسط، وقد اقتُرح عقد مؤتمر دولي لهذا الغرض. يعد الاتحاد الروسي من الداعمين الأقوياء لهذا النهج، حيث يؤكد دائمًا أهمية اعتماد مقاربة متعددة الأطراف في مواجهة تحديات التسوية في الشرق الأوسط. ويرى التاريخ أن محاولات “احتكار” دور الوساطة لم تحقق نجاحًا في حل النزاعات، بل أدت إلى تفاقمها، وهو ما يتجلى حاليًا.
المهمة الرئيسة في الوقت الحالي هي وقف الأعمال القتالية في غزة سريعًا، وضمان حماية المدنيين، وضمان وصول المساعدات الإنسانية الضرورية إلى المحتاجين، والإفراج عن الرهائن، وإلا فإن التهديدات بالتطرف، وزيادة النشاط الإرهابي قائمة، مما يزيد خطورة توسيع جغرافية النزاع.
من الضروري- بشدة- البدء بتهيئة الظروف لاستئناف عملية السلام الفلسطينية- الإسرائيلية. يجب منع الأطراف من اتخاذ إجراءات من جانب واحد، مثل الاستيطان في الضفة الغربية، واستباحة الأماكن المقدسة في القدس، والتحريض على العنف والإرهاب. في الظروف الراهنة، يظهر أن ضمان الوحدة الوطنية الفلسطينية أمر ذو أهمية خاصة، بناءً على برنامج منظمة التحرير الفلسطينية، الذي يعترف بإسرائيل، ويسعى إلى حل عبر المفاوضات لقضايا الوضع النهائي. اقتراح روسيا إجراء مشاورات وزارية لتنسيق مقاربات دول المنطقة بشأن التسوية السياسية في الشرق الأوسط يهدف إلى خلق مناخ مواتٍ للحوار السلمي.
تجدر الإشارة إلى أن الاتحاد الروسي قدم مبادرة لعقد مؤتمر دولي بشأن الشرق الأوسط في عام 2007، وتمت الموافقة عليها بقرار من مجلس الأمن الدولي. كان هذا القرار يؤكد دعم فكرة عقد اجتماع جماعي في موسكو لبحث التسوية العربية- الإسرائيلية. يمكن استغلال خبرة التعاون المكتسبة في إطار عملية مدريد، التي بدأت في أكتوبر 1991، لتحقيق نتائج إيجابية في التعامل مع التحديات الإقليمية.
يظهر الاتحاد الروسي مجددًا بوصفها لاعبًا دبلوماسيًّا بارزًا في جهود تسوية النزاع بين إسرائيل وفلسطين، حيث قدمت مشروع قرار إلى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة يهدف إلى وقف الحرب على غزة، وتحقيق هدنة بين الأطراف المتنازعة. يركز مشروع القرار على عدة نقاط أساسية، منها وقف إطلاق النار لأسباب إنسانية، والتنديد بالعنف ضد المدنيين، والأعمال الإرهابية.
دعا مشروع القرار أيضًا إلى الإفراج عن الرهائن، وتسهيل وصول المساعدات الإنسانية، بالإضافة إلى تأمين الإجلاء الآمن للمدنيين الذين يحتاجون إلى المغادرة. وقد أتى هذا الطرح في سياق تصاعد الهجمات الإسرائيلية، وتصاعد حدة الصراع، مما يجعل الجهود الدولية للتسوية أمرًا ضروريًّا.
من خلال هذه المبادرة، سعى الدبلوماسيون الروس إلى الضغط للحصول على دعم دولي لوقف الأعمال العدائية، وتحقيق حل سريع للأزمة الإنسانية في غزة، لكن مجلس الأمن فشل في تبني مشروع القرار الروسي هذا، بعد إخفاقه في الحصول على الحد الأدنى من الأصوات المطلوبة، وعددها تسعة أصوات، في المجلس المؤلف من 15 عضوًا.
بالإضافة إلى ذلك، أشادت حركة “حماس” بموقف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي أعرب عن رفضه العدوان والحصار على غزة، ورحبت بجهود روسيا الرامية إلى وقف الأعمال القتالية، مؤكدة أهمية وقف إراقة الدماء، والتركيز على تحقيق حل سلمي.
تعكس هذه المبادرة الجديدة إرادة روسيا في المشاركة الفعّالة في تحقيق السلام في المنطقة، وتجسد التزامها بالإسهام في حل النزاعات الإقليمية، وتحقيق الاستقرار.
بعد تقديم مبادرة روسيا في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لوقف الحرب، وتحقيق هدنة في النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني، يتطلع العالم إلى فهم انعكاسات هذه المبادرة، وسبل حل الأزمة. يعد دور روسيا في هذا السياق ذا أهمية خاصة؛ نظرًا إلى التحديات الكبيرة التي تواجهها المنطقة، وفشل السياسات الأمريكية التقليدية في تحقيق السلام والاستقرار.
انعكاسات المبادرة
إيقاف العنف والحصول على هدنة: تحقيق وقف فوري للأعمال القتالية يعني حماية المدنيين، وتقليل خسائر الأرواح، وهو أمر يحظى بتأييد دولي كبير.
إيصال المساعدات الإنسانية: تسهم المبادرة في فتح الممرات الإنسانية لإيصال المساعدات والإغاثة إلى المحتاجين في غزة، مما يخفف الأوضاع الإنسانية المأساوية.
إيجاد فرص للحوار: تعد المبادرة أيضًا خطوة نحو تهيئة الظروف لاستئناف عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، مع التركيز على مناقشة قضايا الوضع النهائي.
سبل الحل
التحفيز الدولي للالتزام بالهدنة: يجب على المجتمع الدولي دعم المبادرة الروسية، والضغط لضمان التزام الأطراف بتحقيق وقف فوري لإطلاق النار، والالتزام بحقوق الإنسان.
التفاوض على حل دائم: يجب على الأطراف المتنازعة العودة إلى طاولة المفاوضات بشكل جاد للبحث عن حل دائم للنزاع، مع مشاركة دول الجوار، والمجتمع الدولي.
تحفيز التقارب السياسي: يمكن لروسيا أن تشجع على التقارب السياسي بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وتعزيز الحوار البناء لتجنب مزيد من التصعيد.
دور روسيا وفرصها
الوساطة الدبلوماسية: تتمتع روسيا بتاريخ طويل في الوساطة بين الأطراف المتنازعة، ويمكنها أن تؤدي دورًا مهمًّا في تحقيق التسوية.
استخدام النفوذ الاقتصادي: لدى روسيا القدرة على تقديم حوافز اقتصادية للأطراف المعنية، مما يعزز من فرص التوصل إلى حل دائم.
تأكيد العدالة: يمكن لروسيا أن تضطلع بدور في تأكيد حقوق الفلسطينيين، وتعزيز مفهوم العدالة والتسوية الشاملة.
القراءة في إستراتيجية روسيا للشرق الأوسط عام 2024، تستند إلى فهم التحولات الجيوسياسية والاقتصادية في المنطقة. يشير البحث إلى تطوّر إستراتيجية روسيا من التوجه الأوروبي الأطلسي إلى تأكيد الهوية الأوراسية، مع التركيز على التكامل والتنوع في استجابتها للتحديات المتغيرة.
بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، اضطرت روسيا إلى تكييف سياستها الخارجية مع تفوق الولايات المتحدة. يبرز التركيز على التكامل الاقتصادي والتحالفات الإقليمية رد فعل على الضغوط الدولية، والتحديات الداخلية.
مع تطور العلاقات بين روسيا ودول الشرق الأوسط، والتركيز على الشراكات مع دول مثل إيران، وتركيا، والصين، تتضح أهمية العلاقات الإقليمية في تشكيل إستراتيجية روسيا في المنطقة.
اعتمدت روسيا في مواجهة التحديات التي تعترضها في منطقة الشرق الأوسط على تبني إستراتيجيات متعددة، بدءًا من تعزيز العلاقات الدبلوماسية، وصولًا إلى التدخل العسكري، مما يظهر مرونتها في تكييف إستراتيجياتها وفقًا للظروف المتغيرة، واستعدادها لتبني الوسائل الملائمة لحماية مصالحها، وتحقيق أهدافها في المنطقة.
تحليل إستراتيجية روسيا في الشرق الأوسط يكشف أيضًا عن تأثير العوامل الاقتصادية والطاقوية، ويظهر أهمية الاقتصاد الكبير والموارد الطبيعية الضخمة في توجيه روسيا للتفاعل مع المنطقة، خاصةً فيما يتعلق بصناعة تصدير النفط. كما أن تعاون روسيا مع الدول الأوراسية يعكس التحول الاقتصادي، والبحث عن التكامل في مجالات الطاقة والاقتصاد.
ما ورد في الدراسة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.